تفسير القرآن عند علماء عُمان
الشيخ محمد بن سعيد الناعبي الكدمي
إعداد: د. ناصر بن محمد الحجري
تعريف بالشيخ أبي سعيد الكدمي:
اليوم نتناول الآثار التفسيريَّة في كتابِ “الجامع المفيد من أحكام أبي سعيد”، للشيخ العلامة الجليل/ أبي سعيد محمد بن سعيد بن محمد الناعبي الكدمي، نسبة إلى كدم إحدى قرى ولاية بهلا.
ولد في أواخر القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع الهجري، عاش ومات بقرية العارض من منطقة كدم (ولاية الحمراء حالياً)، وينتمي إلى الطبقة الخامسة من عُلمَاء عُمَان.
شيوخه ومنزلته:
كان واحداً من كبار عُلمَاء عُمَان المحققين، إلى درجة أنَّه إذا أطلق اسم “أبو سعيد” قصد به هو دون غيره. وتلقى العلم على أشهر عُلمَاء زمَانه، أمثال الشيخ/ محمد بن روح الكندي، والشيخ/ رمشقي بن راشد، والشيخ/ أبو الحسن بن محمد النزوي، وغيرهم من عُلمَاء عُمَان آنذاك. وقد تتلمذ علي يديه مجموعة من الطلاب أصبحوا بعد ذلك من العلماء الكبار، منهم: ابنه سعيد بن محمد بن سعيد الكدمي.
ويعتبر الشيخ/ أبو سعيد الكدمي أحد الذين أثَّروا تأثيراً مهماً في الفقه الإسلامي بعمان، حيث تلقى أقواله وكتبه القبول والرضى من جمهرة الأئمة وجمهور الأمة، وهو المرجع في الفتوى والأحكام عند العمانيين، لما أمتاز به من غزارة العلم والمعرفة.
مؤلفاته:
وقد سجَّل الشيخ/ الكدمي مواقفه وآراءه في كتبه التي وصلنا منها: كتاب المعتبر، وكتاب الاستقامة، وكتاب الجامع المفيد، ودونت عنه جواباته وجمعت تحت عنوان: جوابات أبي سعيد الكدمي، ومن آثاره أيضاً: زيادات الأشراف الذي تعقَّب فيه كتاب الإشراف لابن المنذر النيسابوري الشافعي.
القيمة العلمية لكتاب “الجامع المفيد من أحكام أبي سعيد”:
يُعَدُّ كتاب “الجامع المفيد من أحكام أبي سعيد” من الكتب المهمَّة التي أثرت المكتبة العمانيَّة، لأنَّ مؤلفة قدَّم لنا حصيلةَ معارفهِ المتنوعة، وجَمَعَ فيه أقوالَ العُلمَاء وآرائهم، وناقش الكثير من العلوم المختلفة. وكان كثير الاستشهاد بالآيات القرآنيَّة وتفسيرها، وبيان المراد منها قصد توضيح معاني هذا الكتاب العزيز.
المادة التفسيرية في كتابه “الجامع المفيد من أحكام أبي سعيد”:
وتوزعت المادة التفسيريَّة في أجزاء كتابه بنسبٍ متفاوتة حسب طبيعة الموضوعات التي تناولها في كل جزءٍ، ومن أمثلة ذلك:
* ما ذكره في تفسير قوله تعالى:(إن الدين عند الله الإسلام)، يقول: إنَّ الدين عند الله الإسلام فكل من أطاع الله بدين فإنما هو دين الإسلام، ولا يطاع الله إلا بالإسلام وسوى الإسلام من الدين فهو ضلال وباطل لقول الله تبارك وتعالى:(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، وقال تبارك وتعالى:(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، فلا يعبد الله على الحقيقة إلا بالإسلام من أول الدهر إلى آخره.
* وفي قوله تعالى:(إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)، يقول:”الصلاة هاهنا الدعاء من المؤمنين، والرحمة من الله ومن الملائكة الدعاء والاستغفار”.
* وعندما أشار إلى معنى الهُدَى، ذكر بأنَّ من أنواعه هدى البيان، ففي قوله تعالى:(وأمَّا ثمود فهديناهم)، أي: بيَّن لهم.
* ويقول في تفسير قول الله تعالى:(إنَّ بعض الظن أثم)، إذا ظنَّ الظان ثمَّ استعمله في المظنون، فأما إذا ظن ولم يستعمله فلا إثم عليه. ويقال: إنَّ معنى:(بعض الظن إثم)، أي كل الظن إثم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:”إن أكذب الحديث الظن”، وعنه عليه السلام أنَّه قال:”من كفَّ لسانه عن أعراض النَّاس أقال الله عثرته يوم القيامه”.. .إلخ ما ذكره في تفسير هذه الآية الكريمة.
* وفي قوله تعالى:(ولا يغتب بعضكم بعضا)، يقول في معنى الغيبة:”والغيبة بكسر الغين، وهو أنْ يذكر المسلم بظهرِ الغيب بما ليس فيه، أو بما هو فيه، يريد النقص له، فهو مغتابٌ لهُ، وأمَّا إذا ذكره بما فيه، ولم يرد النقص له فلا شيء عليه؛ لأنَّه قال الحق والصدق.
قال ابن محبوب: الغيبة أنْ يقال في المؤمن من ورائه بما يستحقه أن يقوله في وجهه من الذم، وبما يفعل به، والبهتان أنْ يقول فيه بما ليس فيه.. .. إلخ.
* وفي قوله تعالى:(الذي أحسن كل شيء خلقه)، يقول الكدمي:”قيل: خلق السماء وزنها بالكواكب، وخلق الأرض وزنها بالنبات، وخلق الإنسان وزنه بحسن الخلق، وقال:(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يوراي سوآتكم وريشاً ولباس التقوى)، ففي الرياش أربعة أقاويل: قال مجاهد: المال، وقال ابن عباس: النعيم واللباس، وقول: هو الجمال.
وفي (لباس التقوى)، ستة أقوال:
قول: الإيمان، وقول: العمل الصالح، وقول: القوت الحسن، وقول: خشية الله، وقول: الحياء، والقول السادس: سترة العورة. وروي عن النبي (:”إنَّكم لنْ تسعوا النَّاس بأموالكم ولكن سعوهم بحسن الخُلق”، وقال بعض الصالحين: زين هذا الدين الطاهر بحسن الخلق والسماح”.. . إلخ، واستشهد بالعديد من الأحاديث النبوية، وآثار الصحابة والتابعين وأقوال الحكماء في موضوع حسن الخلق.
* ويقول في تفسير قوله تعالى:(وإذا حييتم بتحيةٍ فحيوا بأحسنَ منها أو ردوها)، فأوجبَ اللهُ على المؤمنين أنْ يردوا السَّلام على من سلَّم عليهم بتحية أو أحسن منها أو ردها، فإن لم يفعل فقد أخطأ، وقيل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :”إذا قال أخوك المسلم: السلام عليك فرد عليه، وعليك السلام ورحمة الله، فإذا قال: السلام عليك ورحمة الله فقل: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته”. وعن الحسن قال: فحيوا بأحسن منها لأهل الإسلام أو ردوها لأهل الشرك.. . إلى آخر ما ذكره في تفسير هذه الآية الكريمة.
* وفي قوله تعالى:(فإن أحصرتم) يقول الشيخ/ الكدمي في تفسيرها:”أي: فإن حبسكم كسر أو مرض أو عدو في إحرامكم، (فما استيسر من الهدي)، فإن أحصر المحرم فليقم مكانه محرماً ليبعث إلى مكة ما استيسر من الهدي ويقيم على إحرامه، ويجعل بينه وبين الذي يبعث معه الهدي أجلاً في ساعة معروفة من يوم معروف فإذا انقضى الأجل وغلب على ظنه أنه قد ذبح عنه حلق المحصور مكانه، وأحل من إحرامه وعليه عمرة أو حجة مكانها قال الله تعالى:(ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله)، يعني: منحره. فإذا حل عنه فليذهب حيث شاء وعليه حجة وعمرة مكانها، وإن فاته الحج من قابل ولا يقرب النساء والصيد إذا نحر عنه الهدي حتى يحج من قابل.
* وعند تفسير قوله تعالى:(وأنَّ المساجد لله)، يقول: المساجد جمع، والمسجد المعروف، والمسجد بالفتح الآراب التي يسجد عليها، وفسر قوله تعالى:(وأنَّ المساجد لله)، قيل هي الآراب التي يسجد عليها، وقيل: المسجد بالفتح مصدر سجد، أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها”، ويقال: المساجد مجالس الكرام، وهي حصن من الشيطان حصين.
يتضحُ لنَا من خلالِ الأمثلة السَّابقةِ غزارةَ المادَّةَ التفسيريَّةَ في كتابِ “الجامع المفيد من أحكام أبي سعيد” للشيخ/ الكدمي، الذي يُعْتَبر مَصْدَراً مُهِمَّاً أثرى المكتبة العُمَانيَّة، لمَا اشتملَ عليهِ من غزارةِ العلومِ والمعارف، وأصبحَ مصدراً مُهِمَّاً لطلاب العلم والمعرفة.
———————-
جريدة الوطن: الجمعة 3 ربيع الآخر 1431هـ الموافق 19 مارس 2010م العدد (9726 ) السنة الـ 40