عنوان الحلقة “الحياء”
مقدم البرنامج: أعزائي المستمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم في هذا اللقاء الجديد من برنامج “دين الرحمة”، وكالمعتاد مجموعة من المواضيع المختلفة، هذا اليوم موضوعنا عن “الحياء”.
ما هي أسباب اختياركم لموضوع الحياء فضيلة الشيخ؟؟
الشيخ كهلان: في بداية هذا اللقاء لي كلمة قبل أن ندخل في موضوع الحياء، وبيان الأسباب التي أدت إلى اختياره، وهذه الكلمة هي تهنئة بمناسبة مرور عامٍ هجري على هذا البرنامج، فقد ابتدأ هذا البرنامج قبل عامٍ تقريباً في العشرين من ربيع الثاني من عام ألف وأربع مائة وثمانية وعشرين هجرية، وامتدت حلقاته لتكون خمسين حلقة في خمسين أسبوعاً من أسابيع السنة الهجرية.
فنحن نحمد الله سبحانه وتعالى على أن مكننا من التواصل مع المستمعين في هذه القيم الإنسانية التي تعرضنا لها في ثنايا برنامج ” دين الرحمة”.
ونحمده كذلك على الصدى الطيب الذي لمسناه من الإخوة والأخوات الذين يتابعون، وأنا أدين بالشكر الجزيل لكل الإخوة في الإذاعة وفي برنامج القرآن الكريم الذين كانت لهم في الحقيقة أيادي بيضاء على نجاح هذا البرنامج من طاقم إداري وفني، ومن مخرج، ومن مذيعين بارك الله في جهودكم.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الأجر والثواب، وأن يمكننا من الانتفاع من هذه المذاكرة – هي في الحقيقة مذاكرة كما قلنا في طوايا حلقات هذا البرنامج منذ الحلقات الأولى -، ونحمد الله عز وجل على أن يسر لنا أيضاً أن نتعرض لقيمٍ في هذا الدين يحتاج إليها الناس اليوم في واقعهم، ونبهنا إلى بعض المفاهيم التي احتجنا إلى أن نصحح فيها بعض المفاهيم، ولعل فيما دار من أحاديث ومشاركات كان هناك تذكير من غفلة.
مقدم البرنامج: لا شك أن هناك الفائدة العظمى، وهذا فعلاً ما لمسناه من خلال تواصل المستمعين معنا، ومشاركتهم، وإبدائهم أيضاً لمجموعة من الملاحظات التي ستُؤخذ بإذن الله مأخذ الجد، وهذا طبعاً دوركم فضيلة الشيخ بارك الله فيكم.
الشيخ كهلان: والحقيقة المشاركات نحن في الحلقات الأولى من البرنامج ما كان الناس يتصورون طبيعة هذا البرنامج، فهم بين برامج مسابقات جماهيرية، وبين برامج فتاوى على الهواء مباشرةً، بينما طبيعة هذا البرنامج كانت مختلفة، لكن بحمد الله تعالى تمكن الناس من استساغة هذا البرنامج، ومن المشاركة فيه بفاعلية، وبلغت المشاركات مبلغاً مرضياً بحمد الله.
مقدم البرنامج: ندخل في موضوع حلقتنا لهذا اليوم ” الحياء”، وتوجد طبعاً أحاديث نبوية كثيرة تتحدث عن الحياء، ولعل أبرزها ” الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، و وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان”
شيخ كهلان ما هو مفهوم الحياء؟؟
الشيخ كهلان: أنا لم أتطرق بعد لجواب سؤالك الأول في الحقيقة بسبب هذه الكلمة البسيطة، كما ذكرت – بارك الله فيك – في الحديث الحياء هو من صميم قيم هذا الدين، وبالتالي فليس غريباً أن نتعرض له في برنامج دين الرحمة.
الحياء هو ستر العفاف، وهو عنوان الشرف والعزة، وهو دليل المروءة.
والحياء من الخصال التي دعا إليها هذا الدين مع كونه فطرةً وطبعاً لدى كثيرٍ من النفوس إلا أن هذه الشريعة السمحاء جاءت لأجل تزكية هذه الطبيعة وتلكم الفطرة، ولأجل الارتقاء بها إلى مدارج الكمال البشري المنشود؛ ولذلك جاء بالحياء ليغلف منظومة القيم في هذا الدين بثوبٍ – كما قلت – من المروءة والكرامة والعزة، ولتتسع قيمه، ولتتسع ظلاله فتشمل كل ما يتناوله الإنسان في هذه الحياة من أخلاقٍ ومن قيمٍ يتعامل بها ويرتضيها لنفسه، ويتعامل بها مع غيره من الناس بمختلف أصنافهم وأنواعهم وخلفياتهم وثقافاتهم؛ ولذلك كان هذا هو السبب في اختيارنا لهذا الموضوع، وسوف نتعرض فيه للمجالات التي يكون فيها الحياء.
سوف نتعرض فيه بمشيئة الله تعالى أيضاً لآثار الحياء في المجتمع.. آثار الحياء في سلوك الناس رجالاً ونساءً، مع تركيزنا على الجوانب العملية التي طالما ركزنا فيها في هذا البرنامج مما يحتاج إليه الناس في واقعهم.
مقدم البرنامج: إذاً فعلاً مجتمعٌ ينقصه الحياء هو مجتمعٌ ينقصه الكثير.
الشيخ كهلان: نعم ينقصه الكثير كما سوف نبين، وسوف نتعرض صراحةً لبعض الآثار السلبية التي تظهر حينما يرتفع ستر الحياء من أخلاق الناس ومن واقعهم.
*******************************
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان”.
مقدم البرنامج: من خلال ما نستفيده من هذا الحديث النبوي الشريف الذي تابعناه سوياً في هذا الفاصل أيضاً مرةً أخرى أسأل عن الحياء، وما منزلته في الدين؟؟
الشيخ كهلان: الحياء أولاً هو معروفٌ لدى الناس، الحياء هو ذلكم الشعور الذي يمكن أن يُعبَّر عنه بالانكسار والتغير النفسي الذي يعتري الإنسان من الخوف مما يُعاب، أو من ارتكاب فعلٍ يُعاب.
مقدم البرنامج: هو جانبٌ أخلاقي.
الشيخ كهلان: لا شك، هو أساسه ومبعثه خُلق هذا الإنسان، حتى أن كثيراً من أهل العلم حينما تعرض للحياء قرر-كما سيأتي في بعض الأحاديث النبوية وفي هذا الحديث الذي استمعنا إليه- أن الحياء هو خُلق هذا الدين.
هناك رواية سوف نأتي إليها بمشيئة الله تعالى يقول فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” لكل دينٍ خُلق، وخُلق الإسلام الحياء”.
وهذا الحديث الذي استمعنا إليه حينما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق…” ثم قال: “…والحياء شعبةٌ من شعب الإيمان”.
في هذا الحديث نجد أصنافاً ثلاثة ينقسم إليها الدين:
إلى التوحيد الذي هو رمز العقيدة، وعُبِّر عنه بأفضل الشعب الذي هو قول لا إله إلا الله، فهي أساس العقيدة الثابتة الراسخة الصافية التي يدين بها المسلم لربه تبارك وتعالى، ثم هناك أعمال عبادات، وأعمال عُبِّر عنها بأقلها شأناً وهو إماطة الأذى عن الطريق، ثم هناك أخلاق وعُبِّر عنها بالحياء.
فإذاً في هذا الحديث هذه الشعب التي مثل بها رسول الله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعدد أنها بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستون شعبة مُثِّل لكل شُعب الإيمان بمثالٍ واحدٍ لها، فالعقيدة بأعلاها، ولا بد أن يُمثل للعقيدة بأعلاها..
مقدم البرنامج: بالتوحيد.
الشيخ كهلان: نعم بالتوحيد، والأعمال بأقلها؛ حتى يندرج تحتها كل ما كان أعلى منها، فإماطة الأذى عن الطريق حتى لو بركلة قدم حينما يبتغي بها إزالة الأذى عن طريق الناس.. عن طريق المارة ينال بها الأجر والثواب فهي من العبادات، ثم عُبر عن الأخلاق بالحياء، وأيضاً اختيار الحياء ليكون رمزاً لقيم هذا الدين وأخلاقه فيه من الدلالات والمعاني ما فيه؛ ولذلك ركز رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في جملةٍ من الأحاديث الصحيحة عنه على خُلق الحياء.
ولو ذكرت بعض الأحاديث وسوف نستمع لغيرها بمشيئة الله تعالى، لكن الحديث الذي ذكرته بدايةً وهو” لكل دينٍ خُلق، وخُلق الإسلام الحياء” هو مما يدعو المسلم إلى أن يتأمل فعلاً في هذا الخُلق النبيل.
مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ إن الإنسان تواجهه ظروف سلبية في هذه الحياة فيستحي أن يخوض غمار شيءٍ معين، وقد يعود إليه هذا الشيء بالنفع، أو يتأخر عن مجالٍ معين من باب الحياء، فمن هنا يعتبره الناس صفة سلبية تحتاج إلى علاج، ويرون أن الحياء يمنع من ظهور الشخصية، وأنه كبت للغرائز، بماذا نفسر ذلك؟؟
الشيخ كهلان: للأسف هذا تفسيرٌ خاطئٌ، وفهمٌ غير صحيحٍ، وغير دقيقٍ للحياء.
الحياء خيرٌ كله وهذا حديثٌ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ” الحياء خيرٌ كله “، وفي رواية ” الحياء لا يأتي إلا بخير”، لكن القضية هي في الفهم الصحيح لهذا الخُلق النبيل.
الحياء كما قلت بدايةً إن كان في ظن البعض أنه يعني الجبن، فإنما هو جبنٌ عن الوقوع في المعاصي، وإن كان في ظن البعض أن الحياء إنما هو دلالةٌ عن الخوف فإنما هو خوفٌ من الله سبحانه وتعالى من أن يقع المرء فيما يسخط ربه تبارك وتعالى، وإلا فإن الحَيِيَّ الذي يتسم بصفة الحياء رجلاً كان أو امرأة إنما يتزر بإزار الخوف من الله سبحانه وتعالى، وبلباس التقوى، وينبعث في قيمه ومبادئه من المروءة التي زكتها قيمةً نبيلةً تعاليم هذا الدين الحنيف.
مقدم البرنامج: ولو لم يكن للحياء هذه المنزلة العظيمة لما عُبِّر به عن الأخلاق .
وهناك أيضاً حديثٌ نبويٌ شريف يقول ” إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت”.
الشيخ كهلان: نعم هذا حديثٌ نبوي ونصه ” إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت”، كيف ذلك؟؟
ذلك يكون إما إذا حُمل الحديث على سبيل الإخبار وهو إن كان على صيغة الأمر ” فاصنع ما شئت”، “… إذا لم تستح فاصنع ما شئت” إلا أنه خبرٌ في صيغة الأمر، فإذا حمل على معنى الإخبار فإن المقصود أنك إذا كان الفعل الذي تريد أن تأتيه مما لا يُستحى منه فإذاً لا حرج عليك في أن تفعله، واضح؟؟
” إذا لم تستح فاصنع ما شئت” أي – أنه إذا كان الفعل فانظر في الفعل الذي تريد أن تأتيه، هل تستحي منه؟؟
فإن كنت لا تستحي منه فاصنعه.. فقم به، هو إخبار على صيغة الأمر -.
سوف نأتي أيضاً إلى أن هذا الحديث يشتمل على الأحكام التكليفية الخمسة نجدها في هذا الحديث.
أي – المأمور بفعله يستحي المرء من أن يخالف الله عز وجل بترك المأمور، فإذاً هو يستحي من ترك المأمور وبالتالي عليه أن يفعل المأمور به فدخل في ذلك الواجب والمندوب، طيب بالنسبة للمحرم فعله.. المحرم إتيانه يُستحى من ارتكابه؛ ولذلك فعليه أن يكف نفسه عن إتيانه وهذا هو المحرم، والمباح إنما هو بحسب النية من فعله أو من تركه –.
وسنأتي إلى معنى التهديد أيضاً، ففي الحديث أيضاً معنى التهديد، لكن تُشير إلى اتصال.
مداخلة متصل: بعض الناس يظنون أن الحياء هو عنوان الجبن والخوف، لكن هو في حقيقة الأمر من الإيمان، ولكن نجد بعض الناس عندما يرون من يلتزم بالحياء في واقع حياته كأن يتجنب مخالطة النساء وغير ذلك يسخرون منه، كما نجد بعض النساء لا يلتزمن بالحياء فيتصرفن تصرفاتٍ غير لائقة نحن رجال ونستحي من تلك الأمور.
مقدم البرنامج: أخي أحببت أن أسألك سؤال في جانب آخر من جوانب الحياء وهو: إذا كان الإنسان لديه أولاد ويحب أن يربيهم على الحياء فأي أسلوب عليه أن يتبع من وجهة نظرك؟؟
المتصل: يتدرج معهم، ويكون لأولاده كالصديق، فالبنت تكون مع أمها، والذكور يكونون مع أبيهم، ويتبع معهم أسلوب الترهيب والترغيب، فلا يقسوا عليهم ولا يلين بدرجة كبيرة، بل عليه أن يتوسط في تربيتهم.
مقدم البرنامج: ذكر الأخ المتصل مجموعة من الجوانب.
الشيخ كهلان: نعم، وسوف نتعرض لها، لكن أعود لحديث ” إذا لم تستح فاصنع ما شئت” جانب التهديد هذا الجانب الذي حمله الكثير من أهل الحديث .. حمل عليه الحديث ، منهم من يرى أن في الحديث تهديداً لهذا العبد؛ بأنك إذا نزعت الحياء عنك فإنك تصنع ما شئت والله تعالى يجازيك على فعلك، أي – فيه معنى التهديد من باب { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }(الدخان:49) ، وهذا غاية التهديد الذي نجده في الأدلة الشرعية من كتاب الله عز وجل، ومن سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – كما في قوله تعالى {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }(الإسراء:14).
فإذاً إذا كان الحياء بهذه الأهمية، وهذه هي منزلته ( الحياء من الإيمان، والحياء خُلق هذا الدين، والحياء هو الذي يبعث المرء على الفعل والترك فيما يأتيه وما يذره من أمور هذه الحياة الدنيا) ندرك أهمية الحياء في واقع حياة الناس، وأهمية هذه الخصلة التي دعانا إليها هذا الدين؛ ولذلك هي تتصل بالمروءة.. تتصل بالعفاف.. تتصل بالحشمة والوقار.
ونجد في كتاب الله عز وجل أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وُصف بهذا الوصف، أي ( في سورة الأحزاب في موضوع الدخول – قبل نزول آية الحجاب -على رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، والجلوس في بيته.. داخل بيته – عليه الصلاة والسلام – وأن ذلك كان يؤذي النبي فوصف القرآن الكريم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله {…إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ…} (الأحزاب:53)، وهذا وصف وُصف به رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وقد وُصف أيضاً في كتب السنة بأنه – عليه الصلاة والسلام – كان شديد الحياء.. كان أشد حياءً من العذراء في خَدْرها، أو في خِدرها، وهذا التشبيه يليق به – عليه الصلاة والسلام – في معناه الذي بيناه أنه الخوف من الله عز وجل، وتقوى المولى المطلع على خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، ويكون ذلك حياءً منه عز وجل، وحياءً من سوء العاقبة، وحياءً من أن يطلع عليه الله عز وجل في موضعٍ يغضبه أو يسخطه.
متصلة أخرى: موضوع الحياء موضوعٌ مهمٌ جداً نشكركم على طرحه، وخصلة الحياء تتصل أكثر بالمرأة؛ لأن من أهم ما ينبغي أن تتصف به المرأة هو الحشمة والحياء، فإذا تخلت المرأة عن هذه الخصلة ستكون بدون أخلاق، فأود من فضيلة الشيخ أن يركز على هذه النقطة لتنتبه من تريد أن تقدم على الخطأ فلعل الحياء يمنعها من الوقوع في هذا الخطأ، فإننا نرى بعض من النساء يتصرفن تصرفات تنافي صفة الحياء كارتفاع الصوت مثلاً.
مقدم البرنامج: الأخت المتصلة ركزت على الحياء في جانب المرأة فنريد تعليقكم على مكالمتها.
الشيخ كهلان: لنبدأ بآيةٍ من كتاب الله عز وجل وهي في قصة موسى – عليه السلام – حينما قال القرآن الكريم في ثنايا القصة: { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (القصص:25)
عبارة {…تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء…} ، هذه العبارة التي وُصفت بها ابنة شعيب في هذا السياق تؤكد ما تشير إليه الأخت المتصلة في اتصالها من أن المرأة أقرب إلى الحياء، وينبغي أن تلتحف بجلباب الحياء في سلوكها.. في معاملاتها.. في أقوالها وأفعالها.. في لباسها.. في زينتها…إلى آخر ما يخص المرأة.
هذا لا يعني أن صفة الحياء تُخاطَب بها المرأة فقط، وإنما يُخاطَب بها الرجل كما تخاطب بها المرأة إلا أنها كصفة في سلوك المرأة هي أقرب إلى الحياء؛ ولذلك الحديث الذي ذكرته فيما مضى ( حديث وصف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأنه أشد حياءً، أي – مُثِّل بـ ” من العذراء في خدرها”؛ لأن المرأة حينما تكون في خدرها، أو في عرسها وفي ذلك المكان الذي تنتظر فيه زوجها تكون شديدة الحياء).
والله عز وجل وصف المرأة بهذه الصفة – كما قلت – في هذه الآية التي استدللت بها؛ ولذلك ينبغي أن تتمسك المرأة فعلاً بخلق الحياء؛ لأنه عنوان الحشمة، وعنوان الخوف من الله تعالى، وينبغي لها أن تكون شديدة الحرص على أن تستحي من الله عز وجل.
نجد في كتاب الله عز وجل أن الله تعالى قد نعى على أقوامٍ أنهم يستخفون من الناس، ولا يستخفون من الله.
نجد ذلك في سورة النساء حينما قال: { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً{107} يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} (النساء: 107 – 108)،أربابأهل التفسير الذين يتعمقون في اللغة عندك الزمخشري.. العلامة ابن عاشور.. قطب الأئمة أطفيش كل هؤلاء يقولون بأن يستخفون في هذا السياق تعني الحياء؛ فلذلك ينبغي للمسلم رجلاً كان أو امرأة أن يكون حريصاً على أن يستحي من الله سبحانه وتعالى، وأن يعطي هذه القيمة حقها في سلوكه.. في أقواله.. في أفعاله.
مقدم البرنامج: حتى الحياء هو زينة المرأة، فعندما تلتزم المرأة بالحياء، ويكون الحياء في أخلاقها، وصفةً ملازمةً لها فالمرء يجده جميلاً على هذه المرأة نفسها.
الشيخ كهلان: نعم؛ ولذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” الحياء لا يأتي إلا بخير”، ويجب أن نعي هذا المعنى أن الحياء خيرٌ كله كما في روايةٍ أخرى.
متصل ثالث: موضوع الحياء موضوعٌ شيقٌ جداً، هذا الموضوع حقيقةً في صميم قضية الخُلق، والمعلوم أن نبينا محمداً – صلى الله عليه وسلم – ما مُدح بكثيرٍ من الأمور التي يُعطاها الإنسان، وإنما مُدح في خلقه { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم:4)، وكما ذكر الشيخ في قضية حياء النبي – صلى الله عليه وسلم –، وأنه كان أشد حياءً من العذراء في خدرها.
الحياء حقيقةً يُربى هذا الخلق بالدين، أي – قد تكون هناك أخلاق يُربى عليها الإنسان عن طريق القانون مثلاً، أو عن طريق فرض بعض القواعد أو النظريات المعينة يمشي عليها الإنسان، ولكن الحياء لا يمكن أن يُفرض عن طريق مؤثر خارجي، وإنما لا بد أن يكون من تأثير داخلي من الإنسان.. عن قناعة من هذا الإنسان -، ويدل على ذلك أن خُلق الحياء مرتبط بمراقبة الله سبحانه وتعالى هذا من ناحية، من ناحيةٍ أخرى كذلك أيضاً عندما يتعلم الإنسان الفقه يعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما يقضي حاجته يذهب بعيداً، وكذلك لا يرفع ثوبه حتى ينزل إلى الأرض، وهذا في الحقيقة يربينا تربيةً عظيمةً على كيفية وصول هذا الحياء عن طريق الإقتداء برسولنا محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – من ناحية، وكذلك كيفية تربية أنفسنا وأبنائنا على خصلة الحياء منذ نعومة أظفارهم، بحيث نربيهم على إنكار كل قبيح، وكل مشين، وكل ما يخدش بالعرض.
متصل آخر: نشكركم على هذا البرنامج، ونتمنى له الاستمرارية.
أبدأ بقوله تعالى { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ…}(النساء:108)، كيفيستحي الإنسان من الناس ولا يستحي من الله؟؟!
كيف سيكون مصير هذا الإنسان إذا كانت حياته بهذه الطريقة؟؟!
مقدم البرنامج: إذاً الموضوع كما نستمع من ملاحظات يجر بعضه بعضاً، وما ذكرته فضيلة الشيخ أيضاً كله يندرج في الحياء، وخلق الحياء في الإسلام كخُلقٍ عظيم، وخلق أيضاً يرمز إلى هذه المنزلة العالية في هذا الدين.
الشيخ كهلان: أنا قبل أن ننتقل إلى الفاصل التالي حتى ألخص ما دار في الاتصالات، وما ذكرناه ثم ننتقل إلى أسئلةٍ أخرى مهمة أيضاً.
أولاً – كما قلت – الحياء الذي هو هذا الخلق النبيل، والطبع الأصيل مع كونه يكون في كثيرٍ من الأحيان غريزةً إلا أنه أيضاً يكون تَخَلُّقاً شأنه في ذلك شأن الكثير من القيم والأخلاق في هذا الدين.
قد تكون غريزةً وطبعاً لدى الناس، منهم من يأخذ حظاً وافراً منه، ومنهم من يأخذ حظاً أقل لكنه في ذات الوقت مقدورٌ على تعلمه واكتسابه، وهذا ما يأمر به الشرع.
فاستعمال هذا الخُلق ينبغي بل يجب أن يكون وفقاً لأحكام الشرع؛ ولذلك يدخل موضوع الاستحياء من الناس دون الله عز وجل– حاشا السامعين– وبالتالي يكون أولى وأهم ما يهتم به المسلم المتصف بهذه الصفة أن يستحي أولاً من الله سبحانه وتعالى.
إذا كان استحياؤه من الناس إنما هو لكي لا يُنسب إليه سوء، ولا تُنسب إليه معصية، ولا يُنسب إليه شرٌ وأمر يُعاب عليه في دينه فهذا محمود، وهذا مما يحث عليه الشرع.
مقدم البرنامج: هذه الجزئية دكتور كهلان المفترض فعلاً أن يكون حياء الإنسان من الناس يختلف عن حيائه من الله تعالى، هذا حياء وهذا حياء مختلف.
الشيخ كهلان: نعم، لكن– كما قلت– ليس هناك تضاد في هذا الدين، وفي منظومة قيم هذا الدين، ورسول الله– صلى الله عليه وسلم– بين هذا المعنى أيضاً في حديث حينما أمر أصحابه فقال: ” استحيوا من الله حق الحياء” قال – الراوي يقول – فقلنا: كلنا نستحي والحمد لله يا رسول الله.
قال: ” ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء”.
هذا الحديث في سنن الترمذي، ورواه أيضاً غيره، أنا لا أستطيع أن أحكم على صحة هذا الحديث لكنه موافقٌ في معناه لما كنا نتحدث عنه، ولما في هذا الدين من أصول وثوابت وتشريعات أيضاً.
فالحياء لا يمنع من الحق، ولا يمنع من فعل الحق، أي – لا ينبغي للمسلم أن يستحي من الناس في إظهار شعائر هذا الدين، بل لا بد أن يقدم حياءه من الله عز وجل بترك ما أمر في مثل هذه المواقف والظروف -.
أيضاً لا حياء في العلم– كما سوف نبين أيضاً-.
ليس هناك حياء في طلب العلم، بل طلب العلم ينبغي أن يكون فيه إلحاح، وفيه طلبٌ للمعرفة وللمعلومة من مضانها، وسعيٌ إليها؛ لذلك يُقال: يضيع العلم بين خصلتين: الكِبْر والحياء، فلا المتكبر ولا المستحيي يمكن أن يتعلم.
هذا خلاصة ما أردنا أن نبين من معاني الحياء، ومن دلالاته في هذا الشرع الحنيف، ومن معناه أيضاً في المواءمة بين تلك الغريزة التي توجد لدى بعض الناس، وبين كونه تَخَلُّقاً يدعو إليه هذا الدين.
مقدم البرنامج: فيما يخص حياء المرأة هل تريد أن تزيد فيه شيئا؟؟
الشيخ كهلان: سوف نأتي إليها إن شاء الله بعد الفاصل، هناك الكثير مما يتعلق بالمرأة.
*******************************
روى الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن طلحة بن ركانة يرفعه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ” لكل دينٍ خُلق، وخُلق الإسلام الحياء”.
وروى الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: مر النبي – صلى الله عليه وسلم – على رجلٍ وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحي حتى كأنه يقول: قد أضر بك، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ” دعه، فإن الحياء من الإيمان”.
مقدم البرنامج: هل من تعليق فضيلة الشيخ على ما ورد في هذين الحديثين؟؟
الشيخ كهلان: نعم.
الحديث الأول الذي استمعنا إليه معناه باختصار أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان.
الأصل في الإيمان الفاعل المؤثر في نفس المؤمن أنه يمنع صاحبه من الوقوع في المعاصي، فإن حصلت منه هفوة – وكل الناس تحصل منهم هفوات – بادر إلى التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، وأدى الحقوق التي عليه للخالق وللمخلوقين؛ ولذلك الحياء يفعل في النفوس كما يفعل الإيمان، فالحياء من الإيمان، ويسمى إيماناً لأن هذا الاستعمال المجازي في إطلاق الحياء على الإيمان، أو في اقتران الإيمان بالحياء للتأكيد على أهمية الحياء، وأن أركان هذا الدين وشرائطه وشرائعه إنما تقوم على أساسٍ من هذا الخُلق النبيل، وأكد الحديث الذي استمعنا إليه هذا المعنى.
أما الحديث الثاني الرجل الذي كان يعاتب صاحبه في الحياء، ولعل هذا الرجل كان يبالغ في الحياء، ويفوت عليه بعض المنافع، فإذا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول له: ” دعه، فإن الحياء من الإيمان”.
أي يؤكد له أن الحياء من الإيمان – وكما قلت – في رواياتٍ أخرى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: ” الحياء لا يأتي إلا بخير”، كل ما ينتج من الحياء إنما هو خير؛ ولذلك ورد أيضاً في عددٍ من كتب الحديث قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار”، فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هنا في مقابل الخُلق المضاد للحياء هو ماذا؟؟
البذاء، فالبذاءة هي التي تحل محل الحياء حينما يرتفع ستر الحياء ولباس الحياء، وهذا معنى ينبغي أن يتنبه له الناس.
كذلك في روايةٍ أخرى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” ما كان الفحش في شيءٍ إلا شانه، وما كان الحياء في شيءٍ إلا زانه”، تماماً كما قال صلى الله عليه وسلم في الرفق ” إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه” قال أيضاً في الحياء، وهذا يدل على اتصال هذه القيم بعضها ببعض، وهذا يحث الناس رجالاً ونساءً على التمسك بهذا الخلق النبيل، وهذا الأصل المتين من أصول قيم المسلم وأخلاقه.
مقدم البرنامج: هل يوجد مجالات لا يكون الحياء فيها مطلوباً أو محموداً؟؟
الشيخ كهلان: نعم، قلنا طلب العلم؛ وبالتالي يندرج في ذلك أيضاً الفتوى؛ لأنها من طلب العلم.
والسيدة عائشة – رضي الله عنها – أثنت على نساء الأنصار قالت: رحم الله نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
هذا الحديث فيه أكثر من فائدة، مما يتصل بموضوعنا أن السيدة عائشة وهي من هي في منزلتها، وفي علمها ومكانتها أدركت أن الحياء أليق بالنساء؛ ولذلك أثنت على نساء الأنصار أنهن لم يمنعهن الحياء الفطري الذي تتصف به النساء في العادة عن التفقه في الدين.
ثم الفائدة الثانية في طلب العلم ( أن الحياء لا يكون في طلب العلم.. في السؤال عما يشكل على المرء في أمر دينه مما يحتاج إلى معرفة حكم الله تعالى فيه)، على أنه لا يُفهم من هذا – وهذا أمرٌ مهم جداً – لا يفهم من هذا أنه حينما نقول إن الحياء لا يتناسب وطلب العلم، والسؤال عن الأحكام الشرعية، وطلب الفُتيا في أمرٍ مشكلٍ يحتاج إليه الإنسان لا يعني أن الحياء يرتفع بالكلية، لا، هو في ذات السؤال عن ذلك الشيء الذي يُستحيى منه، لكن في كيفية السؤال، وفي الوسيلة التي علمتنا سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه لا بد أن يكون ذلك مُغلفاً بثوبٍ من الحياء، حتى في السؤال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانت تسأله أسماء – رضي الله عنها- عما تفعله الحائض حينما تتطهر فلما وصل إلى أن تأخذ خلقةً مُمَسكة – فيها مسك – قال: ثم تتطهر بها.
فقالت: كيف تتطهر بها يا رسول الله؟؟
فقال: سبحان الله، تتطهر بها، فأخذتها السيدة عائشة بصوتٍ خفيف وقالت لها: تتبع بها موضع الدم.
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استحيى أن يقول ذلك لامرأة.
كذلك لنأخذ علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – حينما أراد أن يسأل عن حكم المذي ما سأل مباشرةً رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؛حياءً منه لمكان ابنته عنده، فأرسل المقداد بن الأسود ليسأل له رسول الله – صلى الله عليه وسلم –؛ ولذلك فثقافة الحياء في السؤال ينبغي أن نعيها، وأن ندركها.
أي أن بعض الناس وللأسف الشديد، وكثيراً ما يقع حتى من النساء حينما تسأل عن قضية هي من خصوصيات أمور النساء حتى في البرامج مثلاً المباشرة، أو في جمعٍ من الحضور لا تراعي الحياء في السؤال، ينبغي أن يكون السؤال – كما قلت – مغلفاً بثوب الحياء، فلا تُذكر أسماء، ولا يُعرض أن السائلة تسأل عن نفسها وإنما تسأل مثلاً عن امرأةٍ حصل لها كذا وكذا، وأن تختار الوقت المناسب، والصياغة المناسبة للسؤال -.
مقدم البرنامج: والأسلوب المناسب، حتى المفردات المناسبة.
الشيخ كهلان: نعم بالضبط، وهذا أيضاً يؤدي بنا إلى أن ننصح المجيب الذي يُفتي الناس ويجيب على أسئلتهم أن يراعي الحياء، وأن يراعي أيضاً مشاعر الناس، ويقتدي برسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هديه في هذا الجانب.
مقدم البرنامج: وهناك أيضاً يُقال لا حياء في الدين.
الشيخ كهلان: هو هذا أصله.. هذا الذي أردنا أن نبينه، هذا الحياء المقصود به في التعرف على أحكام الدين بهذه الآداب التي ذكرنا أغلبها.
مقدم البرنامج: لا حياء في الدين لكن بآداب الدين.. بسلوكياته.. بنظامه العظيم.
الشيخ كهلان: نعم.
مقدم البرنامج: هناك أيضاً سؤالٌ يتبادر لذهني دكتور كهلان؛ هل نحتاج نحن اليوم إلى خُلق الحياء؟؟
وأين تظهر حاجتنا لهذا الخلق؟؟ وربما – مثل ما ذكرنا في بداية الحلقة – أنه يُحكم على ذلك الإنسان الذي يلبس ثوب الحياء بأنه إنسان جبان إلى أن تصل به الأمور إلى أن يخلع ثوب الحياء؛ لأن كل من يحيط به يقول له: أنت دائم الاستحياء.. كثيراً ما تستحي.. وهكذا، حتى يصير هذا الشيء أشبه ما يكون مرضاً لهذا الإنسان.
أي – المجتمع أو الناس أو الأصدقاء أحياناً لا يعينون الشخص على الالتزام بالحياء -.
الشيخ كهلان: إذاً هنا جملة من الأمور.
أولاً: نحن بينا معنى الحياء.. المعنى الإيجابي للحياء، فالحياء انقباضٌ عن فعل القبيح، وليس هو انقباض عن فعل الجميل..عن السعي إلى الخير.. عن بذل المعروف، لا، فهذا ينبغي للمسلم أن يبادر إليه، وأن يسعى إليه جاهداً، وأن ينافس فيه غيره.
أما القبيح الذي لا يرضاه الشرع، ولا يقبله الله سبحانه وتعالى، أو يُخالف أيضاً الأعراف الصحيحة المحمودة في المجتمعات فإن الانقباض عنها هو الحياء المحمود.. الانقباض هو هنا الحياء المحمود.
أما مدى احتياج واقعنا فلا بد لنا حينما نريد أن نصحح وضعاً، أو أن ننبه إلى مسألةٍ ما أيضاً أن نكون واقعيين، وقد قلنا في الحلقة الماضية التي تحدثنا فيها عن موضوع ” الرحمة بالصغير” على سبيل المثال قلنا صورة المجتمع المثالي غير موجودة.
كل المجتمعات فيها الخير والشر، لكن المسلم قدر استطاعته يسعى إلى أن يعم الخير، وأن يتضاءل الشر، وبحمد الله تعالى أنعم الله تعالى علينا بنعمة هذا الدين الذي يدعو إلى المراشد وإلى الهدايات التي ترتقي بهذا الإنسان؛ وبالتالي فإن من الإنصاف أن نعترف فعلاً أن هناك في مجتمعات المسلمين – للأسف الشديد – هناك انتهاكاً لستر الحياء.. هناك الكثير من المخالفات الشرعية التي لا تتناسب مع الحياء أبداً سيما في العلاقة بين الرجال والنساء، وينبغي للمرأة أن تحرص – كما قلنا سابقاً، وكما قال الإخوة والأخوات الذين شاركونا – أن تكون حريصةً على التحلي بهذا الخُلق الرفيع؛ لأنه عنوان عفتها وكرماتها، وهو عنوان المروءة، وعنوان المعدن الطيب، وعنوان الأخلاق الحميدة التي يزكيها هذا الدين، والتي يرغب فيها الناس، وتظهر محمدتها في المجتمع.
مقدم البرنامج: وهذا الأمر طبعاً أعتقد يكون مسؤولية المجتمع بطبيعة الحال، ومسؤولية المدرسة.. مسؤولية البيت – الأب والأم -، الكل طبعاً مطالب بأن يغرس هذه القيمة.
الشيخ كهلان: نعم تماماً أحسنت، خاصة أيضاً مع الوسائل المعاصرة ( مثلاً وسائل الاتصال المعاصرة) ينبغي للمرأة أن تكون حريصة في تبادلها للرسائل، فيما تستخدم فيه، لنقل مثلاً الشبكة العالمية للمعلومات – الإنترنت -، فيما تستخدم فيه الهواتف النقالة، ونعرف الآن التقنيات الموجودة في الهواتف النقالة، وهذا الحال أيضاً ينسحب على الرجل، أي (نحن وإن كنا نخص الآن المرأة لكن لا يعني أن الرجال في معزلٍ عن هذا التوجيه، بل نحن نؤكد على أن المجتمع جميعاً ينبغي– كما تفضلتَ – أن يتعاون من أجل الانتفاع بهذه الوسائل المعاصرة، وأن يكون انتفاعه بها منضبطاً بضوابط الشرع التي منها الحياء والعفة).
للأسف الشديد حينما تتهاون المرأة في هذه الأمور يصير هناك انتهاك لستر الحياء، خذ على سبيل المثال تهاون المرأة في موضوع التصوير بالجهاز النقال، ونحن نعرف الآن الوسائل التي تنتقل بها الصور من جهازٍ إلى آخر، أحياناً لا يكون ذلك باختيار صاحب الجهاز وتُلتَقط الصور الذي يلتقطها .
مقدم البرنامج: على اعتبار أن التقنية الآن أوجدتها في الغث والسمين.
الشيخ كهلان: نعم، وهي تقنية ينبغي أن تُوظف في الخير، فينبغي أن نأخذ السمين، وأن نتجنب الغث، وأن تُفكر المرأة في المآلات التي يمكن أن تؤول من تهاونها في استخدام هذه التقنيات؛ لأنها قد تقع ضحيةً للاستغلال.. للابتزاز وتحصل سلسلة من الوقوع في المخالفات والأخطاء بسبب فعلٍ بسيط تم التهاون فيه بسبب التخلي عن خلق الحياء؛ ولذلك يقول الشاعر:
فلا وأبيك ما في العيش خيرٌ *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ.
إلى هذا الحد، أي – يجعل أن الحياء هو الأساس الذي تقوم به أخلاق الناس في مجتمعاتهم.
لننظر مثلاً في الأحكام الشرعية التي أرشدنا إليها القرآن الكريم فيما يتعلق بغض البصر ( خاطب الله أولاً الرجل؛ لأن اختلاس النظر وغير ذلك يكون منهم أكثر لأنهم أقل حياءً، هذا هو الواقع، وهكذا يقول أهل التفسير، ثم خاطب أيضاً النساء، ومع مخاطبته النساء بالأمر بغض البصر وبحفظ الفروج خاطبهن الله عز وجل بعد ذلك بأحكام الزينة، وما يُستر من الزينة وما أُبيح أن يُظهر، كل ذلك يدلنا دلالةً واضحةً على أن هذا الخلق، أي – ترك النظر إلى العورات، وترك النظر إلى المحرمات، فكثيرٌ من الناس يصنفه في باب الحياء يقول لك: هذا رجلٌ حيي، يكف ترك نظره عن ما حرم الله عز وجل بسبب ماذا؟؟
بسبب الحياء، هذا خُلقٌ نبيلٌ يُحث عليه، ويُغرس فيه، وينبغي أن نُعوِّد عليه أبناءنا وبناتنا أيضاً.
كذلك المرأة ينبغي أن تكون حريصة، وهذا النظر يشمل كل ما تحدثنا عنه أيضاً من استخدام الوسائل المعاصرة من تصفحٍ للمواقع العالمية للمعلومات، من استخدام للتقنيات المعاصرة بشتى أنواعها ووسائلها).
مقدم البرنامج: السكوت عن الحق فضيلة الشيخ هل يُعتبر من الحياء؟؟
الشيخ كهلان: أنا قلت بأن الحياء الذي نتحدث عنه هو لا يعني تفويت الحق الواجب، ولا يعني الاستحياء من إظهار شعائر هذا الدين، ولا يعني أيضاً الخوف من التمسك بأهداب هذا الدين، لا، هذا لا ليس من الحياء في شيء، وإنما الحياء فيما يؤدي إلى شينٍ وقبحٍ.. إلى ذمٍ من قِبل الله عز وجل ( ذمٍ في هذا الدين، وفي عاقبة مآل هذا الإنسان).
*******************************
خاتمة الحلقة
حُكي عن بعض السلف أنه قال: رأيت المعاصي مذلة فتركتها مروءة، فصارت ديانة، والحياء من الله تعالى يتولد من التقلب في نعمه؛ فيستحي العاقل أن يستعين بها على معصيته، وقد قيل: خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحِ منه على قدر قربه منك.
مقدم البرنامج: دكتور كهلان في دقيقتين تفسر ما جاء في هذه الحكم.
الشيخ كهلان: نجد هذه الحكم التي استمعنا إليها، الحكمة أولاً (رأيت المعاصي مذلة)، وهكذا شأن كل المعصية، في الحقيقة هي إهانة لمنزلة هذا الإنسان ولكرامته، قد لا يُنتبه لذلك ولا يدرك حقيقتها لكن بالعبر والعظات التي تتوالى عليه ينبغي له أن يوقن أن كل ما يُعصى به الله عز وجل إنما هو إهانةٌ لهذا الإنسان.
هذا الإنسان الذي كرمه الله عز وجل، والذي أنعم عليه بهذه النعم وبهذا الدين عليه أن يستحيي من الله؛ ولذلك كان في آخر الحكمة أن يتذكر الإنسان قدرة الله عليه، وأن يستحيي منه لقربه منه سبحانه وتعالى (خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحِ منه على قدر قربه منك)، ففي هذا التمثيل اللطيف متى يستحي الإنسان؟؟
يستحي حينما يعلم أن هناك من يراه؛ ولذلك يحذّر الشاعر ويقول:
إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليّ رقيبُ
لأن الانعزال عن أعين الناس دائماً مظنة للوقوع في المعاصي… وهكذا إلا المجاهرين، والله عز وجل قد توعد المجاهرين بسوء الخاتمة – والعياذ بالله – في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قيل: ” إذا ذهب الحياء حلَّ البلاء”، ترى حتى صاحب المعصية لا يزال في قلبه بقية من الحياء إلا إذا جاهر، إذا جاهر بمعصيته فإنه قد نزع كل ذرات الحياء من قلبه، وهذا يكون مجلبةً للبلاء – والعياذ بالله -، ويقول أيضاً حكيمٌ آخر إضافةً إلى ما استمعنا إليه: الوجه المصون بالحياء، كالجوهر المكنون في الوعاء، وهذا مثاله مثل شأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حينما سُئل أبو سفيان من قِبل هرقل الروم عن خلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما استطاع أن يكذب.
تعرف الرواية التي ذكر فيها أبو سفيان سبب امتناعه عن الكذب في تصوير رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على غير الأخلاق التي هو عليها؟؟
قال: حياءً من أن يؤثر عني أصحابي كذباً، وكان مشركاً في ذلك الوقت، ولما سأله بيَّن أن من صفات رسول الله عز وجل الحياء، فإذا بملك الروم بعد ذلك يقول: ما سألتك عنه يؤكد أن هذا الرجل نبي؛ لأن أخلاقه أخلاق الأنبياء، ومنها الحياء؛ ولذلك قالوا: من أخلاق الأنبياء الحياء.
أي (يكون النبي حيياً، وينبغي لنا أن نتأسى برسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وأن نعي هذه المعاني والمضامين).
مقدم البرنامج: هذا ما نتمناه، جعل الله سبحانه الحياء لباسنا وسترنا دائما.
انتهت الحلقة