عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟

عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟ (1)

الموقع الجغرافي يثبت انفتاحها على العالم بدليل الهجرات التي جاءت إليها وذكر الشعراء لها

السيابي: السواحل أعطتها مجالات واسعة للوصول إلى آسيا وإفريقيا والنظريات السياسية هي التي تفرق كثيرا 

أكد سعادة الشيخ المفكر أحمد بن سعود السيابي الأمين العام بمكتب الإفتاء أن عمان تواصلت مع الآخر منذ فجر الإسلام وقبله نافيا بذلك ما يشاع من أنهم قد عزلوا أنفسهم عن العالم.

وأوضح سعادته: إن الموقع الجغرافي يثبت انفتاحها على العالم بدليل الهجرات التي جاءتها وذكر الشعراء لها كما أن سواحلها الطويلة أعطتها مجالات واسعة للوصول إلى آسيا وإفريقيا .. ومع الجزء الأول من اللقاء.

 

في رأيكم سعادة الشيخ، هل عمان عزلت نفسها عن الآخر أم الآخر عزلها؟ ولماذا؟

فعلا هو تساؤل يثار بين الحين والآخر وهو تساؤل تاريخي حضاري للفكر والثقافة ذلك التساؤل يدور حول عدم انتشار الفكر العماني والثقافة العمانية مع غير العمانيين لماذا؟ وما الأسباب؟ هل عمان عزلت نفسها؟ بمعنى اعزل العمانيون أنفسهم ثقافيا وفكريا أم إن الآخر هو الذي عزلهم؟.

بعض الناس غير العمانيين يلقون باللائمة على العمانيين ويقولون: إنهم عزلوا أنفسهم عن الآخر وإن الآخر لم يعرفهم فكريا وثقافيا، وهم يرجعون هذا الانعزال العماني إلى الموقع الجغرافي لعمان  حيث إن عمان يفصلها عن الوطن العربي صحراء وجبال وهي تقع على البحر، ومنهم من يرى أن هناك أمرا آخر جعل العمانيين ينعزلون وذلك الأمر هو الفكر المذهبي وكلا الاتجاهين يلقيان باللائمة على العمانيين بأنهم عزلوا أنفسهم إما لسبب جغرافي أو لسبب فكري مذهبي.

سنناقش الأمرين أو السببين المفترضين:

أولا: من الناحية الجغرافية نناقش موقع عمان الجغرافي، فعمان قسم من أقسام شبه الجزيرة العربية وهي في الركن الجنوبي الشرقي منها وتحدها من الجهة الغربية الجبال والصحاري إلا إنها تطل على مساحة بحرية طويلة.

فمن جهة الجنوب مرتبطة باليمن التي هي كما يقال عنها: البلاد السعيدة وهي حاضرة من حواضر الإسلام والعروبة وإذا جئنا من الناحية الشمالية نجد أن لها امتدادا حتى بلاد الرافدين وحتى الشام عن طريق بحر عمان الذي يتصل بباقي دول الخليج التي تتصل بشط العرب ثم بالعراق ثم بالشام وهذه الشواطئ مأهولة ومسكونة والتواصل يتم من خلالها ؛ ومن هنا فإن الموقع الجغرافي لا يمكن أن يعطي انعزالا أو عزلة عن الآخر.

وفي هذا الأمر لو جئنا مثلا إلى الموقع الجغرافي والتواصل مع الآخر نجد أن عمان كانت مقصودة بهذه العزلة؛ فمن خلال تقسيمنا للأزمنة التاريخية فلو بدأنا مثلا بالعصر الجاهلي نجد أن هناك تواصلا مع عمان من قبل أدباء وشعراء ذلك العصر، على سبيل المثال نجد الأعشى ميمون بن قيس الشاعر المعروف المشهور الذي لقب بصناجة العرب والذي يقال عنه إنه ما مدح أحدا بشعره إلا رفعه وما هجا أحدا بشعره إلا وضعه، هذا الرجل الذائع الصيت كان يزور عمان فهناك قصيدة مطلعها:

أذن اليوم جيرتي بحفوفِ ** صرموا حبل آلف مألوفِ

واستقلت على الجمال حدوج ** كلها فوق بازلٍ موقوفِ

ويقول فيها:

وصحبنا من آل جفنة أملاكا ** كراما بالشام ذات الرفيفِ

وبني المنذر الأشاهب بالحيرة ** يمشون غدوة كالسيوفِ

وجلنداء في عمان مقيما ** ثم قيسا في حضرموت المنيفِ

(وجلنداء في عمان مقيما) يعني به الملك العماني الجلندى بن المستكبر والد الملكين عبد وجيفر وهما من بني معولة بن شمس اللذين أرسل اليهما النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه ودخلا في الإسلام ودخل معهما قومهما جميعا في الإسلام.

بعض الكتاب أخذ من هذا البيت أن الجلندى هو لقب لكل من كان يحكم عمان كما أن قيسا هو لقب لكل من يحكم حضرموت، وهذا غير صحيح، والصحيح أنه يقصد شخصين معينين ففي عمان كان يقصد الجلندى بن المستكبر وهذا في زمن الشاعر وأنه أي (الشاعر) قال صحبنا الجلندى الذي في عمان مقيما، فهو يقصد به شخصا معينا هو الجلندى بن المستكبر وليس هو لقب لكل من يحكم عمان، كما أن قيسا في حضرموت أيضا يقصد به قيس بن معد يكرب الكندي والد الأشعث بن قيس الأمير المشهور في الإسلام فليس معنى ذلك أن الجلندى هو لقب لكل من يحكم عمان وقيس لقب لكل من يحكم حضرموت كما جاء في بعض الكتب الأدبية والتاريخية

إذا كان هناك اتصال وتواصل في العهد الجاهلي، وفي العهد الإسلامي كان هناك شعراء يأتون إلى عمان منهم سوار بن المضرب السعدي وهو غير عماني جاء إلى عمان هاربا من الحجاج عندما يقول:

أحب عمان من حبي سُليمى ** وما طبي بحب قرى عمانِ

علاقة عاشق وهوى متاحا ** فما أنا والهوى متدانيانِ

تذكر ما تذكر من سُليمى ** ولكن المزار بها نآني

فلا أنسى ليالي بالكلندى ** فنينا وكل هذا العيش فانِ

ويوما بالمجازة يوم صدق ** ويوما بين ضنك وصومحانِ

هذه أماكن عمانية معروفة يذكرها الشاعر.

فموقع عمان الجغرافي لم يعطها عزلة بدليل أن القبائل العربية هاجرت إليها فهاجرت إليها القبائل اليمنية القحطانية أولا ثم هاجرت إليها القبائل النزارية العدنانية من شمال الجزيرة العربية وتكاثرت هذه القبائل في عمان ومعنى ذلك أن الموقع الجغرافي لم يسبب لها عزلة أو انعزالا.

وموقع عمان البحري أعطى العمانيين اندفاعا إلى جنوب شرق آسيا ووصلوا إلى الصين وإلى شرق إفريقيا ووصلوا إلى جزر القمر ووسط إفريقيا (البحيرات الوسطى) في القرون الأخيرة فموقعها الجغرافي ليس مبررا على أنه جعل من العمانيين منعزلين.

أذن هل السبب الثاني كما يقول بعض الباحثين وهو ما نقله الدكتور وليد محمود خالص في تقديمه لكتاب (إيضاح السلوك إلى حضرات ملك الملوك) وهو كتاب للشيخ العالم الكبير ناصر بن أبي نبهان الخروصي وهو في السلوك أي في التصوف شرح فيه الشيخ ناصر قصيدتين تائيتين لابن الفارض لأن الإباضية أعطوا التصوف اسم السلوك بمعنى نقلوه من طقوسيات إلى سلوك وهذه رؤية جميلة جدا للتصوف لأنهم نقلوا التصوف من ممارسات طقوسية جافة وأحيانا تصاحبها خرافات إلى سلوك بمعنى يوجه سلوك الإنسان والسلوك في العادة يطلق على الحركة الإيجابية للإنسان فالسلوك إذا أطلق هكذا من غير تقييد يعني أنه ينصرف إلى الحراك الإيجابي للإنسان ولذلك سمى الشيخ ناصر بن أبي نبهان كتابه بهذا الاسم والشيخ ناصر ربط التصوف بالعقل وربطه بالفلسفة فكان عميقا جدا في هذا العمل.

الدكتور وليد محمود خالص حقق الكتاب وقدم له وأشار إلى قضية العزلة الثقافية للعمانيين هل هم عزلوا أنفسهم أم أن غيرهم عزلهم وهل هذا الانعزال راجع إلى الموقع الجغرافي كما ذكر ذلك بعض الباحثين أم أن المذهبي الفكري هو السبب باعتبارهم معتنقين للمذهب الإباضي، وهو لم يناقش الموضوع لكنه ذكر في بعض من ذكر هذا الكلام من الباحثين دون الإشارة إلى اسمائهم.

والدكتور وليد محمود خالص يشير إلى أنهم لم يعزلوا أنفسهم ثقافيا وإنما ذكر أن الآخر هو الذي عزلهم لوضع مذهبي فكري لاعتناقهم المذهب الإباضي.

كما أن الكاتبة ليلى البلوشية ناقشت موضوع العزلة الثقافية لعمان والعمانيين عبر صحيفة الرؤية.

 

أمر مذهبي فكري

والقول بأن العزلة كانت لأمر مذهبي فكري وهو المذهب الإباضي طبعا هذا شيء يحتمل من الصحة قدرا كبيرا وذلك لأن الإسلام انقسم إلى تيارات ثلاثة وهي تيارات سياسية تدور حول نظرية الخلافة أي الحكم من هو الأحق بالخلافة، فكل الفرق الإسلامية تندرج تحت هذه التيارات الثلاثة، التيار الكبير يرى أن الخلافة حق من حقوق قريش وهذا التيار هو الذي مشى عليه أهل السنة وهو بزعامة معاوية بن أبي سفيان ومن بعده أولاده ثم بنو أمية من الفرع المرواني بدءا من مروان بن الحكم وأولاده ثم أولادهم.

وهنالك تيار آخر يقول: إن أحق الناس بالخلافة هو الخليفة علي بن أبي طالب وأولاده وهذا التيار عليه الشيعة بجمبع فرقهم.

وهناك تيار ثالث يقول: إن الخلافة شورى بين المسلمين ليس حقا قبليا وليس هناك حق أسري بمعنى لم يكن الأمر يختص بالخليفة علي بن ابي طالب وأولاده كأسرة، ولا لقريش كقبيلة وإنما الأمر شورى بين جميع المسلمين لمن يتأهل منهم لهذا المنصب فهو به أحق (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى والعمل الصالح) هذا الرأي تبناه الإباضية وتبنته فرق الخوارج، والكل من هذه الفرق لديهم أدلتهم، ولسنا هنا نقصد التدليل والترجيح.

لا شك أن الخوارج والإباضية وقفوا نتيجة هذا الرأي من الدولة الأموية موقفا معارضا وبعدها الدولة العباسية، فخاضت هاتان الدولتان حروبا ضدهم بناء على هذا الرأي الفكري.

بعد ذلك انتهى الخوارج فبقي في الساحة الإباضية بين أهل السنة القائلين: إن الخلافة حق لقريش وبين الشيعة القائلين: إن الخلافة حق لآل البيت الذين هم علي بن أبي طالب وأولاده فبقي الإباضية وحدهم في الساحة شرقا وغربا ولا شك أنهم خاضوا حروبا مع الأنظمة السياسية القائمة على الحق القبلي أو الحق الأسري.

وهذا أوجد خصومات كبيرة ، ودائما الآراء السياسية أو النظريات السياسة هي التي تفرق الناس أكثر من غيرها، فلو جئنا إلى الخلافات العقدية نجد أن فيها   شيئا من التساهل تجاه الرأي المخالف، أما من باب الخلاف الفقهي فهذا من باب أولى هناك مرونة في الاختلاف الفقهي بين كل المذاهب بل عند العالم الواحد، وبما أن عمان يوجد فيها الإباضية وتوجد فيها الدولة الإباضية بمعنى أن القرار السياسي الذي صار في عمان وقف منه الجميع موقف الخصومة (حقيقة لنكن صرحاء وواقعين) رغم أن هذا الأمر لا أعطية بنسبة مائة في المائة لكني أعطيه نسبة كبيرة لا تقل عن سبعين إلى ثمانين بالمائة.

فوجود الإباضية خارج دائرة الدولة الأموية ومن ثم العباسية وخارج التوجه الشيعي والتوجه السني من الناحية الفكرية هذا جعلهم في موقع الخصومة فتوجهت إليهم السهام بالطعن والنقد والتشويه والتجريح إلى حد كبير بمعنى أن الناحية الفكرية المذهبية أوجدت حاجزا نفسيا عند الآخرين تجاههم ولا سيما أنهم ربطوا بالخوارج والخوارج قد نسب إليهم كل العنف في التاريخ الإسلامي وطبعا هي أيضا نسبة تحتاج إلى مراجعة في الحقيقة فالخوارج لم يتركوا لنا مؤلفات نعرف منها أقوالهم وآرائهم ودفاعهم عن أنفسهم ولكن أتوقع أن هناك مبالغات تجاه ما ينسب إلى فرق الخوارج، صحيح أن لهم بعض المبادئ المتشددة، ولكن أتوقع أن تكون هناك مبالغات مثل القول: إن الخوارج كانوا يستعرضون الناس بالسيف وكانوا يقتلون كل من خالفهم، أما أنهم ينازلون ويناوئون الحكم ورجال الحكومة فهذا صحيح لأنهم في حرب معهم ولأنهم غير معترفين بشرعية الدولة الأموية وشرعية الدولة العباسية فبالتالي هم ينازلون الحكومات ورجال تلك الدول لكنهم لا يمكن أن يستعرضوا الناس المدنيين هكذا لأنه لا يوجد دليل مادي واحد على أن شخصا ما قتل من قبل فرقة من فرق الخوارج وهو شخص مدني ليس له علاقة بمسؤولية في تلك الدول.

وعندما ربط الإباضية بالخوارج وقف منهم هذا الموقف فأصبح وكأن الإباضي هو من الخوارج والخوارج ما عندهم إلا السيف فهاب الناس منهم ورموهم بكل نقيصة ورموهم بكل تشويه وكل تجريح ووجهت اليهم سهام النقد إلى حد كبير وألفت فيهم المؤلفات التي طعنت في الإباضية وقالت في الإباضية ما لم يقل به الإباضية وما لم يفعله الإباضية على الإطلاق والآن أصبحت الدراسات الحديثة تبين عوار وكذب تلك المؤلفات التي ألفت في المقالات وفي الفرق بأن تلك المقالات غير صحيحة التي نسبت إلى الإباضية والإباضية أحيانا يقولون: إن من يقول بها يخرج من الإسلام ، والآن نجد الدراسات الحديثة من الباحثين المتحررين المتنورين المنصفين أصبحت توضح انتهاكات تلك الكتب التي ألفت سابقا والتي ما تزال تؤلف في مثل هذا الموضوع من قبل البعض وهذا الأمر جعل عند الناس حاجزا نفسيا تجاه كل شيء إباضي.

 

على لسان الزائرين للسلطنة

وسمعنا كثيرا من الإخوة الذين جاؤوا إلى السلطنة للتدريس من فلسطين ومن بلاد الشام ومن مصر وكان ذلك في السبعينات وليس الآن طبعا، فالآن اتضحت الصورة ووضح الصبح لكل ذي عينين يقولون: إن الإباضية ليس كما قيل عنهم، فعندما يريدون أن يأتوا إلى عمان يقولون ذلك لأقاربهم وزملائهم أنهم ذاهبون إلى عمان، فيقال لهم : هناك إباضية خوارج وهناك السيف مسلول سمعنا هذا من عدة أشخاص من أولئك الإخوة، ويقولون فلما أتينا إلى عمان وجدنا الصورة مختلفة تماما قرأنا عن الإباضية شيئا آخر وسمعنا عنهم في مجتمعاتنا شيئا آخر وكانوا يحذروننا من المجيء إلى عمان لأن هناك إباضية خوارج فوجدنا شيئا مغايرا فتغيرت الصورة لدينا.

وفي وقت قريب كنت في زيارة لفضيلة مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام فتذاكرنا هذا الأمر، فقال كان عندي وفد من إحدى الدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفييتي سابقا (لا أحب ذكر اسمها) وذكرت لهم أنني عندما كنت في سلطنة عمان مدة عشر سنوات أدرس الفقه الإباضي تعجبوا وانزعجوا واندهشوا وقالوا كيف تدرس الفقه الإباضي هؤلاء من الخوارج فقلت لهم لا: إن الفقه الإباضي فقه أصيل لا يختلف عن فقه المذاهب الإسلامية الأخرى سواء من حيث الاستدلال أو من حيث طرق الاستنباط وأوضحت لهم هذا الأمر، هذا حدث قريبا.

فلذلك يقول الدكتور شوقي علام: من الجميل أن ينشر الكتيّب المعنون (الفرق بين الإباضية والخوارج) لأنه فعلا يوضح الفرق بين الإباضية والخوارج لأنه لا يزال الناس يربطون الإباضية بالخوارج، وهو عبارة عن رسالة وضعها الشيخ أبو إسحاق اطفيش رحمة الله عليه الذي كان مقيما في مصر بناء على طلب أحد علماء الأزهر وطلب منه أن يكتب له مقالة أو رسالة في هذا الموضوع فكتب الشيخ أبو إسحاق تلك الرسالة أوضح فيها الفرق بين الإباضية والخوارج ونشرها ذلك العالم الأزهري في كتابه وكان ذلك الشخص اسمه الشيخ إبراهيم عبدالباقي وقد ألف كتابا بعنوان (الدين والعلم الحديث) وهو كتاب جميل وممتاز جدا.

كما نشرها الشيخ محمد بن عبدالله السالمي في كتابه (عمان تاريخ يتكلم) ثم نشرها علي يحيى معمر في كتابه الإباضية بين الفرق الإسلامية، وأنا استخرجتها من هذه الكتب فجعلتها كتيبا صغيرا فعملت لها مقدمة وطبعتها تحت عنوان (الفرق بين الإباضية والخوارج) والآن هو كتاب منتشر.

----------------------

جرية عمان: الجمعة, 3 رمضان 1434هـ. 12 يوليو 2013م

 

أجرى اللقاء: سيف بن سالم الفضيلي