مجموعة مقالات في فقة الواقع

مقالات تحكي للقارئ الكريم واقعه الذي يعيشه .. وعلاقته بالدين الذي ينتمي إليه .. وأقصد من هذه السلسلة أن أقدم بعض الخواطر التي يعلمها الإنسان أو يجب عليه أن يتعلمها ويؤمن بها .. ويحملها في ذاكرته على أنها من الثوابت التي يجب أن يحافظ عليها .. ولا يقبل التنازل عنها .. ويتأثر عاطفيا حين يرى بعض جوانب القصور أو التقصير منه أو من غيره فيها .. ومدى التطابق بين الذي يعتقده ويؤمن به وبين ما يراه في الواقع المعاصر وحياته اليومية.

 

تعريف بالكاتب:

الاسم: د. مبارك بن سيف بن سعيد الهـاشمي        

 الرتبة: أستــــــــاذ مشـارك  

 المؤهلات الأكاديمية:

  1. دكتوراه– في العقيدة والفلسفة من كلية الدراسات العربية والإسلامية ، جامعة الأزهر الشريف عام 1993م.
  2. ماجستير في أصول الدين من كلية الدراسات العربية والإسلامية ، جامعة الأزهر الشريف عام 1989

  التخصص الدقيق: عقيــــدة وفلسفة

  مجالات البحث:

  1. الفكر الإسلامي.
  2. التيارات الفكرية

 بعض البحوث المنشورة:

  1. الإمام نور الدين السالمي وآراءه في الإلهيات.
  2. مفهوم التراث العماني وتوظيفه.
  3. جانب الإلهيات في فكر العلامة المحقق أبي نبهان.
  4. إصلاح المجتمع الإنساني ومكافحة الفساد.
  5. المفهوم الاجتماعي من خلال كتاب التعارف.
  6. التراث العماني بين الصالة والتجديد.
  7. حقوق الأقليات في الدولة الإسلامية.
  8. تحديات تواجه التعليم الثانوي في الحاضر والمستقبل ودور التطوير في مواجهتها.
  9. البعد الأخلاقي للتربية البدنية.
  10. جذور التفكير الحواري وصوره في الثقافة العربية.
  11. التجربة التاريخية العمانية في الوفاق الإسلامي المسيحي ( وثيقة الإمام الصلت الخروصي نموذجا ).
  12. أثر العقيدة الإباضية على المجتمع العماني في التحولات المعاصرة.
  13. الإباضية بين الفرق.
  14. توظيف القيم الفكرية في مناهج العلوم الإسلامية.

*******************

1- قاعدة الانطلاق

 

د. مبارك الهاشمي:-- مقالات متواضعة أحاول فيها بقدر الإمكان أن تحكي للقارئ الكريم واقعه الذي يعيشه وعلاقته بالدين الذي ينتمي إليه، وإنها لمناسبة كريمة يقدمها لنا شهر رمضان حين يجمعنا من خلال هذه الأعمدة التي أتمنى أن يجد فيها ما ينمي بها ثقافته في دينه، ويراجع بها صلته بين الفقه والواقع، وأقصد من هذه السلسلة أن أقدم بعض الخواطر التي يعلمها الإنسان أو يجب عليه أن يتعلمها ويؤمن بها ويحملها في ذاكرته على أنها من الثوابت التي يجب أن يحافظ عليها ولا يقبل التنازل عنها ويتأثر عاطفيا حين يرى بعض جوانب القصور أو التقصير منه أو من غيره فيها، ومدى التطابق بين الذي يعتقده ويؤمن به وبين ما يراه في الواقع المعاصر وحياته اليومية، هذه السلسلة وستجيب على بعض التساؤلات التي نسمعها من الأجيال المعاصرة أو تدور في أخيلة بعض الناس، مثل: هل حياة الناس اليوم تنطلق من تعاليم دينها؟ وهل المكلفون من البشر يعلمون ما عليهم من واجبات وما لهم من حقوق؟ وهل واقعنا المعاصر يترجم ما نؤمن بها من أفكار؟ وهل سلوكنا ومعاملاتنا مع الله والكون والحياة والنفس والناس تعبر عما نؤمن بها من أخلاق وقيم؟ بمعنى هل ظاهر حياتنا متوافق مع ما نحمله من عقائد وأفكار؟ فإن كان الجواب بنعم فما هي هذه الأفكار التي نؤمن بها؟ وما مظاهر ترجمتها على حياة الواقع؟ وإن كان الجواب بلا، فلماذا هذا الانفصام والفصل بين ما نؤمن به وبين ما نعيشه واقعا؟ وهل يعذر الإنسان إذا جهل ما هو مكلف به؟ وهل في ذلك ضرر على الفرد والمجتمع؟ وكيف يمكن الخروج أو التصحيح أو الاستقامة على الإيمان؟ تساؤلات كثيرة يمكن استخدام جميع أدوات الاستفهام فيها لأن النفس لا تتوقف عن الأسئلة، فإن لم تجد الإجابة الصحيحة من أهل الذكر فستتخيل الإجابة من عندها، وهنا يأتي فقه السؤال عن الواقع، لأنك مؤمن ومكلف بفهم الواقع، ومن منطلق إيمانك وعقيدتك الصحيحة فأنت مؤهل لفهم طبيعة المواقف والأعمال التي تتخذها في الحياة وعن كيفية التعامل مع أحداثها وظواهرها لأنك مسؤول عنها، فالمؤمن بالله تعالى لا ينسبون الأشياء للصدفة أو للأقدار العمياء.

 

فالزلازل والأمراض والجفاف والكوارث مهما تكن فواجعها وآلامها فهي من فعل الله عز وجل، وأنها مراده لله تعالى من أجل هدف طيب ما دامت من فعل الله، فالمسلم لا ينهار أمامها، لأنه يعرف أن الله الذي قدرها وأوجدها هو في نفس الوقت الحافظ الرحيم بعباده. لهذا فإنها في نظر المسلم ابتلاء من الله، يختبر بها عباده.. وهذا الابتلاء يظل دائمًا خاضعًا لمقتضى القوانين والنواميس التي بثها الله في الكون، ليصل بهم من خلالها إلى مزيد من الثبات والإيمان والتفاؤل.

 

وهذا الفهم للواقع ما تحتاجه البشرية المؤمنة في مواجهة المآسي والكوارث المعاصرة، تابع أخي القارئ سلسلة فقه الواقع خلال هذا الشهر الكريم فإن فيها رؤية الإسلامية لفهم الواقع وللحديث بقية..

 

وأهنئ جميع المسلمين وخاصة القارئ الكريم بهذا الشهر العظيم الذي بلغنا الله تعالى إياه ونسأله أن يرزقنا صيامه وقيامه ويجمعنا به أعواما عديدة ونحن بصحة وعافية وكل عام والجميع بخير.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الاثنين 1 رمضان1432هـ. الموافق 1 أغسطس2011م.

 

جمع وترتيب: موقع القبس: موقع يُعنى بالقرآن الكريم وعلومه www.alkabs.net

 

*******************************

2- حياة كريمة تحقق الآمال

 

فقه السؤال عن الواقع الذي انتهينا إليه في المقال السابق أقصد به ما نشاهده من واقع أحوالنا فالبحث في هذا الواقع لا يحتاج إلى طول نظر فإنك من النظرة الأولى تشاهد حركة هذا الإنسان في كثير من الأحوال ترتكز على جميع منافع الحياة، فهو يسعى في كسب قوته ولترفيه حياته ولتحسين معاشه، فمنذ البداية ينشأ الطفل في البيت وكل من حوله مشغول عنه فالأم في معزل والأب في العمل والأخوة في الدراسة والأرحام مشغولة والزيارات مقطوعة، ولا مكان هادف يقضي طفولته فيه، فيلجأ إلى الملاهي في البيت وما أكثرها في الواقع وقد تمرن كيف يقلب الفضائيات ليتلهى بها، وإما الألعاب الحركية التي يمارسها دون معرفة الهدف منها، وبعض الأطفال يذهبون بهم إلى دور الحضانة قبل سن التعليم لا ليتعلم وإنما ليشغل وقته لعدم وجود من يشتغل معه في البيت، ثم يدخل مؤسسات التعليم ويستمر به الحال إلى أن تنتهي مرحلة الطفولة ولم يتذوق طعمها، ويصل إلى مرحلة البلوغ والشباب وكل الذي يشغله التفوق في التعليم لا لينتفع به في بناء شخصيته وإنما لينتقل به إلى مراحل أخرى من التعليم، فيكمل التعليم الأساسي وهو جاهل بالأساس الذي قام عليه فما زال يتأرجح ويجهل مصيره، وتتساقط أعداد كثيرة في الطريق لا تستطيع أن تواصل المسير، فتبقى هذه الأعداد حائرة لا تملك مهارة تعيش بها ولا علما تنتفع به فتكون من سقط المتاع عالة على الأسرة والمجتمع إلا من رحم ربي، ومن كتب له مواصلة التعليم سيجد نفسه في مراحل التعليم العالي لا في المكان الذي قام الأساس عليه وإنما حيث ساقته نتائج التنسيق، وتبدأ المحنة والمعاناة وتحدي الواقع وفي كثير من الأحوال تدخل العوامل المادية في هذه المرحلة من التعليم لأن الفرص في الجامعات الخاصة أوفر حظا من التعليم العالي المجاني وتسقط أعداد أخرى في هذه المرحلة وتتوقف أخرى في منتصف الطريق، المهم هناك سلسلة طويلة تشغل هذا الإنسان في مقتبل حياته ويكاد يصل إلى سن الثلاثين من عمره وهو ما زال يقول عن نفسه ما زلت صغيرا أحتاج إلى وقت حتى أكوّن نفسي، فما زالت الطريق طويلة فهناك أولويات بعد التخرج منها: الوظيفة والسيارة والبيت والعروس ورصيد واستثمار وضمان المستقبل ويبقى أمام هذه المطالب التي تشغله عن أغلى شيء في حياته وهي نفسه، يعني عمره وشبابه فيما أفناه؟ سؤال يلقاه أمامه فما هو الجواب الذي سيلقى به ربه عندما يسأله عن شبابه فيما أفناه.

 

طبعا لا عيب في كل ما اشتغل به سابقا، ولكن القصد والغاية أن الإنسان يجب عليه كما ينصرف ويجتهد لتكوين نفسه وضمان مستقبله ليعيش حياة كريمة تحقق آماله وطموحاته فهذه من الفضائل والواجبات التي كلف به الإنسان، ولكن المطلوب هو التوازن بين تحقيق منافع الحياة الكريمة والسعادة الأبدية عند الله في الدار الآخرة. وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الثلاثاء 2 رمضان1432هـ. الموافق 2 أغسطس2011م.

 

جمع وترتيب: موقع القبس: موقع يُعنى بالقرآن الكريم وعلومه www.alkabs.net

 

3- الوسائل والغايات

 

انتهى بنا المقال السابق إلى أن في الواقع وسائل وغايات، ويجب على المكلف العاقل أن يفقههما ولا يخلط بينهما وإلا خسر حياته، وبيان ذلك أولا أن يعلم الإنسان أنه خلق لغاية والوصول إلى هذه الغاية لا بد لها من وسائل، فالغاية من خلق الإنسان لا يجتهد الفكر في البحث عنها ولا يمكن أن تؤخذ من أقوال الفلاسفة والحكماء وإنما الذي خلق الإنسان هو الذي حدد الغاية من خلقه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات:56) فالغاية واضحة أن الإنسان خلق لعبادة الله تعالى وأن مصيره يوم القيامة متوقف على مدى تحصيل هذه الغاية.

 

أما حياته في الدنيا فهي ليست غاية ينتهي فيها عمر الإنسان ثم يفنى ليكون لا شيء بل خروجه من الدنيا يعني انتقاله لحياة أخرى هي الغاية فالدنيا وسيلة أو كما قيل هي مرحلة عبور فالدنيا ممر والآخرة مقر فكن فيها كما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. فاتخذها وسيلة لاكتساب الأعمال الصالحة والأسباب النافعة لتحقيق تلك الغاية.

 

فتربي الأسرة أبناءها على حب الله تعالى ومعرفته وترسيخ قيم الإيمان والعقيدة الصالحة التي تقوم عليها أساس حياته، لأنها هي التعليم الأساسي إذا صلحت صلح عمله وإذا فسدت فسد عمله مهما جمع من مناصب أو منافع الحياة الدنيا، ويدخل مراحل التعليم ويواصل في تكوين شخصيته المعرفية والجسدية ولكن ينبغي هذا التكوين أن يكون منطلقا من تعاليم الدين الذي يحدد له منهج الاستقامة على مرضاة رب العالمين ويجمع بين محاسن الدنيا وثواب الآخرة  {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } (القصص:77).

 

أما الذي يصرف كل حياته في تحصيل الوسائل فمهما جمع منها فلا بد أن ينتهي أمره في أحد الأمرين، الأول: أما أن تزول عنه تلك الوسائل فيخسر جهده وتعبه وعمره الذي ضاع في جمعها، والأمر الثاني: أن يزول هو عنها بموته ومفارقته للحياة فينتقل كل ذلك المتاع إلى غيره فيخسر حياته التي ضاعت وجمعها لغيره ، قال الله تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً{104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف:103-104) أما الذي يتخذ من الوسائل قربة إلى الله فإنه مهما خسر منافع تلك الوسائل في ظاهر الحياة الدنيا فإن له منزلة عند ربه الذي لا يضع عمل عامل من ذكر أو أنثى {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } (آل عمران:195) ومن هنا تأتي الحاجة إلى الفقه في الدين ليبين له الطريق المستقيم الذي يهدي إلى مرضاة رب العالمين.

وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الأربعاء 3 رمضان1432هـ. الموافق 3 أغسطس2011م.

*****************

 

4- فهم الواقع ضرورة لازمة

 

فهم الواقع اليوم يتطلب منا رؤية واضحة لما يجري في حياة الناس ومعايشة قضاياهم بل ومشاركتهم في أكثر أحوالهم، حتى تفهم الواقع وتفهم الناس من غير تكلف، ولا يحتاج فهم هذا الواقع إلى أعمال كبيرة من التفكير أو البحث في التأويل، لأنه قريب منهم ومشاهد، يعيشونه في كل يوم وفي كل ساعة تمر عليهم من حياتهم، والإنسان المعاصر ـ المثقف والعادي ـ لا يحتاج إلى جهد كبير لمعرفة هذا الواقع، فالأخبار تصل إليه حيثما كان بل وتدخل إليه في مجالسه الخاصة والعامة دون أن يكلف نفسه عناء البحث عنها أو السفر إليها، وما أكثر الأحداث والقضايا المحيطة بواقع الإنسان في هذا العصر سواء ما تتناقلها وسائل الإعلام أو ما يعيشها الإنسان بنفسه ويشعر بها من خلال حياته اليومية أو من اتصاله وتعامله مع الناس.

 

ولكن هل كل ما وصل إلى الإنسان عن طريق الإعلام أو من كلام الناس أو ما يشاهده من حالهم هو كذلك في الحقيقة واقع الأمر، ولو كان كذلك فلماذا تختلف وجهات النظر ؟ وهل بمقدور كل إنسان أن تكون له رؤيته الخاصة مما يجري حوله ؟ إن غياب الإرشاد والتوجيه الصحيح من ذوي الاختصاص والقائمين على هذا الأمر يؤدي إلى الجهل بالحد الأدنى للمعرفة وغياب الرؤية الواضحة ، وبالتالي إلى ضياع الحقيقة ، وهذا الحال يفسح المجال واسعا أمام الخيال لتصور الأوهام والأباطيل، وقبول الخرافات والأكاذيب ، وهذا ما يجعل الناس يتخبطون في معرفة الواقع على حقيقته ، وعقل الإنسان لا يقف ولا يقنع بعدم المعرفة وأنتم تشاهدون أن كل الناس يتكلمون في كل شيء، فصفحة الكون أمامه مفتوحة ووسائل المعرفة في الإنسان موهبة إلهية لا بد لها من أن تبحث عن مجال تعمل فيه ومعرفة ما في الكون مطلب فطري في النفس الإنسانية لا يمكن كبتها أو حجرها على الإنسان وهذا تتطلب من العلماء وأصحاب الفكر والقلم أن يكون لهم قول واضح وصريح يسمعه الناس أو رأي سديد ينشرونه ليهتدوا به في هذا العصر الذي ضاعت فيه الكثير من الحقائق ، والتبست الأمور على الناس وطغى فيه صوت الباطل على الحق وخلت الساحة من أهل الحلم والعلم وظهر فيها أهل العصبية والجهل ، فصارت فتن حيرت أصحاب العقول وجعلت الحليم فيهم حيرانا .

 

وهذه محاولة متواضعة لعلها تكشف بعض خصائص هذه الأمة الإسلامية ورؤيتها لأحوال العالم المعاصر وكيفية تعاملها ورؤيتها للكون والحياة والإنسان ، لأن الواقع فعلا يتطلب هذا الكشف وهذا البيان حتى تكون الرؤية واضحة والحجة قائمة على الإنسان لمعرفة غاية وجوده ، والتكاليف المنوطة به ، وكيفية استغلال وسائله الحسية والعقلية والوجدانية فيما سخر الله له في هذا الكون المنظور وما أنعم الله به عليه من نعم الهداية والدين، حتى يعيش في نور اليقين ويُسلِم بمقادير رب العالمين ويَسلم من غوايات الشياطين وتلبيس المضللين. وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الجمعة 5 رمضان1432هـ. الموافق 5 أغسطس2011م.

 ******************

5-الدين والواقع

 

خلق الإنسان من عنصرين هما: الجسد والروح ولا حياة له إذا انفصل أحدهما عن الآخر، ولكل من الجسد والروح أسباب لاستمرار حياتهما، فإذا قطعت هذه الأسباب عن أحدهما هلك ذلك العنصر، وحياتهما من خلال تغذيتهما من مصادر تكوينهما، فالجسد تكون من المادة الماء والهواء والتراب، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ...} (فاطر:11) ثم تستمر تنمية هذا الجسد من خلال تغذيته من تلك المصادر التي خلق منها فكلما عاش على الهواء النقي والماء العذب والغذاء الصحي فقط حافظ على صحة وسلامة جسده، أما الروح فهي هبة من الله تعالى ينفخها في الجسد بعد تكوينه فتسري فيه الحياة، فمصدر حياتها وصحتها وسلامتها هو تغذيتها وتنميتها من نفس المصدر الذي تكونت منه وهو الله عز وجل، وبالتالي يجب على الإنسان من أجل أن يعيش حياة آمنة مطمئنة أن يسعى في طلب رزق جسده وروحه وعليه أن يبحث عن التغذية الصحية السليمة التي تحقق له التكامل والتوازن ويشعر بالأمن والاستقرار الجسدي والنفسي.

 

والخالق سبحانه وتعالى قد جعل في الأرض أسباب الرزق التي يحيا به الجسد وحث الإنسان أن يسعى في الأرض ويبحث عنه رزقه واستقراره فيها فقد كتب له فيها مستقر ومتاع إلى حين {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } (البقرة:36) وهيأ له أسباب الحياة فيها بعد أن زودها الله تعالى بالأنهار والأمطار والبحار والأشجار والبذور والزروع والحيوان والطير {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } (النحل:18) وقد كلف الإنسان من أجل المحافظة على حياته أن يكتسب الرزق الحلال فأمره بالعمل ليبارك له في الرزق {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (التوبة:105) ونهاه عن الخمول والتكاسل أو الكسب غير المشروع كالسرقة والاختلاس والغش والرشوة وغير ذلك من أنواع الفساد في الأرض، لأن ذلك وإن كان ظاهره جمع المال واكتساب الثروة إلا أن عاقبته وخيمة وهلاك وخسران للفرد والمجتمع والحياة الكريمة الفاضلة فالعبرة بالنتائج والخواتيم لا بالمنافع العاجلة الذي يتبعه ندما طويلا، فالحكمة تقول: في العجلة الندامة وفي التأني السلامة.

 

هذا عن الحياة المادية الجسدية أما الجانب الروحي الذي هو الأصل في حياة الإنسان لأن الجسد هو الهيكل المادي الذي خلقه الله تعالى لحمل الروح، فالروح هي الضيف الذي يستقر في الجسد فيحتاج إلى مكان صحي وآمن، فإذا خرجت الروح من الجسد، فقد تحول الجسد إلى جثة هامدة لا تطاق فوق سطح الأرض فيسارع أقرب الناس إلى هذه الجثة إلى دفنها ومواراتها تحت الأرض وهو المكان الذي تكونت منه هذه الجثة فيعود إلى أصله الأول.

 

وقد أنزل الله تعالى الدين الحق الذي تحيا به الروح وتطمئن به النفس، وما كان عن حياة الجسد في الأرض يكون عن حياة الروح في الدين، فالغذاء الصحي والسليم لحياة الروح وهو ما كان من نفس المصدر الذي خرجت منه وهو الله سبحانه وتعالى، وعلى قدر صحة الدين وسلامة العقيدة واستقامة الشريعة تكون قوة الروح، وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الأحد 7 رمضان1432هـ. الموافق 7 أغسطس2011م.

************************

6- الغذاء الصحي

 

الدين أمر ضروري وحقيقة لازمة لواقع الإنسان فكما أن حياته الجسدية لا تستمر ولا تستقر إلا بالطعام والشراب والهواء وأي فساد أو خلل يدخل في هذه العناصر يتأثر بها جسد الإنسان فيصاب بالعلل والأمراض، فكذلك حياة الروح مع الدين فهو الغذاء الصحي الوحيد لحياة الروح، فإذا تدخلت عناصر أخرى لفساد الدين الحق ووضعت لنفسها دينا فإن الحياة الروحية تهلك ويصل بها الهلاك إلى حد الوفاة فتبقى حياة البدن وحدها في صورة الإنسان وإلا فهو خال من كل القيم الروحية والإنسانية ولا يتميز عن البهيمة إلا من حيث الشكل يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } (الأعراف:179) لأن الحيوان يأكل ويشرب ويبني مستقره ويدخر طعامه ويتزاوج ويتناسل ويدافع من أجل البقاء وينظم حياته وينتج إلى غير ذلك مما يظن الإنسان أنه يحقق إنسانيته من خلال القيام بمثل تلك الأعمال، ولكن مع ذلك فهو يعيش حياة الحيرة والقلق والاضطراب ويصل حال بعضهم إلى حب التخلص من حياته فينتحر.

 

وكذلك الذين ينتمون إلى الدين الحق ولكنهم لا ينضبطون بتعاليمه باتباع أوامره واجتناب نواهيه وإنما اقتصروا على مجرد الانتماء إليه، فإن مجرد الانتماء وحد لا يكفي، فالروح إن لم تحصل على غذائها السليم الذي جاء من المصدر نفسه الذي جاءت منه فإنها تذبل ثم تهلك ثم يكون صاحبها من الخاسرين وإن رأى نفسه بأنه حقق لنفسه منافعه المادية ومصالحه الدنيوية ووصل إلى ما تمنى إلا أن العبرة ليست الدنيا وحدها لأن الدنيا كما قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) فالرجل مهما سمن نفسه في الدنيا شحما ولحما أو ذهبا وفضة أو منصبا وشهرة وهو على غير الدين الحق فإنه لا وزن له عند الله يوم القيامة فعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَأُوا {... فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } (الكهف:105).

 

فكما أن الفساد في طلب الرزق كالغش والرشوة والاختلاس يؤدي إلى خسران العاقبة كما بيناه في المقال السابق، فكذلك الانحراف في العقيدة كالضلال الفكري وعدم الاستقامة في الدين يؤدي إلى خسران العاقبة مهما ظن هذا الإنسان أنه يعيش حياة سعيدة قال الله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً{103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف:103-104).

 

وأخيرا إن الدين في الواقع ليس مجرد انتماء بل حقيقة الدين لن تكون واقعا إلا إذا ترجم إلى عمل وكان منهجا ينظم حياة الإنسان كاملة في مختلف الجوانب العلمية والأخلاقية والثقافية، والانقياد والطاعة المطلقة والتفويض والتسليم لله تعالى قال الإمام نور الدين السالمي:

 

ارض وسلم وفوض واتكل فبذا *** تحوز أركانه اللاتي بها كملا

 

أي أن الدين لن يتحقق في الواقع إلا إذا كانت تلك الأركان واقعا عمليا في سلوك المسلم، وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الاثنين 8 رمضان1432هـ. الموافق 8 أغسطس2011م.

**********************

7- التفريط في علوم الحياة جريمة

 

لقد أساء المسلمون إلى دينهم وأنفسهم إساءة بالغة وتتابعت هذه المخالفات في عصورهم السابقة واتسع نطاقها في العصر الحديث حيث ظهرت جهالات غريبة وموضات عجيبة جعلتها في آخر الأمم بعد أن كانت في طليعة الأمم دهرًا طويلاً فتراجعت ولاحقتها الهزائم وهان وجودها عليها وعلى الآخرين.

 

ويتساءل الناس عن ذلك وكأنهم لا يعلمون مع وضوح الأسباب أهمها أنها لم تحسن العمل لحقائق الدين ولا العمل بتدبير حياتها الذي لا يملك شيئًا لا يمكن أن يقدم شيئًا ففاقد الشيء لا يعطيه الذي يجهل اللغة لا يحسن البيان الذي يجهل أركان الصلاة لا يحسن العبادة الذي يجهل مهمة وجوده وشؤون الحياة كذلك لا يحسن التصرف فيها والاستفادة منها.

 

ومع الأسف حال المسلمين اليوم صار وعيهم بالكتاب والسنة ضعيفًا وفهمهم لظواهر الحياة وبواطنها أضعف وقيادة الحياة والقيام بأمرها أشد ضعفًا فهل العبادة بشكلها المألوف تغير الأحوال؟ فلماذا توقف استخدام وسائل المعرفة الحسية والعقلية عندنا؟ وانطلقت حواس الناس وأفكارهم في كل مجال وميدان في الحياة.

 

فهل إحسان العبادة وإتقانها يغني عن الإحسان والإتقان في منافع الحياة وميادين المعرفة الأخرى إن الله أوجد المسلمين على الأرض كما أوجد غيرهم من البشر فعليهم أن يعانوا في البحث والمعرفة مثل ما يعاني غيرهم لأن الوحي الذي اختصهم الله به هو عظيم القدر بعيد الأثر لكنه لم يختصهم بعلوم أرضية تحقق منافعهم الدنيوية بما يرجح مكانتهم عن غيرهم من الأمم والشعوب فهم أمام عطاء الله في هذا المجال سواء حيث قال سبحانه وتعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً } (الإسراء:20).

 

فالتفريط في علوم الحياة جريمة كبيرة ضد الدين؛ لأنها ستؤدي إلى انخفاض في مستوى الفكر وقصور في تحقيق الوسائل التي بها تنجح الرسالة.

 

إن التفكير النظري المجرد لا يؤدي إلا إلى الجدل والمراء والبعد عن واقع الحياة، ومن ثم ربط القرآن بين الفكر وبين آيات الله في الكون ونظمه ونواميسه، وحذر من الانحراف عن النهج، وجعل من التاريخ عبرة للبشرية، وطالب بالسير في الأرض والنظر في مصائر الأمم والحضارات السابقة، والتفكير في سبب هلاكها وفنائها: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ } (غافر:21).

 

وإذا أرادت هذه الأمة أن تتخلص من تلك الجريمة عليها أن تعود إلى الإحسان لدينها وطرق الإحسان كثيرة وتتطلب العزم الشديد والصبر الجميل والهمم العالية فإذا توفرت هذه الصفات في المسلم فإن الله يلهمه رشده ويسدد خطاه ويسلك به طريق التوفيق والنجاح.

 

ولذلك جاءت الآيات تؤكد عناية الله بالمحسنين منها قوله تعالى: {... إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } (الأعراف:56) وقال: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } (النحل:128) وفقنا الله للإحسان لديننا والعمل بما يحقق الخير والصلاح لدنيانا، وللحديث بقية.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الثلاثاء 9 رمضان1432هـ. الموافق 9 أغسطس2011م.

 *************************

8- العقيدة والواقع 1

 

الدين الحق هو الذي ينظم حياة الإنسان الفكرية والحركية، وهذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده هو الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (آل عمران:19) ومهما حاول الناس أن يجدوا بديلا عنه لا يقبله الله تعالى منهم {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران:85) والإسلام عقيدة وشريعة، والعقيدة هي جملة العلوم والمعارف عن الحقائق الكونية في الوجود التي يجب على المكلف أن يؤمن ويصدق بها، ومن أول الحقائق في الوجود وأعظمها وأكبرها الإيمان بلا إله إلا الله محمد رسول الله وأن ما جاء به حق من عند الله، فلهذه الجملة نتائج عظيمة تبدأ من تطهير النفس والفكر من كل ضلال وباطل في هذا الوجود وترسيخ القلب على أكبر الحقائق الكونية، وتصفية النية والروح على الفضائل والقيم الإنسانية.

 

ولا نفهم العقيدة في الواقع على أنها مجرد ألفاظ أو أذكار نرددها بألسنتنا أو نذكرها في خواطرنا، بل العقيدة الصحيحة هي ترجمة تلك الأذكار والأفكار إلى واقع عملي وحياة ملموسة، فإن أعظم ما تراه في واقع حياتك من أعمال البشر بدأ بفكرة استقرت في ذهن صاحبها ثم اشتغل بها فحللها وركبها واستخرج منها واقعا يشهد بعجائب صنع البشر، وهكذا تقيس عليها بقية أعمال الإنسان وحركاته الإرادية والاختيارية فإنها تبدأ بفكرة ثم يحولها إلى واقع عمل يتحمل الإنسان نتيجة اختياره.

 

فالأفكار لها سلطات قوية على النفس لأنها هي التي توجهها إلى السلوك والأعمال، والنفس لها طاقة محدودة في قدرتها على تحمل الأفكار، فإذا تشبعت النفس البشرية بأفكار احتلت كل طاقتها فإنها ستظهر آثارها على سلوكها، فمن حمل أفكارا حقيقية واقعية عن الكون والحياة ومطابقة للحق واليقين جاء سلوكه معبر عن حقيقة أفكاره الصالحة، ومن حمل أفكارا فاسدة واهية ظهرت آثارها كذلك على سلوكه وتصرفاته المنحرفة.

 

فإن كان للأفكار هذه القدرة والصلاحية على النفس البشرية فإن خير الأفكار التي يجب أن تستقر في عقولنا هي الأفكار الصالحة التي تدفعنا إلى ممارسة السلوك الفاضل، لأن جملة الأفكار والتصورات هي التي تكون عقيدة الإنسان، وقد هدانا الله تعالى إلى أصول العقيدة الصحيحة التي تكون المعرفة اليقينية في هذا الوجود، وما أشد حاجة النفس إلى استقرار هذه العقيدة في قلب المؤمن لتحرك بعد ذلك مشاعره وعواطفه الداخلية ثم يترجمها إلى سلوك عملي فاضل، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن أصول هذه العقيد بأركان الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم: "الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ" فهذه أصول الإيمان التي يجب أن ترتكز في النفس وتكون عقيدة المؤمن التي تدفعه إلى العمل الصالح، ويبني عليها منهج حياته وفق شريعة ربه التي ارتضاها لخلقه، فإن جهل هذه الأصول وشحن فكره بالخرافات والأباطيل ظهرت على سلوك أنواع الجهل والضلال عن الحق والصراط المستقيم وهداية ريب العالمين، وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الأربعاء 10 رمضان1432هـ. الموافق 10 أغسطس2011م.

************************

9- العبادة هي الترجمة للدين

 

العبادة هي الترجمة العملية لمفهوم الدين وتعني العمل بكل ما أمر الله تعالى به وترك كل ما نهى الله تعالى عنه امتثالا وطاعة وخشوعا وخضوعا له غز وجل ورغبة في ثوابه ورهبة من عقابه، فهل فقه الناس في الواقع اليوم حقيقة العبادة بهذا المعنى؟ وهل كل عمل يظهر على سلوك المسلمين هو دليل على حقيقة الاتباع لدينهم؟ لقد اختصر كثير من الناس مفهوم العبادة وقصروها على أداء الصلاة أو صوم رمضان والزكاة والحج، أما خارج هذه الأعمال فيرى نفسه أنه في حل من أمر العبادة.

 

وقلنا في المقال السابق أن العقيدة هي أصل الدين وهنا نقول أن العبادة هي الترجمة لهذا الدين إذن العبادة عمل مستمر لا ينقطع، لأن العقيدة وهي الإيمان ملازم للإنسان في كل حين وليس في أوقات محدودة، وهذا التلازم بين الإيمان والعبادة يجعل من العبادة أنها سلوك الظاهر في الإنسان في كل وقت، فأخلاقه ومعاملاته وطعامه وشرابه ووظيفته ودراسته وسفره وإقامته ونومه وحركته في الحياة كلها عبادة.

 

فالمسلم لا يخرج عن إطار العبادة سواء في ملأ من الناس أو في خلاء مع نفسه، في البر أو البحر، في الأرض أو في الجو، في الوطن أو في السفر، في النور أو الظلام، وأعدد هذه المواقع لأن الواقع فعلا جهل معنى الطاعة والامتثال، أخبرني أكثر من واحد أن بعض الطلاب والمسافرين في الاغتراب يتغير حالهم بعدما يبتعدون عن أهلهم ووطنهم فينقطع بعضهم حتى عن العبادة والعياذ بالله، وبعض الناس عندما تختفي الأضواء في المقاهي والملاهي فكأن الله غير موجود في الظلام فيحل ما حرم الله، وبعضهم عندما يكون خلف الأبواب ويختفي عن أنظار الناس يظن لا رقابة عليه فيأتي من الأعمال ما يخشى من الخلق الإطلاع عليها، وكم تسمع وتشاهد من القصص والغرائب تقع وراء الكواليس من الموظفين أو العمال أو الطلاب من النساء أو الرجال ما ذلك إلا أنهم جهلوا أو تجاهلوا مفهوم العبادة التي تلزم الفرد والجماعة بالطاعة والخضوع والمراقبة الدائمة لله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (التوبة:105)، نعم إن أعمال الإنسان يعلمها عالم الغيب والشهادة، ويرصدها عليهم وليس الظاهر منها فقط بل حتى كلامه وخواطره محسوبة عليه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } (ق:16) و {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (ق:18).

 

إذن لا يقتصر مفهوم العبادة على أداء بعض الأعمال أو الأقوال ويحسب الإنسان بذلك أنه يحسن صنعا، ويفصل بين العبادة وبين واقع حياته، فالعبادة التي شرعها الله تعالى هي التي تنظم حياة البشر في الواقع، نعم هناك مساحات واسعة أعطيت للعقل البشري لتطوير حياته وبناء مستقبله، فقد كلفه الله تعالى بأعمال العقل والنظر والتفكر من أجل الإبداع والإنتاج وإظهار نعمة الله تعالى في الوجود، ولكن هذا التطور والتجديد في حياة الإنسان ينطلق من القواعد الثابتة في الدين فلا يتعدى على حرمات الله تعالى باسم التطور، ولا يحل ما حرم الله باسم الحرية، ولا يغير شرع الله تعالى باسم الديمقراطية أو النظم التشريعية الوضعية، فالمنطقة الواسعة التي يتحرك فيها الإنسان باسم الاجتهاد في الدين أو التجديد لا تخرج عن الأصول الثابتة أو عن المحور الذي تدور حوله حركة الاختيار في الإسلام، فإذا انحرف مسار هذا الدوران عن المحور أو زل عن الصراط المستقيم فقط سقط في الهلاك ووقع في الضلال، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً{103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف:103-104)، وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: السبت 13 رمضان1432هـ. الموافق 13 أغسطس2011م.

*********************

10- العبادة والواقع

 

العبادة في الواقع تحتاج منا إلى فهم جديد يعيدها إلى جذورها الراسخة في الدين وإلى ما كانت عليه في سابق عهدها عندما كانت العبادة هي الحركة الدائمة في حياة الناس وصنعوا منها عجائب التاريخ، فطهروا أولا أنفسهم من كل رذيلة فتخلصوا من الغرور والظلم والحقد والحسد وكل أنواع الشر في النفس وتحلوا بالفضائل الحميدة والصفات الجميلة، وحولوا واقعهم إلى حضارة راقية ومدنية فاضلة وثقافة عالية فخرجوا بهذه الفضائل والأخلاق إلى بقاع الأرض، فتوسعت دولة الإسلام في فترة زمنية قصيرة، فقدموا مدرسة للتاريخ الإنساني ظلت مثلا للكمال والجمال في حياة الأمم والشعوب، لأن العبادة كانت سلوكهم الذي تعاملوا به بين الناس. فلماذا لم تفعل العبادة فينا ما فعلت بسلفنا الصالح؟ لأننا فصلنا بين العبادة والواقع وهذا الفصل هو الذي حذر منه الرسول وسماه المفلس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" ( مسلم 4678)،

 

فهذا المفلس ملتزم في الدنيا بالفرائض الواجبة في الأمور التعبدية ولكن هذه الفرائض تقف عند حدود العمل بها شكلا دون توظيفها إلى واقع الحياة، فيفصل بين أداء العبادة وبين الحركة الحياتية الأخرى وهو يظن بذلك أنه يؤدي ما وجب عليه، ولا علاقة بين أداء الفرائض وبين بقية أعماله، فهذا هو المفلس شرعا فيأتي يوم القيامة بأعماله التعبدية وافية ولكنه أناني ينظر إلى نفسه فقط ولم يراقب علاقته بالناس أو بالحياة العامة فقامت على التقصير في جوانب كثيرة منها فأحبطت أعماله الصالحة، فلو اتخذ من تلك العبادات دروسا يتعلم منها في واقع الحياة كيف يرتفع بها إلى الفضيلة ويترفع عن الرذيلة لصلح عمله في الدنيا والآخرة.

 

لا تتعب كثيرا حين تنظر في الواقع كم من أمثال هذا المفلس اليوم الذي يخشع ويركع ويحج ويعتمر ولا ينقطع عن مظاهر التعبد وقد رسم بعضهم على شكله الخارجي سمات الصالحين، ولكن لو عاشرت واحدا منهم بصحبة أو جيرة أو مال لوليت منه فرارا ولملئت منه رعبا، وكم من مشاكل تحدثت في البيوت أو بين الأصحاب أو في الحارات ولا تجد لها مصلحا يحتوي تلك المشكلات، فأين هذا الإيمان من قول الرسول-صلى الله عليه وسلم-: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (البخاري 12) فلا تحكيم للدين أو العقل فالمصالح هي الغالبة بين الناس اليوم، فلو كان للعبادة واقعا حيا لذابت تلك المشكلات عند أول ظهورها، وعاشت الناس على السماحة والألفة والتعاون، روي إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ "قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" ( مسلم 57) هكذا يجب أن نفهم العبادة في الواقع لن تتحقق إلا إذا كانت لها حياة عملية بين الناس يشمون منها رائحة الإيمان، فيكون لها لون وطعم فيه لذة للشاربين، أما أن تكون عبادة جافة وحافة فإنها لا تقدم صاحبها عند الله خطوة واحدة، ولا ترتفع فوق رأسه شبرا واحدا ولو قطع عمره فيها ما لم تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر في كل ما بينه وبين الله والناس والحياة، وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الأحد 14 رمضان1432هـ. الموافق 14 أغسطس2011م.

***********************

11- الزكاة والواقع

 

الزكاة من أركان الإسلام الذي لا يتم إيمان الإنسان إلا بعد الإقرار بوجوبها ووجوب أدائها على من يملك نصابها، ولكن فقه الزكاة في الواقع العملي والأخلاقي لا ينتهي عند الإقرار بها أو أدائها، فهي كغيرها من العبادات التي فرضها الله تعالى على عباده لها جوانب متعددة ونسيج متشابك لا يتحقق مفعول هذه العبادات إلا إذا أخذت صورتها الكاملة، أما العمل ببعض الجوانب وترك الآخر فهذا يهدم البناء كاملا.

 

فمن خصائص الزكاة في واقع الفرد والمجتمع أن لها تأثيرات كثيرة تظهر في شخصية الفرد وسلوك المجتمع، فقد جبلت النفس البشرية على حب المال والتملك وفي سبيل ذلك أمرت بالسعي في طلب الرزق الحلال، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، لأنه ينفع نفسه وغيره فهو يملك من منافع الحياة ما يسد به حاجته ويعين الآخرين، والقوة المطلوبة هنا مطلقة لكل قوة تنفع الإنسان في الدنيا والآخرة سواء في قوة الإيمان والعمل الصالح أو في قوة المال والثروة الاقتصادية، ولكن لا تقف هذه القوة عند حد التملك أو الاختصاص بها وينسى الآخرين، فالمؤمن على يقين بأن كل ما يملكه هو فضل من الله وهو القادر على المنع والعطاء وأن المرء لا حول ولا قوة له إلا بالله تعالى، فجاءت هذه الزكاة الواجبة لتطهر النفس البشرية من غريزة الطمع هذه الغريزة إذا لم تجد التوجيه الصحيح فإنها في جانب المال ستتوجه إلى جمعه بكل وسيلة واكتنازه واحتكار الثروة دون توظيف تلك القوة في مصالح المجتمع.

 

لأن غريزة الطمع في حد ذاتها ليست رذيلة مطلقة وإنما توصف على حسب توظيفها فإذا وجهت إلى الطمع في منافع الدنيا والدين وطلب رضى رب العالمين وأعلى مراتب المؤمنين وجوار خير المرسلين فهذا طمع محمود، أما الطمع في امتلاك المال وما عند المخلوقين فهذا مذموم، وتأتي هذه العبادة في الواقع لتربية النفس المؤمنة للارتقاء بها من الصفات الرذيلة التي تفسد حياة الفرد والمجتمع وتحولها بالتربة الصالحة إلى صفات فاضلة ترقى بها النفس البشرية من الانحطاط والتدني إلى مستوى الكمال الإنساني.

 

لذلك يجب في الواقع أن تؤدي فريضة الزكاة دورا حيويا في حياة الفرد والمجتمع ولا تقف عند الصورة الشكلية عند دفع الإنسان ما يجب عليه وكأنه يسدد رسوما أو يدفع ضرائب مالية لازمة عليه دون أن يشعر بقيمة هذا العطاء بما يطهر نفسه وماله من كل شايبة أو صفة شاينة في نفسه ويمد حبل التواصل مع الآخرين الذين يشعر بحاجتهم ويعيش آمالهم وآلامهم، نعم هي نقص للمال في الشكل الظاهر ولكنها زيادة وكمال وإعمار وبناء للنفس من الداخل، هذا الشعور الذي يدفعه بعد ذلك إلى مزيد من البذل والعطاء ولا يقف عند حد أداء الواجب الذي عليه فقط بل سيتقرب إلى الله بالنوافل، فتكون غايته هي رضى الله تعالى عليه والعمل الصالح الذي يقربه إلى الله والتخلص من قهر الذات والأنانية والبغضاء التي تجعله لا يبصر في الواقع إلا نفسه وهو في الآخرة من الخاسرين.

 

أما الذين يتصورون أن أداء الزكاة سيؤدي إلى نقص أموالهم وانخفاض أرصدتهم فهؤلاء عليهم مراجعة إيمانهم بالله والغيب واليوم الآخر, لأنهم قصروا رؤيتهم على حياتهم الدنيا فقط، والله تعالى يقول: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{4} أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة:2-5) إذن حديثنا إلى هؤلاء المؤمنين المتقين الذين يرجون الله واليوم الآخر، أما المعطلين للزكاة فالحديث معهم يحتاج إلى تصحيح عقيدتهم أولا حتى تصلح أعمالهم بعد ذلك هدانا الله أجمعين.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الأربعاء 17 رمضان1432هـ. الموافق 17 أغسطس2011م.

************************

12- الأخلاق والواقع 1-3

 

حاجتنا إلى الأخلاق في الواقع ضرورة لازمة لأنها هي الصورة الداخلية للنفس الإنسانية أما الصورة الخارجية وهو الشكل الخارجي للإنسان فقد صوره الله تعالى ولا دخل للإنسان فيه {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ...} (آل عمران:6) لذلك لا يجوز أن يعاب شكل الإنسان لأنه من صنع الله تعالى، أما الصورة الداخلية فقد خلق الله تعالى الإنسان دون تجهيز مسبق لسلوكياته في الحياة ولكن خلق في الاستعداد لأن يكون من الأخيار الأبرار أو أن يكون من الفجار الأشرار، قال تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (النحل:78) فأودع الله في النفس البشرية وسائل السمع والبصر والفؤاد ليكتسب من خلالها منافع حياته ورتب على صلاحية الإنسان للاكتساب وقدرته وإرادته الاختيارية مسؤولية الفرد عن أعماله.

 

ومسؤولية الإنسان عن أعماله تلاحقه منذ أول التكليف حتى يوافيه الأجل، ما لم يسقط عنه التكليف لانعدام شرط من شروطه، ويسأل عن كل الأشياء التي جعل الله له سلطانا عليها، أو قدرة على التصرف فيها، أو قدرة تأثير بقول أو عمل أو تفكير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ؟ وعن عمله فيم فعل ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ وعن جسمه فيم أبلاه ؟".

 

ومسؤولية الإنسان تنحصر في نطاق ما يدخل في وسعه وصور الابتلاء كثيرة منها: الغنى والفقر، الكثرة والقلة، القوة والضعف، القيادة والتبعية…إلى غير ذلك من ظروف الحياة ، ويأتي الابتلاء على قدر الهبات والاستطاعة ويكون الجزاء على قدر الطاقة والجهد وميزان الله لا يعزب عنه مثقال ذرة من نية أو عمل {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة:7-8).

 

وتتفاوت حظوظ الناس في الأشياء التي فطروا عليها، فهناك تفاوت في الذكاء الفطري، وتفاوت في أحوال البدن قوة وضعفا، وصحة وسقما، وتفاوت في الطبائع النفسية الفطرية مثل: الخوف والطمع والغضب والحلم وغير ذلك من الطبائع النفسية التي توجد على نسب متفاوتة في الناس، وهذه الطباع الفطرية على اختلافها منها ما هو قابل للتعديل والتبديل لدخولها تحت سلطان الإرادة، فتكون خاضعة للمسؤولية لدخولها في إطار التكليف، وهي كذلك قابلة للتنمية والتوجيه لوجود الاستعداد الفطري لاكتسابها مثلها مثل غيرها من المهارات والحركات الفطرية التي تكتسب بالتدريب والتعليم كالصناعة أو مهارة أو حرفة معينة يتعلمها الإنسان، ومثل ذلك في اكتساب الأخلاق، وعند التأمل في طبيعة الإنسان نرى عنده القدرة على اكتساب الفضائل الخلقية أو التخلص من رذائلها فسريع الغضب يستطيع بالتربية أن يكتسب قدرا من خلق الحلم، فإن ترك نفسه من غير تهذيب فإنه يحاسب على إهماله ، والبخيل يستطيع بالتربية أن يكتسب خلق حب العطاء فإذا أهمل نفسه فسوف يحاسب على تقصيره ، وهكذا يقال في أية فضيلة خلقية يستطيع الإنسان أن يكتسب منها بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم المقدار الذي يكفيه لتأدية واجب السلوك الأخلاقي.

 

وفي حدود هذه القدرة يكون التكليف وتكون المسؤولية ، ووفق هذا الأساس جاءت التكاليف الشرعية بالتزام فضائل الأخلاق واجتناب رذائلها. وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الجمعة 19 رمضان1432هـ. الموافق 19 أغسطس2011م.

*******************

13- الأخلاق والواقع 2-3

 

النفس الداخلية هي الهوية الحقيقية للإنسان، فلا تغرنك المظاهر والألوان والملابس الفاخرة أو الجمال والبنية الجسدية فما هذه إلا غلاف للنفس الداخلية أما القيم والمعاني والآداب وغير ذلك من صفات النفس هو الذي يحدد وجهة الإنسان نحو السعادة والكمال ويبيّن مستقبله ومصيره في السعادة والفلاح أم الشقاء والخيبة. فهذه النفس يمكن أن تتكامل من خلال التربية والتهذيب فترتفع إلى مستوى الكمال الإنساني ويمكن بالإهمال والتضييع أن تسقط إلى أسفل السافلين من خلال دسها تحت الطغيان المادي الذي تعيش فيه.

 

يستطيع أي إنسان عاقل بما وهبه الله تعالى من استعداد فطري أن يكتسب الفضيلة الخلقية بالتربية والإرادة والعزم والتصميم، والناس في ذلك يتفاوتون بمدى سبقهم وإصرارهم في الإرتقاء في سلم الفضائل والأخلاق، والتربية الإسلامية تعاملت مع طبائع الناس الفطرية على اختلافها وجاءت بأسس تربوية نافعة في التقويم والتحويل والتهذيب، تتناسب مع جميع الأعمار وأنواع الطبقات وعلى مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع، ومن هذه الأسس على سبيل المثال:

 

التدرج في البناء التربوي لأن العملية التربوية لا تتم بتحويل مفاجئ، وإنما هي إنشاء متدرج لبلوغ الشيء إلى مستوى كماله، وتلك سنة الله في الخلق:

 

ومكلف الأشياء فوق طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار

 

وكذلك مراعاة الفوارق الفردية لأن طبائع الناس تختلف وبالتالي من الخطأ في التربية معاملتهم بطريقة واحدة، وكان الرسول يداوي بحكمته التربوية ناسا بعطاء من المال وآخرين بعطاء من الجاه وآخرين بعطاء من الحب، وما يصلح لتربية الولد قد لا يصلح لتربية البنت وما يناسب في زمن قد لا يناسب في وقت آخر ولكن مع المحافظة على الفضائل والقيم الثابتة في الدين، ومن أسس التربية في تحسين السلوك اختيار المناسبات لتقديم النصائح والتعود على السلوك الفاضل فقد كانت تنزل الأحكام الشرعية عند مناسباتها ونتعلم من ذلك ضرورة اختيار المناسبة الملائمة لما يريد التوجيه له من خلق أو أدب أو نصيحة، ولا نقف عند هذا الحد لأن الطبائع الفطرية في الناس مثل البذور في الحقول إذا تركت وشأنها نمت فوضوية أما إذا وجدت العناية والرعاية حسن استغلالها، ومن الرعاية في الطباع البشرية الحد من نمو الطبائع الضارة للتكوين الخلقي الفاضل، ونشاهد في الواقع أن طبائع الناس قد تلونت وتختلف مع الشخص الواحد بحسب المكان والزمان فسلوك الفرد في خلوته يختلف عن سلوكه مع الناس، وسلوكه مع أصدقائه يختلف عنه مع أهل بيته فتارة يجمع بين سلوكيات وأخلاق متناقضة وليس هذا حال المؤمن بل يجب عليه التزام الأخلاق الفاضلة في كل وقت وحين وفي كل الأحوال ومع كل الناس لأنك لا ترجو ثمنا من الخلق مقابل ذلك السلوك وإنما هو عبادة ترجو ثوابها من الله تعالى، فمن أراد التخلص من الصفات المذمومة فعليه بعملية التوجيه والتحويل فصاحب الطمع في متاع الدنيا عليه أن يوجه ويحول هذا الطبع إلى الطمع فيما عند الله من أجر عظيم فتنصرف نفسه من التعلق بالدنيا إلى ما هو أعظم، ويصعد التطلع الإنساني من الصغائر إلى معالي الأمور لما فيه من سعادة وكمال ورفعة عند الله، وذلك من خلال التشويق والتحسين وخبرات عملية يذوق فيه الإنسان حلاوة ما يريد الوصول إليه، وبهذا يعتدل طبعه دون أن يقتلعه ولكن جرى فيه تحويل وتصعيد إلى ما هو خير. وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: السبت 20 رمضان1432هـ. الموافق 20 أغسطس2011م.

***********************

14- الأخلاق والواقع 3-3

 

كل إنسان يحب أن يوصف بالفضائل ويمدح بالأخلاق الحميدة وإن لم تكن فيه، ويغضب إذا وصف بالنقص والقصور في أخلاقه وإن كانت فيه، وقال الحكيم: عجبت من إنسان يصدق ظن الناس فيه ويكذب ما يعلمه عن نفسه، وهذا حال كثير من الناس يحبون تحسين صورتهم وسمعتهم عند الناس دون محاولة التعديل والتغيير من أنفسهم، وقد يغفل البعض عن ذلك ويعتقد أن تلك السمعة تكفيه ليعيش بها بين الناس وينسى أن هذا البناء الخارجي أو الديكور المزخرف لا يغني عن الحق شيئا، وأن شخصيته الحقيقية هي نفسه الداخلية وليست السمعة الزائفة، فكم من أناس يجتهدون في عباداتهم من صلاة وصوم وحج ولكن حياتهم السلوكية لا تطاق فعشرته مع أهله نكدة ومع جيرانه لا تطاق ضاقت منه الخلق وهو يحسب أنه يحسن صنعا، وسبق في مقالات سابقة في هذه السلسلة أن العبادات وحدها من غير تطبيق سلوكي عليها تعود بالخسارة عليه.

 

فهل من علم عن نفسه ذلك يمكن التخلص من ذلك ويخرج من صفات القصور والنقص إلى صفات الجمال والكمال؟ نعم، جاء في مقال الأمس أن التربية الإسلامية قدمت منهجا تربويا يحرر النفس البشرية على اختلاف طبائعها من الرذيلة إلى الفضيلة، ونضيف اليوم أن هذه التربية لا تتحقق ولا تتيسر للإنسان إلا إذا وجدت الرغبة الصادقة والحافز الذاتي وهو القوة الكامنة في الإنسان المحركة لعواطفه الموجهة لإرادته الدافعة لممارسة السلوك، ويمكن تكوين هذا الحافز الذاتي عند الإنسان من خلال الطرق التالية:

 

طريق الإيمان بالله واليوم الآخر والقضاء والقدر فإذا ثبتت هذه العقيدة الإيمانية في كيان الإنسان استطاعت أن تهيمن على فكره وقلبه وعواطفه وتعمل على ربط إرادته بما يرضي الله تعالى.

 

طريق الإقناع الفكري ويتم عن طريق التعليم فاكتساب المعرفة بالفضائل والرذائل تولد الحافز الذاتي على الممارسة والتطبيق، ومعرفة الفضائل الأخلاقية تورث اليقين بثمراتها، وستحسانه في النفس، ثم الرغبة في التحلي بها. وكذلك معرفة الرذائل والنقائص الأخلاقية فمعرفة ما فيها من نقص وقبح يولد في النفس استقباحها ثم الرغبة في اجتنابها.

 

طريق الترغيب والترهيب لا ينكر أثر التشجيع بالإكرام والمكافأة والتثبيط بالإهانة والعقوبة بأنه مؤثر فعال ومولد للحافز الذاتي داخل النفس الإنسانية بالفعل أو الترك لسلوك الأخلاقي.

 

طريق تربية الوجدان وذلك بتعريض الوجدان لخبرات ومشاهد يحس فيها حلاوة الفضائل الأخلاقية ومرارة الرذائل الأخلاقية، لأن الوجدان ينمو ويتضخم بالمشاهدات والتجارب الحسية ويكون قادرا على تحريك العواطف وتوجيه الإرادة ويكون أحد الحوافز الذاتية في كيان الإنسان. وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الأحد 21 رمضان1432هـ. الموافق 21 أغسطس2011م.

********************

15- القيم والواقع 1-2

 

المصادر والمراجع الأساسية

منذ أن بعث الله ـ سبحانه وتعالى ـ خليله إبراهيم عليه السلام بملة الإسلام، كان دعاؤه المبارك لأمته أن يبعث فيها رسولاً يركز فيها ثلاث قيم، جمعها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } (البقرة:129).

 

وقد استجاب الله ـ تعالى ـ لنداء نبيه وخليله، فبعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- هادياً ومربياً، وأنزل معه الكتاب والحكمة، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ملخصا رسالته: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، ومن هذا المنبع نَهَلَ جيل الصحابة الكرام قيم الإسلام، وصنعوا بواسطتها جيلاً حمل راية الإسلام إلى العالم، وفي واقعنا المعاصر نسأل أين نجد هذه القيم؟ وكيف نترجم هذه القيم إلى واقع عملي لتصنع أمة الإسلام كما أنتجت ذلك السلف الصالح لهذه الأمة؟

 

أما من حيث مصادر القيم فنجدها في مصادر الإسلام في القرآن الكريم وفي السنة والسيرة النبوية وفي أعمال وسير أعلام وعلماء المسلمين المجتهدين.

 

فقد كانت رسالة القرآن الكريم الكبرى هي التربية على القيم الفاضلة التي تصنع الشخصية البشرية المستقيمة على الحق، وارتكز الحديث عن بنية القيم الإسلامية في القرآن الكريم على تحديد القيم الكبرى التي توجد التوازن في تعامل الإنسان مع خالقه والناس والحياة فهناك قيم الإيمان والتوحيد وهي قيم كلية تتفرع عنها قيم العبودية كلها بجزئياتها وتفاصيلها، كقيمة التقوى، وطاعة الأوامر واجتناب النواهي، والتقرب بالنوافل، والتحرر من عبودية المخلوقات. وهناك قيم المعاملات وهي قيم كلية تحكم تعامل الإنسان مع أخيه وتتفرع عنها قيم التعاون، والتآزر، والتآخي، والإيثار، والتكافل، ولين الكلام والتواضع، وما في حكم ذلك من قيم تنظيم العلاقات العامة بين الناس. وهناك قيم توجه الإنسان إلى حسن التعامل مع البيئة والكون الذي سخره الله تعالى له وهي قيم كلية، تتفرع عنها قيم تعامل الإنسان مع بيئته ومحيطه من الأمم الأخرى غير الإنسان كالجبال والبحار والطير والحيوان: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ...} (الأنعام:38).

 

ومن القيم الكبرى التي رسخها القرآن الكريم تعظيم الرسل والأنبياء عليهم السلام وتكريم ورثتهم من العلماء العاملين لأنهم الحاملون والمترجمون في الواقع لهذه القيم والناشرون لها، قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ...} (النساء:163)، وقال تعالـى : {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (البقرة:136).

 

فرسالة القيم رسالة واحدة، والمرسلون بها بلغوها إلى كل الأقوام كما أمرهم الله تعالى، وللأنبياء ورثة كرّمهـم اللـه بكــرم القيــم التي يحملونها، قال تعالى: {... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ...} (المجادلة:11).

 

وقد ربط الله تعالى بين العلم والقيم منذ بداية تعلم الكتابة والقراءة فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1-5)، وفي هذا بيان أن الغاية الكبرى للعلم معرفة الخالق وخشيته، فإذا تجرد العلم عن القيم لم ينفع صاحبه، وهذا هو الفرق بين إبليس الذي وضعه علمه ونزل به إلى أسفل سافلين، وآدم الذي كرّمه الله بتوبته فعلّمه الأسماء كلها وأناط به الخلافة وعمّر به الأرض. وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الاثنين 22 رمضان1432هـ. الموافق       22 أغسطس2011م.

*********************

16- القيم والواقع2-2

 

لقد وضع القرآن الكريم الجانب النظري في صياغة القيم ونشرها وترسيخها؛ وجاءت حياة رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- ووضعت الإجراءات التطبيقية من خلال أقواله وأفعاله وسيرته العطرة التي صنعت واقع المسلمين وشكلت حياتهم كأمة مسلمة، ومن القيم العامة التي رسختها السنة في حياة الأمة السلوك والقدوة قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (الأحزاب:21)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين النظر والتطبيق في تعليم القيم الإسلامية؛ بحيث يصلي بالناس ثم يقول لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ويحج بهم ثم يقول: "خذوا عني مناسككم".

 

ومن يتتبع السيرة النبوية بعين تربوية سيتعلم منها منهجية التواصل مع الناس؛ وسيجد فيها من الإشارات والتوجيهات دروسا عملية في التواصل مع الخلق، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعبِّر بملامح وجهه عن السخط والرضا، ويغير من هيئة جلسته أثناء الكلام لبيان أهمية الأمر وخطورته؛ كما هو الشأن في حديثه عن شهادة الزور، قال راوي الحديث: وكان متكئاً ثم جلس وقال: ألا وشهادة الزور. مراراً حتى قلنا: ليته سكت، وفي هذا إشارة إلى تقنية التكرار في الحديث مع الناس، ويشير صلى الله عليه وسلم بأصابعه لتقريب الأفهام، مثل قوله: بعثت أنا والساعة كهاتين. وضم السبابة والوسطى، ويضرب المثل مستخدماً القصة، ويأتي بأخبار الأمم السابقة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً.. الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا.

 

وهو صلى الله عليه وسلم يلحظ نفسية السائل وقابليته للتعليم، فيجيب بحسب ذلك أجوبة تختلف في الشكل والموضوع، فمن حيث الشكل هي بين الطول أحياناً والقصر أحياناً، ومن حيث الموضوع دواء مناسب لداء السائل، فيأتي الرجل ويقول: أوصني يا رسول الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: لا تغضب! فيقول الرجل: زدني! قال: لا تغضب! وكررها ثلاثاً، وفي موقف آخر نجده يقول لمعاذ حين سأله: يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار!، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول في جوابه: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه.. ألا أدلك؟... ألا أخبرك؟ وذلك من حكمته صلى الله عليه وسلم في النظر إلى قابلية المتعلم للتلقي، وهي من أرقى تقنيات التواصل التربوي التي عرفها الفكر التربوي المعاصر.

 

فيجب علينا إحياء هذه السيرة العطرة في واقعنا المعاصر وخاصة بين المتعلمين وعامة المسلمين لتبعث فينا روح القدوة والإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن اقتدى به صلى الله عليه وسلم أنتج العلماء الوارثين الذين قدموا فكرا تربويا وأبدعوا في نقل القيم وصاغوا منه نظرية تربوية إسلامية مرنة، تتكيف مع الأحوال والظروف، وتستوعب المتغيرات، وتنتج لكل حالة حلاً، ولكل واقعة حديثاً، فما علينا إلا قراءة ثروتنا العلمية وبث روح الحياة في القيم التي تصنع لنا أمة كما أسسها القرآن الكريم وترجمها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسار عليها الصالحون من المسلمين. وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الثلاثاء 23 رمضان1432هـ. الموافق 23 أغسطس2011م.

**********************

17- العلم والواقع

 

العلم الذي يدعو إليه الإسلام هو كل علم يكشف الحقيقة في الوجود ويدفع الجهل عن النفس، سواء أكان هذا العلم في الأمور الدينية أم في الشئون المادية والدنيوية، فالعلوم الطبيعية والتطبيقية والتقنية وعلم النفس وعلم التاريخ وعلم المهارات وغيرها هي التي قصدها القرآن الكريم بجانب العلوم الدينية ومن أجل ذلك فان العلم الذي حث عليه الإسلام وحفلت به آيات القرآن الكريم يشمل كل معرفة تنكشف بها حقائق الأشياء وأسرار الحياة ومغاليق الكون التي تحقق أسباب العزة والرفعة وتفتح أبواب الخير والسعادة للإنسانية في الدنيا والآخرة سواء كان موضوعه الكون والطبيعة أم موضوعه الإنسان أم موضوعه الوجود والغيب، وسواء أكانت وسيلة معرفته الحس والتجربة أم وسيلته العقل والبرهان أم وسيلته الوحي والنبوة .

 

والعلم النافع في الإسلام هو الذي يدعو إلى الإيمان ويوجه العقل إلى الخير ويدفعه إلى التفكر والتأمل والنظر في هذا الكون الواسع الدال على وجود الله وكماله وهو الذي يرقى بالإنسان من ظلمات الجهل إلى نور العلم ويرفعه من حضيض العبودية والتقليد إلى اعتقاد الحق واليقين وينمي العقل وينبه ملكات النفس ويكشف الحقائق الكونية التي لفت القرآن الكريم أنظار الناس إليها والبحث عن أسرار هذا الكون الذي هو مستقر كل علم ومستودع كل سر قال تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...} (يونس:101) وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } (يوسف:105) وقال تعالى: {... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ...} (آل عمران:191).

 

ويبين صاحب قاموس الشريعة العلم النافع من بين عموم العلم فيقول: العلم النافع هو ما يزيد في خوفك من الله، ويزيد في بصيرتك بعيوب نفسك،ويزيد في معرفتك بعبادة ربك عز وجل، ويقلل رغبتك في الدنيا ويزيد رغبتك في الآخرة، ويفتح بصيرتك بآفات أعمالك حتى تحترز منها، ويطلعك على مكائد الشيطان وغروره.

 

ويضرب الشيخ جاعد بن خميس الخروصي المثل في سعة العلم وشموليته بقوله: وفي المثل معنا أن العلم كاليم، والأخيار أي العلماء على سواحله حوم من كل وجهة ومكان ما ببالغين إلى قعره، ولا قادرين على اقتحام لجته فيبقون على السواحل منه واقفين يتناولون منه بأطراف أصابع أيديهم حتى يأتيهم اليقين وهم في ذلك على تفاضل.

 

يقول سماحة الشيخ الخليلي في شمولية العلم: فليتخصص الإنسان في أي علم كان، فإن جميع العلوم على اختلافها تعود إليها ضرورة البشر، فالمجتمع الإسلامي بحاجة إلى مختلف التخصصات العلمية كما أنه بحاجة إلى مختلف الاختصاصات العلمية، فالمجتمع الإسلامي بحاجة إلى أن يوجد فيه من يدرس الطب ومن يدرس الهندسة ومن يدرس التجارة ومن يدرس الزراعة ومن يدرس العلوم العسكرية ومن يدرس العلوم المختلفة التي تعود بالمصلحة على الأمة البشرية .

 

ومن منطلق تلك القيمة العالية والمنزلة الرفيعة والشمولية الواسعة للعلم الذي سبق بيانها بإيجاز ندرك مدى الحاجة اللازمة إلى توفر مواصفات ومقاييس معينة فيمن يتحلى بها وينتسب إليها وينتمي لها تتمثل في جملة من الآداب والفضائل التي تليق بجلال العلم وشأنه. وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الأربعاء  24 رمضان1432هـ. الموافق 24 أغسطس2011م.

********************

18- العمل في الواقع

 

هناك سباق وتنافس في الواقع المعاصر بين الدول على التقدم والتفوق في مختلف مجالات الحياة كالتعليم والصحة والإنتاج أكثر من أي وقت من تاريخ البشر، وكل دولة اليوم تفكر وتعمل على تطوير مستواها من أجل تحسين معيشتها وتحافظ على موقعها، والعمل بكل أشكاله الثقافي والإداري والصناعي والزراعي لا يمكن أن يتطور أو يتقدم إلا إذا سادت فيه قيمة الإتقان.

 

لأن العمل من مظاهر الحياة الإنسانية، يتخذ منه الإنسان سبباً لرزقه ومظهراً للتعبير عن نشاطه وإسهامه في حركة الحياة، وإذا كانت الأعمال تختلف في نوعيتها فالمهم هو كيفية أداء هذه الأعمال؟! هل هي على وجه الإتقان والإحسان أم على وجه التقصير والإهمال؟.

 

فالمسلم أمره الله تعالى أن يتقن عمله مهما كان نوعه، لأنه ليس مجرد أمر دنيوي يكتسب منه منفعة عاجلة أو ثروة مالية فحسب بل جعله أيضاً أمراً تعبدياً يتقرب به إلى الله تعالى، وفي الحديث: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". والعمل هنا نكرة لأنه شامل لكل عمل لا يقتصر على نوع معروف لأن الله تعالى يحب أن يكون الإتقان سلوكاً للمؤمن في كل أعماله، وهذا ما تؤكده نصوص أخرى مثل قوله تعالى: {... وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (البقرة:195) وقوله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ...} (النحل:90)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء".

 

وإذا نظرنا إلى واقعنا نجد أن التسيب والإهمال وإضاعة الوقت وعدم مراعاة العمل وخاصة أولئك الذين يقفون على منافذ خدمات المراجعين في مختلف المؤسسات وأصحاب الحرف في الشركات لا يقدرون قيمة الوقت وحسن المقابلة وغير ذلك من ضبط العمل والصدق والوفاء، فهناك تكدس للمراجعين وتقصير من بعض الموظفين والعاملين وقد تكون حجة بعضهم قلة الراتب أو عدم الترقية أو ينتهز فرصة غياب الرقابة الإدارية فيقصر في أداء واجباته، فيرهق المواطن بسب إهماله في خدمته.

 

ويعتقد هذا الموظف أو العامل أنه لا حرج عليه ولا يحس بتأنيب الضمير وقد لا يشعر بأنه مهمل أو مقصر، والسبب غفلتهم أو جهلهم أن غياب الإتقان والإحسان في العمل يؤثر على نفسهم قبل غيرهم، لأنه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى فهو بحسن الأداء والإخلاص والوفاء وحب العمل وخدمة الوطن والمواطن كل ذلك وغيره يزكي نفسه وينظف دخله الشهري الذي يطعم به نفسه وأهله، ومما لا يخفى على المسلم أن من شرط قبول الدعاء عند الله تعالى أن يجعل المسلم كسبه وطعامه حلالا كما جاء في الحديث: "أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة".

 

والأخطر من ذلك أن من تعمد الغش والإهمال واستغلال المنصب قد يخرج الموظف أو العامل من جماعة المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا". لأن هذا الغش والإهمال سيؤدي إلى فقدان الثقة والاحترام بين أفراد المجتمع، وسيؤدي إلى انتشار الكذب والخداع، وإلى كثير من الفوضى التي تفسد حياة البشر وسعادتهم، لذلك أخي المسلم أدي عملك بإتقان وأحسن القيام بما أسند إليك من عمل حتى وإن غفل عنك المسؤولون، أو لم يكافئك أصحاب العمل، أو كان الراتب زهيداً، فحقك عند الله محفوظ وسينصرك على من ظلمك، والله تعالى يمهل ولا يهمل، وأنت بإتقانك هذا تعمل ما يحبه الله تعالى، وما دام الله تعالى مطلعاً عليك فاطمئن لأنه هو القائل: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } (الرحمن:60). وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: السبت 27 رمضان1432هـ. الموافق 27 أغسطس2011م.

*********************

19- أخلاقيات العمل والمهن والواقع

 

العمل في الإسلام يرتبط ارتباطا وثيقا بقيم الإيمان والأخلاق، وهذه الحقيقة تعطي العمل في المجتمع الإسلامي طبيعة تختلف عن طبيعة العمل في المجتمع الأخرى، فالعمل عند غير المسلمين وسيلة لكسب المال أو أداة لإشباع الهوايات، والغاية من العمل عندهم كثرة الأرباح وهي دليل على النجاح والتفوق ولو كان هذا الدخل من أعمال محرمة أو غير أخلاقية أو تهلك الحرث والنسل وتصنع الخراب والدمار.

 

أما أخلاقيات العمل والمهن في الإسلام فإنها تقوم على قواعد منها:

  • ضمير الفرد الذي يراقب الله تعالى في كل أحواله، وهذا يعني الرقابة الذاتية اليقظة والدائمة والمتجددة على عمل العامل، حيث لا يمكن أن تضع له رقيبا خارجيا يراقب عوامل الضعف وإغراءات الكسب ونوازع القصور عند العامل من بدء العملية الصناعية أو التجارية أو الإدارية حتى نهايتها، وكل القوانين والسلطات ووسائل القمع ونظم المحفزات تعجز عن أن تتابع في السر والعلن أداء العامل أو تقهر فيه عوامل الضعف والإغراء، وليست هناك إلا قدرة واحدة وقوة قاهرة وعالمة بالسر والنجوى هو الله سبحانه وتعالى. من هنا فإن ما يأمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يصل إلى عقيدة العامل ويصبح العمل الإسلامي استجابة لإرادة الله في أعمار الكون وقربى إليه بتنفيذ أوامره وتطبيق توجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم. وعندما تتملك نفسية العامل مثل هذه المعاني فإنه يستحضر عند أداء العمل من صدق النية وصفاء القلب وقوة العزيمة ما يستحضره عند أداء العبادة. وعندئذ يكون الإتقان والإحسان والحرص على الأداء الأمثل وتحقيق الكفاية الإنتاجية وحسن استثمار الوقت والمواد إلى غير ذلك كنتيجة طبيعية لمثل هذه المشاعر العميقة وللمحفزات الإيمانية والنفسية.

 

  • ومنها الضوابط الشرعية الإسلامية من تحليل أو تحريم لمختلف الأنشطة التي يقوم بها الإنسان، فقد حرم الإسلام كل صور الكسب والممارسات التي تقوم على دعارة أو خمر أو قمار أو استغلال أو غش أو غرر أو احتكار أو إكراه أو ربا.. وفي مقابل هذا أوجب الإتقان والإحسان والأمانة.

 

  • ومنها الآداب والأخلاق الإسلامية التي تحث الإنسان على العمل فقد هدم الإسلام الحواجز الطبقية، ونادى بوحدة الإنسان ومساواة الأفراد وأن قيمة الإنسان بعمله لا بنسبه وفي الحديث الشريف (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) وعندما سألت السيدة فاطمة الزهراء أباها أن يعينها بخادم قال لها صلى الله عليه وسلم: اتقي الله يا فاطمة وأدي فريضة ربك واعملي عمل أهلك. ونصحها بالدعاء. وقال: ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يديه وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يديه. وقال: من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له.

 

هذه الأخلاقيات التي تمجد العمل هي التي تدفع المؤمن أن يتقرب إلى الله تعالى بعمله، ويخاف من القصور والإهمال ليس بسب الأعمال الرقابية عليه أو من التقارير الإدارية التي تكتب عنه، وإنما خوفه من الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وللحديث بقية..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الأحد 28 رمضان1432هـ. الموافق 28 أغسطس2011م.

**********************

20- المستقبل والواقع

 

كلنا ينظر إلى المستقبل، ونعمل من أجل المستقبل، وندخر من أجل المستقبل، ونعيش من أجل المستقبل، فما هو هذا المستقبل؟ ومتى نصل إليه ونعيشه واقعا؟ الطالب مشغول بالمستقبل، والموظف والعامل همه المستقبل، الصانع والتاجر ينتظر المستقبل، نعم هذا حال البشر كل يعمل على شاكلته ليلا ونهارا يبحث ويسعى ويكد ويشقى، ولا عيب ولا غرابة في هذا العمل والسعي، لأنه سنة كونية خلق الله عليها الأحياء، قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى{1} وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى{2} وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى{3} إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (الليل:1-4). وآيات الحث على العمل كثيرة في القرآن الكريم.

 

ولكن ليست الغرابة في السعي والعمل فهذه فطرة من طبائع الخلق، ولكن الغريب أن يعيش الإنسان المعاصر ويصرف كل طاقته في تلبية المطالب المادية وإشباع شهواته الحسية بصنوف الملذات، فلا حديث في عالم اليوم إلا عن رفع المستوى الاقتصادي وضمان المستقبل وتوفير الرغبات والشهوات للكبار والصغار للرجال والنساء فاختلطت صيحات الفقراء بصخب الأغنياء وأنين الحرمان بترف المسرفين، وطغى نفوذ قوى الهيمنة والقهر على الفضيلة والأخلاق الإنسانية فاحتكرت وتحكمت في قوت الناس ومعاشهم وكل ذلك يتم باسم العلم والحضارة والتمدن وحماية المستقبل.

 

الإنسان ليس جسدا فقط فالجسد من غير روح لا حياة له، ومستقبل الجسد مهما طال به العمر ومهما توفرت له أسباب الراحة والمتعة والصحة فإن مستقبله بعد مفارقة الروح عنه أن يتحول إلى جثة تدفن تحت التراب وتتحلل إلى تراب {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ...} (طه:55)، ولكن الجانب الأهم في حياة الإنسان هي الروح فالجسم مجرد مكان حامل لهذه الروح وهي نفخة من الله تعالى {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ...} (ص:72) فما هو مستقبلها بعد مفارقة الجسد؟ إنها مفارقة وقتية وليست أبدية فمصيرهما يلتقيان ( يوم يبعث الله من يموت) ولكن في عالم آخر ويوم آخر وحياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا إنها الحياة الأبدية الدائمة والمستقبل الذي لا مفر منه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{6} وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} (الحج:6-7).

 

فماذا قدمنا لهذه الروح؟ وكيف كانت عنايتنا لمستقبلها في هذه الزحمة التي ينصرف فيها الإنسان لصناعة المستقبل، هل كان لها نصيب في العناية بمستقبلها الذي نرجوه لها أن تحيا فيه حياة آمنة مطمئنة يوم ينادي الله تعالى هذه النفس: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً{28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي{29} وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:27-28) أم والعياذ بالله خسارة دائمة وهو في الدنيا يحسب أنه يسعى من أجل السعادة في المستقبل {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً{103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً{104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف:103-104) إذن المستقبل الذي يصل إليه كل مكلف وينتظر كل إنسان ليس في هذه الحياة الدنيا الفانية فالمستقبل فيها ظني لا يضمن الوصول إليه، فعمر الإنسان محدود فيها فمهما طال العمر لا بد من دخول القبر ومهما طال الليل لا بد من طلوع الفجر، ولكن المستقبل اليقيني والمضمون هو يوم القيامة هذا اليوم الذي لا مفر منه، ويلقى الإنسان فيه جميع أعماله التي سعاها في الدنيا {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ } (الانشقاق:6) لأن الله تعالى أحصاها عليه من قول أول فعل {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (ق:18) فيجب علينا البحث والعمل من أجل ضبط الجودة الشاملة لهذا المستقبل.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر: روضة الصائم: ملحق بجريدة عمان: الاثنين 29 رمضان1432هـ. الموافق 29 أغسطس2011م.

********************

21- الأخلاق خاصية إنسانية

 

د. الهاشمي: الحاجة إلى الأخلاق تجعل الإنسان يدرك ما لـه وما عليه من واجبات وحقوق..

 

أكد أ.د. مبارك بن سيف الهاشمي بجامع السلطان قابوس أن الأخلاق خاصية إنسانية فحيث ما وجد الإنسان وجدت الأخلاق، وأن حاجة الإنسان إلى الأخلاق هي التي تجعله يدرك ما عليه من واجبات وما له من حقوق.

وأشار إلى أن الوجود في الحياة الدنيا هو المصير الذي يتوقف عليه مستقبل الإنسان لذلك أعطي التكريم.

وأوضح أن الاختلاف لا يقف عثرة في التسابق إلى مرضاة الله فكل إنسان بطاقاته وقدراته يمكن أن يصل إلى أعلى المراتب والدرجات، وان الأخلاق أهم خصوصية في حياة الإنسان يمكن أن يسابق فيها إلى الخيرات.

وبين أن لمعرفة قيمة الأخلاق علينا أن ننظر إلى طبيعة الإنسان بين المخلوقات، وان الأخلاق الإسلامية لها خصوصية لا تجدها في غيرها من الذين يزعمون أنهم يملكون الفضيلة والقيم الإنسانية.

والأخلاق في الإسلام ليست شعارات وليست أخلاق مناسبات أو يتصيد بها مكتسبات.

 

ودعا الهاشمي أولياء الأمور في البيوت أو المؤسسات وطلاب العلم بالحث على دراسة الأخلاق الإسلامية وحسن فهمها وتطبيقها.. جاء ذلك خلال لقاء لملحق روضة الصائم.. وإلى ما حواه اللقاء:

الإنسان هو محور الحياة في الدنيا وكرمه الله تعالى وفضله على كثير ممن خلق وسخر الله تعالى له ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة . أولا لماذا استحق الإنسان كل هذا التقدير والتكريم والتفضيل؟ وماذا يجب عليه في المقابل أمام العطاء الرباني؟

 

استحق الإنسان هذه العناية من الله تعالى لأن الله خلقه لا للدنيا وحدها فقط ، وليست حياته فيها هي فرصة واحدة تنهي بانتهاء هذه الحياة، فوجوده مستمر في الحياة الدنيا والآخرة، فقبل وجوده في هذه الحياة الدنيا مر وجوده بعوالم أخرى وبعد خروجه منها سيمر بعوالم أخرى، ومن تلك العوالم عالم الأرواح وهي مرحلة في علم الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ...} (الإسراء:85) ثم عالم الأرحام الذي يصور الله تعالى فيه صورة هذا الإنسان ويحدد له مكانه وزمانه وعمره ونسبه {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ...} (آل عمران:6) فلا دخل للإنسان في تشكيل صورته ولونه ومكانه وزمانه، والمرحلة الثالثة هي خروجه إلى هذه الحياة الدنيا {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ...} (النحل:78) المرحلة الرابعة هي مرحلة ما بعد الموت وقبل البعث وهي حياة البرزخ التي يمر بها الإنسان إلى المرحلة الخامسة وهي يوم القيامة التي سيكون فيها البعث والحشر والحساب وعليه يصل إلى الإنسان إلى الوجود الأبدي الذي لا ينتهي في الآخرة. إذن هذه المرحلة في الدنيا ما هي إلا واحدة من مراحل انتهت ومراحل قادمة، ولكن مصيره الذي يتوقف عليه مستقبله هو هذا الوجود في الحياة الدنيا لذلك أعطي هذا التكريم والتفضيل والتسخير اختبارا وابتلاء له، فقد أعطى أمام هذا التسخير والتفضيل سمعا وبصرا وقدرة وإرادة وعقلا وهداية من الله تعالى ليعمل بذلك من أجل الوصول إلى مستقبل أفضل يحقق لنفسه السعادة الأبدية الدائمة التي لا تنقطع في الدار الآخرة.

 

سنن ربانية

معلوم أن الناس يتفاوتون في هذه الحياة الدنيا من القدرات والمواهب، فكيف يمكن للإنسان أن يختار أفضل وسيلة تقربه إلى الله تعالى ليكون من الفائزين يوم القيامة؟

 

نعم يعلم الله تعالى حال الإنسان وهو الذي خلقه على هذا الاختلاف والتفاوت في القدرات والطاقات بينهم ولكن هذا التباين والاختلاف من السنن الربانية التي أرادها الله تعالى بين البشر لتبادل المصالح والأعمال وتسير منافعهم ومصالحهم في الحياة، ولا يقف هذا الاختلاف عثرة في التسابق إلى مرضاة الله تعالى فيمكن كل إنسان من خلال طاقاته وقدراته أن يصل إلى أعلى المراتب والدرجات عند الله تعالى وفي تفصيل ذلك يحتاج إلى مدونات كبيرة ولكن يكفينا في هذا اللقاء أن نشير إلى أهم خصوصية في حياة الإنسان يمكن أن يسابق فيها إلى الخيرات ويتقرب بها إلى مرضاة رب العالمين ألا وهي خصوصية الأخلاق في الإسلام التي امتدح بها الله تعالى خاتم الأنبياء والمرسلين فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم:4) ولخص الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته بأنها جاءت لبناء الأخلاق فقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

 

توجه لأحسن الفضائل

الأخلاق صفة إنسانية عامة توجد عند المسلمين وعند غيرهم، فما هي هذه الأخلاق التي لها هذا الأثر الكبير في مصير الإنسان؟

 

سؤال جيد ولكن قبل الحديث عن خصائص الأخلاق الإسلامية وأثرها في سلوك المسلم دعنا نقول عن فائدة الأخلاق عند الإنسان عامة في الدنيا لأن الأخلاق من الصفات الفاضلة التي يحب كل إنسان في الحياة أن يمدح بها وإن لم تكن فيه بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه.

وإذا أردنا أن نعرف قيمة هذه الأخلاق علينا أن ننظر إلى طبيعة الإنسان بين المخلوقات ، فالإنسان هو المخلوق الذي يتحمل مسؤولية الحكم على الأشياء، لأن له إرادة وعلم وعقل فهو له قدرة أن يختار ما بين المعروضات الكونية أمامه.

 

وقد سخر الله تعالى له الكون ليقيم علاقاته مع الموجودات في الكون بناء على وعيه برسالته في الحياة، وقد أوجد الله تعالى في الإنسان عواطف وغرائز وشهوات تشده إلى عالم المادة وإشباع الذات بالملذات وجعل فيه عقل وقلب يشده أن يترفع عن الرذائل ويسمو بنفسه إلى مستوى الفضيلة والكمال الإنساني. ومن هنا تأتي الحاجة إلى الأخلاق التي توجه الإنسان إلى أحسن الفضائل التي يجب أن نتحلى بها ، ويعرف الرذائل التي يلزم التخلي عنها، وتوضح له كيف يمكن أن يحكم على الأشياء بأنها مقبولة أو مرفوضة وحاجة الإنسان إلى الأخلاق هي التي تجعله يدرك ما عليه من واجبات وما له من حقوق، فإن كان فرد في أسرة وجب عليه أن يبذل كل طاقته حتى يعلي قدرها ويرفع مكانتها ويسمو بأفرادها، وإن كان موظفا في مؤسسه لزمه أن يؤدي عمله على أكمل وجه ، وبذلك يعلو شأن الأمة ويتوفر لها أسباب الرقي والسعادة، فيعمل لصالح المجتمع الذي ينتمي إليه ولصالح الأمة بأسرها.

 

خاصية إنسانية

ذكرت بأن الأخلاق شأن عام لجميع الشعوب وكل أمة تدعي أنها تمتلك أفضل القيم والأخلاق فتحافظ عليه وتكافح من أجلها وبعضهم يحاول نشر أخلاقه وتعميمها إلى شعوب وأمم أخرى، فها هي الأخلاق متفاوتة من عصر إلى عصر ومن أمة إلى أمة ومن مجتمع إلى مجتمع، وهل الأخلاق الإسلامية لها خصوصية أخرى لا توجد في غيرها من الأخلاق التي يدعيها الناس؟

 

نعم الأخلاق خاصية إنسانية فحيث ما وجد الإنسان وجدت الأخلاق لأنها لا تنفك عن معتقدات الإنسان ودينه وسلوكه فالأخلاق هي الجانب العملي الذي يترجم عن ما يحمله الإنسان من عقيدة وقيم وإيمان، لذلك لا تخلوا أمة عاشت على الأرض من مفاهيم الدين مهما كان نوع هذا الدين حقا أم باطلا وتشاهد في الواقع المعاصر أنه لا يوجد في مجتمع إنساني يخلو من معتقدات وتصورات ومعابد يقدسها وهكذا كان مصيره من البداية، وكانت الأخلاق هي الظاهرة السلوكية والحركة العملية التي ينبغي أن تكون مترجمة لتلك المعتقدات التي يؤمن بها.

 

ولكن الأخلاق الإسلامية لها خصوصية لا تجدها في غيرها من الذين يزعمون أنهم يملكون الفضيلة والقيم الإنسانية،لأن الأخلاق في الإسلام ليست شعارات وليست أخلاق مناسبات أو يتصيد بها مكتسبات وإنما تظهر حقيقة الأخلاق في الإسلام بإيراد أهم السمات والخصائص التي تميزها ونجملها في ثلاث خصائص:

أولا: الأخلاق محلها الإنسان ذاته وليس فيما يملكه من عروض وأموال, أو فيما ينتجه من بضائع وأعمال، وتشاهد في الواقع أن العامل أو الموظف أو المدرس يقول لك لا تسألني عن أخلاقي وسلوكي ولكن المهم أن ألتزم بالعمل المطلوب ولو كنت أنا فاسدا فهذا لا يهمك في شيء، وهذا هو الغريب حين يفصل الإنسان بين حياته الشخصية وأعماله الوظيفية فالأخلاق في الإسلام باعتبارها تمثل جوهر الإنسان نفسه وقلبه وعقله لا يجوز التعامل فيها أو التنازل عنها, وعندما يبيع إنسان شرفه أو كرامته يصبح إنسانا بلا أخلاق وبذلك يفقده أهم مميزاته، لأن من يتخلى عن أخلاقه يصبح إنسانا بلا شرف ولا ذمة ولا كرامة وأصبح كأنه بعيد الشبه عن الإنسان, وسيكون الفرق بينه وبين حيوان آخر في الشكل والهيئة فقط. لان الإنسان لا يتميز عن الحيوان إلا بالأخلاق فالحيوان يأكل ويشرب ويقاتل ويتناسل وبعضها يدخر قوتها وتسعى وتهاجر...الخ فتظل الميزة الوحيدة للإنسان على الحيوان انه كائن أخلاقي.

ومما هو مشاهد أن أي مجتمع يعتنق قيما فاسدة يؤمن بها يكون أكثر تحقيقا للغلبة طالما انه يعمل بها ويترجمها إلى واقع ملموس ويسعى للوصول إليها.

 

ثانيا: إن الأخلاق تقوم على قاعدة العطاء أي البذل والعمل وأداء الواجب وليس المطالبة بالحقوق فقط دون تحمل أعباء الواجبات أولا، لذلك الأخلاق في الإسلام لا تقبل المعاوضة وهي كلها أعمال بلا مقابل مادي فليس للمحسن إن ينتظر الإحسان ممن أحسن إليه بل هو مطالب بالإحسان لمن أساء إليه, والمؤمن مطالب بان يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } (الرعد:22).

 

وأخلاق المسلم تتحقق في صورتها المثلى حين تتجرد النوايا والسلوك من كل بواعث أو غايات ماديه, فالحب في الله والصحبة لله , فما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل, فليس من أخلاق الإسلام علاقات الصداقة التي تقوم على تبادل المنافع, والهدايا ولا تكون إلا بالمبادلات وإلا غضب وقاطع.

 

فاهم خصائص الأخلاق الإسلامية إذن هي إنها عطاء دائم وعطاء من أثمن ما يملك, {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ...} (آل عمران:92) وهذا العطاء هو الذي يجعل التمسك به أمرا يشق على نفوس الكثيرين لأنه يحرم النفس من الشهوات ويلزمها بالانقياد في البذل والعطاء لهذا كانت الأخلاق الفاضلة من صفات القلة في كل مجتمع وفي كل عصر ولذلك فان القوانين والأنظمة البشرية لا تستطيع وحدها أن تخلق مجتمع فاضلا ما لم تعمل في نفس الوقت على تربية النفوس وتهذيبها والعمل على إحياء الضمير ولهذا جاء الإسلام بالنظام المتكامل لإصلاح الأخلاق حين أمر بان يقترن علاج مظاهر الانحراف الخلقي بعلاج بواطن النفوس وتربية الضمائر وإحياء القلوب.

 

ثالثا: إن الأخلاق سلوك مستمر لا ينقطع ولا يتوقف وبهذه الخاصية تتميز الأخلاق عن كل الواجبات والفروض الدينية فأحكام العبادات مثلا نرى أن الحج أياما معدودات وأوقات محدودة والصوم المفروض رمضان فقط والصلوات تتكرر في اليوم خمس مرات وكذلك في مجال المعاملات كالبيع والهبة والشفعة فان وقع فإنه على فترات متباعدة في حياة الإنسان. أما الأخلاق فإنها غير ذلك, إنها ظاهره مستمرة, وقائمة على طول حياة الإنسان فالظاهرة الخلقية قائمة في حال السكون والحركة والراحة والعمل والكلام والتفكير, ولو اختلى الإنسان مع نفسه فان السلوك الخلقي لا يتوقف متمثلا فيما يفكر فيه وفيما يجري في داخله من مشاعر خيرة أو شريرة ومن أفكار صالحة أو فاسدة ومن نوايا سليمة أو خبيثة.

 

العناية مطلوبة

ماذا يجب علينا اليوم من أجل المحافظة على القيم الفاضلة وزرعها في الجيل القادم؟

 

يجب أن يكون هناك عناية كبرى لدراسة هذا السلوك الأخلاقي والعمل المستمر الذي لا ينقطع فعلى أولياء الأمور في البيوت أو المؤسسات وطلاب العلم الحث على دراسة الأخلاق الإسلامية وحسن فهمها ومعرفة أساليب تطبيقها, فدراستها في هذا العصر هو أحوج ما يكون لها عن أي عصر مضى لان استمرار السلوك الأخلاقي الذي يتمثل في الأفكار والمشاعر له تأثير على كل أفعال الإنسان الذي لا يمكن إصلاحها بالزواجر والأوامر والرقابة الخارجية. فالأب الذي يجبر أولاده على الاستقامة الفاضلة أو أداء بعض الواجبات أمامه أو يجبر بناته على الحجاب والستر الخارجي هذا مطلوب وعمل فاضل ولكن وحده لا يكفي، بل الأكمل والأنفع للأبناء أن يكون عندهم الدافع الداخلي الذي يقودهم لأداء الواجب عليهم دون سلطة أو رقابة خارجية دائمة عليه، وكذلك الفتاة يجب أن تكون العفة حاله نفسية خلقية ثابتة مستمرة تمنعها من الزلل والسقوط أما إذا انعدمت العفة الداخلية فان الحجاب وحده لا يمنع الانحراف خاصة إذا أتيحت لها فرصة الانفلات من الرقابة والحراسة الخارجية وهذا أمر مشاهد ومعروف في مختلف العصور, فالمجتمع في حاجة إذن إلى التربية الخلقية من الداخل لا مجرد التلقين والخطب والشعارات.

 

------------

جريدة عمان:

السبت 27رمضان 1431هـ . الموافق 27 من أغسطس 2011

أجرى اللقاء - سيف بن سالم الفضيلي