سورة الفرقان

بسم الله الرحمن الرحيم     

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} تكاثر خيره ، من البركة ، وهي كثرة الخير ، أو تزايد عن كل شيء ، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة ، وقيل: تبارك الله : تقدس وتنزه ، صفة خاصة بالله تعالى وبرتبته{كذا} على إنزال الفرقان لما فيه من كثرة الخير ، أو لدلالته على تعاليه. والفرقان : مصدر فرق بين الشيئين : إذا فصل بينهما ، سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقريره ، والمحق والمبطل بإعجازه ، أو لكونه مفصولا بعضه عنه بعض في الإنزال ، وقيل: إن الفرقان اسم جنس للكتب السماوية . {لِيَكُونَ} العبد ، أو الفرقان {لِلْعَالَمِينَ} للجن والإنس {نَذِيرًا}.

{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} فلا يستحق أن يكون له شريك في العبادة ، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أحدثه إحداثا مراعا فيه التقدير حسب إرادته ، كخلقه الإنسان من مواد مخصوصة ، وصور وأشكال معينة ، {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} فقدره وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال ، كهيئة الإنسان للإدراك ، والفهم والحفظ والنظر والتدبير ، واستنباط الصنائع المتنوعة ، ومزاولة الأعمال المختلفة ، إلى غير ذلك ، أو فقدره للبقاء إلى أجل مسمى ، وقد يطلق الخلق لمجرد الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فيكون المعنى: وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده ، حتى لا يكون متفاوتا.

{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} لما تضمن الكلام إثبات التوحيد والنبوة، أخذ في الرد عل المخالفين ، {لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لأن عبدتهم يخلقونهم ويصورونهم ، {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} ولا يملكون إماتة أحد ، ولا إحياءه أولا ، وبعثه ثانيا ، ومن كان فبمعزل عن الأولهية ، وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على الإيجاد والجزاء.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا:إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} كذب مصروف عن وجهه ، {افْتَرَاهُ} اختلقه ، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أي: اليهود ، فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم ، وهو يعبر عنه بعبارتهم ، {فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا} يجعل الكلام المعجز إفكا مختلفا متلفقا ، {وَزُورًا} بنسبة ما هو بريء منه إليه. و”أتى” و”جاء” يطلقان بمعنى: فعل. {وَقَالُوا : أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ما سطره المتقدمون {اكْتَتَبَهَا، فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} ليحفظها ، فإنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب ، أو ليكتب.

{قُلْ : أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لأنه أعجزكم عن آخركم بفصاحته ، وتضمن إخبارا عن مغيبات مستقبلة ، وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار ، فكيف يجعلونه أساطير الأولين؟. {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون ، مع كمال قدرته عليها ، واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صبا.

{وَقَالُوا:  مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} ما لهذا الذي يزعم الرسالة ، وفيه استهانة وتهكم ، {يَأْكُلُ الطَّعَامَ} كما نأكل ، {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} لطلب المعاش كما نمشي ، والمعنى: إن صح دعواه فما باله لم تخالف حاله حالنا ، وذلك لعمامهم وقصور نظرهم على المحسوسات ، فإن تمييز الرسل عمن عداهم ليس {بأمور} جسمانية ، وإنما هو بأحوال نفسانية ، كما أشار إليه بقوله تعالى : { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ  } ، {لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} لنعلم صدقه بتصديق الملك.

{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ} فيستظهر به ، ويستغني عن تحصيل المعاش ، {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} اغتناء بها عن العدم ، {يَأْكُلُ مِنْهَا} لأن نظرهم قاصر على ظواهر الأمور ، {وَقَالَ الظَّالِمُونَ}: وضع” الظالمون” موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوه ، {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} سحر فغلب على عقله ، وقيل: ذا سحر ، أي: بشرا لا ملكا.

{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} يعني: الأشباه ، فقالوا: مسحور ، وقالوا فيك الأقوال الشاذة ، واخترعوا لك الأحوال النادرة ، {فَضَلُّوا} عن الطريق ، الموصل إلى معرفة خواص النبي ، والميز بينه وبين المتنبىء فخبطوا خبط عشواء ، {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} إلى القدح في نبوتك ، أو إلى الرشد والهدى.

{تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ} الذي اخترعوه ، {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} خيرا من الجنة التى ذكروها ، {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} خيرا من البيت المزخرف كما قالوا: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } وسماها قصورا وجنات ، وهو جمع ما زاد على الاثنين إلى ما فوق ذلك.

{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} فقصرت انظارهم على الحطام الدنيوية ، وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال ، وطعنوا فيك لفقرك ، أو فلا تعجب بتكذيبهم إياك ، فإنه أعجب منه ، {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} نارا شديدة الاستعار ، وقيل: هو اسم لجهنم . {إِذَا رَأَتْهُم} إذا كانت بمرأى منهم {مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} هو أقصى ما يمكن أن يرى منه ، {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} صوت تغيظ ، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره ، وهو صوت يسمع من جوفه . {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} لزيادة العذاب ، فإن الكرب مع الضيق ، والروح مع السعة ، {مُقَرَّنِينَ} قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل ، أو مقرنين مع الشياطين في السلاسل ، {دَعَوْا هُنَالِكَ} في ذلك المكان {ثُبُورًا} إهلاكا ، أي: يتمنون الهلاك ، وينادونه فيقولون:” يا ثبوراه تعال ، فهذا حينك!!”. {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا} أي: يقال لهم ذلك ، {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} لأن عذابكم أنواع كثيرة ، وكل نوع منها ثبور على حياله لشدته.

{قُلْ : أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}؟ الإشارة إلى العذاب ، والاستفهام للتقريع مع التهكم ، {كَانَتْ لَهُمْ} في علم الله {جَزَاء} على أعمالهم ، {وَمَصِيرًا} يتقلبون إليه. {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ} ما يشاؤونه من النعيم ، و(لعله) لقصر هممهم ، كل طائفة على ما لا يليق برتبته ، ولعل الناقص لا يلقى إليه إن شاء كما يشاء الكامل ، لكمال النعمة للجميع فيها ، وإن كانت أكبر درجات وأكبر تفصيلا ، (لعله) لزوال الحزن عن الأقل ، وفيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة ، {خَالِدِينَ} فيها {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا} أي: كان ذلك موعودا حقيقيا ، بأن يسأل ويطلب ، أو مسؤولا بسأله الناس في دعائهم: { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } ، أو الملائكة بقولهم: { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ }.

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} للجزاء ، {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} تعم كل معبود سواه ، {فَيَقُولُ} أي: للمعبودين {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}؟ لإخلافهم بالنظر الصحيح ، وإعراضهم عن المرشد النصيح ، وهو استفهام تقريع وتبكيت ، {قَالُوا : سُبْحَانَكَ}!! تعجبا مما قيل لهم ، لأنهم إما ملائكة أو أنبياء ، أو جمادات لا تقدر على شيء ، أو إشعار بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده ، فكيف يليق بهم إضلال عبيده؟ أو تنزيها لله عن الأنداد ، ومعنى { سُبْحَانَكَ} : وهو الله من أن يكون معه إله ، { مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا} يصح لنا { أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} للعصمة إن كانوا ملائكة ، أو عدم القدرة إن كانوا جمادا ، فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك ، { وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ} بأنواع النعم ، فاستغرقوا في الشهوات ، { حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} حتى غفلوا عن ذكرك ، أو التذكر لآلائك ، والتدبر في آياتك ، { وَكَانُوا} في قضائك { قَوْمًا بُورًا} هالكين متروكين في الهلاك ، والبور واجب تركه.

{ فَقَدْ كَذَّبُوكُم} المعبودون { بِمَا تَقُولُونَ ، فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} في قولكم إنهم آلهة ، أو هؤلاء أضلونا. { صَرْفًا} دفعا للعذاب عنكم ، وقيل: حيلة من قولهم: ليتصرف ، أي: يحتال ، { وَلَا نَصْرًا} فيعينكم عليه ، { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} أيها المكلفون ، { نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} في الدارين.

{ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} لأن ليس أكل الطعام والمشي في الأسواق مما يبطل الرسالة ، { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} ابتلاء ، { أَتَصْبِرُونَ}؟ علة للجعل ، والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة لنعلم أيكم يصبر ، { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} بالصابرين والجازعين ، وهو في صورة الوعد والوعيد.

{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} بالخير ، لكفرهم بالبعث: { لَوْلَا} هلا { أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} فتخبرنا بصدق محمد ، وقيل: فيكونون رسلا إلينا ، { أَوْ نَرَى رَبَّنَا} عيانا ، فيأمرنا بتصديقه واتباعه ، { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} أي: في شأنها ، { وَعَتَوْ} وتجاوزا الحد في الظلم ، { عُتُوًّا كَبِيرًا} بالغا أقصى مراتبه ، حيث عاينوا المعجزات القاهرة ، فأعرضوا عنها ، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية.

{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} عند الموت ، أو يوم القيامة { لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} بمعنى: يمنعون البشرى ، { وَيَقُولُونَ : حِجْرًا مَّحْجُورًا} أي: حراما محرما عليكم الجنة والبشرى. { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} لأنه لا يثبت عمل طاعة من عاص. { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}.

{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا} يحتمل لقبض الأرواح ، أو يوم القيامة. { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} الثابت له ، لأن كل ملك يبطل يومئذ ، ولا يبقى إلا ملكه ، { وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} (لعله) لأنه يجازى بعمله.

{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} من فرط الحسرة ، وعض اليدين ، وأكل البنان ، وحرق الأسنان ونحوها ، كنايات عن الغيظ والحسرة ، لأنها من روادفها ، والمراد بالظالم: الجنس ، وقيل عقبة بن أبي معيط ، { يَقُولُ:يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} طريقا إلى النجاة . { يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} يعني: من أضله. { لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي} والذكر : يعم جميع حجج الله وآياته البالغة للعبد ، من أي حال قامت عليه ، { وَكَانَ الشَّيْطَانُ} يعني الخليل المضل ، أو إبليس الموسوس ، لأنه حمله على مخالته ، أو كل من تشيطن من جن وإنس ، لأن كل من صد عن سبيل الله فهو شيطان { لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ، ثم يتركه ولا ينفعه . وحكم هذه الآيات عام في كل متحابين اجتمعا في معصية الله.

{ وَقَالَ الرَّسُولُ} محمد عليه الصلاة والسلام : { يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} بأن تركوه ، وصدوا عنه . { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} كما جعلناه لك ، فاصبر كما صبروا ، { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}.

{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ،كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: كذلك أنزلناه مفرقا ، لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه ، ولأنه إذا نزل به جبريل حالا بعد حال يثبت به فؤادك ، { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} وقرأناه عليك شيئا بعد شيء على توأدة وتمهل ، وأصل الترتيل أن يكون في الأسنان ، وهو تفليجها.

{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} سؤال عجيب ، كأنه مثل في البطلان ، يريدون به القدح في نبوتك ، {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} الدافع له في جوابه ، أي: يبطل ما جاءوا به من المثل ، فسمى ما يوردون من الشبه مثلا ، وسمى ما تدفع به الشبه حقا. {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أو إنما هو أحسن بيانا وتفصيلا ، والتفسير تفعيل من الفسر: وهو كشف ما غطي. {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} أي: مقلوبين ، أو مسحوبين إليها ، {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} عن الرحمة ، أي: أخطأ طريقا.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} يؤازره في الدعوة وإعلاء الكلمة ، ولا ينافي ذلك مشاركته في النبوة ، لأن المتشاركين في الأمر متوازران عليه. {فَقُلْنَا: اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} (لعله) أي: إهلاكا.

{وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ}  كذبوا نوحا ومن قبله ، أو نوحا وحده ، ولكن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الكل ، {أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ} أي: وجعلنا إغراقهم ، أو قصتهم {لِلنَّاسِ آيَةً} عبرة ، {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} (لعله بالحجارة والآجر ، فهي رس ، وقيل: فلج باليمامة ، وقيل: الأخدود ، وقيل: المعدن).

{وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} (لعله) بئر ، قيل: وكل ركبة {كذا} لم تطو ، {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ } بينا له (لعله) له الأشياء في إقامة الحجة عليهم ، أو القصص العجيبة من قصص الأولين إنذارا ، فلما أصروا أهلكوا ، كما قال:{ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} فتناه تفتينا ، (لعله) أي: أهلكناه إهلاكا . {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} يعني: قريشا ، مرارا في متاجرهم إلى الشام عليها ، وهي قرية ” سدوم” العظمى ، قرى قوم لوط ، أمطرت عليها الحجارة ، {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} في مرار مرورهم ، فيتعظون بما يرون فيها من آثار عذاب الله ، {بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} بل كانوا كفرة لا يتوقعون نشورا ولا عاقبة ، فلذلك لم ينظروا ولم يتعظوا ، فمروا بها كما مرت ركابهم ، ولا يؤملون كما يؤمله المؤمنون طمعا في الثواب.

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} ما يتخذونك إلا موضع هزؤ ، أو مهزوء به ، وهذا يعم كل مؤمن رآه كل كافر ، ما يلقاه إلا مستهزئا به ، لأنه إذا خالفه صار مستهزئا به من حيث المعنى ، لأن الذين اتخذوا آيات الله هزؤا هم الذين لم يعملوا بها ، {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}؟ استحقارا له ،واستهزاء به . {إِن كَادَ} أنه كان {لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} ليصرفنا عن عبادتها ، بفرط اجتهاد في الدعاء إلى التوحيد ، وكثرة ما يورد مما يسبق إلى الذهن أنها حجج ومعجزات ، {لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} ثبتنا عليها ، واستمسكنا بعبادتها ، {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} حين وقوع الموت بهم ، أو يوم القيامة ، {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} .

{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} بأن أطاعه وبنى عليه دينه ، لا يسمع حجة ولا يتبصر دليلا ، {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}؟ حفيظا لمنعه عن الشرك والمعاصي ، وحالة هذا ليس عليك إلا البلاغ . {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} سماع تفهم ، {أَوْ يَعْقِلُونَ} بقلوبهم ما تبلغهم من الحجج ، فتجدي لهم الآيات والحجج ، فتهتم بشأنهم ، وتطمع في إيمانهم ، وهو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإضراب عنه إليه ، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم ، وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات ، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} من الأنعام ، لأنها تنقاد لمن يتعهدها ، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ، ولأنها إن لم تعتقد حقا ، ولم تلتبس خيرا ، ولم تنعقد باطلا ، ولم تكتسب شرا ، بخلاف هؤلاء ، ولأن جهالتها لا تضر بأحد ، وجهالة هؤلاء تؤدي إلى تهييج الفتن ، وصد الناس عن الحق ولأنها غير ممكنة مطلب المنافع ، فلا تقصير منها ولا ذم وهؤلاء مقصرون متسحقون أعظم العقاب على تقصيرهم ، لأن القادر على نيل الكمال أحرى بالذم ، وأجدر بالنسبة إلى الضلال مهما تقاعد عن طلب الكمال.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} ألم تنظر كيف صنعه ، {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} كيف بسطه ، ألم تنظر إلى الظل كيف مده ربك ؟ ، فغير النظم إشعارا بأن المعقول من هذا الكلام لوضع برهانه ، هو دلالة حدوثه ، ولصرفه على الوجه النافع ، بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم ، كالمشاهدة المرئي ، فكيف بالمحسوس منه ، أو ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وهو أطيب الأحوال ، فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع وتشد النظر ، وشعاع الشمس يسخن الجو ويبهر البصر ، ولذلك وصف به الجنة ، فقال:{وظل ممدود} . {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} ثابتا من السكنى ، أو غير متقلص من السكون ، بأن يجعل الشمس مقيمة على موضع واحد ، {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} فإنه لا يظهر للحس حتى تطلع ، فيقع ضوؤها على بعض الأجرام ، أو لا يوجد ولا يتفاوت إلا بسبب حركتها ، أي: الشمس جعلت دليلا على الظل ، ولولا النور لما عرفت الظلمة ، والأشياء تعرف بأضدادها.

{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} أي: أنزلنا بإيقاع الشعاع في معنى موقعه لما عبر عن إحداثه بالمد ، بمعنى: التسيير ، عبر عن إزالته بالقبض إلى نفسه ، الذي هو في معنى الكف ، {قَبْضًا يَسِيرًا} قليلا قليلا حسب ما ترتفع الشمس ، لتنتظم بذلك مصالح الكون ، ويتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق . و”ثم” في الموضعين لتفاضل الأمور ، أو لتفاضل مبادىء أوقات ظهورها ، وقيل: مد الظل لما بنى السماء ، ودحى الأرض تحتها فالتفت عليها ظلها ، ولو شاء لجعله ثابتا على تلك الحال ، ثم خلق الشمس عليه دليلا أي: مسلطا عليه ، مستتبعا إياه كما يستتبع الدليل المدلول ، أو دليل الطريق من يهديه ، فإنه يتفاوت بحركتها ، ويتحول بتحولها ، {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } : شيئا فشيئا ، إلى أن ينتهى إلى غاية نقصانه ، أو قبضا سهلا عند قيام الساعة ، يقبض أسبابه من الأجرام المظلة ، والمظل عليها. وقيل: معنى {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } بالشمس التي تأتي عليه . والقبض: جمع المنبسط من الشيء ، ومعناه: أن الظل يعم جميع قبل الشمس ، فإذا طلعت الشمس فيقل الله الظل جزء جزء. { قَبْضًا يَسِيرًا} أي : خفيا.

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} شبه ظلامه باللباس في ستره ، { وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} راحة للأبدان بقطع المشاغل ، وأصل السبت: القطع ، أو موتا كقوله :{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ } لأنه قطع الحياة ، ومنه المسبوت: للميت ، { وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} ذا نشور ، أي: انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش ، أو بعث من النوم بعث الأموات ، أو يكون إشارة إلى {أن} النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور.

{ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} يعني: قدام المطر ، { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} توصيف الماء به إشعارا بالنعمة فيه ، وتتميما للمنة فيه بعده ، فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه مما يزيل طهوريته ، وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهرها ، فبواطنهم أولى. { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} بالنبات ، وتذكير”ميتا” لأن البلدة في معنى البلد ، { وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} يعني: أهل البراري الذين يعيشون بالحيا. ونكر الأنعام والأناسي وتخصيصهم ، لأن أهل المدن والقرى بالقرب من الأنهار والمنابع ، فبهم وبما حولهم من الأنعام غنية عن سقيا السماء ، وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء ، فلا يعوزها الشرب غالبا ، مع أن (لعله) مساق في هذه الآيات للدلالات على عظم القدرة ، فهو لتعداد أنواع النعمة ، والأنواع قنية الناس ، وعامة منافعهم ، وعليه معايشهم منوطة ، ولذلك قدم سقيها على سقيهم ،كما قدم عليها إحياء الأرض ، فإنه سبب لحياتها وتعيشها.

{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن ، وسائر الكتب ،أو المطر بينهم في البلدان المختلفة ، والأوقات المتغايرة ، والصفات المتفاوتة ، من وابل وطل وغيرهما. وعن ابن عباس :” ما عام أمطر من عام ، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على من يشاء” ، وتلا هذه الآية. أو في الأنهار والمنافع. { لِيَذَّكَّرُوا} ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة، وحق النعمة في ذلك ، ويقوموا بشكره ، أو ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم ، ليتيقنوا عدم حيلتهم إذا صرف (لعله) عنهم ، وإذا صرف إليهم(لعله) لعلهم يشكرون ،{ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} لكفران النعمة ، وقلة الاكتراث لها، أو جحودها بان يقولوا : مطرنا بنوء كذا ، أو من لا يرى الأمطار إلا من الأنواء كان كافرا ، بخلاف من يرى أنها من خلق الله ، والأنواء وسائط وأمارات يجعلها الله.

{ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} نبيا ينذر أهلها ، فتخف عليك أعباء النبوة ، ولكن قصرنا الأمر عليك إجلالا لك ، وتعظيما لشأنك ، وتفضيلا لك على سائر الرسل ، فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق ، أو لاجتهاد الناس الذين لم يشاهدوا الرسول ليتعاظم الأجر لهم ، لأنه ليس الخير كالمشاهدة. { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} فيما يريدونك ، وهو تهييج له وللمؤمنين ، { وَجَاهِدْهُم بِهِ} بالقرآن ، والمعنى: أنهم مجتهدون في إبطال حقك ، فقاتلهم بالاجتهاد في مخالفتهم ، وإزاحة باطلهم اجتهادا ، { جِهَادًا كَبِيرًا} لأن مجاهدة السفهاء بالحجج ، أكثر من مجاهدة الأعداء بالسيف ، أو ينضم إليهما جهاد النفس ، ليعم كل جهاد.

{ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} خلاهما متجاورين متصلاقين ، بحيث لا يتمازجان ، من مرج دابته: إذا خلاها ، { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} قاطع للعطش من فرط عذوبته ، { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} بليغ الملوحة ، { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} حاجزا من قدرته ، {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} تنافرا بليغا ، كأن كلا منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوذ منه ، وقيل: حدا محدودا ، وذلك كدجلة تدخل البحر فتشقه ، فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها ، وقيل: المراد بالبحر العذب : النهر العظيم ، مثل: النيل ، وبالبحر الملح: البحر الكبير ، وبالبرزخ : ما يحول بينهما من الأرض ، فتكون القدرة في الفصل ، واختلاف الصفة ، مع أن مقتضى طبيعة إجراء كل عنصرات تضامت وتلاصقت وتشابهت في الكيفية.

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا، فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} أي: قسمه قسمين ، ذوى نسب ، أي: ذكورا ينتسب إليهم ، وذوات صهر ، أي: إناثا يصاهر بهن ، كقوله:{ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى } ، وقيل: النسب من لا يحل نكاحه ، والصهر ما يحل نكاحه ، {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} حيث خلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة ، وطباع متباعدة ، وجعله قسمين متماثلين ، وربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكرا وأنثى.

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} يعني: الأصنام ، وهو يعم كل ما عبد من دون الله ، إذ ما من مخلوق يستقل بالنفع والضر ، {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} يظاهر الشيطان بالعداوة والشرك ،والمراد بالكافر: الجنس ، معينا للشيطان على معصية الله.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} للمؤمنين والكافرين . {قُلْ : مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على التبليغ الذي يدل عليه:” إلا مبشرا ونذيرا” ، {مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء} إلا فعل من يشاء {أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} أن يتقرب إليه ، ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة ، فصور ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود فعله ، وقيل: الاستثناء منقطع ، معناه: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل.

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} في استكفاء شرورهم ، والإغناء عن أجورهم ، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه ، دون الأحياء الذين يموتون ، فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليه ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} ونزهه عن صفات النقصان مثنيا عليه بأوصاف الكمال ، طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابغه ، {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} ما ظهر منها وما بطن ، {خَبِيرًا} مطلعا ، فما عليك إن آمنوا أو كفروا.

{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} سبق الكلام فيه ، ولعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقا بأن يتوكل عليه من حيث أنه الخالق للكل ، والمتصرف فيه ، وتحريض على الثبات والتأني في الأمر ، فإنه تعالى مع كمال قدرته ، وسرعة نفاذ أمره في كل مراد ، خلق الأشياء على تؤدة وتدرج ، {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} عما ذكر من الخلق والاستواء عالما يخبرك بحقيقته ، وهو الله تعالى ، أو جبريل ، أو من وجده في الكتب المتقدمة ، ليصدقك فيه ، وقيل: الضمير للرحمن ، والمعنى: إن أنكروا إطلاقه على الله فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ، لتعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ ، قَالُوا : وَمَا الرَّحْمَنُ} لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله ، أو لأنهم ظنوا أنه غيره ، أو لأنهم نفوا الإلهية ، كقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ } ، {ولذلك} قالوا:{ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي: الذي تأمرناه ، يعني: تأمرنا بسجوده ، أو لأمرك الناس من غير عرفان ، وقرىء : بالياء على أنه قول بعضهم لبعض ، {وَزَادَهُمْ} أي: الأمر بالسجود {نُفُورًا} عن الإيمان ، وفيه دليل على أن السجود هو الإذعان والانقياد ، لقوله:{ وَزَادَهُمْ نُفُورًا} عن نفورهم المتقدم.

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا} يعني: البروج (لعله) الإثنا عشر ، سميت به ، وهي القصور العالية ،لأنها للكواكب السائرة السيارة ، كالمنازل لسكانها ، واشتقاقها من البرج: وهو الظهور. {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي: ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر ، بأن يقوم مقامه فيما ينبيغى أن يعمل فيه ، أو بأن يعتقبا ، لقوله:{ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } . {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أن يتذكر آلاء الله ، ويتفكر في صنعه ، فيعلم أنه لا بد له من صانع حكيم ، واجب الذات ، رحيم على العباد ، {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أن يشكر الله تعالى على ما فيه من النعم ، أو ليكونا وقتين للذاكرين والشاكرين ، من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر.

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} وإضافتهم إلى الرحمن للتخصيص والتفضيل ، أو لأنهم الراسخون في عبادته ، {هَوْنًا} هينين ، أو مشيا هينا ، والمعنى: أنهم يمشون سكينة وتواضعا على هيأتهم لا يسرعون ، وذلك من الأخلاق الحسنة ، وهو من أخلاق الصالحين ، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ ، قَالُوا : سَلَامًا} تسلميا لكم ومباركة لهم ، لا خير بيننا وبينكم ولا شر ، أو سدادا من القول تسلمون فيه من الإيذاء والإثم ، ولا تنافيه آية القتال لتنسخه ، فإن المراد به هو : الإغضاء عن السفهاء ، وترك مقابلتهم في الكلام بما لا ينفع ، اشتغالا عما ينفع.

{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} في الصلاة ، وتخصيص اليتوتة لأن العبادة بالليل أضمن ، وأبعد من الرياء ، وقيل: من صلى ركعتين بالليل ، عمه تأويل هذه الآية . قال أبو سعيد:” التأويل فيما يقال في هذه الآية : القيام آخر الليل ، قال: ويقال: إن من صلى ركعتين لحقته الآية”. والله أعلم بذلك.

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} ملازما ، ومنه الغريم ، لملازمته ، وهو إيذان بأنهم مع حسن مخالقتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق ، وجلون من العذاب ، مبتهلون إلى الله في صرفه عنهم ، لعدم اعتدادهم بأعمالهم ، ووثوقهم على استمرار أحوالهم ، قيل: الغريم: الشر الدائم ، والعذاب والهلاك. {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي: بئست مستقرا ومقامة.

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} لم يجاوزوا حد الكرم ، {وَلَمْ يَقْتُرُوا} ولم يضيقوا تضييق الشحيح ، وقيل: الإسراف : هو الإنفاق في المحارم ،والتقتير:منع الواجب. (لعله) ويروى عن أبي:” سبب في هذه الآية أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهما الجوع ، ويقويهم على عبادة الله ، ومن الثياب ما يستر عوراتهم وما يكنهم من الحر والبرد “. {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} وسطا وعدلا سمي به لاستقامة الطرفين ، كما سمي “سوي” لاستوائهما ، وقرىء : بالكسر ، وهو ما تقام به الحاجة ، لا فضل يفضل عنها ، ولا ينقص.

{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} لا يعبدون هواهم من دون الله ، {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} نفى عنهم أمهات المعاصي بعد ما أثبت لهم أصول الطاعات ، إظهارا لكمال إيمانهم ، وإشعارا بأن الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك ، وتعريضا للكفرة بأضداده ، ولذلك عقبه الوعيد تهديدا لهم فقال:{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} جزاء إثم ، أو آثما بإضمار الجزاء ، وقيل:”أثاما” واد في جهنم ، {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (لعله) استحقوا تضعيف العذاب بتركهم المأمور به ، وارتكابهم المنهي عنه.

{إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ، ويثبت مكانها لواحق الطاعات ، أو يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة، وقيل: بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه ، أو بأن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا ، ويحتمل في تأويل قوله تعالى : { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي: يبدل الله سيئاتهم ، أي: أعمالهم السيئة ، { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} فلذلك يعفو عن السيئات ، ويثيب على الحسنات . { وَمَن تَابَ} عن المعاصي بتركها ، والندم عليها ، { وَعَمِلَ صَالِحًا} يتلافى به ما فرط ، أو خرج عن المعاصي ، ودخل في الطاعة ، { فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ}يرجع إلى الله بذلك { مَتَابًا} مرضيا عند الله ماحيا للعقاب ، محصلا للثواب.

{ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}بلسان مقالهم ، ولا لسان حالهم ، وأصل الزور: تحسين الشيء ووضعه على خلاف صنعته ، فهو تمويه الباطل ، { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} ما يجب أن يلقى ويطرح ، ولو من لسان وساوسهم ، وخيال أفكارهم ، وكذوب أمانيهم ، { مَرُّوا كِرَامًا} معرضين عنه ، مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه ، والخوض فيه ، والاشتغال به ، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش ، والصفح عن الذنوب . والكناية عما يستهجن التصريح به .

{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} بالوعظ والقراءة ، وقيام الحجة من حيثما كانت ، {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} لم يقيموا عليها غير واعين لها ، ولا متبصرين بما فيها ، كمن لا يسمع ولا يبصر ، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مبصرين بعيون(لعله) راعية.

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بتوفيقهم للطاعة ، وحيازة الفضائل ، فإن المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سر بهم قلبه ، وقرت بهم عينه ، لما يرى من مساعدتهم له في الدين ، ولا تقر عين المؤمن إلا بالطاعة ، بل يتأذى قلبه بالمعصية ، وخاصة من الأقارب ، لأنهم يكونون في الدنيا مشاققين معادين له ، وفي الآخرة خائف عليهم العذاب ، كما قال إبراهيم عليه السلام:{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } ، وقول نوح لابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } . {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} يقتدون بنا في أمر الدين ، بإضافة العلم والتوفيق للعمل ، كأنهم يريدون المسابقة والمسارعة إلى الخير ، لأن السابق جدير بأن يقتدى به اقتداء بالرسول ، فيكون لهم أجر المسابقة ، وأجر من اقتدى بهم.

{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} أعلا موضع في الجنة ، {بِمَا صَبَرُوا} بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ، ورفض الشهوات ، وتحمل المجاهدات ، {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} دعاء بالتعمير والسلامة ، أي: يحييهم الملائكة ويسلمون عليهم ، أو يحيي بعضهم بعضا ، ويسلم عليه، أو ببقاء دائم وسلامة من كل آفة. {خَالِدِينَ فِيهَا} لا يموتون ولا يحزنون ، {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} مقابل” ساءت مستقرا”.

{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} ما يصنع بكم ربي ، من عبأت الجيش: إذا هيأته ، {لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} لولا عبادتكم ، فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة ، وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء ، {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بما أخبركم به حيث خالفتموه ، {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} جزاء التكذيب لازما يحيق بكم لا محالة ، فإن أثره بكم حتى يكبكم به في النار.