قوله ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) (الفاتحة:7):
أي طريقة الذين أنعمت عليهم بهدى البيان وهدى السعادة بالعلم والعمل والتمكين من الملائكة والرسل والأنبياء والمرسلين، والعلماء المتقين، والأولياء الصالحين، وصراط النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حقنا نحن أيضاً، وأصحابه المرتضين، وأهل طاعته المتقين، وفي ذلك معانٍ كثيرة منها ما ذكرناه من النظر إلى تعظيم شأن أولياء الله على حقارة نفسه في نظره، ومنها التبرك بهم، ومنها الدلالة على ولايتهم، ومنها معرفته بهم أنهم أولياء الله تعالى، وأن الله تعالى وليهم، وفي ذلك دلالات على جميع أحكام وجوه الولاية، وفي ذلك دلالة على لزومها على من كلف بها في الجملة، أو في أحد مخصوص وما أشبه ذلك.
( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) (الفاتحة:7):
اختلف الناس في تفسير (المغضوب عليهم) من هم؟ وفي (الضالين) من هم؟ فقال بعضهم: (المغضوب عليهم) اليهود، و(الضالين) النصارى، وقال بعضهم: (المغضوب عليهم) جميع فرق المشركين، والضالون أهل الضلال من مذاهب أهل الإسلام، أي ضالون في التأويل ضلالاً لا يسعهم الثبوت عليه ويهلكون به لا ما دون ذلك، وهذا هو الصحيح، والأول بعيد من الصواب لما سيأتي من الدلالة على باطله.
بيــان:
ومن قوله: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) انتقل من الخطاب الذي كان صيغته خطاب الحاضر إلى صيغة خطاب الغائب، فلم يقل: غير الذين غضبت عليهم، فأضاف التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية من إنعامه هو على أهل طاعته، ولم يضف الغضب أي العقاب لأهل معاصيه إليه لهم؛ لأنه كان من سبقهم وإرادتهم واختيارهم لأنفسهم، بعدما نهاهم عنه وحذرهم منه، وإن كان الله تعالى هو الذي يوفقهم على فعل المعصية، ويخلقها عند فعلهم لها، فإنه لم يخلقها لهم ويوفقهم عليها إلا بعد أن يريدوها ويختاروها لأنفسهم، وهذا أيضاً من الالتفات كما ذكرنا.
بيــان:
وفي استثناء طريقتهم يدل على كراهته لها وبغضه لها وتحريمه سلوكها، وفي ذلك دلالة على البراءة من أهلها ومن معرفته بهم أنهم أعداء الله تعالى، وأن الله عدو لهم، وأن البراءة منهم واجبة على من كلف بها، والمراد المكلف بها هو من بلغته الحجة بمعرفة ذلك، وفهم المعنى أن لله عباداً طائعين وعباداً عاصين في الجملة، وفي بيان ذلك دليل على أن القول الآخر هو الأصح: أن المغضوب عليهم هم المشركون، وأن الضالين هم الضالون في التأويل من مذاهب أهل الإسلام، والمرتكبون المعاصي على معرفةٍ بها؛ لأنه يجب عليه البراءة من كل عاصٍ لله تعالى، من كل مشرك أو منافق شاقق، أو مؤمن فاسق مرتكب بما يدين بتحريمه، وطريقته ركوب المعاصي على علم بها، ومن كان من مؤمن فاسق عاصٍ لله بالتأويل الباطل متبع، مبتدعاً ضالاً، ومن كل مبتدع ضال فاسق من المؤمنين العاصين لله تعالى، فلا يمكن أن يتبرأ من المشركين فقط، ويترك ما وجب عليه من البراءة من فسقة المؤمنين أهل الكبائر، ولا يسأل النجاة من سلوك طريقتهم ولا يستثنيها، مع سؤاله أن يوفقه سلوك طريق الذين أنعم عليهم بالهداية والتوفيق إلى رضاه عنهم، فصح أن الصواب ما قلناه.
بيــان:
وفي ذلك دلالات على وجوه أحكام البراءة، وعلى أنها فرض، وعلى ما ذكرناه في الولاية، فاعرف ذلك، وبالله التوفيق.