الباحث فهد بن علي السعدي: نماذج من التفسير في كتب الأثر العماني
تضمّ كتب الأثر أبوابا في تفسير كتاب الله تعالى، وهكذا بين ثنايا المسائل ، وجدير بالباحثين أن يولوها العناية اللائقة بها، وكمثال أحبّ أن أنقل للقراء ما جاء في منهج الطالبين للعلامة الكبير خميس بن سعيد الشقصي ، الذي أصله كتاب بيان الشرع للعلامة محمد بن إبراهيم الكندي (ت:508هـ) ، إلا أن له فضل الترتيب والتبويب: (منهج الطالبين1/208ـ225)
————————–
” القول الحادي والعشرون
في تفسير شيء من القرآن، وذكره، وفضائله
قال الله تعالي: ” وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ” على علم من الله ضلالته، ومعني الضلال هنا الهلاك.
وقال أبو معاوية (رحمه الله) في قوله تعالي: ” بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ” أي: رحمته، وعقوبته، وقوله: ” وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ” أي: بقدرته، وقوله لموسى: ” وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ” أي: ابتليناك ابتلاء، وقيل: واختبرناك اختبارا، ومعناها قريب.
وقوله تعالي: ” مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ” أي: ما عرفوه حق معرفته، وقيل: ما عظموه حق عظمته.
وقوله: ” اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ” المعني: به الهادي لمن في السموات والأرض.
وقوله: ” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ” قيل معني الحجاب، هو المنع عند رؤيته، وليس دونه حجاب يستره.”
” وقوله”وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ”:هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها لله وهي:الجبهة، واليدان، والرجلان، والركبتان فلا يدعوا مع الله أحدا، يقول: لا تضموا هذه الأعضاء السبعة إلا الله.
وقال أبو محمد (رحمه الله) في قوله جل ذكره ” وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ” معني ذلك: معاتبة للنبي (صلي الله عليه وسلم) ونهيا له في أمر زيد بن حارثة (رضي الله عنه).
وقيل: إن زيد بن حارثة: اشتراه رسول الله صلي الله عليه وسلم، من السماء، ثم أعتقه، وكان عنده بمكان.
وقوله الله تعالي: ” وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ” فإرادته، ومشيته على ما يقدر في علمه؛ فإذا جاء وقت الشيء كان كما أراد أن يكون.
“والسوء”: هو الذي كان سبب الإرادة، وهو جزاء عدل؛ فسمي الجزاء بسبب الفعل وهو من قضاء الله تعالي.
مثل قوله تعالي: ” وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ” ومثل ذلك في القرآن كثير.
وأما قوله: ” وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ” وقال: ” إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ” فقيل: أراد بالدعاء: المؤذنين في أوقات الصلاة، ” وَعَمِلَ صَالِحاً “: صلي ركعتين قبل الصلاة.
وقال، ” إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ” أي: من أهل دين الإسلام المقربين الموحدين المعتقدين دين الإسلام دينا لهم، وتبرأ من كل دين سواء”.
” ومثل ذلك، ونظيره: قوله: ” وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ “، والوجه في هذا الموضع: هو الدين، ” وَهُوَ مُحْسِنٌ ” في عمله اللازم له في الدين، ” وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً “، وهو الإسلام. ونظير ذلك كثير في كتاب الله.
منه؛ ما قال الله تبارك وتعالي. ” وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ “.
والإجماع في معني الإسلام: أنه الإقرار بالله تعالي والإيمان، والتصديق برسوله المرسل إلى أهل زمانه، وبما جاء من رسوله إلى كل أمة من الأمم.
فهذا هو دين الإسلام، المفروض الذي لم تختلف فيه الشرائع، وهو أصل الشرائع كلها، وكذلك هو الدين الإسلام على أمة محمد (صلي الله عليه وسلم): الإيمان بالله – تبارك وتعالي – إلها واحدا، وبمحمد نبيا رسولا، وبما جاء به، أنه حق وصدق وعدل.
وقال آخرون في قوله: ” وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ” فهو الداعي إلى الله، وإلى دينه، وعمل بما يدعوه إليه من طاعة الله متي دعا إليها، وعمل بها من رسول، أو نبي، أو صالح، ” وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ” أي: كان مسلما، وليس قوله: أنه مسلم؛ إذا خالف شيئا من الإسلام بدفع له، ولا يجوز له أن يكون عند نفسه: في قوله، وعمله، ودنيته إلا مسلم لله تبارك وتعالي، ويتوب إلى الله في اعتقاده من جميع ما خالف الإسلام الذي دان لله به، واعتقده من قول، وعمل، ونية. في جملة قوله، وعمله، ونيته.
وينبغي أن يحدد ذلك؛ كلما خطر بباله هذا أنه عصي الله بما جهله: بقول، أو عمل، أو نية، ولا يعذر بجهله فيموت على معصيته؛ فيكون هالكا.
وإذا جدد التوبة، ولو لم يقف على الذنب، ويذكره اجزأه ذلك في الجملة؛ ما لم يكن متمسكا بالذنب أن لو ذكره: لم يكن تائبا منه، وكان على اعتقاد الدينونة فيه.
فمن هاهنا أعجبني ألا يعتقد من الأمور دينا على كل حال إلي مالا يشك فيه، وما لم يأت فيه اختلاف يكون فيه ريب؛ لأنه؛ إذا اعتقد في الجملة لله الدينونة بدينه: كان قد دان له بدينه كله.
واعتقاده دينا ما ليس بدين هالك؛ لا يرجى له منها توبة، وكلما تقرب لله بها ازداد منه بعدا، وكلما خاف لقاء بالموت كان أشد تمسكا بها حتى بلقاء على التقرب إليه بمعصيته، ولا يعذره الله في ذلك في ذلك بجهالته؛ لأنه قد كان يمكنه، ويسمه إلا يعتقده دينا بعينه؛ إذا اعتقد الدين في الجملة.
وإن قال: وما أنا من المشركين: فيكون عليه الاعتقاد أنه ليس من المشركين إذا ذكر ذلك في قراءته، أو صلاته، أو خطر ذلك في باله، وأنه برئ من المشركين، ومن دينهم ومن كل شرك في الدين يجحود، أو نفاق.”
” وقال أبو سعيد (رحمه الله) في قوله: ” الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ ” قال: معناه أن المحدود على الزنا من أهل القبلة، لا ينكح إلا محدودة من أهل القبلة على الزنا، أو مشركة من أهل الكتاب؛ كانت محدودة أو غير محدودة، والمحدودة من أهل الكتاب لا ينكحها إلا محدود من أهل القبلة على الزنا، أو مشركة من أهل دينها كان محدودا، أو غير محدود، وحرم ما سوي هذا على المؤمنين، والمحدودة من أهل القبلة لا يجوز لها المشرك على حال من أهل الكتاب، ولا من غيرهم.
وقال: كل ذكر وتسبيح: فهو في معني الصلاة، وهو أصح عندي، وقيل غير ذلك، إلا ما صح في الذكر.
وقيل: كل ما كان في القرآن في صفة الله تعالي كان فمعناه: لم يزل مثل قوله: ” وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً “، ” وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ” وأشباه هذا، وكل ما كان في القرآن: يدريك، فهو لا يدريه، وكل ما كان في القرآن: أدراك، فهو يدريه.
وقال أبو الحواري (رحمه الله): لا بأس أن يمحى القرآن بالبراق.
وقال أبو سعيد (رحمه الله) في قول الله: ” ن وَالْقَلَمِ ” النون: الدواة التي يكتب منها في اللوح المحفوظ، والقلم الذي يمد منها، وقال في قوله تعالي: ” فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ” بلغ معه العمل بطاعة الله، وقال في قوله: ” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ” أي: خلق الدين، وغيره من مكارم الأخلاق، وقوله: ” أَوْسَطُهُمْ ” أي: أفضلهم، وقوله: ” أُمَّةً وَسَطاً ” أي: خيارا.
وقوله: ” وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ” من أهل العهد ما أنفقوا؛ وإذا أتاهم مسلم أخذوا منهم ما أنفق المسلم عليها، وذلكم حكم الله يحكم بينكم وقوله: ” وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا “.
وقوله: ” وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ ” نساء المشركين، وقوله: ” وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا ” فكان المسلمون يعطون من ذهبت زوجته منهم مثل ما أنفقه عليها مما غنموا منهم، وذلك أمر الله فيهم.”
” وقال أبو سعيد (رحمه الله) وقد قيل: إن هذا كله منسوخ.
وقال في قول الله تعالي: ” وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ” أي: لم تقدر عليه البلاء.
وقوله عز وجل: ” وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ” أنهم ثمانية أجزاء من الملائكة، كل جزء مثل الثقلين.
وأما العرش: فالقول فيه كثير، وتسميته العرش: هو السرير، وليس يوصف الله؛ أنه كائن على العرش، وإنما هذه الملائكة يحملونه، وإنما هذه الملائكة قد تعبدهم الله يجعل ذلك العرش، والله قبل العرش، وقبل الملائكة، فما كان في الأول؛ فهو في آخر الأبد.
وقال أبو الحسن بن أحمد (رحمه الله) في قول الله عز وجل: ” فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ” وكذلك في قصة أهل الجنة وما شاء ربك من الخلود، وهي منسوخة، والله أعلم بتأويل كتابه، إلا أنني عزمت أن الاستثناء لا يبطل ذلك، وقد قال الله تبارك، وتعالي: ” لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ “؛ فلم يكن هذا الاستثناء مما يبطل دخولهم، وقد قيل: ” إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ” من هذا اليوم، وذلك يوم القيامة.
وقال أبو سعيد (رحمه الله) في قوله تعالي: ” وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ ” أن الغرور( (1) ): هو الشيطان (لعنة الله)، والغرور بضم الغين: هو غرور الدنيا، وفي قوله تعالي: ” وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ” فقول: هو كل شيء خلقه الله من جماد، وذي روح، قول: هو كل ذي روح.
وقال أبو الحواري (رحمه الله) في قوله تعالي: ” وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ” أي كذبوا له، والتخريق: هو الكذب، وفي قوله تعالي: ” هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ” أن الركز: هو الصوت الخفي والله أعلم أن المعني هل تري منهم من أحد، أو تسع لهم صوتا.”
” وسئل أبو سعيد (رحمه الله) عن قوله تعالي: ” فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ” كيف هذا التبديل؟
قال: إنه يبدل مكان السيئات حسنات مطلقا، ويروي عن عمر ابن الخطاب (رحمة الله) أنه قال: أنا أكثر حسنات من أبي بكر(رضي الله عنه)؛ لأني أكثر منه سيئات، وقال بعضهم: إنه يبدله بعد العصيان التوبة؛ فينقله من السيئات إلي الحسنات.
وقيل في قوله تعالي: ” حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً” فأشده: ثلاث وثلاثون، واستوي: أربعون سنة، ” وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ” هو الشيب، أو لم ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءكم النذير ستون سنة، وقيل: غير هذا.
وفي قوله تعالي:” ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ”فالظالم لنفسه: هو الذي يرتكب الذنوب، والمعاصي، ويتوب، ويطلب المعاش من أمور الدنيا، ومن وجوه الحلال.
والمقتصد: الذي لا يأتي شيئا من المعاصي إلا أنه يتعرض بالشيء من الدنيا لمعاشه، والسابقون بالخيرات: الزهاد، والعباد المنقطعون إلي الله الذين لا يتعرضون بشيء من المعاش من أمور الدنيا.
والأحبار: هم العلماء، والربانيون: هم فوق الأحبار في العلم، وهو اسم للعلماء.
وقوله تعالي:” يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاِغُوت” فالجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف، وقيل: الجبت- كل معبود من دون الله، وقيل: إن الجبت: السحر، والطواغيت: الشياطين وقيل: الطاغوت: أصنام، والطواغيت من الجن، والإنس: شياطينهم، ويكون واحدا وجمعا.
وقال أبو المؤثر (رحمة الله) في قوله تعالي: ” وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى”أي سكن.”
” فصل:
واختلف الناس في تأويل أوائل السور مثل: الم، المص، والمر، والر، وحم، حمعسق، ونحو هذا.
فقال قوم: هي أسماء للسور، وافتتاح لها، وقال قوم: أسماء للسور، وابتداء لمن يقرأها.
وقال قوم: ليس كذلك؛ لأن القرآن ليس فيه شيء لا معني له، وهذه الأسماء لمعان.
وقال بعضهم: إنها حروف، وإذا وصلت كانت هجاء لشيء يعرف معناه. ويروي عن عكرمة أنه قال: الم قسم.
وعندي- والله أعلم- وعلي نحو ما سمعت: أن لهذه الحروف معاني تبدأ بها السور، ويعلم بها: انقضاء ما قبلها، وأن القارئ قد أخذ في قراءة سورة أخري، وهذا معروف في كلام العرب، وأن الرجل منهم ينشد فيقول: بل وبلدة:
يقول:
بلْ ما ماجَ أحزانا وشجاً ما قد شُجي
[فيقول: بل] وقوله: بل- ليس من الشعر، ولكن أراد أن يعلم أنه قد قطع كلامه، وأخذ في غيره، وأنه مبتدع للكلام الذي قد أخذ فيه.
وقال قوم: كانت العرب تعرض عند قراءة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) استقلالا له؛ فجعلت هذه الحروف عند أوائل السور، لتكون سببا لاستماعهم لما بعدها؛ ليستغربوها، وتتعلق أنفسهم بها، وإذا كان هذا في اللغة التي خوطب العرب عليها: جاز تأويلها. والله أعلم.
وقال قوم: كانت الحروف المقطعة يجوز أن يكون الله تبارك وتعالي أقسم بها كلها، فاقتصر علي ذكر بعضها عن ذكر جميعها، فقال: ألم، ولم يرد جميع الحروف المقطعة: كما يقول القائل: تعلمت العرب ألف با تا ثا، وهو يريد تعلمت جميع الحروف لا هذه الحروف الأربعة وحدها، ولكنه لما طال أن يذكرها كلها- اجتزأ يذكر بعضها، والله أعلم.”
” فصل:
فإن قال قائل: ما معني قول الله- ” الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً”. يقول: إنه لم يكن علم قبل ذلك عندما ألزمهم من الفرض الأول؟ قيل له: هو عالم بما كان، وما يكون، ولا يخفي عليه شيء ولكن لما كان المسلمون أقلاء في صدر الإسلام: وكانت نياتهم أقوي- فرض عليهم الفرض الأول بقوة نياتهم، ولما كثر الإسلام، وكان الحرص علي قتال العدو ضعيفا- خفف الله المحنة عليهم، وألزمهم هذا الفرض الثاني والله أعلم.
واحتج قوم بأن الله لا ينقل العباد من تخفيف إلي تثقيل بأمره إياهم بقتال المشركين، بعد أن كانوا بذلك غير متعبدين، فقال: ” إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً”؛ فقد صاروا بالتخلف عن القتال غير متوعدين، بعد أن كانوا غير مأمورين.
وقال أبو سعيد (رحمه الله)، في قول الله تعالي :” وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً” وذلك قيل في الداين بالضلال يعمل بدين، ويجتنب بدين، ومجتهد في ذلك.
وأما قوله:” أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ” قيل هذا الذي يرتكب ما يدين بتحريمه، ويتجاهل، ويعمل بالمعاصي بغير دين، والله أعلم بتأويل كتابه.
وقال سعيد بن قريش في قوله تعالي:” وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ” أنه ماء الذكر الذي جعله الله سببا لتناسل الحيوان.
وفي الأثر بخط أبي سعيد(رحمه الله) في قول الله تعالي:” وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ”، الآية : فقد قيل: إن ذلك في الفرار من الزحف في الحرب، وقيل إنها نزلت في يوم أحد، وقيل إنها ثابتة لم تنسخ إلي يوم القيامة، وقيل إنها نسخت بقول الله تعالي:” إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ”، وقيل نزلت في يوم أحد، وذلك بعد وقعة بدر، وقد قيل: إن الأول عام، وقيل: إنه خاص في العفو عند التوبة. وهذا أحب إلينا.
وفي قوله الله” مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ”.
فالمهطع: هو المستسلم، والمقنع: هو المنكس رأسه، والهواء: هو الخلاء من الشيء، فقلوبهم خالية من الإيمان بمنزلة الهواء، لا شيء فيها.”
” وفي قوله تعالي:” وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غمراك المَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ “.
فقيل: إن ذلك عند خروج روح الإنسان.
وفي قوله تعالي: ” فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ “: أي ذلك عند فاتحة الكتاب في الصلاة المفروضة، وقيل: ذلك في النوافل.
وفي قوله: ” يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ” فإن هذا ليس بعام؛ لأن والد نبينا محمد (صلي الله عليه وسلم) كان مشركا.
وقوله: ” رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ “؛ فقد قيل: لوالديه، ولو إلى آدم، وفي قوله تعالي: ” وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ” فهذا ومثله يخرج على الخاص من كان والده مسلمين؛ ولو كان إلى آدم وحوا.
وقوله تعالي: ” وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ” فقد قيل: إنه يوم القيامة، وقيل: إن الورودها هنا النظر.
وفي قوله: ” وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ “، فقيل، إن الأعراف جبل بين الجنة والنار.
وفي قوله تعالي: ” قَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحِسَابِ ” فقيل: إنه قبل الموت.
وفي قوله: ” الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ “، فقد قيل: إن الطيب من القول للطيب من العباد، والخبيث من القول للخبث من العباد، والله أعلم بتأويل كتابه.
وفي قوله تعالي: ” فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً “، فقد قيل: المساجد وغيرها من البيوت.
وفي قوله تعالي: ” لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ ” إلى أخر القصة، فأما في الفتح، وفي النور غير الأكل فيما قيل من الجهاد.
وفي قوله تعالي: ” قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ “، فقد قيل: صاغرون. “
” وفي قوله: ” إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ ” الآية، فقد قيل هذا في العذر عن الهجرة الذين لا يستطيعون حيلة على الخروج من الضعف من البدن، والمال، ” وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ” أي طريقا.
وفي قوله تعالي: ” وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ” إلى أخر القصة، فقد قيل ذلك العاصي من المقرين؛ أنه لا تنفعه توبته من بعد أن يعاين ملائكة الموت، فلا ينفع الكافر إيمان عند الله؛ إذا لم يكن آمن من قبل فهو كافر، وقد مات على كفره، وقد وجدت أنه الإصرار على الذنوب، كذلك قوله تعالي: ” وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ” فقد قيل: إنه من يموت على شركه.
وفي قوله تعالي: ” وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ “، فقد قيل: إن ذلك في النساء والصبيان، لا يملكون ما يكون به العون على الطاعة، من الأموال فيبذرونها، ويتلقونها فيكون ذلك ضياعا للمال.
وفي قوله تعالي: ” وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ “؛ فقد قيل: إنه دين الإسلام، وهو صراط الله المستقيم، والسبل: غيره هي أديان الضلال من اليهودية، والنصرانية، وغير ذلك من أديان الضلال.
وفي قوله: ” إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ “؛ فقد قيل: ما بين الصلاتين المفروضتين؛ إذا أدهما العبد؛ فهو كفارة لما بينهما من السيئات دون الكبائر، والإصرار على الصفائر، وقد قيل: إن الحسنات هي التوبة، والسيئات هي المعاصي، والتوبة تذهب المعصية، وكل ذلك يخرج على تأويل الحق.”
” وقوله تعالي: ” هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ ” أنهم الملائكة الذين يقبضون أرواحهم، ” أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ” يعني: أمر ربك، ” أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ” قيل: خروج الدابة، وطلوع الشمس من المغرب. ” يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ ” وهي المشركة التي لم تؤمن بالله، أو كسبت في إيمانها خيرا، وهي المصرة على الذنوب.
وفي قوله تعالي: ” وَلاَ يَرْهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ “، أي: ولا ينشاهم كسوف، ولا كآبة، وكذلك في قوله: ” تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ” أي: ينشاها كسوف.
وفي قوله تعالي: ” وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ” قيل: هو الشيطان، وقيل: هو المشرك.
وقوله ” أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ” قيل: أحكمت بالحلال والحرام، والأمر والنهي، وفصلت بالوعد والوعيد.
وسئل أبو سعيد رحمه الله عن قول الله تعالي: ” وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ ” قال معناه: إذا جاء أمر الله من الموت والهلاك فزعوا منه؛ فلا يقولون في فزعهم أمر الله تبارك، وتعالي، والهلاك، قيل له: فقوله تعالي: ” وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ ” أهو عند الموت؟
يقولون: أنهم آمنوا بالله ورسوله؟ قال: هكذا عندي؛ إذا جاءهم أمر الله آمنوا؛ هو عند الموت يقولون: إنهم آمنوا بالله، وبرسوله قال: هكذا عندي؛ إذا جاءهم أمر الله آمنوا بالذي كانوا يكفرون به؛ مما دعوا إليه، وتدبوا له.
فقيل له: فقوله: ” وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ” فقيل: إن التناوش، هو التناوش، والتعاطي. وفي كلام العرب: تناوشه؛ إذا تعاطاه، ولا يناله، أو يناله على التماطي له، والمعني: وأني لهم التناوش من مكان بعيد، أي: كيف لهم؟، أو متي لهم البلوغ إلى الإيمان، وقد كفروا بالتوبة، وأصروا على الذنب.
قيل له: وقوله تعالي: ” وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ “: ما كانت شهواتهم في حين ذلك؟ قال: يشتهون التوبة أن ينالوها.”
” وسئل عن قوله تعالي: ” مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ” قال: قد قيل: إن زيد بن حارثة كانت منزلته من رسول الله منزلة الولد من الوالد؛ حتى إنه كان يسمي ابنه، وطلق زوجته زينب كرامة لرسول الله (صلي الله عليه وسلم)؛ فتزوجها، فتكلم اليهود، وأهل النفاق، وقالوا إن محمدا يحرم زوجة الابن، وهو يأخذها، فنفي الله ذلك عنه، وقال: ” مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ “، ” وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ “، وقال: ” وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ “.
وقال أبو عبدالله في قول الله تعالي: ” وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً ” المعني: إلا أن يبتلي بقتله خطأ فعليه، قال الله: “وَلاَ إِثْمَ عَلَيْه”، ولم يجعل الله له أن يقتله خطأ، وقال: ” فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ” قال: هو أن يكون رجل مؤمن يقتل رجلا مؤمنا خطأ، وورثة المقتول من أهل الحرب، فلا يلزم إلا تحرير رقبة كما قال الله تعالي.
وقيل: إن المهيمن: هو المؤتمن، والشرعة: السنة، والمنهاج: السبيل.
وقوله تعالي: ” يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ” قيل: ناس من أهل اليمن.”
” وقال أبو سعيد (رحمه الله) ” لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ” أي: عهدا، ولا جوارا، ولا قرابة، وأما قوله تعالي: ” لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ ” من وجه الحلف، والمعاهدة، لا من جهة الإيمان بالدين، والإيمان بالله، وأما قوله تعالي: ” لأَعْنَتَكُمْ ” لضيق عليكم في أمر اليتامى، فتأتمون.
وقال أبو سعيد (رحمه الله) سمعت أنه قيل: أول ما أرسل به رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قوله تعالي: ” يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ” والمدثر: هو النائم، ” وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ” قيل كانت ثيابه نجسة، فأمر بطهارتها، وقيل: أراد بالثياب: القلب، ” وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ” الشيطان، وقيل الشرك.
وقال أبو سعيد (رحمه الله) في قوله تعالي: ” الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ” ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه، وفضلا: أن الفضل هاهنا العني في الدنيا، والمغفرة في الآخرة، وقال في قوله تعالي: ” إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ “( (1) ) : أي أبتر من خير الدنيا والآخرة، وسئل عن قوله: “طه” قال: أحسب أن بعضا يقول: يعني بها النبي (صلي الله عليه وسلم) يا رجل؛ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي، وبعض يقول: طه – مكة. وقال في قوله: ” رَقِيبٌ عَتِيدٌ ” أي شهيد حفيظ.
وأعلم أن كل موضع من كتاب الله تعالي “ذلك” فبمعني هذا، وكل موضع فيه “كل ذلك” فهو هكذا. وكل موضع فيه “أولئك” فهو هؤلاء.
وقال الله تعالي: ” وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ ” ؛ فاللام من لما صلة، والمعني فيه “ما يتفجر، وأن منها لما يهبط من خشية الله” اللام في لما صلة أيضا؛ وقوله تعالي: ” وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ” يعني: لقد كان، وكذلك بمعني إن كادوا.”
” وعن أبي سعيد (رحمه الله) في قوله تعالي: ” لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ، إِيِلاَفِهِمْ ” الآية. قال: أمرهم الله أن يتألفوا على طاعته، وعبادته؛ كما يتألفون لرحلتهم في الشتاء، والصيف. لأنهم كانوا يمتارونهم من الشام، ويرحلون لشتاء رحلة، وللصيف رحلة، وقال: بعض هذا قسم أقسم بالله به.
وقال أبو سعيد (رحمه الله): يروي أنه لما كان من أمر موسى، والخضر (عليهما السلام)، وأرادا الافتراق نزل عليهما طير من السماء إلى البحر، فأخذ بمنقاره من البحر، فقال الخضر لموسى (عليهما السلام): أتعرف هذا الطير؟ وما يراد به؟ قال موسى: لا أعرف ذلك. قال: هذا أرسل إلينا؛ ليعرفنا أن جميع علم خلق الله من أهل الأرض وغيرهم مثل ما احتمل منقاره من البحر، ولا يبلغ ذلك.
وقال أبو سعيد (رحمه الله) في قوله تعالي: ” كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً “: قيل: على معرفة الله تبارك وتعالي، وقيل: على الشرك، وفي قوله تبارك وتعالي: ” فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ” قال: فطرهم على معرفته تبارك وتعالي، وقول الله تبارك وتعالي: ” لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ” معناه: تقطع في نار جهنم.
وقال أبو سعيد (رحمه الله) في قول الله: ” لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ” أن الجهد (بضم الجيم): هو من عرض المال، والملك، والجهد: (بفتح الجيم): طاقة النفس.
وقال الله تعالي: ” لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ “: قال: لا يحب الله الابتداء بالسوء من القول إلا من ظلم؛ فله أن يكافئ، كما قال: ” وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ “، وقال بعضهم: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء، ولا من ظلم يقول ومن ظلم لا يتعدى إلا في هذا الموضع؛ ألا تري إلى قوله: ” لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ” يقول والذين ظلموا منهم ( (1) )، ويؤكد هذا قوله: ” وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ” يقول: وما سلف فرقوا بينهم، وفي قول الله تعالي: ” خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ” قول: بعمد، وقول: بعمد لا ترونها.”
” وقال أبو سعيد (رحمه الله) في قوله الله؛ ” فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ” أنه بعث عليكم أهل الشرك من الروم، فأحرقوا، وقتلوا، وقوله: ” فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ” أي: دخلوا.
وقال محبوب (رحمه الله) في وقل الله ” لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً “: أنها نزلت في أبي أيوب الانصارى (رحمه الله) إذ قالت له امرأته: ألا تسمع يا أبا أيوب – ما يقول الناس في عائشة؟ فقال لها أبو أيوب: أو كنت فاعلة ذلك؟ فقالت: لا. والله، فقال لها: فعائشة خير منك، أو قال: سبحان الله؛ هذا بهتان عظيم.
وقال أبو سعيد (رحمه الله): لا أعلم في القرآن وكم أهلكنا من قبلهم إلا في سورة الأنعام، وص، ولا يهمز في القرآن إلا ألف أو باء، أو واو.
فصل:
قال الله تعالي: ” وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً ” هم المؤمنون إذا دخلوا جناتهم صاروا على طول أبيهم آدم (صلي الله عليه وسلم) ستين ذراعا، وعلى سن عيسى ثلاث وثلاثين، وعلى لسان محمد (صلي الله عليه وسلم) وعليهم أجمعين بالعربية، وعلى صورة يوسف في الحسن، والجمال، وعلى قلب أيوب في السلامة من الغل ثم تعلو وجوههم على قدر أعمالهم.
ويقول: ” وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً ” من النبي، والسخط والظن، وأشباه [ذلك] الذي يكون في قلوب بني آدم بعضهم لبعض، وأما: ” إِخْوَاناً ” فهم المؤمنون، والمؤمنات الذين ذكر الله بعضهم أولياء بعض.
وفي قوله تعالي: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ “، فزعم بعض الفقهاء أن الرجل يسمع من أخيه كلاما لا يريده به، فيدخل مدخلا لا يريد سواء فيرميه أخوه المسلم، فيظن به سواء، فإن لم يتكلم، ولعله يفعل؛ فلا بأس به؛ ولكن هو ذنب، فإن تكلم به كان آثما، ثم قال: ” وَلاَ تَجَسَّسُوا ” يقول: لا يبحث الرجل عن عيب أخيه المسلم؛ فإن ذلك معصية، ولكن يستر عليه، ويأمره بالتوبة في السريرة.
وفي قوله تعالي: ” وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ” أنه سأل ربه أن يجعله معلما.
وفي قوله: ” وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً ” أي: مطالبا به، ” وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ ” أي: لاهلككم، في مخاطبتكم، والعنت: الهلاك.
ومختلف في المثاني، فقيل. فاتحة الكتاب مع بسم الله الرحمن الرحيم، وهو قول: ابن عباس، وقيل المثاني: القرآن جملة، وقيل: هو السور القصار.”
” إِذَا بَلَغَ أَشُدَّه، وَاسْتَوَى ُ ” أي صار رجلا، وقال ابن عباس: الأشد ما بين ثلاث عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، ثم هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين شدته، فإذا بلغ الأربعين: أخذ في النقصان.
وفي قوله: ” .. . لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ” أي: داع إلى الله.
وقوله: ” فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى “.
قال ابن عباس: الأولي قوله: ” مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ” والآخرة قوله: ” أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ” في قوله: ” رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ “.
قال ابن عباس: مع أمة محمد (صلي الله عليه وسلم).
” وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ” أي: حذاءهم، أو قدامهم، والبرزخ: قيل هو القبر؛ لأنه بين الدنيا، والآخرة، وكل شيء ما بين شيئين فهو: برزخ، ” وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ “، والشكر أن تطيع الله بجميع جوارحك.
قوله: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً ” قيل: نزلت في اليهود آمنوا بموسى ثم كفرا بعبادتهم العجل، ثم آمنوا حين رجع إليهم موسى، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا برسول الله (صلي الله عليه وسلم).” انتهى ما أردت نقله.
————————
كان ما نقلته سابقا في التفسير الخالص لكتاب الله تعالى. وفي بقية الباب حديث شيّق في علوم القرآن الأخرى .
ولهذا أرى أن يكون هنالك اهتمام بكتب الأثر ــ في ظل غياب التأليف الخاص في هذه المواضيع عند العمانيين ــ التي تورد هذه العلوم في ثناياها.
نعم هنالك بعض الكتابات التي ظهرت حديثا وناقشت بعض المواضيع، من ذلك :رسالة ماجستير للفاضل/سعيد الصوافي في علوم القرآن من خلال جامع ابن بركة، ورسالة دكتوراة للأستاذ راشد الدغيشي في علوم القرآن من خلال بيان الشرع.
وأول الغيث قطرة ، والخير قادم في الطريق إن شاء الله .