سورة الرعد مكية وآياتها 43
بسم الله الرحمن الرحيم
{المر} أي: أنا ألله أعلم وارى ، {تِلْكَ} إشارة إلى آيات السورة ، {آيَاتُ الْكِتَابِ} اريد بـ”الكتاب”: السورة ، أي: تلك الآيات ، آيات السورة الكاملة العجيبة في بيانها ، {وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} القرآن كله ، {الْحَقُّ ، وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} أنه الحق ، فيعملون بموجباته ، ثم ذكر ما يوجب الإيمان به من دلائل وحدانيته ، فقال:{ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} ، أي: خلقها مرفوعة ، لا أن تكون موضوعة فرفعها ، {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} بلا عمد ، وقيل: لعمد لا ترونها ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استولى بالاقتدار ونفوذ السلطان ، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (لعله) أو انقضاء اليوم والشهر والسنة في المنازل بلا تفاوت ، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (لعله) لمنافع عباده ، {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو انقضاء الدنيا ، (لعله) او انقضاء اليوم والشهر والسنة في المنازل بلا تفاوت ، { يُدَبِّرُ الأَمْرَ} أمر ملكه وملكوته ، { يُفَصِّلُ الآيَاتِ} يبينها في كتبه ، { لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} لعلكم توقنون بأن هذا المدبر والمفضل لا بد لكم من الرجوع إليه ، والإيقان بمعنى : اليقين.
{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} بسطها ، { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ، وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك ، { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا ، (لعله) على غير الاختيار منهما ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيعلمون أن لها صانعا عليما حكيما قادرا ، وأنه ما خلقها إلا لحكمة .
{ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} بقاع مخلتفة مع كونها متجاورة متلاصقة طيبة إلى سبخة ، وكريمة إلى زهيدة ، وصلبة إلى رخوة ، وذلك دليل على قادر مريد ، موقع لأفعاله على وجه دون وجه ، { وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ، صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} ، الصنوان : جمع صنو ، وهو : النخلة لها رأسان وأصلها واحد ، { يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ،وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولهم بالتفكر . عن الحسن:” مثل اختلاف القلوب في أثمارها وأنوارها وأسرارها باختلاف القطع في أنهارها وأزهارها”. انتهى. وهي تمد كلها من بحر إلهي لا مقطوعة ولا ممنوعة ، ولكن الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.
{ وَإِن تَعْجَبْ} يا محمد من إنكارهم البعث ، { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ:} ، أي: فحقيق قولهم بأن يتعجب منه ، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك ، كانت الإعادة أهون شىء عليه ، وإن كان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب .{ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا، أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} الكاملون في كفرهم ، { وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} مغلون في أعناقهم بالضلال لا يرجى خلاصهم منه ، {وهو} وصف لهم بالإصرار ، { وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} ، ذكر : تكرار ” أولئك” على تعظيم الأمر عليهم .
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} بالنقمة قبل العافية ، وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره ، {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ} أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين ، فما لهم لم يعتبروا بها! فلا يستهزؤوا ، والمثلة : العقوبة ، لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة ، { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } ، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} لمن تاب من ظلمه ، أو لإمهاله العقوبة عنهم لأجل مسمى ، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن أصر على ظلمه.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ : لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عنادا ، (لعله) فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى ، من إنقلاب العصا حية، وإحياء الموتى ، فقيل لرسول الله : {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ} مأمور ، ليس إتيان الآيات إليك ولا منك ، إنما أنت منذر بالقرآن ، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} عالم يعلمهم أمر دينهم ، (لعله) ينزل في الحكم في اللوازم منزلة الحجة اللازمة للعباد منزلة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقوم مقامه في القيام في الحق.
{اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} وما نتقصه ، {وَمَا تَزْدَادُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ} من الأشياء ، {عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} بتقدير واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، كقوله:{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، لأنه لم يخلق شيئا عبثا ولا لعبا ، ولكن بعلم سابق ، كما قال : {عَالِمُ الْغَيْبِ} ما غاب عن الخلق علمه ، {وَالشَّهَادَةِ} ما شاهدوه ، {الْكَبِيرُ} العظيم الشأن ، الذي كل شيء دونه {الْمُتَعَالِ} المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها.
{سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ} أي: في علمه ، {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} طالب للخفاء في مخبإ بالليل ، {وَسَارِبٌ} (لعله) بارز {بِالنَّهَارِ} يراه الناظرون.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه تعاقب الليل والنهار ، حكمة من الله لا يعلم كنهها إلا هو ، {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: قدامه ووراء ، {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} ، أي: إن الله أمرهم بحفظه (لعله) والمعنى: يحفظونه بأمر الله ، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من العافية والنعمة {حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} بارتكابهم للشهوات ، {وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} عذابا يسوؤهم ، {فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} فلا يدفعه شيء ، {وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} يلي أمرهم من دون الله ويدفع عنهم .
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} يخاف من وقوع الصواعق عند لمع البرق ، ويطمع في الغيث ، {وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} بالماء .
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} كما قال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } ، {وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء} قيل: الصاعقة : نار تسقط من السماء ، {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} المحال والمماحلة : المغالبة ، وهو شدة المماكرة والمكايدة ، وروم الأمر بالحيلة ، والمعنى : أنه شديد المكر والكيد لأعدائه ، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يشعرون.
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} قيل” دعوة الحق”: التوحيد ، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أي: يعبدون الإصنام من دون الله ، {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} أي: لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ، {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ} ، أي: إلا كباسط كفيه ليقبض على الماء ، (لعله) لا يكون في يده شيء ، ولا يبلغ إلى فيه منه شيء ، {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} ، وما الماء ببالغ فاه ، {وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} في ضياع لا منفعة فيه ، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا الأصنام لم تستطع {إجابتهم}.
{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} سجود تعبد وانقياد ، {طَوْعًا}، قيل: يعني: الملائكة والمؤمنين ، {وَكَرْهًا} ، قيل: المناقين والكافرين في حال الشدة والضيق ، ويخرج في المعنى: { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا} بمعنى : الانقياد والإقرار لله بالوحدانية ، { وَكَرْهًا} نفس المؤمن الروحانية ، من حيث يأمرها العقل والشرع ، لتذل وتنقاد ، وتتواضع لخالقها مع المتواضعين ، وهي تطلب بطبعها العلو والاستكبار ، مخالفة لبقية المخلوقات ، وبذلك تستحق الثواب إن انقادت ، وتستوجب العقاب إن استكبرت ، { وَظِلالُهُم} يعني: ظلال الساجدين تسجد لله طوعا ، { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} وهو استيعاب الأوقات.
{ قُلْ :مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ؟ قُلِ :اللّهُ} حكاية لاعترافهم ، لأنهم إذا قال لهم: من رب السموات والأرض؟ لم يكن لهم بد من أن يقولوا : الله ، { قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء؟} أبعد أن علمتموه رب السماوات والأرض اتخذتم من دونه آلهة؟ { لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا} لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها ، أو يدفعوا عنها ، فكيف يستطيعون لغيرهم ، وقد آثرتموهم على الخالق الرازق ، المثيب المعاقب ، فما أبين ضلالتكم ، { قُلْ :هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ؟} أي: الكافر والمؤمن ، أو من لا يبصر شيئا ، ومن لا يخفى عليه شيء ، { أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ؟} ملل الكفر والإيمان ، { أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء؟} بل أجعلوا ، ومعنى الهمزة : للإنكار ، { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} خلقوا مثل خلقه ، وهو: صفة لـ”شركاء” ، أي: أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلقه ، { فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} فاشتبه عليهم مخلوق الله بمخلوق الشركاء ، حتى يقولوا: قدر هؤلاء على أن يخلقوا كما قدر الله عليه ، فاستحقوا العبادة ، فنتخذهم لله شركاء ، فنعبدهم كما نعبد الله ، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين ، لا يقدرون على ما يقدر عليه الخالق ، { قُلِ :اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: خالق الأجسام والأعراض ، لا خلاق غير الله ، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق ، فلا يكون له شريك في العبادة . من قال: إن الله لم يخلق أفعال العباد ، وهم خلقوها ، فتشابه الخلق معهم{كذا} على معنى قولهم . { وَهُوَ الْوَاحِدُ} المتوحد بالربوبية ، { الْقَهَّارُ} لا يغالب ، وما عداه مربوب ومقهور.
{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء}، أي: الواحد القهار ، { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا} هو ما على وجه الماء من الرغوة ، { رَّابِيًا} منتفخا مرتفعا على وجه السيل ، { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ} ، أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، { فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ} مبتغين حلية متحلى بها ، { أَوْ مَتَاعٍ} من الحديد والنحاس والرصاص يتخذ منها الأواني وما يتمتع به ، { زَبَدٌ} خبث { مِّثْلُهُ ،كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي: مثل الحق والباطل ، { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء} ، وهو ما تقذفه القدر عند الغليان ، والبحر عند الطغيان ، والجفو : الرمي ، { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ} من الماء والحلي والأواني ، { فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} فيثبت الماء في ينابيع الأرض ، وكذلك الجواهر تبقى في الأرض مدة طويلة ، { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} ليظهر الحق من الباطل ، قيل: هذا مثل ضربه الله للحق وأهله ، والباطل وحزبه ، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به ، وينفعهم أنواع المنافع وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه ، واتخاذ الأوانى والآلات المختلفة ، وأن ذلك ماكث في الأرض ، باق بقاء ظاهرا يثبت الماء في منابعه ، وكذا الجواهر تبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ، ووشك زواله ، وعدم الانتفاع به بزبد السيل ، الذي يرمي به الفلز الذي يطفوا فوقه إذا أذيب . وقال الجمهور : هذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن والقلوب والحق والباطل ، فالماء: القرآن نزل لحياة الجنان ، كالماء للأبدان ، والأودية : القلوب . ومعنى” بقدرها”: بقدر (لعله) سعة القلب وضيقه . و”الزبد” : الهواجس{و} الخواطر ، هواجس النفس ، ووساوس الشيطان . والماء الصافي المنتفع به مثل الحق ، كما يذهب الزبد باطلا ، ويبقى صفو الماء ، كذلك هواجس النفس ووساوس الشيطان ، ويبقى الحق كما هو . وأما حلية الذهب والفضة فمثل للأحوال السنية والأخلاق الزكية . وأما متاع الحديد والنحاس والرصاص فمثل للأعمال الممتدة بالإخلاص ، المعدة للخلاص ، فإن الأعمال جالبة للثواب ، دافعة للعقاب ، كما أن تلك الجواهر بعضها أداة النفع في الكسب ، وبعضها آلة الدفع في الحرب ، وأما الزبد فالرياء والخلل والملل والكسل .
واللام في : {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ} أي: أجابوا متعلقة بـ”يضرب” ، أي: ” كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ” ، {لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} الباقية التي لا تنفد ، {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} مثلا للفريقين ، {لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أي: لو ملكوا أموال الدنيا وملكوا معها مثلها ، لبذلوه ليدفعوا عن أنفسهم أدنى عذاب من عذاب الله ، بل {أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} المناقشة فيه ، بالتفتيش لجلي الأعمال وخفيها ، وقليلها وكثيرها ، وصغيرها وكبيرها ، والمجازاة عليها ، كما قال: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} ومرجعهم بعد المحاسبة النار ، {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} المكان الممهد.
{أَفَمَن يَعْلَمُ} لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أن حال من علم {أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ} فاستجاب بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب ، وهو المراد بقوله:{ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} كبعد ما بين الزبد والماء ، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} الذين عملوا على قضايا عقولهم ، فنظروا واستبصروا ، وتفسير التذكر إنما هو يسع حجاب القلب عن الغفلة {كذا}.
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّه} عهد الله: ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته ، { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ : بَلَى } ، {وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} وما وثقوه على أنفسهم وقبلوه ، من الإيمان بالله وغيره من المواثيق ، بينهم وبين الله ، وبين العباد تعميم بعد تخصيص.
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} قيل: أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل لا نفرق بينهما ، وقيل: المراد به : صلة من أمر الله بصلته ، {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي: وعيده كله {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، فيحبسوها على قوانين الشرع بدليل قوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ} مطلق فيما يصبر عليه من مشاق التكاليف ، {ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} ، لا ليقال : ما أصبره ! وأحمله للنوازل ! وأوقره عند الزلازل ! ولا لئلا يعاب في الجزع ، {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} بجميع ما يجب وينبغي ، {وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي: من الحلال، {سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} كيفما اتفق لهم ، {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ويدفعون بالحسن من الأعمال والأقوال ما يسوءهم من قول الجهلة وفعلهم ، ويخرج فيه دفع الذنب بالتوبة ، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} عاقبة الدنيا وهي الجنة ، لأنها أرادها الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها.
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدل من ” عقبى الدار” ، {يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ} أي: آمن {مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ، وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} من أبواب المنازل ، بالسلام والبشارة بالرضى والهدايا.
{سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} أي: هذا الثواب بسبب صبركم عن الشهوات ، وعلى أوامر الله ، وكأن الآية تدل على تفضيل المؤمنين على الملائكة ، لأن دخلوهم ثواب للمؤمنين ، لأنهم يبشرونهم بالسلامة ، {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الجنات.
{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} من بعدما أوثقوه به من الاعتراف والقبول ، {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} من حقوقه وحقوق خلقه ، {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} بالكفر والظلم ، {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} الإبعاد من الرحمة ، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا ، لأنه في مقابلة عقبى الدار.
{اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} (لعله) أي: يوسع ، {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر ، لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ، ولم يقابلوه بالشكر حتى يؤجروا بنعيم الآخرة ، والفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى ، وفيه دليل على أن الفرح للدنيا حرام ، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} قليل ذاهب.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ : لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} (لعله) آية مقترحة {قُلْ : إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء}بإقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات ، {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} ، ويرشد إلى دينه من رجع إليه بقلبه.
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم} تسكن {بِذِكْرِ اللّهِ} بالقرآن ، {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ؟ بسبب ذكره تسكن قلوب المؤمنين ، ويستقر فيها اليقين ، فإن قيل : أليس قال الله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ؟ فكيف تكون الاطمئنانية والوجل في حال واحد ، قيل: الوجل عند ذكر الوعيد والعذاب . والاطمئنانية عند ذكر الوعد والثواب.
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ} هو مصدر ، من “طاب” {وَحُسْنُ مَآبٍ} أي: مرجع.
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} مثل ذلك الإرسال أرسلناك ، يعني : أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات ، ثم فسر كيف أرسله ، فقال: {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ} أي: أرسلناك في أمة قد تقدمها أمم كثيرة ، {لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك ، وتفسره لهم ما يحتاج منه إلى تفسير ، {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} ودأب هؤلاء أنهم يكفرون {بِالرَّحْمَـنِ} ، البليغ الرحمة ، الذي وسعت رحمته كل شيء ، كقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا } ، {قُلْ : هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} أي: هو ربي الواحد المتعالي عن الشركاء ، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اتخذته وكيلي في جميع الأمور ، {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} توبتي {و} مرجعي.
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} عن مقارها ، {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} حتى تتصدع وتتزايل قطعا {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن ، لكونه {غاية} في التذكير ، ونهاية في الإنذار والتخويق ، أو معناه: ولو أن قرآنا وقع به تسير الجبال ، وتقطيع الأرض ، وتكليم الموتى وتنبيههم لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه ، كقوله ، { } .. الآية ، {بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} بل لله القدرة على كل شيء وهو قادر على الآيات المقترحة ، {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ} أفلم يعلم ، قيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم ، لتضمنه معناه ، لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل النسيان في معنى الترك لتضمن ذلك ، { أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} فإن معناه : نقي هدى بعض الناس ، لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم ، {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ} من كفرهم وسوء أعمالهم {قَارِعَةٌ} داهية تقرعهم ، بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب ، في أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، كما قال: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } ، (لعله) وكقوله: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } ، {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ} أو تحل القارعة قريبا منهم ، ويتطاير إليهم شرارها ، وتتعدى إليهم شرورها {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ} أي: موتهم ، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} .
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} كما استهزىء بك ، {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} ، الإملاء : الإمهال ، وأن يترك ملاوة من الزمان في حفظ وأمن ، ومنه الملوان : الليل والنهار ، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} (لعله) بالهلاك ، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} وهذا وعيد لهم ، وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله استهزاء به ، وتسلية له.
{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ} احتجاج عليهم في إشراكهم بالله ، يعني: فالله الذي هو رقيب {عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} صالحة أو طالحة {بِمَا كَسَبَتْ} يعلم خيرها وشرها ، ويعد لكل جزاءه ، كمن ليس كذلك ، ثم استأنف فقال: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء} أي: آلهة الألوهية وغيرها {قُلْ: سَمُّوهُمْ} بينوا أسماءهم له من هم ، ثم قال: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ} أي: بل أتنبئونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض ، وهو العالم بما في السماوات والأرض ، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء ، والمراد نفي أن يكون له شركاء . {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} بل أتسمونهم بشركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة ، كقوله : {ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } ، {تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } ، {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} كيدهم للإسلام بشركهم {وَصُدُّواْ} وصرفوا {عَنِ السَّبِيلِ} (لعله) وهو الدين ، {وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} من أحد يقدر على هدايته.
{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بكل ما يسوؤهم ويسرهم في الحياة الدنيا ، لأنه يؤدي بهم إلى العذاب الأكبر ، والمؤمنون سالمون من عذاب الله في الدنيا والآخرة ، وإن ساءهم شيء في الدنيا فذلك ليس بعذاب (لعله) في الحقيقة ، وهو نعمة ، لأنه يؤدي بهم إلى النعمة الدائمة ، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} أشد ، لدوامه وتعاظمه وتضاعفه ، {وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ} يقيهم العذابين.
{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} صفتها التي هي في غرابة المثل ، {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ} ثمرها دائم الوجود لا ينقطع ولا يمنع ، {وِظِلُّهَا} دائم لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس ، {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ} أي: الجنة الموصوفة عقبى تقواهم ، يعني : منتهى أمرهم ، {وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} .
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يريد من أسلم منهم ، {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ، وَمِنَ الأَحْزَابِ} أي: ومن أحزابهم ، (لعله) وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله بالعداوة ، {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني ، مما{هو} ثابت في كتبهم ، وكانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك مما حرفوه وبدلوه من الشرائع ، {قُلْ : إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} هو جواب للمنكرين ، أي : قل : إنما أمرت فيما أنزل إلى بأن أعبد الله ولا أشرك به ، فإنكاركم {له إنكار} لعبادة الله وتوحيده ، فانظروا ماذا تنكرون ، مع أدعائكم وجوب عبادة الله ، وأن لا يشرك به ، {إِلَيْهِ أَدْعُو} خصوصا لا أدعو إلى غيره ، {وَإِلَيْهِ مَآبِ} مرجعي ، وأنتم تقولون مثل ذلك فلا معنى لإنكاركم.
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ} ومثل ذلك الإنزال أنزلناه ، مأمورا فيه بعبادة الله وتوحيده ، والدعوة إليه وإلى دينه ، والإنذار بدار الجزاء ، {حُكْمًا عَرَبِيًّا} حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم} وسبب اتباع أهوائهم اتباع هواه ، {بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي: بعد ثبوت العلم بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة ، {مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} أي: لا ينصرك ناصر ولا يقيك منه واق ، وهذا من باب التهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين ، وأن لا يزل زال عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة ، وإلا فكان رسول الله من شدة الثبات بمكان ، وكانوا يعيبونه بالزواج والأولاد ، ويقترحون عليه الإناث ، وينكرون النسخ ، فنزل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ، وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} أي: ليس في وسعهم إتيان الآيات على ما يقترحه قومه ، وإنما ذلك إلى الله ، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} لكل وقت حكم على العباد ، أي: يفرض عليهم ولهم ، وعلى ما تقتضيه حكمته.
{يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء} ينسخ الله ما يشاء نسخه {وَيُثْبِتُ} بدله ما يشاء ، أو ينزله غير منسوخ ، أو يمحق كفر التائبين ، ويبطل ثواب من عصى ، ويثبت ضده ، {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأن كل كائن مكتوب فيه ، أو علمه الذي استأثر به.
{وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة ، {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} وعلينا حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، فلا يهمنك إعراضهم ولا تستعجل بعذابهم.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ} أرض الكفر ، {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}؟ بما نفتح على المسلمين من بلادهم ، فننقص من دار الحرب ونزيد في دار الإسلام ، وقيل: المراد أرض الإسلام ، وننقصها : بموت العلماء وذهاب الفقهاء ، {وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} لا راد لحكمه ، والمعقب الذي يستولي على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يقفيه بالرد والإبطال ، والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس ، {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا.
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كفار الأمم الخالية بأنبيائهم ، والمكر : إرادة المكروه في خفية ، ثم جعل مكرهم ليس بشىء بالإضافة إلى مكره ، {فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} ثم فسر ذلك بقوله:{ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} يعني العاقبة المحمودة ، لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها فله المكر كله ، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة مما يراد بهم.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ: لَسْتَ مُرْسَلاً ، قُلْ :كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لما أظهر من الأدلة على رسالتي ، {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} يريد مؤمني أهل الكتاب ، وقيل: جبريل ، وقيل: هو الله ، و”الكتاب” : اللوح المحفوظ ، وقيل القرآن ، {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} : العلماء بدين الله.