تفسير القرآن عند علماء عُمان: الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي
من خلال بيان الشرع للشيخ الجليل محمد بن إبراهيم الكندي
إعداد د. ناصر بن محمد الحجري
كما أسلفنا سابقاً فإن المكتبة العمانية تزخر بتراث علمي كبيرٍ في مختلف فنون العلم والمعرفة، حيث ترك لنا علماء عُمَان الكثير من المؤلفات المتنوعة، التي تتميز بالتنوع والتوسع في التأليف، فقد اهتم العمانيون بالكثير من فنون العلم المختلفة، فطرقوا أبوابها، وولجوا ميادينها، وتسنموا ذراها، فأبدعوا في التأليف، وأضافوا الجديد على ما تركه من سبقهم من العلماء.
ولو تأملنا الكثير من فنون العلم سنجد أنَّ اليراع العماني ساهم بشكل فعال في تلك الفنون، وبشكل متقن ومتمكن ينم عن قوة علميَّة، ومَلكَةٍ عقليَّةٍ، فنجد لهم المؤلفات في التفسير وعلوم القرآن، والحديث، والسيرة، والفقه والعقيدة والتاريخ والطب والفلسفة، والفلك وعلوم البحار وغيرها.
الشيخ الجليل محمد بن إبراهيم الكندي:
فألَّفوا في هذه العلوم المختصرات والمطولات من الكتب، والتي زاد بعضها عن السبعين مجلداً، وأقرب مثالٍ لذلك، كتابُ “بيانِ الشَّرع”، للشيخ الجليل محمد بن إبراهيم الكندي. وهو الشيخ أبو عبدالله محمد بن إبراهيم بن سليمان بن محمد الكندي، من أهل سمد نزوى. من أجل عُلمَاء عُمَان في القرن الخامس الهجري.
وقد كانت لمدينة نزوى التاريخية التي نشأ فيها الكندي أثر بالغ في تكوين شخصيته العلمية، لما تتميز به مكانة مرموقة، وكانت تمثل آنذاك إحدى المراكز الفكرية المهمة، حيث كانت تزخر بالعلماء والأفاضل، وتعمر مساجدها بحلقات العلم والمعرفة، وقد انعكست هذه الحياة العلمية على شيخنا الجليل، فأصبح مجداً في طلب العلم، حريصاً على مجالسة العلماء، مما جعله شخصيَّة علميَّة موسوعيَّة، فقد كان ضليعاً في اللغة العربية، وعالماً موسوعياً في الفقه الإسلامي، وعالماً متمكناً في العقيدة والفلسفة والتاريخ وغيرها من العلوم المتنوعة التي تناولها في مؤلفاته.
شيوخه:
تلقى العلم على يد القاضي أبي علي الحسن بن أحمد النَّزَوي، فأصبح عَالِمَاً فقيهاً نبغ في جملةٍ من العُلوم ونظم الشعر. وتتلمذ على يديه الشيخ أحمد بن محمد بن صالح صاحب كتاب “المصنف”. قضى حياته بين التأليف والفتوى والقضاء.
مؤلفاته:
وكان حريصاً على استغلال أوقاته والتفاني في حفظ العلم وتدوينه، من مؤلفاته: موسوعته المشهورة “كتاب بيان الشرع”، فوق السبعين جزءاً، حوى فيها أصول الشَّرع والأحكام والأديان، وله كتاب:”اللمعة المرضية في أصول الشرع وفروعه”، ونظم القصيدة “العبيريَّة” في وصف الجنَّة، وله الأرجوزة المسماة “النعمة” في الأديان والأحكام.
موسوعته “بيان الشرع”:
إنَّ من يتأمل كتاب “بيان الشَّرع” للشيخ الكندي الذي ألفه في أجزاء عديدة زادت عن السبعين مجلداً، يتأكد له أنَّ الكندي كان كثيرَ الاهتمامِ بالقرآنِ الكريمِ وبيانِ معانيهِ، فقدْ حَرَصَ في كتابهِ على كشفِ ما خفيَ من الحقائقِ في مختلف الآيات القرآنيَّة، وسعى إلى بيان المراد منها، بأسلوب واضح لا لبس فيه ولا غموض، قصد توظيفه لعملية الإصلاح، ونشر العلم التي سعى إلى تحقيقها في موسوعته “بيان الشرع”. وقد كان منهجه في تناوله للمسائل أخذ الأقوال من مصادرها الأصلية مع التزام بحسن التثبت فيها.
الآثار التفسيرية في “بيان الشرع”:
وإذا أردنا تسليط الضوء على الآثار التفسيريَّة في كتاب “بيان الشرع”، فيمكن أنْ نقول: إنَّ نظرة سريعة على صفحات الكتاب تؤكد لنا توزع المادة التفسيريَّة في كامل أجزائه التي تزيد على السبعين جزءاً، وقد توزعت فيها آراؤه بنسب متفاوتة بين القلة والكثرة، وذلك حسب طبيعة الموضوعات التي تناولها في كل جزء من أجزاء كتابه، وهو ما يدلنا على أنَّ الشيخ الكندي وزَّع مادَّته التفسيريَّة وكأنَّه يُرِيد أنْ يُرشِدنا أنَّ هذا الكتاب لم يقتصر على الفقهِ والأحكامِ والعقيدةِ، وإنَّما يشتملُ أيضاً على التفسير.
ولم يتناول الشيخ الكندي تفسيره للآيات القرآنيَّة حسب ترتيبها في سور المصحف، وغالباً ما تكون في آياتِ الأحكام باعتبارها المقصود الأول من تأليفِ الكتاب؛ لأنَّ الغرض من تأليفهِ هو الفقه بمعناه الشمولي، فالفقه الإسلامي في نظره ليس مجرد أحكام جامدة، وإنَّما هو سجل للواقع، وصورة للمجتمع بما يحويه من متابعةٍ تفصيليةٍ لوقائعِ الحياةِ اليوميَّةِ للفردِ المسلمِ والمجتمعِ على حدٍ سواء، وتقصٍ لعلاقته المختلفة لصبغها بأحكامِ الشَّرع الحنيف وفق المنهج الذي رسمه القرآن الكريم.
وبذلك يتضح لنا أنَّ من خلال ما نجده في كتاب “بيان الشَّرع” من شمولية لكثير من فنون العلم والمعرفة أنَّ مفهوم الفقه عند الشيخ الكندي لم يقتصر على الأحكام الشرعية فقط، وإنما تجاوز ذلك إلى كل ما يتعلق بالكيان الإنساني بشقيه المادي والغيبي.
فهو يكلم عن الجوانب العقائدية في الآيات التي تتعلق بالعقيدة، كما أنه يسترسل في الحديث عن مظاهر قدرة الله عز وجل إذا مرَّ بالآيات التي تتكلم عن سنن الله في الكون، هذا إضافة إلى ردوده على أصحاب الأديان المنحرفة والفرق الباطلة، مع إبراز دلائل نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشدة الحرص على إظهار صدق رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل ذلك في مجال تفسيره للآيات المتعلقة بالعقيدة.
منهجه في التفسير وعلوم القرآن:
كما أنَّه خصص باباً لتفسيرِ القرآن الكريم تناول فيه بعض العلوم المتعلقة بعلوم القرآن الكريم كأسباب النزول والقراءات والناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم التي تدل على تعدد ثقافات هذا المؤلف وشموليته، وقد اعتمد في كتابه على أمهاتِ المصادر المختلفة، التي أثرى بها موسوعته وخصوصاً فيما يتعلق بالأحكام التكليفيَّة، واستشهد بالكثير من الآيات المماثلة، والأحاديث النبويَّة الشريفة، وأقوال الصحابة والتابعين وأقوال العلماء، وبكلام أهل اللغة والشعر، غير مهملٍ النَّظر والمنطق، وبذلك استطاع أن يجمع بين اتجاهين مهمين التفسير والفقه، وكليهما يمثلان عملاً متكاملاً.
وقد جعل الكندي في كثيرٍ من الأحيان تفسيره للآياتِ القرآنيَّة منطلقاً لبدايةِ الأبوابِ والمسائل، ومثال ذلك ما جاء في الباب الرابع يقول:”الباب الرابع في ليلة القدر، قال الله تعالى:(إنا أنزلناه في ليلة القدر)، يعني: بالقرآن، أنزله الله تعالى جملة واحدة من اللوح المحفوظ فتلقاه جبرائيل وميكائيل فوضعه إلى سماء الدنيا فبلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عشرين سنة، وما أدراك ما ليلة القدر. قال: كل شيء في القرآن، ما أدراك يدريه، وكل شيء في القرآن ما يدريك لم يدر به.. .”، واستمر في تفسيره هذه الآية مستشهداً بأقوال الصحابة والتابعين والعلماء، وموظفاً الكثير من العلوم والمعارف التي تثري هذا الجانب في كتابه.
وأحياناً يجعل تفسير الآية بداية للمسائل، فيقول مثلاً:” مسألة: قال الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)، أي: فرض عليكم الصيام، كما كتب على الذين من قبلكم، وقوله تعالى:(وعلى الذين يطيقونه)، عن ابن عباس: هم الذين يطيقون الصيام، وعن الحسن: أنَّه كان يقول:يطيقون إطعام المساكين (فدية إطعام مسكين). وقيل: إنَّ الإطعام منسوخ وليس على العبد إلا الصيام إن قدر، وإذا لم يقدر فلا إطعام عليه، وعليه بدل ما أفطر إن قدر على ذلك”.
ورغم أنَّ الشيخ الكندي لم يؤثر عنه تفسير كامل للقرآن الكريم، إلا أنَّ ما جمعته من آثاره وآرائه التي احتواها كتابه “بيان الشَّرع” أتاح لي فرصةً للتعرفِ على منهجه الذي سارَ عليه في توضيح مراد كلام الله تعالى، فعندما نحاول تحديد المنهج الذي اتبعه في تفسيره للآيات فإنَّنا نراه لا يقتصر على تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة النبوية الشريفة، وبما أثر عن التابعين ومشاهير العلماء، بل استعمل العقل وأمعن النَّظر في النصوص القرآنيَّة واستعان بعقله في كل ما يعترض سبيله من مسائل، وإلى جانب العقل استعمل اللغة العربيَّة بعلومها المختلفة، إذ لا غنى لمن يتصدى للتفسير عن الاعتماد على تلك الركائز للتوصل إلى معرفة معاني خطاب هذا الكتاب العزيز. ومن أمثلة الآثار التفسيرية في كتابه:
أمثلة على التفسير:
* ما ذكره في قول الله تعالى:(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)، والرفث هو الجماع، وفي قوله تعالى:(فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم)، أفادنا بهذه الآية أحكاماً هي:
الإمساك عن الطعام والشراب.
بوالإمساك عن الجماع.
ومعنى قوله تعالى:(فالآن باشروهن)، أي: جامعوهن، و(ابتغوا ما كتب الله لكم)، يعني بذلك الولد، وذلك بالليل والله أعلم”.
* وفي قوله تعالى:(فإنْ أحصرتم فما استيسر من الهدي)، وذلك المحرم الذي يعرض له المرض أو الخوف فلا يقدر أنْ يمضي ، فإن كان أحرم بعمرةٍ ذهب حيث شاء وهو على إحرامه ويرسل الهدي إلى مكة ويعاهده الذي عنده أنْ ينحر في ساعة معروفة من يوم.
فإذا انقضى ذلك قصَّر وحلق وأحلَّ هو من حيث ما كان إلا النساء والصيد حتى يقضي عمرة مكانها. فإن أفرد بالحج بعث هدياً واحداً وإنْ قَرَن، فقال من قال: بهديين. وقال بعض: هدياً وبه نأخذ.. .”، إلى آخر ما ذكره من أقوال العلماء في هذه المسألة المتعلقة بأحكام الحج.
* ويقول صاحب كتاب “بيان الشرع” في قوله تعالى:(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، يعني: باللسان ليس بالقلب، ولا يكون الذبح إلا بذكر الله، وكل ذبيحة لم يذكر اسم الله عليها فهي حرام”.
* وعند تفسيره لقوله تعالى:(إنَّما الصدقات للفقراء والمساكين)، يقول:”اختلفوا في معنى هذه الآية، فقال مجاهد وعكرمة: المساكين الطوافون والفقراء فقراء المسلمين، وقال قتادة: الفقير الذي به زَمَانَة، والمسكين الصحيح المحتاج، وعن الضحاك أنَّه قال: الفقراء فقراء المهاجرين، والمساكين الذين لم يهاجروا. وفيه قول رابع وهو والله أعلم: أنَّ الفقير من لا مال له ولا حرفة، يقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن، سائلاً كان أو ضعيفاً، والمسكين من لا مال له ولا حرفة لا يقع منه موضوعاً ولا يغنيه سائلاً كان أو غير سائل هذا قول الشافعي، وفي قولٍ خامس: وهو أنَّ المسكين الذي يخشع ويستكين والفقير الذي يتحمل ويقبل الشيء.. .”، إلى آخر ما ذكره حول هذه المسألةِ في تفسير طويلٍ يتجاوز الصفحتين.
* وفي قوله تعالى:(والزيتونَ والرمانَ متشابهاً وغيرَ متشابهٍ كُلُوا من ثمرهِ إذا أثمرَ وآتوا حقَّهُ يومَ حصادهِ ولا تُسْرِفوا إنَّه لا يُحِبُ المسرفين)، يقول الكندي في تفسير هذه الآية:”سمعت بعض المفسرين يقول: كلوا من ثمر النخل الرطب، والعنب والعناقيد، ثمَّ قال:(وآتوا حقه يوم حصاده)، أي: إذا أينع وصار الرطب تمراً يابساً، وصار العنب زبيباً يابساً، وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى:(وآتوا حقه يوم حصاده)، قال بعضهم: الزكاة المفروضة.
وقال بعضهم: بل هو حق غير الزكاة، وقد كان محمد بن محبوب يرى ذلك إلا أنَّه لم يكن يراه في مال اليتيم ولا في مال الغائب.. .”. واستمر في تفسير هذه الآية مستشهداً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، وأقوال الصحابة والتابعين، وآراء المفسرين.
كما نجد الشيخ الكندي حريصاً على الاستفادة من آراء علماء عمان في التفسير، فيقول مثلاً:”سئل أبو سعيد رحمه الله عن قوله تعالى:(وآتوا حقه يوم حصاده)، أهو الزكاة أو غيرها؟ قال: معي أنه قد قيل ذلك، وقال من قال: إنَّه المعرف يوم حصاده، والحصاد هو الجزاز عندي”.
ويتضح لنا من خلال النماذج السابقة غزارة المادة التفسيرية في كتاب بيان الشرع، الذي يعتبر موسوعة كبيرة تجاوزت السبعين جزءاً، أثرت المكتبة العمانيَّة، لما اشتملت عليه من غزارة العلوم والمعارف، وأصبحت مرجعاً مهماً للباحثين من داخل عمان وخارجها.