السبب الرابع: التواصي بالصبر، ذلك أنّ الدعوة إلى الله والاضطلاع بأمانة الله والقيام بحقوقه كلٌّ من ذلك يستوجب صبراً، فكان لا بدّ من التواصي بالصبر، فالله تعالى عندما حكى عن لقمان موعظته لابنه، قال فيما قاله في حكاية قوله : ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾، فإن طريق الدعوة طريق شائك وعر موحش، ولكنّ العاقبة هي الفوز، والله سبحانه وتعالى عندما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن سبيله وسبيل أتباعه في قوله : ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، أتبع ذلك قوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾.
فرسل الله الذين هم أرسخ الناس إيماناً، وأقواهم يقيناً، يلقون من المضايقات بسبب دعوتهم الناس إلى الله ما يجعلهم ربما ينسون أحياناً وعد الله لهم فيصلون إلى مشارفة اليأس، وعندئذ تأتي عناية الله تبارك وتعالى فينجّيهم الله وينجّي أتباعهم، ويدمّر أعداءهم، ثم إن الله عز وجل يُتبع ذلك قوله: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
ومن درس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وجد العجب العجاب من الأهوال التي تحمّلها الرسول عليه الصلاة والسلام في سبيل هذه الدعوة، وتحمّلها أصحابه رضي الله تعالى عنهم، ولكنهم صبروا وصابروا حتى أتاهم نصر الله، ولا مبدّل لكلمات الله، وقد كان القرآن الكريم ينزل ليثبّت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقلوب أصحابه ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾، وذلك حتى يشُقَّ النبي صلى الله عليه وسلم طريقه غير لاوٍ على شيء مما كان يلقاه، فلذلك كان التواصي بالصبر من الضرورات التي تتوقف عليها مصلحة الإنسان، وتتوقف عليها نجاته من الخسران في الدنيا والآخرة، على أنّ العبادات نفسها تحتاج إلى صبر فإن ممارستها تحتاج إلى صبر، والانتهاء عن معاصي الله تبارك وتعالى يحتاج أيضاً إلى صبر، فالشيطان يزين هذه المعاصي للإنسان، والنار – كما جاء – محفوفة بالشهوات، والجنة محفوفة بالمكاره، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾.