الأمانة ج1

عنوان الحلقة ” الأمانة ج1″

مقدم البرنامج: الأمانة هي حفظ لودائع الغير، ثم أداء لتلك الودائع دون نقصان، هذا هو التعريف العام، لكن للأمانة معاني أخرى، وأشكال متعددة، فهي قبل كل شيء شعور بمنّة الغير عليك عندما اختارك أمينا على ما يملك، وشعورٌ بأن الذي تحتفظ به ليس لك حق التصرف فيه إلا بإذن صاحبه، وحالما يستقر معك هذا الشعور، وتدرك هذا المعنى فاعلم أنك تحمل أمانات كثيرة عليك أن تجتهد في أدائها.

هذه معانٍ من جملة معانٍ أخرى سوف تستمعون إلى شرحها ، وتفصيلها من فضيلة الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي.

” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ” (النساء: 58)

مقدم البرنامج: عن ماذا تتحدث الآية الكريمة، وماذا يستفاد منها في موضوع الأمانة؟

الشيخ كهلان:  هذه الآية الجليلة من سورة النساء، وهي قوله تعالى :”إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا” هذه الآية الجليلة  تقدمتها جملة من الآيات، وحتى نستطيع أن نفهمها لا بد لنا أن نتعرض قليلا لما تقدم هذه الآية من آيات تعرضت للعتاب الشديد الذي وجهه القرآن الكريم لأهل الكتاب حينما حرفوا الكَلِم عن مواضعه، وحينما كان ديدنهم لَي ألسنتهم بكلمات، وتمتمات فيها سبٌ في حقيقتها مع محاولتهم تغطية ذلك بلَي ألسنتهم، أيضا العتب الشديد عليهم في افترائهم الكذب على الله سبحانه وتعالى، وما بيَّنه القرآن من أن مرجع ذلك إنما هو الحسد الذي ران على قلوبهم، وإنكارهم لفضل الله تعالى الذي آتاه لرسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولمن آمن به.

هذا السياق عُقِّب بهذه الآية الكريمة “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا” مما يدل على أن ما تقدم هو منافٍ للأمانة، والله تعالى يُحذر بعد أن ساق ما ساقه هذه الأمة من أن تقع في ما فيه مخالفة، وفي ما فيه منافاة لحقيقة الأمانة، فحقيقة خيانة الأمانة التي عاتب بها القرآن الكريم مَن عاتب في سياق الآيات التي تقدمت هذه الآية يعني خيانة أمانة الدين، ويعني خيانة أمانة العلم بكتمانه، وبتحريفه، ويعني خيانة أمانة الحق، وخيانة أمانة نعم الله سبحانه وتعالى على العباد، وهذه كلها يصدق عليها أن تُسمى أمانات معنوية، وناسب أيضا سياق الآية يتعرض للأمانات الحسية ( الودائع) ولذلك نص أيضا على أن تكون بردها إلى أهلها ” أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا”.

 والحقيقة أن الأداء الأصل فيه أنه يكون للماديات ، فيقال: أدى الرجل كذا، أي أنه دفع شيئا حسيا، ولكنه يرد أيضا في المعنويات، أما وروده في الحسيات فقد ورد في قوله تعالى ونحن في نفس سياق الأمانة في ثنائه على بعض أهل الكتاب في سورة آل عمران حينما قال: ” وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا…” ( آل عمران:75 ) فنفس الأداء أيضا يطلق مجازا في اللغة العربية على الاعتراف والوفاء بالشيء، حينما يعترف بشيء، يعترف بالحق يُقال: ” هو أمين” ، حينما يفي بعهد يُقال: ” هو أمين” ، هو استخدام مجازي في الدلالة على هذه المعاني، أما حقيقة الأمانة في أصل وضعها اللغوي فهي: الشيء الذي يجعله صاحبه عند شخص ليحفظه إلى أن يطلبه منه.

وهذا المعنى منصوص عليه في قوله تعالى في سورة البقرة في آية الرهن ” فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ..” ( البقرة:283 ) لكنها تطلق أيضا في الاستخدام المجازي عند العرب على ما يجب على المكلف إبلاغه إلى أربابه ، ومستحقيه، سواء كان مستحق ما يجب إبلاغه هو الله سبحانه وتعالى، أو كان أحد من العباد عامتهم، أو خاصتهم، كواجب التكليف، وكأمانة الدين، وكحق العلم، وكحفظ العهود، والنصيحة سواء كانت للعامة ، أو للخاصة،وفي كل هذه المعاني يتبين أن ما كان أضدادا لهذه القيم فهو مما يتنافى مع الأمانة، وبالتالي فإنه يندرج تحت الخيانة.

والله تعالى ينص في هذه الآية على أن الأمر للوجوب بقوله تعالى: ” يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا..” “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ” فهذه صيغة صريحة في الدلالة على الوجوب، وتشتمل كما قلت على قيم ومعاني، كما تشتمل على ماديات محسوسة، بدلالة ما تقدمها من آيات، وما يقترن أيضا في الاستخدام القرآني من آيات أخرى سوف نتعرض لها بمشيئة الله تعالى.

لكن لا يتعجب أحد من المستمعين حينما يطالع شيئا من كتب التفسير على سبيل المثال، فيجد أنهم ينصون على أن المقصود في هذا السياق تحديدا هو الجانب المعنوي أكثر من الجانب المادي، نظرا للسياق الذي وردت فيه الآية، حتى أن الشيخ القطب محمد بن يوسف أطفيش نص في “تيسير التفسير” على أن المقصود هو حفظ الدين، وأوامر الله تعالى ، ونواهيه، وما يستتبع ذلك من حقوق ، وواجبات كأمانات الأزواج، والأولاد، والعبيد، والرعية، وأمانات سائر الخلق أدخلها في هذا المعنى ( الودائع، والعهود، والمواثيق، والوعد، وعدم تضييع المال أو إفساده….إلخ ما ذكره) كل هذا يندرج تحت الأمر القرآني بحفظ الأمانات، وبردها إلى أهلها، ويضاف إلى ذلك اقتران الأمانات بالأمر بالعدل ” وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..” ومع أن الأصل في العدل أن يكون حينما يتنازع طرفان فيحتاجان إلى أن يُفصل بينهما بإظهار الحق الغالب، وتجليته، وبيانه، إلا أن مفهوم العدل أيضا مفهوم واسع، لا يقتصر حينما تكون هناك خصومة، بل الأوامر القرآنية أيضا دلت وقد تعرضنا لهذا الموضوع فيما تقدم من حلقات، على أن المطلوب إقامة العدل ولو كان على حساب النفس.

*******************************

مقدم البرنامج:  نلاحظ أن هذه الآية لم تُصَدَّر بـ” يا أيها الناس” أو ” ياأيها الذين آمنوا” إنما جاءت هكذا، هل يدل هذا على عظم الأمانة، وأنه لا توجد فرصة للأفهام أن تجتهد في أن المخاطبة لأناس دون أناس، أو ما شابه ذلك؟ لأن بعضهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل مثلا على اعتبار أنهم لا يؤاخذون بما يسمعونه مع الآخرين.

الشيخ كهلان:  نعم، هذا الملحظ نص عليه أهل العلم وهو أن الخطاب في هذه الآية خطاب شامل ، عام لكل الناس، وإن كان  يذكر بعض المفسرين سببا خاصا في نزول الآية ، ولكنهم يبينون أن ذلك من مناسبات نزول الآية، إلا أن الحكم الشرعي فيها أولاً لا يقتصر الخطاب فيه على فئة من الناس دون آخرين، كما أن المأمور به ـ أي أداء الأمانة ـ لا يقتصر على فئة من الناس ، لا يقتصر على الموافق دون المخالف، أو على الحبيب دون غيره، أو على القريب دون البعيد، وإنما يؤمر بالأمانة أولاً، وأن تكون أمانته مع كل الناس، مع اختلاف مشاربهم، وبغض النظر أيضا عن الانفعالات العاطفية، والمشاعر، والأحاسيس، لأنه مأمور بها أمرا صريحا، يؤكد هذا أيضا نفي حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد ورد في مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: ما خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا قال: ” لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له” وروى هذا الحديث عن أنس بن مالك جملة من الرواة، فبيان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن عدم الأمانة يتنافى ، ويتعارض مع الإيمان دليل صريح على أن الإيمان مبني على الأمانة،ولا يتحقق إيمان المرء دون إقامة للأمانة.

*******************************

مقدم البرنامج:  أشرتم فضيلة الشيخ إلى أن الأمانة تنقسم إلى قسمين (حسية، ومعنوية) ، هل يمكن أن نتبين المزيد من الأدلة الشرعية التي وردت في هذا الخصوص؟ مع بيان وجه الدلالة أيضا، لأن بعض الناس يظنون أن الوفاء بالأمانة ، وأدائها إلى أصحابها مقصور على الأمانات الحسية فقط، فمثلا شخص ائتمنه بساعة أو ائتمنه بمال أو ما شابه ذلك، أما الأمانات المعنوية قلَّ ما يعرج عليها.

الشيخ كهلان:  أولاً حتى نتصور كيف أن الأمانة تشمل المعنويات من العهود، والمواثيق، وتشمل الماديات أيضا كالودائع وغيرها لننظر في أصل كلمة الأمانة، هي مأخوذة من الفعل آمن ، هي مصدر آمنهُ إذا جعله آمنا، فإذاً: أساسها معنوي في الحقيقة، لأن الأمن اطمئنان النفس، وسكونها، وسلامتها مما تخاف وتحاذر.

فإذاً: أساسها هو ذلك الاستقرار والسكون والطمأنينة التي تغشى هذا القلب، فلما كانت كذلك كانت أحرى أن تكون فيما تعارف الناس اليوم على تسميته أنه من المعنويات، كما ذكرت من أمر الأوامر، والنواهي التي جاءت في هذا الدين الحنيف، كالقيم، والأخلاق ، وكالتزام العهود والمواثيق، وكأداء حق العلم أيا كان نوع هذا العلم، وكأمانة الكلمة، وكأمانة المجالس… إلى غيرها مما سوف نتعرض له بمشيئة الله تعالى.

والأمانة ذاتها إلى حد أنها أُطلقت على المُؤَمن عليه ـ كما المثال الذي ذكرته وهو الساعة ـ صارت الساعة أمانة، تسمى الساعة نفسها أمانة، وهي مُؤَمن عليه في الحقيقة لدى الأمين، لدى من أُودعت لديه إن كان سوف يودعها عند من يطمئن إليه تسمى أمانة، ترك عنده أمانة مع أنها مُؤمن عليه .

وصارت تُطلق أيضا على الفعل نفسه، على التصرف، يقال: هذه أمانة من هذا الفرد، وهذا أيضا يدل على أن هذا التجوز في تسمية المُؤَمن عليه بالأمانة يدل على عظم شأن الأمانة.

أيضا مما يتصل بهذا أن الصفة من الأمانة هي أمين، وهذه اقترنت كثيرا بوصف أنبياء الله تعالى ورسله في القرآن الكريم، يكاد ما من رسول إلا وخاطب قومه بقوله: ” إني لكم رسول أمين” فسبحان الله من كل الصفات نجد أنهم ينصون، ويذكرون أقوامهم بصفة الأمانة، حتى رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ معروف بأنه الصادق الأمين.

وأيضا في القصص القرآني حينما تعرضنا سابقا في موضوع الصحة البدنية والنفسية إلى قصة موسى ـ عليه السلام ـ حينما أشارت ابنة الرجل الصالح على والدها بأن يستأجره قالت: ” يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ…” ( القصص: 26 )

حينما جاء أيضا مؤمن آل فرعون قال: ” إني لكم ناصح أمين”.

فإذاً: هذه كلها تدل على أن للأمانة منزلة رفيعة، وأنها تشمل كل القيم التي تطمح النفوس إليها، أي بمثابة المظلة التي تنطوي تحتها القيم النبيلة الإنسانية الرفيعة التي تَتَشوف النفوس إليها، لذلك كانت وصفا محببا إلى النفوس، وكانت صفة يقدرها الناس مهما اختلفت أحوالهم، ومهما تباينت ظروفهم وأوضاعهم.

كذلك في نفس الآية التي استمعنا إليها كلمة الأمانة جاءت بصيغة الجمع ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..” وهذا يؤكد هذا المعنى، أنها أمانات وليست أمانة واحدة، يأتي ليجلى حقيقة هذا الأمر قوله تعالى في سورة الأحزاب ” إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” ( الأحزاب:72 ) وتفسير الأمانة في هذه الآية فيه كثير من الأقوال، تتجاوز العشرين قولا ـ كما قال بعض المفسرين ـ حينما نتأمل في هذه الأقوال جميعا، نجد أنها جميعا تدور في أغلبها على المعنويات، أي يتحدثون عن الدين، ويتحدثون عن العقل، ويتحدثون عن الأخلاق، ويتحدثون عن الفرائض، وعن الصلاة، وعن بعض الواجبات، لكنها كلها تدور في أغلبها حول القيم والمعاني غير الحسية.

وخلاصة ما تدل عليه هذه الآية، وهو ما يميل إليه كثير من المتضلعين في التفسير أن الأمانة في هذا السياق ” إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” ( الأحزاب: 72 ) يراد منها التكليف، لأن التكليف يشتمل على ما ذكره باقي المفسرين من أقوال، فمن المفسرين من يقول بأن الأمانة هي العقل، وبالتالي تكون أمانة العقل بحسن استخدامه فيما خُلق لأجله، وحسن استخدامه فيما خُلق لأجله إنما يكون بآداء التكاليف، لأن هذا الذي خُلق لأجله هو عبادة الله تعالى، وعمارة هذه الأرض.

أيضا من قال بأن المقصود بها الخلافة كما في قوله تعالى: ”  وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..” ( البقرة: 30) إذا: الاستخلاف هذا هو الأمانة التي نصت عليه آية سورة الأحزاب، لكن أيضا الاستخلاف إنما هو بهذا التكليف الذي كُلف إياه العباد، فإذاً: التكليف ركب الله في العباد ما يمكنهم من القيام به، فكانت هذه هي الأمانة التي تحملها العباد دون خلق الله عزوجل، لا من السماوات ، ولا من الأراضين، ولا من الجبال، ولا من الدواب، ولا غير ذلك.

فإذاً: لنلخص الجواب على السؤال الذي تفضلت به نقول: هذه الآية نص صريح في أن الأمانة تشتمل على هذه المعنويات كما تشتمل على الماديات، وللبيان نتحدث عن المعنويات لنقصد بها ـ كما قلت ـ أمانة الدين، أمانة العقل، أمانة العلم، أمانة الكلمة، أمانة القيم والأخلاق، كما تشتمل أيضا على الأمانات المادية التي هي الودائع وما يترتب عليها من عهود، ومواثيق، أو ما يكتنفها من عهود ، ومواثيق، ومداينة، وقرض وغير ذلك.

*******************************

مقدم البرنامج:   إذاً: اعتُبر الإنسان بسبب جسامة هذه الأمانة، وثقلها جهولا لأنه جازف في تحملها، ولكن الله سبحانه وتعالى يكافئ الذين تحملوا هذه الأمانة، ويُقدر منهم ذلك، ويعتبرهم من المؤمنين المخلصين المفلحين، نستمع إلى هذا الوصف الإلهي لهم من خلال هذه الآيات الكريمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” ( المؤمنون: 1ـ11 )

*******************************

 مقدم البرنامج: حدثنا الآن فضيلة الشيخ عن التقصير في الأمانة، هل يقتصر الأمر على بعض الآثار الاجتماعية ـ أي على ما يتعلق بمعاملات الناس فيما بينهم فقط ـ أم أن لتضييع الأمانة آثار أكبر من ذلك؟

الشيخ كهلان:  الحقيقة آثار تضييع الأمانة كما لا يخفى لا يقتصر فقط على بعض الآثار السلبية في إطار العلاقات الاجتماعية بين الناس، بل يتعدى ذلك، يتعداه إلى حد أنه يكون خيانة لله عزوجل، فالله تعالى يقول:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ…” (الأنفال: 27) فإذاً: سمى الله عزوجل خيانة الأمانات في هذه الآية الكريمة خيانةً لله عزوجل، وخيانةً لرسوله، وسبب ذلك أن في الخيانة، وتفويت الأمانة تضييعا للدين ذاته، لأن الدين مبنيٌ قائمٌ على الأمانة، هذه الأمانة التي تتمثل في عقيدة تصل قلب هذا المؤمن بالله سبحانه وتعالى ، تبعثه على أن يكون عبدا مُطيعا لخالقه جل وعلا، وأن يمتثل أوامره، وأن يريه من نفسه ما يحبه ويرضاه سبحانه، بحيث لا يراه حيث نهاه ، ولا يفقده حيث أمره، فإذا ما ضيع المرء الأمانة بمفهومها العام الذي تحدثنا عنه فإن في ذلك تضييعا للدين ذاته، وحينما تضيع الأمانة أيضا تختل الموازين والقيم بين الناس، وتستحيل الحياة إلى حياة تسودها قيم مادية البقاء فيها للأقوى، وكأنها حياة غاب، وليس الأمر في ظل شريعة هذا الدين ، هذه الشريعة الإنسانية ، شريعة الرحمة، ودين الرحمة  ليس الأمر كذلك أبدا، حتى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل تضييع الأمانة من علامات الساعة، فقال: ” إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة” قال وما تضييعها يا رسول الله؟ قال: ” إذا وُسد الأمر إلى غير أهله” فإذاً: هذا معنى آخر ينضاف إلى ما تقدم من دلالة معنى الأمانة، وهي حفظ المسؤوليات، ورعايتها فيما يتولاه الفرد منا من مسؤوليات، وواجبات.

حينما تكون في يده مسؤولية معينة (وظيفة) ويقصر في أداء هذه الوظيفة ، ولا يؤدي حق هذا العمل الذي نيط به ـ سواء مما كان فيه نفع لعموم الناس، أو لخصوصهم ـ فإنه مضيع لأمانته، حتى أن كثيرا من أهل العلم شدد في هذه القضية ، وقال: أن ما يجنيه من رزق حينما يضيع هذه الأمانة فإنه إنما يكون كمن يأكل في بطنه نارا، سماهم ـ والعياذ بالله ـ من الآكلين السحت، وهذا يُفسر لنا أيضا سبب ما ورد من تشديد حول بعض المظاهر التي تنتشر حينما تضيع الأمانات، لأن ذمم الناس حينما تفتقر إلى الأمانة فإنها لا تبالي بشيء، ولذلك فإنها تستسيغ من الأخلاق، والتصرفات، والسلوك ما لا يرضاه دين، ولا ترضاه مروءات ، ولا أخلاق الكرام، فحديث ” لعن الله الراشي، والمرتشي، والرائش” أي الوسيط بينهما، هذا الوعيد الشديد الذي نجده في هذا الحديث لم يأتِ اعتباطا ، وإنما السبب وراءه أن تفشي مثل هذه الظاهرة السلبية إنما يكون بسبب تضييع الأمانات، بسبب أن تخلوا ذمم الناس من مراعاة  الحقوق، والعهود، والأمانات التي في رقابهم تجاه دينهم أولاً، وتجاه أوطانهم، وتجاه مجتمعاتهم لا شك.

فإذاً: هذا الذي أيضا يفسر حديث تضييع الأمانة هو من أشراط الساعة كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكما بين الحديث كيف هو تضييع الأمانة.

أيضا ننص على بعض الأنواع التي ورد فيها بيان عاقبة تضييع الأمانة، من ذلك كل ما ذكرناه سابقا، فهذا لا ينفصل عما ذكرناه سابقا ، أن تتفشى بين الناس ما نعرفه اليوم من عدم الثقة ، لأن الحياة سوف تستحيل مع افتقارها إلى الأمانة، سوف تتحول إلى أن يكون معيارها، وأساسها المصلحة فقط، وأشار حديث من أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ موجود في الصحيحين إلى أنه حين تختفي الأمانة يُصبح من النادر أن تجد رجلا أمينا، حتى يُقال في مجتمع ما، من بيئة ما فلان أمين، أي يتحدث عنه أنه أمين لأنه كالشاذ في المجتمع، لندرته بينهم، واعتبر أيضا ذلك من علامات الضعف، والهوان في الناس.

فإذاً: هي خيانة للدين نفسه، هي أيضا خيانة للأوطان ، ولحقوق الناس، هي في الحقيقة سبب في ضعف ، وتأخر الأمة عن غيرها، على عكس حفظ الأمانة، وأدائها، والقيام  بشؤونها،حينما تتحقق صفة الأمانة تسود الذمم، والمراعاة ، والود بين الناس ، والثقة فيما بينهم، والصدق في التعامل ، فيكون ذلك سببا  لترقي هذه الأمة ، ولنهضتها، ولمزيد من علو شأنها.

دعنا ندخل في بعض الجوانب التطبيقية، فحينما نقول أمانة الكلمة، فأمانة الكلمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أكثر من حديث يبين أهمية الكلمة التي يتلفظ بها المرء بلسانه، ويبين عاقبتها في الدنيا والآخرة، أنه كلمة لا يلقي لها بالاً، فإذا بها تهوي به في جهنم سبعين خريفا، أو أن تكون من رضوان الله عزوجل فتبلغ به الفردوس الأعلى.

 فإذاً: الكلمة أمانة، وهذا يعني أن المسؤولين عن الكلمة من كتاب، ومن أدباء، ومن شعراء ، ومن إعلاميين ،ومن مربين، ومن خطباء ، ومن وُعَّاظ عليهم أن يؤدوا أمانة الكلمة.

لنأخذ أيضا مما ورد في سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمانة المجالس ، لذلك الحديث صريح قال: ” المجالس بالأمانة” حتى إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة ، أي إذا رأيت من محدثك أنه يلتفت لينظر هل هناك من يستمع، فحدثك لأنه لم يرَ أحدا، فهذا يأتمنك على سر، فلمجرد تلك الالتفاتة التي لحظتها عليه عليك أن تحفظ له سره، ولذلك جاء في حديث روي عند أبي داود وغيره ” المجالس بالأمانة” أو ” المجالس أمانة” كما في بعض الروايات، واستثنى أهل العلم ما إذا كانت هذه المجالس يكتنفها الأمر بالإفساد في المجتمع، كأن يكون هناك من ينوي الفساد ، ويتحدث بذلك مع من يعينونه على ذلك فإن الواجب النهي عن هذا المنكر ، بما هو معروف بسُلَّم النهي عن المنكر، أو أن تكون هناك غيبة، أو أن يكون هناك أمر بمنكر فإن هذا مستثنى لا يقال” المجالس بالأمانة” ثم بعد ذلك تحصل أضرار، وفساد في المجتمع، ويعم الضرر على من قام بذلك الفعل المنكر ، وعلى غيره من أبناء المجتمع البرآء، هذه ليست من أمانة المجالس،هذا أيضا مثال، وكم عانى الناس من آثار سلبية بسبب تعاونهم في أمانات المجالس، تتفشى الأحقاد، والضغائن بين الناس بسبب تهاونهم في أمر حفظ أمانات المجالس.

أيضا أمانة العلم، وأمانة العلم نجد أن الله سبحانه وتعالى قص لنا قصص كثير من بني إسرائيل، ومن العلماء الذين حُمِّلوا ما أنزل الله تعالى من كتب سماوية عليهم ولكنهم حرفوا ، وبدلوا، أو كتموا ولم يؤدوا واجب التبليغ، والبيان ، ونشر ذلك العلم فنجد النعي الشديد عليهم في القرآن الكريم، ولذلك كان من أمانة العلم أن يُبلِّغه للناس، وأن لا يكتمه، وأن لا يحرفه، وأن يستعمله في الخير، هذا ما يميز العلوم عند المسلمين أنهم كانوا يسعون بعلومٍ إلى مافيه خيرا للإنسانية، كانوا يطورون العلوم في شتى المجالات، والميادين التطبيقية لما فيه مصلحة الكون بأسره، من بشر، ومن حجر، ومن مفردات هذا الوجود، ومن بهيمة…إلخ. فهذه من أمانة العلم أيضا، وينبغي أن يحرص الناس، وأن يتنبهوا إلى هذه القاعدة لأن عالمنا اليوم يحتاج أيضا إلى مثل هذه القيمة.

*******************************

 مقدم البرنامج: حتى نضع ضابطا لأمانة الكلمة ، ماذا نقول؟

الشيخ كهلان:  نقول: الكلمة نفسها أمانة، فالكلمة لا بد أن يستشعر فيها المرء مراقبة الله سبحانه وتعالى ، وبالتالي يتحرى ما فيه خير، وصلاح للناس.

وهذا حديث صريح فيما يستثنى في موضوع المجالس عند أبي داود قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” المجالس بالأمانة إلا ثلاثة ، مجالس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق” فهذا يستثني هذه التي فيها فساد في الأرض، وفيها فتنة بين الناس، لا يسري عليها ما يسري على موضوع أمانة المجالس، ويقاس عليها ما يؤدي إلى نفس المخاطر من مشكلات.

*******************************

 مقدم البرنامج: يبدو من خلال شرحكم فضيلة الشيخ أن الإنسان مسؤول عن كثير من الأمانات، نسأل الله تعالى أن يعيننا على أدائها.

الشيخ كهلان:  لكن مع ذلك فمفهوم الأمانة يكتنفه فضل عظيم

” أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” ( المؤمنون: 10ـ11 ) أيضا في سورة المعارج ” أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ” ( المعارج: 35 ) على أن التكليف، والأمانة حينما قلنا في آية الأحزاب ” إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ….” ( الأحزاب: 72 ) هذا التكليف تكليف مستطاع، ومن يسر الله عزوجل أن جعل هذا الدين دين يسر، وسهولة في مقدور العباد أداءه، ومع أدائهم له ، والتزامهم ، ووفائهم بحق هذه الأمانة فإن منزلتهم في الدنيا والآخرة منزلة شريفة عند الله عزوجل، وعند الناس أيضا، وهذا التعليق البسيط حتى لا يفهم المستمع بأن هناك الكثير من المسؤوليات التي قد تكون في غير مقدوره أن يحافظ عليها.

*******************************

مقدم البرنامج: الآن تضرب لنا فضيلة الشيخ مجموعة من الأمثلة مما اتصف به رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وفاء بالعهد، وأداء للأمانة، فهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما هو معلوم نبي الرحمة، ونبي الإنسانية.

الشيخ كهلان:  من ذلك أولاً: الفضل هو ما شهدت به الأعداء، لننظر في قصة أهل مكة لما كانوا مشركين، وذهبوا إلى الحبشة يطالبون بمن هاجر من المسلمين إلى النجاشي، فسألهم النجاشي عن هذا النبي، فما ملكوا إلا أن بينوا له بعض صفاته.

 هذه الصفات هي التي جعلت هرقل يقول مخاطبا أبا سفيان: سألتك بماذا يأمركم، فزعمت أنه أمركم بالصلاة، والصدق ، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، فقال له: وهذه صفة نبي، فإذاً في ذلك الموقف لو كان المشركون يستطيعون أن يغالطوا ، وأن يشوهوا الحقائق لفعلوا ، لأنهم أحوج ما يكونون إلى ذلك، كانوا يريدون استرداد من هاجر إلى الحبشة من المسلمين بأية وسيلة كانت، لكنهم لما سُئلوا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ما استطاعوا إلا أن يبينوا صفاته، وهذه الصفات التي ذكروها جعلت حتى من هرقل يقول ويعترف أن هذه الصفات لا يمكن أن تكون إلا لنبي، هذه القصة وردت في الصحاح بألفاظ مختلفة، لكن هذا هو المعنى الذي نستفيده منها.

أيضا من المعروف أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُدعى بالصادق الأمين، حتى قبل البعثة كان يعرف بالصادق الأمين.

وهناك الكثير من أمثلة الوفاء التي كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في شتى المجالات التي نتحدث عنها مما يندرج في باب الأمانة حسيها ومعنويها، لننظر في وفائه بحقوق السيدة خديجة الكبرى ـ رضي الله تعالى عنها ـ بعد وفاتها حينما كان يصل صديقاتها بعد وفاتها، وحينما كان ينبسط لمن كان يزوره أيام خديجة، حتى أن ذلك دفع بالسيدة عائشة إلى أن تغار حتى من السيدة خديجة بعد وفاتها.

أيضا وفاؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وهذا مثال ذكرناه حينما تحدثنا عن موضوع  القيم المستوحاه من حادثة الهجرة) كيف أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان حريصا على أن يستخلف علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ ليرد الأمانات التي كانت عنده  لأهل مكة المشركين، الذين كانوا يتربصون به، ويترقبون به تثبيتا، أو قتلا ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يخطط لما يستطيع أن يرد به حقوقهم إليهم، وهي ودائعهم التي أودعوه إياها إليهم، ويستخلف علي بن أبي طالب على ما في ذلك من التضحية ، والفداء لأجل هذا الغرض، فلو كانت من فسحة في التهاون في أمر الأمانة لكان ذلك الموقف الذي كان فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أدعى إلى عذره، وأوسع له في العذر،ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يريد أن يعلمنا كيف ينبغي لنا أن نحرص على أداء الأمانات إلى أهلها، وأهلها كانوا مشركين، وكانوا يناصبونه العداء ، ويريدون به قتلا ، أو سجنا، ومع ذلك فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل بهم ما فعل.

*******************************

سؤال متصل: ما تفضل به الشيخ كلام في غاية الروعة، لكن المشكلة في تفشي خيانة الأمانة في المجتمع، فالكلام النظري، أو الكلام في منظور الشرع كلام واضح ولا يحتاج إلى كثير من التفسير، لكن هنا نحتاج إلى آلية تطبيق عملية ، أو رقابة داخلية بحيث أن هذا الكلام يطبق على أرض الواقع، خاصة أن من يعرف هذا الكلام ويطبقه عادة هم الأشخاص الذين  عندهم ارتباط وثيق بالمبادئ الدينية، فهؤلاء الناس لا يحتاجون إلى كثير من التوضيح ، لكن الأشخاص الذين يمارسون الخيانات عادة يكونون بعيدين عن المبادئ الدينية والإسلام، كيف يتم الربط بين التنظير والواقع؟ ما هي الآلية العملية التي يمكن أن نضعها لتطبيق هذا الشرع؟؟

الشيخ كهلان:  على كلٍ نحن نختار من القيم التي نتعرض لها في هذا البرنامج ما نتوخى أن يكون من ورائه نفع وفائدة للناس جميعا، بمختلف شرائحهم، وبمختلف قربهم أو بعدهم من الله تعالى، والله عزوجل يقول ” وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ” ( الذاريات: 55) ولعل هناك من هو غافل فيتنبه، أو من هو جاهل فيتعلم، ليس كل الناس سواء، ومن الخطأ أن نحسب أن الناس جهال لا يدركون هذه المعاني، وفي نفس الوقت من الخطأ أن نبالغ ، ونظن أنهم يتقنون ، ويعرفون هذه المعاني.

فإذاً: نفس هذا التذكير، ونفس بسط هذه المعاني ، وهذه القيم  التي تدور حول ما نحتاج إليه فعلاً في المجتمعات الإسلامية بشكل عام هو جزء من الجهد الذي ينبغي أن نتعاون عليه لأجل تصحيح بعض المفاهيم ، على أننا في الحلقة كما لاحظنا نتوسع في ذكر الأمثلة، نتناول قضايا معينة نشعر أن هناك حاجة إلى أن تعطى المزيد من الجهد والعناية، لأنها بمشيئة الله تعالى إن تحقق ذلك سوف تؤدي إلى نتائج حميدة، فمثلا تحدثنا عن أمانة الكلمة بشيء من الاستطراد لما نتوخاه من نتائج في هذا الشأن، وسوف يأتي من ضمن العناصر أمانة المال، وهذه الأمانة مهمة جدا، فمن ضمن الأمانات التي ينبغي أن تعطى قدرا من العناية، ومن الرعاية ما يتعلق بالمال، لكن من السهل أن نلوم غيرنا ما لم تكن هناك مبادرات من ذواتنا .

 يظن الناس أن هناك عصا سحرية يمكن أن تعالج الأوضاع، طبعا أنا لا أتحدث عن الأخ المتصل ، هو ينبه إلى ظاهرة ، أو إلى ملاحظة معينة ويطلب آليات وهذا لاشك في محله، ونحن نشكره عليه، لكن الحل إنما يكون بتظافر كل الجهود حتى ما يُرى أنه جهد بسيط قليل، لا يُتوقع أن يؤدي إلى نتيجة، بل على العكس تماما، حينما ألتزم أنا المتحدث الآن بهذه المعاني التي أتحدث عنها، وحينما يلتزم مقدم هذا البرنامج، حينما يلتزم المستمع الكريم مهما كان مستوى المسؤوليات، والأمانات التي تحت يديه، معنويها، وماديها، حينما يلتزم الجميع بذلك فكن على ثقة من أن أحوال الناس سوف تتغير، لأننا عندما نتحدث عن الفرد نتحدث عن أسرة، فإذاً هو سوف يُنشِّئ ويغرس قيم المحافظة على الأمانة عند زوجه ، وعند أولاده، لأن ذلك أيضا من مسؤولياته ” كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته” حينما يلتزم الموظف في وظيفته، هذه الظواهر، والملاحظات التي ذكرها ممن تصدر؟؟ تصدر من زملاء، وإخوان لنا  نعيش بين ظهرانيهم، فإذاً: حينما تنبه أنت زميلا لك في العمل، زميلا لك في الميدان، في السوق ، في المكان الذي أنت فيه، وتنبهه إلى مثل هذه الملاحظات، تذكره بآية من كتاب الله عزوجل، بحديث من أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعد ذلك تتبع الإجراءات المتاحة أمامك إن لم يرتدع، وكان في ذلك ضرر بمصالح الناس، ومصالح المجتمع، والأمة لا شك أن مثل هذه الظواهر سوف تختفي بمشيئة الله تعالى.

وأضيف أيضا أننا نلاحظ في الآيات القرآنية في وصف المؤمنين كآية سورة المؤمنون التي استمعنا إليها “وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ” وكذلك نفس هذه الآية وردت في سورة المعارج ” وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ” فكلمة راعون مأخوذة من الرعاية، هي ليست مجرد أداء ووفاء هي رعاية، والرعاية تشتمل على أمرين: الأمر الأول ما يتعلق بجانب السهو، والأمر الثاني ما يتعلق بجانب العمد، فالرعاية تعني الحرص قدر المستطاع على أداء الأمانة، والمحافظة على الأمانة في كل الأحوال، من الناس من لا يُفَرط قصدا في الأمانات التي لديه، أو في الأمانات بمعناها المعنوي الذي تحدثنا عنه، لكنه يهمل وينسى ، تصيبه الغفلة، في موضوع الأمانة، واستخدام كلمة راعون، هذه الصفة، اسم الفاعل المشتق هذا كما نبه بعض حذاق المفسرين يدل على أن المقصود الحفاظ على ما عُهد به إليه أن يرعاه ، مع الحذر من الإخلال به سهوا، أو تقصيرا، فيسمى تفريطا، أو إضاعة لأنه مهمل بالسهو، والنسيان ، والتقصير ، أو من تعمد التفريط فيسمى خيانة، أي قد لا يقتصر الأمر حينما يُعبر عن رعاية الأمانة على موضوع الخيانة، بل حتى يدخل فيه التفريط، والإهمال، فإذا فرط ، وأهمل كان ممن ضيع الأمانة، ولو كان بغير خيانة، الخيانة حينما يقصد ذلك، فلذلك كان هذا الملحظ أنه ينبغي لمن أُعطي أمانات أن يرعاها حق رعايتها.

                               **********************

خاتمـــة الحلـــقة

ورد في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله؛ ألا تستعملني؟ قال فضرب بيده على منكبي ثم قال: ” يا أبا ذر، إنك ضعيفٌ، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها”

 مقدم البرنامج: بقيت معنا فضيلة الشيخ دقيقة واحدة تختمون فيها حديثكم في موضوع الأمانة، وخاصة فيما يتعلق بهذا الحديث.

الشيخ كهلان:  لننظر في هذا الاستثناء الوارد في هذا الحديث ” إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها” فإذاً: نحن حينما نسعى إلى أن نتولى مسؤوليات هي أكبر مما نتولاه الآن ينبغي لنا أن نتذكر هذه القاعدة الجليلة، أن نعرف أن أداء أمانة هذه المسؤوليات التي نسعى إليها، ونظن أن فيها رفعة، وشرفا لا ينبغي أن يكون إلا حينما نتذكر ” إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها” فإذاً: أداء الذي عليك في تلك المسؤولية التي حُملت إياها هو من ألزم الواجبات الشرعية التي تبيح لك أن تسعى إلى ماهو مسؤولية أكبر مما أنت فيه الآن، ويتصل بهذا ما قلناه من أمانة المال ، ويدخل في ذلك التجار، والباعة وغيرهم ممن يتحملون هذه الأمانة ـ أمانة ما فيه مصالح الناس من سلع واحتياجات يحتاجون إليها ـ فكان من أمانتهم أن يؤدوا هذه الأمانة حق أدائها.

انتهت الحلقة