على أننا يجب علينا أن ننظر في أركان هذه العقيدة، وكيف تجعل الإنسان يتفاعل معها هذا التفاعل بحيث تكون أعماله مترجِمة لهذه العقيدة، فالإيمان المطلوب من الإنسان هو ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام حينما سأله عن الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره»، فالإيمان بكل واحد من هذه الأركان الستة يقتضي التفاعل التام مع أمر الله سبحانه وتعالى، وبيان ذلك كالتالي:
(1) الإيمان بالله تعالى: هو الإيمان بموجد هذا الوجود الذي تسبِّح بحمده السماوات والأرض، ويتجلى وجوده في كل ذرّة من ذرات هذا الكون بأسره، بل كل ذرة من ذرات هذا الكون إنما هي كلمة من كلمات الله ناطقة بحمده سبحانه وتعالى، ودالّة على وجوده عزّ وجلّ، وما يأتي من بعد ذلك إنما هو كالشرح لهذه الكلمة، فالكائنات كلها مُعربة عن افتقارها إلى واجب الوجود لذاته الذي أخرجها من العدم إلى الوجود؛ إذ ما من شيء في هذه الكائنات إلا وهو دالٌّ على أنه حادث، كان بعد إن لم يكن، وكلّ حادث إنما يفتقر إلى مُحدِثٍ أحدثه .
فنحن عندما نظرنا إلى هذا المسجد لأول مرة عرفنا أنّ أحداً بناه مع أنّ جميع مواد البناء كانت موجودة قبل أن يقوم هذا البناء، فالحديد كان موجوداً، والإسمنت كان موجوداً، والأتربة كانت موجودة، وكلّ ما تكوّن منه هذا المسجد كان موجوداً من قبل، ولكنْ لا يمكن أن تجتمع هذه الأشياء وتلتحم بنفسها، ويقوم منها هذا المسجد بدون أن يكون هنالك بانٍ صمّم هذا البناء وقام ببنائه، ولئن كان هذا فيما كانت موادّه موجودة فكيف بالكون الذي بأسره لم يكن شيئاً يذكر!! بل ذلك يظهر للإنسان في نفسه، فإن الإنسان يعلم أنّه مرّ عليه زمن لم يكن شيئاً مذكوراً، فالإنسان إن كان ابن أربعين فقبل تلك الأربعين لم يكن شيئاً يذكر، وإن كان ابن خمسين فقبل تلك الخمسين لم يكن شيئاً يذكر، وإن كان ابن ستين فقبل تلك الستين لم يكن شيئاً يذكر، فكيف يمكن لهذا الشيء الذي لم يكن موجوداً قط أن يُخرج نفسه من العدم إلى الوجود؟!! إذاً لا بدّ من مُوجِدٍ أوجد هذا الوجود.
على أنّ الإنسان وهو ينظر إلى هذا الكون المترامي الأطراف الواسع الأرجاء يرى أنّ هذا الكون متناسقٌ تناسقاً عجيباً، بحيث إنّ أيّ ذرّة من ذرّاته لم تشذّ عن نظامه الذي قلنا بأنّ مسافاته المكتشفة وصلت إلى أبعاد عظيمة، وهذا التناسق ما بين ذرّاته أدى إلى التناسق ما بين جزيئاته، والتناسق ما بين جزيئاته أدى إلى التناسق ما بين مركّباته، وهكذا، فالكون بأسره كلّه مقدّرٌ تقديراً عجيباً من ذراته الدقيقة بل ممّا هو أقلّ من هذه الذرات إلى المجرات الواسعة كما يدل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾، هذا التناسق العجيب في هذا الكون هو دليلٌ على أنّ الكون وحْدة متكاملة، كل جزء منه مكمّل لبقية الأجزاء.
وهل يمكن أن يكون الكون كذلك إلا إذا كان صادراً من مكوّن واحد، فلو كان هناك أكثر من مكوّن واحد لكان كلٌّ منهم مستقلاً بإرادته، فهذا يريد أن يكون هذا الشيء أبيض والأخر يريده اسود، هذا يريده ناعماً والآخر يريده خشناً، هذا يريده قصيراً والآخر يريده طويلاً، وهكذا، فالاختلاف بين الإرادات يؤدي إلى الاختلاف في المراد، ولكنْ تناسقُ هذا الكون بأسره إنما هو شاهد على وحدانية مكوّنه، ولذلك عندما يقرّر سبحانه وتعالى أعظم حقيقة في هذا الوجود وهي وحدانيته؛ يلفت انتباه الناس إلى هذا النظام الموجود في هذا الكون، إذ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾، ثم يُتبِع ذلك قوله: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
فإذاً هذا الكون بأسره هو وحدة متكاملة، وهو دالٌّ على وحدانية مكوّنه سبحانه وتعالى، ثم مع ذلك يتجلى للإنسان أنّ الله هو بكلّ شيء عليم وعلى كلّ شيء قدير، وأنّه أحاط بكل شيء سمعاً، وأحاط بكل شيء بصراً؛ إذ لا يمكن أن يكون هذا الكون مع هذا النظام الذي نشاهده عليه صدر عن خالق جاهل أو عاجز، أو أصمّ أو أعمى، أو ميت تعالى الله عن ذلك، ولهذا كان حقّ هذا المكوِّن الذي انفرد بإخراج هذه الكائنات بأسرها من العدم إلى الوجود أن يُعبد ويُطاع، ويُشكر على نِعمه وهباته، ومن هنا كان الإيمان بالله دافعاً للإنسان إلى طاعته لربه تعظيماً له سبحانه ، ورجاءً لفضله وخوفاً من عقابه.
(2) الإيمان بملائكة الله: فالإيمان بهم إنما هو إيمان بخلْقٍ من خلق الله سبحانه، خلْق لا يقعون تحت الحس البشري؛ أي لا نراهم بأعيننا ولا نسمعهم بآذاننا، ولكن علينا أن نؤمن بهم، وإيماننا بهم إيمان بالغيب الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به.
وهؤلاء الملائكة يختلفون عنا في طباعهم وأحوالهم وأفعالهم، والله سبحانه قد جعل لهم صفاتٍ تختلف عن صفاتنا ، وقد أوتوا من القدرات والسعة في تكوينهم وخلقهم ما لم نؤتَ شيئاً منه، فالله سبحانه وتعالى خلقهم خلْقاً يختلف عن خلقنا، فهم أوتوا من القدرات بحيث يستطيعون أن يتمثّلوا من صورة إلى صورة ، ومن وضع إلى وضع ، وفي بيان عِظَم خلْقهم جاء حديث الرسول عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام الذي روي عن طريق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه وصف جبريل بقوله: «لم أره في صورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظمُ خلقه ما بين السموات والأرض»1.
ومع ذلك فإن هؤلاء الملائكة ـ على هذه القدرات وعلى ما أوتوه من سعة في الخلق ـ تتضاءل نفوسهم أمام الله تعالى، فهم كما وصفهم الله تعالى في قوله: ﴿ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾، وقوله عزّ وجلّ: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾، وهذا مما يستدعي أن يكون هذا الذي آمن بهؤلاء حريصاً على التشبّه بهم في طاعة الله سبحانه وتعالى، فلئن كانوا مع هذه العظمة التي خُلِقوا عليها يتضاءلون إلى هذا الحدّ أمام عظمة الله، ويحرصون على أن يطيعوه ولا يعصوه، فكيف بنا نحن!! فجدير بالإنسان أن يكون حريصاً على أن لا يعصي ربه؛ بحيث يستشعر عظمة الله في جميع أحواله.
ومع هذا فإن لهؤلاء الملائكة الكرام وظائف متعددة، من بينها تسجيل ما يصدر عن الإنسان، يقول سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، وإذا كان من شأن الإنسان أن يخاف الرقباء الذين يرقبونه لتسجيل أعماله ونقلها إلى من يفوقه قوة من الناس، وإذا كان من شأن البشر أن يخافوا من رجال المخابرات أن يطّلعوا على ما يخالف سياسة الدولة من تصرفاتهم وأعمالهم؛ فما أجدر هذا الإنسان بأن يخشى أن ترى هذه الملائكة من تصرفاته وأعماله ما يخالف أمر ربّه عزّ وجلّ، وأن يسجّلوا ذلك عليه في صحيفته.
ومع ذلك كله هناك وظائف أخرى متعددة لهؤلاء الملائكة بحسب ما جعل الله سبحانه وتعالى من وظائفهم، منهم ملك الموت وأعوانه، وهذا مما يستدعي الإنسان أن يكون مستشعراً لقاء ربه، حريصاً على طاعته ومرضاته، إذ لا يدري متى يفجؤه ريب المنون، ومن هؤلاء خزنة النار والعياذ بالله، ومنهم خازن الجنة، ومنهم الملائكة الذين يدخلون على الأولياء في الجنة بسلام ، فإذاً هذا مما يستدعي أن يكون هذا الإنسان ـ وهو يعرف هذه الوظائف التي لهؤلاء الملائكة ـ حريصاً على طاعة الله سبحانه ؛ لأنه يبقى بين الخوف والرجاء.
(3) الإيمان بكتب الله تعالى: التي هي عهد الله إلى خلقه، فالله سبحانه لم يكِل الناس إلى عقولهم المضطربة وأهوائهم المتنازعة وأفكارهم المتنوعة، بل أرسل رسله وأنزل كتبه ليهلك من هلك عن بينة وليحيى من حيّ عن بينة، وهذه الكتب ما أُنزِلت من قبل الله تعالى لأن تكون كتب تسلية للناس يقرؤونها كما يقرؤون القصص، ويطالعونها كما يطالعون الجرائد والصحف، وإنما أُنزِلت من أجل العمل بها، ولهذا فإن الإيمان بالكتب غايته أن يحرص الإنسان على تطبيق ما في كتب الله تعالى من هداية الله؛ لأنّ الإيمان بهذه الكتب لا يمكن أن يجتمع مع نبذ الإنسان لها وعدم إقباله عليها في تطبيقه وعمله، فالله تعالى يقول في بني إسرائيل عندما طبّقوا بعض ما في التوراة وأعرضوا عن بعض: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾، هذا هو إيمان المؤمنين حقّاً بالكتاب.
وهذه الكتب اجتمع ما فيها من هداية وخير، وصلاح ورشْد في القرآن العظيم الذي جاء مهيمناً عليها جميعاً، فمعنى ذلك أننا مطالبون ونحن نؤمن بأنّ هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى أن يتجسَّد هذا القرآن في حياتنا وأعمالنا وأقوالنا وجميع تصرفاتنا حتى لا نخرج عن القرآن وهدايته.
(4) الإيمان بالرسل: الذين هم مثال في الكمال البشري، فإنّ الله سبحانه وتعالى صنعهم على عينه واصطفاهم بنفسه، وجعلهم وعاء لهدايته إلى خلقه، فهم أصدق البشر لهجةً، وأوفرهم عقلاً، وأحسنهم سيرةً، وأصفاهم سريرةً، وأسلمهم منهجاً، وهذا يقتضي أن يكونوا لنا أسوة وقدوة، فالإيمان بهم يقتضي أن يحرص الإنسان على الاقتداء بالرسل الكرام المصطفين الأخيار، وكمالات هؤلاء الرسل اجتمعت في شخص الرسول محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، وهيمنت رسالته على ما جاء في رسالاتهم جميعا، إذ جَمَعتْ ما تفرّق في تلك الرسالات.
والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يستوجب أن يحبّه الإنسان محبةَ تفوق محبة الخلق أجمعين، فمن شأن الإنسان ـ كما ذكرنا سابقاً ـ أن يحبّ غيره لأحد أمرين، إما لأجل عظمة ذلك الغير المحبوب، وإما من أجل أنّه أسبغ يداً عليه، ومن أولى بكلا الاعتبارين بالحب من الرسول صلوات الله وسلامه عليه؟!! أما بالنظر إلى عظم شأنه وتفوّقه على غيره؛ فحسبنا أنّ أعداءه أدركوا عظم شأنه فعبّرت ألسنتهم عمّا وقر في نفوسهم، فالله تبارك وتعالى يقول: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾، فهم يدركون صدقه صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يغالبون عقولهم وفِطَرهم، فيحمِّلون أنفسهم ما لا تتحمّل من أجل تكذيبه صلوات الله وسلامه عليه.
وقد وجدنا من غير المسلمين في هذا العصر وفيما قبله مَن يتحدّث عن عظم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان أحد هؤلاء واحداً من رادة الإلحاد في البلاد العربية، بل هو أحد الثلاثة الذين نشروا الإلحاد في بلاد العرب، وهم فرج أنطون، وسلامة موسى، وشبلي شُميّل، وشبلي شُميِّل رجل كان من قبل نصرانياً كاثوليكياً ثم تحوّل إلى الإلحاد، فصار داعية إليه، ومع ذلك اعترف بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم، وتفوّقه على جميع البشر، وجزم بأنه لن يأتي من بعده – صلى الله عليه وسلم – من هو مثله؛ وذلك أن شبلي شُميِّل كان يقرأ مجلة المنار التي كان يحررها العلامة الكبير السيد محمد رشيد رضا بمصر، وكانت هذه المجلة فيها صفحات مخصَّصة لذكر مناقب النبي صلى الله عليه وسلم. فعندما اطلع على هذه الصفحات التي تتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إلى السيد رشيد رضا رسالة مختصرة يقول فيها:
إلى غزاليّ عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيماً، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد الديني أو المبدىء الديني على طرفيْ نقيض فإننا يجمع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق لعرى المودة بيننا، ثم قال: الحق أولى أن يقال، وتحت هذا العنوان كتب هذه الأبيات:
دع من محمدِ في سُدى قرآنه ** ما قد نحاه للُحمَةِ الغاياتِ
إني وإنْ أكُ قد كفرتُ بدينهِ ** هل أكفرنّ بمُحكمِ الآياتِ
أو ما حوت في ناصع الألفاظِ ** من حكمٍ روادعَ للهوى وعِظاتِ
وشرائعَ لو أنهم عقلوا بها ** ما قيّدوا العمرانَ بالعاداتِ
نِعْمَ المدبّرُ والحكيمُ وإنهُ ** ربُّ الفصاحةِ مصطفى الكلماتِ
رجلُ الحِجا رجلُ السياسةِ والدَّها ** بطلٌ حليفُ النصرِ في الغاراتِ
ببلاغةِ القرآنِ قد غلب النُّهى ** وبسيفهِ أنحى على الهاماتِ
من دونه الأبطالُ في كلِّ الورى ** من سابقٍ أو حاضرٍ أو آتي
هذا .. وإذا جئنا إلى اليد البيضاء التي قدّمها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فانّ كلّ خير جاءنا إنما جاءنا من طريقه عليه أفضل الصلاة والسلام، فالله أنقذنا به كما أخبر عن نفسه عليه الصلاة والسلام: «إني آخذ بحُجَزكم عن النار»2، والله تعالى يمتنّ علينا به ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، فإذاً محبته صلى الله وعليه وسلم يجب أن تكون فائقة على محبة غيره، جاء في الصحيحين من رواية ابن عمر ومن رواية أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده»، وفي رواية: «من والده وولده والناس أجمعين».
ومحبته صلى الله عليه وسلم ليست مجرد عاطفة لا تكاد تثور حتى تغور، ولا تكاد تشتعل حتى تنطفىء، وإنما محبته عقيدة راسخة في النفس، على أن الإنسان من شأنه أن يسارع في هوى محبوبه بحيث يذوب هواه في هواه، وتذوب إرادته في إرادته، وعليه فإنّ الإنسان الذي يحبّ الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تذوب إرادته في إرادة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بحيث يقدّم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه في كلّ شيء من أموره، والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام أولى بالاتباع والتأسي، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
(5) الإيمان باليوم الآخر: الذي يعني التصديق بالمعاد بعد هذه الحياة التي نعيشها، وهذا التصديق إنما هو مطلوب ليثمر ثمرات في حياة المصدِّق، ذلك لأنّ الإيمان باليوم الآخر يأتي رديف الإيمان بالله تعالى، حيث نجد أنّ الله سبحانه وتعالى عندما يريد أن يؤكّد شيئاً في كتابه يقرنه بالإيمان بالله واليوم الآخر، وعندما يريد أن يؤكِّد على أمر أو نهي، أو يريد أن يرسِّخ سلوكاً معيناً في حياة الناس يقرن ذلك بالإيمان بالله واليوم الآخر، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾، ويقول سبحانه: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾، ويقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾.
فإذاً الإيمان باليوم الآخر له أهميته في حياة الإنسان، تأتي هذه الأهمية بعد أهمية الإيمان بالله؛ ذلك لأن الإيمان بالله إنما هو الإيمان بالمبدئ العظيم، فهو إيمان بمَبدأ هذا الكون؛ لأن الكون كله إنما هو صادر عن الله، هذا الإيمان كما قلنا يعرِّف الإنسان بما لله من نعم وفضل أسبغه عليه، إذ هو يسْبَح في خضمِّ نعمه تبارك وتعالى بحيث لو وقف حياته بأسرها منذ بداية إدراكه وإلى أن يلقى الله في عبادة الله والقيام بطاعته وإنفاذ أوامره ولم يمرّ عليه وقت إلا وهو في طاعة الله لما كان موفّياً بحقّ أصغر نعمة من نعم الله، فكيف بهذه الآلاء وهو يسبح في خضمّ هذه النعم من قبل ولادته وإلى وفاته؟!!
فإذاً حقّه سبحانه حقّ عظيم، وذلك يقتضي أن يكون الإنسان قائما بقدْر مستطاعه بأداء هذا الحقّ الواجب لله تعالى، ولكنْ هناك رغبات جامحة ونزعات ونزغات في النفس البشرية تجعل الإنسان ينسى هذا الحقّ مع ما جُبل عليه من حبّ المصلحة لنفسه، ولذلك عندما يكون الإنسان مؤمناً بالمعاد فإن إيمانه به يكون مذكِّراً له بهذا الحق الواجب عليه؛ لأنه يعرف أنه ينقلب إلى معادٍ يُجازى فيه على عمله، ويجني فيه ما غرس خيراً كان أو شراً، فلذلك يحرص على أن يعمل لذلك المعاد الذي ينقلب إليه. على أنّ وجود الإنسان في هذه الحياة وجود محدود، وانتفاعه بكل شيء انتفاع محدود، والإنسان لا يدري متى تنتهي حدود أموره، لا يدري متى يفجؤه ريب المنون، فعندما يكون هذا الإنسان غير مدرك لذلك قد يتقاعس عن الأعمال الصالحة ويقول لعلني لا أدرك أن أستوفي خيرها في هذه الدنيا، بخلاف ما إذا كان مؤمنا باليوم الآخر، فإنّ ذلك الإيمان يجعله مستعلياً على هذه الرغبات الجامحة في نفسه، ويدرك أنه إن لم يستوفِ أجره في هذه الدنيا فإن له آماداً طوالاً في الدار الآخرة يستوفي فيها أكثر من أجره، ويزيده الله تعالى من فضله، فلذلك يحرص هنا على أن يعمل الخير، ولذلك كان الإيمان باليوم الآخر مدعاة لأن يعمل الإنسان الصالحات ، فالإيمان باليوم الآخر لا يعني أن يرسّخ الإنسان في نفسه التصديق باليوم الآخر فحسب كما يرسّخ النظريات التي يراها هذا أو ذاك، وإنما يُراد بذلك أن يتحوّل هذا الإيمان إلى منهج حياة يسير عليه الإنسان في حياته هذه.
(6) الإيمان بالقدر خيره وشره: ومعنى ذلك أن يعتقد أنّ كلَّ شيء يجري في هذا الكون إنما تصرِّفه تدابير القضاء والقدر، فكل شي مقضيٌّ عند الله، وعندما يدرك الإنسان أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له فإنه يتلقى كلّ ما يصيبه في هذه الحياة برحابة الصدر وبقوة الإيمان، ويدعوه ذلك إلى أن يسلّم الأمر لله، ويخضع لحكمه، ويذعن له، فإنّ في ما يصيبه عبرةً له، فإن اعتبر وادّكر ورجع إلى منهاج الله سبحانه وتعالى فاز بسلامة الدنيا وسعادة العقبى.
———————
1-رواه البخاري (259)، والترمذي (2994).
2-رواه البخاري (6002)، ومسلم (4234).