«مصحف القراءات» لعبدالله بن بشير الحضرمي الصحاري:

نوادر المخطوطات للمصاحف العمانية:

من «نوادر المخطوطات العمانية» المحفوظة في دار المخطوطات بوزارة التراث والثقافة التي صدر عنها مؤخرا كتاب خاص قدم له الباحثان «سلطان بن مبارك الشيباني ومحمد بن عامر العيسري» اللذان خاضا بحرها ونقلا دررها بوصف دقيق متقن ينم عن همة عالية لاستخراج المكنونات العمانية وخزائنها.

نبدأ حلقاتنا المتسلسلة الأولى ببعض من مخطوطات المصحف الشريف حيث جاء في مقدمة الكتاب عن هذه المخطوطات بأن دراساتٌ متعدّدةٌ تُشير إلى بدايات جمع القرآن الكريم وتدوينه في عهد الخليفة أبي بكر الصديق باقتراح من عمر بن الخطاب، وقد حفظ في صحائف من الرق، ومن هنا ظهرت تسمية المصحف، ثم اتخذت خطوة حاسمة في عهد الخليفة عثمان بن عفان بكتابة نسخ متعددة ترسل إلى الأمصار. وقيدت المصادر أسماء عدد من الكتاب المهرة في الصدر الأول للإسلام اشتغلوا بكتابة المصحف.

أَورد أبو بكر السجستاني في «كتاب المصاحف» بإسناده عن مالك بن دينار قال: «دخل عليَّ جابر بن زيد وأنا أكتب مصحفًا، فقلت له: كيف ترى صنْعَتِي هذه يا أبا الشعثاء؟ فقال: نِعْمَ الصنْعَةُ صنْعَتُكَ، ما أَحْسَنَ هذا! تَنْقُلُ كتابَ الله من ورقةٍ إلى ورقةٍ، وآيةٍ إلى آيةٍ، وكلمةٍ إلى كلمةٍ، هذا – واللهِ – الكَسبُ الحَلال، هذا- واللهِ – الكَسبُ الحَلال».

وقد مرت عملية تدوين المصحف بمراحل زمنية متفاوتة في نوع الخط وطريقة إعجام الحروف وشكل الكلمات ووضع الفواصل، كما اتخذت المصاحف المبكّرة شكل المربع، أو شكل الكرّاسة التي يزيد عرضها على طولها، ومع مطلع القرن الرابع الهجري بدأت تظهر أساليب جديدة في الكتابة، وحَلَّ الورق مَحلّ الرَّق، وشاع استعمال خط الثلث في التدوين لفخامته وحسن تشكيلاته. ثم تطورت صنعة تدوين المصحف بظهور الزخارف والتذهيبات، ولمعتْ في التاريخ الإسلامي أسماء عدد من الخطاطين والمُذَهِّبِينَ الذي تخصصوا في كتابة المصاحف وتذهيبها وتجليدها. وأُلِّفَتْ كتبٌ مفردة متخصصة فيما يتعلق بكتابة المصاحف.

ومع مرور الزمن أصبح خطّ النسخ هو الخطّ المفضل في تدوين المصحف، ولقي النص القرآني عنايةً خاصة من النساخ، فتفننوا في ابتكار أساليب زخرفية رائعة، بداية من الصفحتين الأُوليين المتقابلتين اللتين انفردتا بالنصيب الأوفر من الزخارف والتذهيبات، مروراً بأسماء السور وفواصل الآيات وتقسيمات القرآن إلى أجزاء وأحزاب و أنصاف و أرباع و أعشار، وانتهاء بالصفحة الأخيرة التي تشتمل على تشكيلة بديعة تتضمن معلومات النسخ، أُضيف إليها في حقبة لاحقة صيغة وَقْفِ المصحف على يد أحد الملوك أو الأعيان.

وتمتلك دار المخطوطات بوزارة التراث والثقافة حصيلة قيمة من مخطوطات المصحف الشريف، تتجاوز المائتي نسخة، ولا ريب أن لها خصوصية في نمط كتابتها وتجليدها وزخرفتها وتذهيبها. وقد أولاها النّساخ والخطاطون أهمية كبرى، وتسابقوا في إتقانها وإبداعها؛ كل على طريقته .. وإلى أولى المخطوطات.

«مصحف القراءات السبع» لعبدالله الحضرمي (ق12هـ) يحوي 240 ورقة

كتبه بخط النسخ وجعل اللون الأسود الأساس والأحمر المصحف عبارة عن مخطوط مرقم بـ «61» يَشتَمِلُ على نص القُرآن كاملاً، مع القراءاتِ السبْعِ في حَواشيه، ويبتدئُ كُلُّ جزءٍ من أجزاء القرآن الكريم في الصفْحَةِ اليُسرى من المصحف، مُوَزَّعًا على ثَمانِي وَرَقاتٍ أيْ ستَّ عَشرَةَ صفحةً، ليُصبح عددُ أوراقِ المصحف مائتين وأربعينَ وَرَقَةً. وتَحْتَوِي الصفحةُ الواحدة منه على خَمْسةَ عَشرَ سطرًا.

كَتَبَ المُصحَفَ الخَطَّاطُ العُمَانِيُّ المشهور عبدُالله بن بشير بن مَسعُود الحَضرَمِيُّ، أَحَدُ علماء صحَار في القرن الثاني عشر للهجرة، وله مؤلفاتٌ عديدة تدلُّ على إبداعِهِ وإتقانه؛ أهَمُّها: «النُّورُ المُستَبِين، في إِيَضاح الحُجَجِ والبَرَاهين »، و «الكَوْكَبُ الدُّرِّيّ، والجَوْهَرُ البَرِّيّ». وكان فَرَاغُهُ من كتابة المصحف بتاريخ السادس من مُحَرّم سنة 1153 هـ، وهو واحِدٌ من مصاحف عديدة كتبها بخطِّ النسخ الجميل. وجَعَلَ اللون الأسوَدَ هو الأساس، ولَوَّنَ بالأحمر: السطْرَ الأوَّلَ من بداية كل جزء،  أَسمَاءَ السوَرِ، واسمَ الجلالة، والبَسمَلة، وأَوَّل حَرْفٍ من كل سطر.

وكان الحَضرَمِيُّ بارعًا في تنسيق الصفحات والأسطر؛ إذ تبدأ كلُّ صفحةٍ بأوّلِ آيةٍ وتَخْتِمُ بنهاية آية، والحرفُ الأول الذي يبدأ به السطرُ الأولُ هو الحرفُ نفسه الذي يبدأ به السطرُ الأخيرُ في الصفحة، كما أن أولَ حرفٍ من السطر الثاني من أعلى الصفحة هو أول حرف من السطر الثاني من أسفلها، وهكذا بقية الأسطرِ، ويستمر التنسيق بِهَذا التناظُرِ في بقية الصفحات. أما السطر الثامن في وسط الصفحة اليُمْنَى فإنّ أوّلَ حرفٍ منه هو الحرف نفسه في أول السطر الثامن من الصفحة اليُسرى. وخلافًا لما هُو سائدٌ في كتابة المصاحف؛ لَمْ يُعْطِ الحضرمِي لأول صفحتين من المصحف خصوصية تذكر، فكتب الفاتحة و أوائل سورة البَقَرَةِ دون زخارف محيطة بِهِمَا. ولا نجد أية زخارف في سائر أوراق المصحف، سوى إطارٍ بسيطٍ باللون الأحمر، غَيْرَ أنّ حُسنَ خَطِّهِ ووُضوحَهُ صبَغَهُ صبْغَةً جَمَالِيَّةً فَرِيدَةً، ومِمَّا يُمَيِّزُ مُحْتَواهُ: القراءاتُ السبْعُ التي خَطَّها على هامش المصحف، كُلُّ قراءةٍ في موضعها مُقابِلَ اللفظ القرآني، وقد استمدَّها من كتاب (التيسير في القراءات السبع) لأبي عَمْرو عُثمان بن سعيد الدَّانِي.

إضافةً إلى حِرْصهِ على وضع علامات التجويد كالوُقوفات والمُدُودِ في مواضعها من المصحف.

ولنا أن نَصطلح على تسمية الطريقة الفنية البديعة التي اتبعها الحضرمي في تنظيم المصحف وتنسيقه« بطريقة الحضرمي»؛ لأنها شهدت حضورا قَوِيا في التراث العماني، وقَلَّدَهُ فيها عدد من النُّساخ العمانيين، إذ تحتفظ دار المخطوطات بنسخة من مصحف شريف تحت رقم «4126»، ذهب منه اسمُ الناسخ وتاريخ النسخ بسبب ضياع الأوراق الأولى والأخيرة منه، وهو مكتوبٌ على «طريقة الحضرمي» مِنْ حيث تناظر الأسطر والصفحاتِ وعَدَدُ الأوراق، مع خُلُوِّهِ من ذكر القراءات، وشبيه به مصحف محفوظ في إحدى المكتبات الخَاصة بعمان، كتبه: راشد بن سالم بن علي بن عبدالله المنذري؛ سنة 1260 هـ ؛ بطلب من العلامة المعروف: ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي «ت 1363 هـ»، ويطابقهما في طريقة الكتابة مصحف بقيت أوراق متناثرة منه ضمن مجموعٍ محفوظ في مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي بالسيب، ما يؤكد أن «طريقة الحضرمي» في كتابة المصحف ذاعت وانتشرت بين العمانيين.

المصدر: جريدة عمان ، روضة الصائم ،الخميس, 1 رمضان 1436هـ. 18 يونيو 2015م .. عرض: سيف بن سالم الفضيلي.

شرح شامل لخصائص هذا المصحف وميزاته تابع الفيديو …

بسم الله