حقوق المُسِنِّين ج1

عنوان الحلقة ” حقوق المسنين” ج1

مقدم البرنامج: أعزائي المستمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد الذي وعدنا أن نتحدث فيه معكم عن ” حقوق المسنين”.

خلق الله تعالى الإنسان وهيأه ليمر بمراحل ثلاث تبدأ بضعفٍ وتنتهي بضعف، لكن الضعف الأخير يظل أصعب هذه المراحل؛ فهو فيها يحتاج إلى رعايةٍ كثيفةٍ وعناية.

صحيحٌ أنه قويٌ في العقل.. ناضجٌ في التفكير إلا أن ضعفه الجسمي لا يساعده ليملأ الحياة كما لو كان شاباً، لكن هذا الكبير يحظى باهتمامٍ خاصٍ في تعاليم الإسلام، فهو شيخٌ وقور، ومرجعٌ في مختلف الأمور، وتوقيره واحترامه يعني احتراماً للحياة، وتقديراً لجِده الذي قدمه في حياته وأبداه.

وهل يمشي أخلافه إلا على البساط الذي نسجه وأحكمه وسواه؟؟

ولسان حاله يقول لمن لا يُقدِّر هذا الجهد:

فلما بلغتَ السن والغاية التي *** إليها مدى ما كنتُ فيك أُأمِّلُ

جعلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً *** كأنك أنت المنعم المتفضـلُ.

تعالوا بنا أيها الإخوة الكرام مع فضيلة الدكتور ” كهلان بن نبهان الخروصي” نتعرف على حقوق المسنين، والطرائق التي يُوقر بها الكبير، وتُعرف بها منزلته ومكانته رجلاً كان أو امرأة.

*******************************

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ نبدأ بالحديث في موضوع اليوم عن توقير الكبير ببيان سبب اختيار هذا الموضوع ليكون من القيم التي نتعرض لها في هذا البرنامج.

تبين لنا صلة هذا الموضوع بالإطار العام كما هو المعتاد، والعناصر التي نتناولها حتى يتمكن الإخوة الكرام من المشاركة حولها.

الشيخ كهلان: إن موضوع “حقوق المسنين” الذي يندرج كقيمةٍ من قيم هذا الدين فيما سمَّته بعض أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بـ “توقير الكبير” هو من الموضوعات التي ينبغي لنا أن نقف معها؛ وذلك لما تفضلتم به من منزلة الكبير المتقدم في السن في المجتمعات، ولما يكتنف هذه المرحلة العمرية من نضجٍ عقليٍ، ومن اجتماع خبرات مع ضَعفٍ في القوى البدنية؛ وبالتالي كانت مرحلةً من مراحل حياة هذا الإنسان التي تستحق العناية من المجتمع.

سوف نحاول أن نتعرف على هذه العناية، وعلى أوجه هذه العناية التي أولتها لهذه المرحة ولهذه الفئة هذه الشريعة السمحاء، وهنا سوف نحاول قبل ذلك أن نتعرف على مفهوم الشيب والتقدم في العمر في الإسلام.

هل الشيب يعني المرض والعلل والانكفاء على الذات، أم أن الشيب هو مرحلةٌ يمكن أن تكون مزيداً من الهمة والعمل والعطاء والعبادة والتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى؟؟

وبين هذا وذاك كيف يمكن أن يستفيد المجتمع من قدرات المسنين؟؟

وما نوع المعاملة التي يحتاج إليها المسنون من قِبل أولادهم وأقاربهم، ومن قِبل المجتمع بأسره بما فيه من مؤسساتٍ عامة وأهلية ؟؟

سوف نتطرق إلى كل هذه العناصر مع التركيز على التعرف بما في هذه الشريعة من نماذج تطبيقية لكيفية العناية التي أولاها الإسلام للمسنين منذ أن أكرم الله تعالى عباده بهذه الرسالة الخاتمة، ذلك أن موضوع العناية بالمسنين هي من الموضوعات التي مع أصالتها في شريعتنا، إلا أن تناول العالَم بشكلٍ عامٍ لها -في الحقيقة الأمر- متأخر بشهادتهم بأنفسهم؛ وذلك لما رأوه من مشكلات تكتنف هذه الفئة من الناس، ومن ظواهر احتاجت إلى معالجة، فكانت هناك محاولات أُطرَّت بإطارٍ أُمَمي كذلك بإطارٍ قوميٍ محليٍ إقليمي لأجل معالجة الظواهر والمشكلات التي تكتنف هذه الفئة من المجتمع، ولأجل الانتفاع والارتقاء بهم.

كل هذا سوف نتعرض له بمشيئة الله تعالى في هذه الحلقة – كما قلنا – مع التركيز على أننا نتناول القيم التي تُظهر لنا سماحة هذا الدين وتناوله لإنسانية هذا الإنسان، وتكريمه للإنسان في كل مراحل حياته، مع رسمه للصراط المستقيم الذي ينبغي أن يسير عليه هذا الإنسان في كل مراحل حياته حتى ينقلب إلى ربه تعالى وهو راضٍ عنه.

مقدم البرنامج: إذاً فالكبير يحتاج إلى رعايةٍ وعنايةٍ خاصة، فهو أحوج ما يحتاج إلى الجو العائلي.. أحوج ما يحتاج إلى أن يلعب مع أحفاده، وإلى أن يشعر بكرم أبنائه.. يحتاج بالفعل إلى خفض جناح الرحمة له.

ونحن ننبه الإخوة الكرام الذين يشاركوننا في هذا اللقاء بأننا نتناول – كما قال فضيلة الشيخ الدكتور – موضوع الكبير وتوقيره ليس فقط لأنه كبيرٌ ضعيفُ في السن قد بلغت قواه الضعف الذي تجعله لا يستطيع الحركة، إنما الذي يكبرك حتى بيوم ننظر كيف تتعامل معه بالاحترام والتقدير.

*******************************

مداخلة متصل: أحببت أن أشارك معكم في موضوع ” توقير المسنين” بالآتي:

 أولاً في الحديث الذي يقول: ” من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا فليس منا”، وهناك حقيقة الأمر ظاهرة سلبية ظهرت في هذا الوقت المتأخر وهي إنشاء دور للعجزة، فتجد بعض الناس يرمون بمن معهم من المسنين في دور العجزة ولا يسألون عنهم، يقلدون في ذلك الدول الغربية، فالدول الغربية ليس عندهم دين مثل ديننا يأمر بتوقير الكبير ومع ذلك هم يقلدونهم.

كذلك توجد ظاهرة أخرى وهي أن بعض الناس لا يقفون لكبار السن رجالاً كانوا أو نساء إذا ما رأوهم واقفين في الطريق يريد المساعدة بينما إذا رأوا فتاة يقفون طوابير.

*******************************

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } (الروم:54)

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ هذه الآية تشير إلى مرحلة الضعف التي يمر بها الإنسان في البداية وفي النهاية، هل مرحلة الضعف هذه أو مشكلة التقدم في العمر مشكلةٌ تحتاج إلى طرح وسائل لمعالجتها وبيان سبل التعامل معها؟؟

أو بمعنى آخر نقول: ما هو تكييف مرحلة الكِبَر في الإسلام؟

الشيخ كهلان: مرحلة الكِبَر في عمر هذا الإنسان هي مرحلةٌ من مراحل زمن حياة هذا الإنسان، فإن أنسأ الله تعالى لعبدٍ من عباده، وعاش حتى بلغ مرحلة الكبر فإن ذلك في حقيقته وفي التكييف الشرعي له نعمةٌ أنعم الله تعالى بها على عباده، وقد دلت آياتٌ عديدة على أن الله عز وجل يتوفى الأنفس فمنهم من يتوفاه الله تعالى طفلاً، ومنهم من يتوفاه كهلاً، ومنهم من يُنسِئُ له حتى يُردَّ إلى أرذل العمر، وفي بعض الآيات {… لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً…} (الحج:5)، فحينما يُنسئ الله تعالى – يؤخر المولى الكريم – لعبدٍ من عباده فالأصل أن يغتنم هذا العبد هذا الأجل الذي رُزق إياه في سبيل عمارة هذا الأجل بطاعة الله عز وجل، وبمزيدٍ من الصالحات، وبالإنابة والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا يتناسب مع النضج العقلي ومع اكتمال نضج العواطف ومع خفوت الشهوات الذي يُصاحب التقدم في العمر فيناسب أن يكون حينما يتقدم بالإنسان العمر أن يكون أقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يصحح ما كان منه في سالف أيامه كما يقول الشاعر:

وإن سِفاه الشيخ لا حلم بعده *** كما أن الفتى بعد السفاهة يحلمُ.

فالناس تدرك أن مرحلة التقدم في العمر هي مرحلةٌ أليق بالاقتراب من الله سبحانه وتعالى، والإنابة إليه، والتوبة والإكثار من الصالحات ( صحيح أن الواحد منا لا يعلم هل يُنسأ له في أجله وفي عمره؛ وبالتالي يؤجل التوبة والإنابة والعودة إلى الله سبحانه وتعالى حتى ذلك الحين، أم أن الله عز وجل يكتب له الأجل المحتوم وهو شابٌ.. وهو صبيٌ.. وهو كهلٌ؛ ولذلك كان على المسلم أن يكون دائماً في حالة تأهب واستعداد بالعمل الصالح، وبالتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ) لكن إن أُنسئ له في عمره فينبغي أن ينظر إلى ذلك على أنه نعمةٌ من نعم الله عز وجل، ومع أن أعمار بعض الناس قصيرة بالنظر إلى متوسط أعمار بني البشر إلا أنها بسبب ما ملأت به من صالحاتٍ وأعمال خيرٍ وصنائع معروفٍ وذكرٍ حسنٍ كانت – مع قصرها –أعماراً عريضةً مشهوداً لها بالذكر الحسن.

 وبعض الناس يُنسأ له العمر الطويل ولكنه يظل في غيه لا يعود ولا يؤوب إلى ربه تبارك وتعالى فلا ينفعه طول عمره، وأكثر أيامه تكون وبالاً عليه، ومزيد حجةٍ عليه؛ ولذلك فهي في حقيقتها ليست بمشكلة في ذاتها وإنما بسبب ما يصاحبها ( هي نعمة حينما يُنسأ للإنسان) ولكن – كما قلت – بسبب ما يصاحبها من ضعفٍ في القوة البدنية، وقد يصيب الضعف أيضاً القوى العقلية في بعض الأحيان، وهذه مرحلة ما سماه الله في كتابه بـ “أرذل العمر”، وهذه المرحلة هي التي كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستعيذ منها ( كان يستعيذ من أن يُردَّ إلى أرذل العمر، وكان يستعيذ من العجز والكسل)؛ ولذلك فنحن استعملنا كلمة المسنين ولم نستعمل كلمة العجزة، ولا نحبذ أن تُستَعمل كلمة العجزة فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يستعيذ من العجز ومن الكسل، وكان يستعيذ من أن يُردَّ إلى أرذل العمر.

*******************************

مداخلة متصل: موضوع المسنين موضوعٌ شيق، وأنا من نظرتي الشخصية أرى أن وجود المسنين بيننا تُعد رحمة، فنحن نستأنس بالجلوس معهم ولسماع آرائهم.. نسمع سوالف عن الزمن الماضي.. عن الأوقات التي عاشوا فيها فهم مروا بظروف تختلف عن ظروفنا وهذا يضيف للحياة لوناً آخر.

وهم يُعدون مدرسة للخبرة التي عاشوها ومروا بها، لكن عندي ملاحظة أود توجيه الشيخ بشأنها وهي أن كبار السن أحياناً بسبب الظروف التي عاشوها يكون هناك اختلاف في الآراء، هم قد يكونون مصدر للشورى.. وأحياناً الشخص يطلب نصيحتهم حول أمر معين لكن بسبب اختلاف الظروف التي عاشوها عن الظروف التي نعايشها الآن وما فيها من تقدم تكنولوجي يكون هناك اختلاف في الرأي، فكيف للمرء أن يتصرف في مثل هذه الحالة خصوصاً إذا كان المسن قريباً جداً منه كأبيه أو أمه؟؟

فقد يصيب الزعل هذا الأب أو هذا الجد إذا لم يؤخذ برأيه مع أن رأيه قد يناسب فقط الزمن الذي عاش هو فيه ولا يناسب الظروف التي نعيشها الآن، فما هو توجيه فضيلتكم في هذه المسألة؟؟

متصل ثالث: أولاً أتقدم بالشكر الجزيل للشيخ الدكتور كهلان على الجهود الطيبة المباركة في هذا المنبر الناشئ الطيب، وملاحظتي في الحقيقة هي قديمة نوعاً ما حول هذا الموضوع بالذات.

نلاحظ منذ أمد على خشبات المسارح التي تحاول أن تقدم بعض ما تريد أن تقدمه من بعض القضايا في إطار كوميدي يستهدف هذه الطبقة المهمة في المجتمع وهي طبقة المسنين، لكن خطابهم الموجه لهذه الطبقة كثيراً ما يعتريه الاستهزاء أو الاحتقار أو التهوين بحيث يصور هذا الكبير بأنه رجلٌ متخلف.. رجلٌ لا دراية له بمستجدات الحياة.. ما زال يعيش في ظلاله القديم – إن صح التعبير -، وأنه كثيرٌ ما يكون حجر عثرة أمام التقدم والتطلع لما في الحياة من مستجدات، وهذا كما تعلمون له أثره السلبي في الناشئة، حيث إن هذا الناشئ يرى هذا الشخص أنه لا يمكن أن يمثل له قدوة في حياته العملية والتي ينبغي أن يبني عليها، فما توجيه فضيلة الدكتور لأمثال هذه المناظر؟؟

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ المكالمات تتوالي ولكن قد نرجئ الحديث عنها قليلاً لنتحدث الآن معك عما يلاحظ – كما وردت في مكالمة المتصل الأول– أن هناك بلا شك اهتمام عالمي بفئة المسنين، وأوضاع هذه الفئة تختلف من مكانٍ إلى آخر، وإلى عهدٍ قريب كانت مجتمعات المسلمين لا تعاني من مشكلة مع المسنين لكن بدأنا نشهد دعواتٍ هنا وهناك بإنشاء دور لرعاية العجزة والمسنين.

برأيك ما هو السبب وراء ذلك؟؟

وما هو أيضاً كذلك الإطار العام الذي أولاه هذا الشرع الحنيف لرعاية المسنين؟؟

الشيخ كهلان: أولاً لأبدأ بالجزء الأخير من السؤال.

الإطار العام الذي أولاه هذا الدين الحنيف في نظرته للمسنين هو إطار الرحمة والتوقير والاحترام، فالمسن يستحق من كل المجتمع.. ليس من أولاده ولا من قرابته فقط، ولا من جيرانه فقط وإنما يستحق من كل المجتمع التوقير والاحترام والرعاية.

والأصل أن تكون الصلة بالمسن مبنيةً على هذه الأسس – على أسس الرحمة والمودة والتوقير – بدليل قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي ذكره بعض الإخوة، وذكرناه في مناسبةٍ أخرى ” ومن لم يرحم صغيرنا ، ولم يوقر كبيرنا فليس منا”، ورد الحديث برواياتٍ متعددة وهذه رواية مسند الإمام الربيع بن حبيب.

ينفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  أن يكون من لا يوقر الكبير من المنتسبين إلى الإسلام حقيقةً وعملاً وواقعاً وتطبيقاً، هذا غايةٌ في التنفير من الابتعاد عن هذا الخُلق السامي الذي لخصه قوله صلى الله عليه وسلم :”… ومن لم يوقر كبيرنا…”

ودلت على نوع هذه الرعاية جملةٌ من أحاديثه أيضاً عليه أفضل الصلاة والسلام كما سوف نتعرض لها بمشيئة الله تعالى، وحافظ المسلمون في حقيقة الأمر على هذا التوجيه، وذلك لما نجده أيضاً في كتاب الله عز وجل من أمر الأولاد برعاية الوالدين، وهذا الأمر جاء صريحاً في الأمر برعايتهم حالة الكِبَر كما نجد في سورة الإسراء {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً…} (الإسراء:23)، ثم قال: {… إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }(الإسراء:23)، ثم أيضاً تلا ذلك بقوله {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } (الإسراء:24)    وآياتٌ أخرى..

كما ورد أن الله سبحانه وتعالى فرض على هذه الأمة الإحسان إلى الوالدين كما فرض على الأمم السابقة قبلها، وكثيراً ما يأتي ذلك عقب الأمر بعبادته إلهاً واحداً مُخلَصاً له الدين سبحانه وتعالى، مما يدل على أن الإحسان إلى الوالدين حالة الكبر هو من الأوامر المقدسة التي فرضها الله تعالى على سائر الأمم، ثم أننا نجد أن هناك ملاحظ في هذه الآية:

أولاً: الله تعالى يقول: {… إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ…} فهو نصٌ في أن المقصود أن حينما يكون هؤلاء حالة الكِبَر لأنها مظنة الاحتياج إلى الرعاية والعناية، وهي في ذات الوقت أيضاً هي مظنة لأن يتأفف الأولاد.. وينزعجوا من رعاية والديهم.

مقدم البرنامج: قلَّ ما يلتفتون إلى الوراء.

الشيخ كهلان: نعم.

– وهذا مما طرحه أيضاً المتصل الثاني لعل فيه جواباً لما طرحه أيضاً – هذه المرحلة لا بد أن يستوعب فيها الأولاد والديهم.

 حينما يكونون كباراً ويتقدم فيهم العمر ملكاتهم العقلية تختلف.. تجاربهم تختلف، ورغباتهم ومطالبهم تختلف، وهنا يأتي الأمر الرباني من مجرد أن يُظهر الولد كلمة تأفف لوالديه {…فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ…}، ثم قال: {…وَلاَ تَنْهَرْهُمَا…}، ويصاحب ذلك {…وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }.

فلابد أن يستوعبهم في هذا السن، أي أن يدرك أن لهم خبراتٍ معينة أدت إلى نوع معين من المطالب.. أدت إلى نوع مما يراه هو، تعنت في الآراء وتصلب بسبب تجارب معينة.. فترة زمنية معينة مر بها؛ فلذلك ينبغي له أن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة – ليس هو خفض جناح هوانٍ وذلة، وإنما هي خفض جناحٍ مبعثه ومنشأه الرحمة بهؤلاء.. الرحمة لأنهما سبب وجوده -، على أن الأمر بهذه الرحمة والعناية والتوقير لا تقتصر على الأولاد فقط – كما قلت -، وإنما تشمل {… وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ…} (الأنفال:75)، وتشمل المجتمع بأسره، رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “ما أكرم شابٌ شيخاً في سنه إلا قيض الله له من يكرمه في سنه”، وبالتالي هذا هو حال المسلمين، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلمين.

أما إهمال كبار السن.. إهمال المسنين في بيئاتٍ معينة.. انقطاع الصلة بين الأقارب والمسنين.. بين الأولاد وآبائهم وأمهاتهم فيوجد في بعض المجتمعات له أسبابٌ معينة.. وطبيعة مجتمع معين.. له ثقافةٌ معينة أدت إلى أن تقوم تلك المجتمعات بمؤسساتها العامة والأهلية الخاصة إلى محاولة إيجاد حلول، كان من ضمن تلك الحلول إنشاء دور لرعاية المسنين.

فهي في أساسها لم تنشأ لتكون ظاهرةً سلبية وإنما أنشئت لكي تكون علاجاً لظاهرة وُجدت في مجتمعٍ ما لأسبابٍ تخص تلك المجتمعات، لكن لا يزال الجميع يتفق، أي – على مختلف ثقافاتهم، وعلى مختلف مرجعياتهم الفكرية والدينية وغيرها – أن المحضن الطبيعي للمسنين هو الأسر، وأنه ينبغي أن توجد الوسائل التي تزيد من وعي المجتمع على ضرورة إعطاء هؤلاء المسنين حقوقهم ورعايتهم والرحمة بهم لأن ذلك هو الذي يكفل المحضن الطبيعي لهؤلاء المسنين.. هو الذي يدعو إلى الاستفادة من خبرات المسنين، ولا ننسى وكما قلنا مراراً في هذا البرنامج أن عمل المسلم، وهذه القيم التي نتحدث عنها لا تنفصل عن عقيدته، فكيف إذا كان هو يبتغي من وراء ذلك رضوان الله تعالى، ويبتغي النجاة والفلاح في الآخرة!!!

*******************************

مداخلة متصل: أشكركم على هذا الموضوع الطيب، وهو موضوعٌ عميق حقيقةً خاصةً في أيامنا هذه، وفي ظروفنا هذه التي مرت علينا..، أي – الظروف العالمية وشعور كل شخص بأنه لديه الحرية المطلقة في أن يعمل ما يشاء -، وفي هذه الظروف في الحقيقة تضيع العلاقات التي تربط بين الصغار والكبار حتى أننا سمعنا أن رجلاً في إحدى الدول توفى ولم يعرف نبأ موته إلا من خلال الرائحة الكريهة التي انبعثت من منزله، وهذا يدل على ذلك التفكك العظيم الذي لا يحله إلا العقيدة والمبدأ الموجود في صميم دينا مبدأٌ حضاريٌ، والروابط الاجتماعية.. العلاقات ما بين الصغار والكبار.

وحقيقةً لا يمكن أن يُعطى الإنسان حقه بسن القوانين وإنما بتربية الضمائر، وهذا الذي تعلمناه من هذا الدين العظيم؛ لذلك وجب علينا سواء كان في مجتمعاتنا الشرقية أو الغربية أن نحث الناس على احترام هذه المبادئ، وبيان فوائدها الاجتماعية، وبيان الأضرار المترتبة على فصل العلاقات ما بين الصغار والكبار، لأن الكبار هم الحضن الدافئ الذي يلجأ إليه الصغار في كثيرٍِ من الملمات، ونتعلم كيفية مخاطبة الكبار كما علمنا الله تعالى في مخاطبة إبراهيم – عليه السلام – لأبيه المشرك (يا أبتِ.. يا أبتِ.. يا أبتِ)، بهذه الطريقة نستطيع أن نوجد حواراً ما بين الصغار والكبار مع تطور الزمان وتجدده.

مقدم البرنامج: أخي في موضوع الحرية التي تحدثت عنها قبل قليل في رأيك هل هذا العصر بالفعل قدم للإنسان حرية يستطيع من خلالها أن ينتهك حقوق الآخرين أم هو سوء فهمٍ عند الناس؟؟

المتصل: أكيد هو سوء فهم، وربما الإنسان يريد أن يتملص من الكثير من الواجبات التي هي معروفة عند الكثير من المجتمعات سواء المجتمعات الإسلامية أو غير الإسلامية بدعوى الحرية الشخصية المطلقة.

*******************************

روى الإمام الربيع بن حبيبٍ في مسنده عن أبي عبيدة عن جابر عن ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” ألا ومن غشنا فليس منا، ومن لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا فليس منا”.

وروى الترمذي في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” ما أكرم شابٌ شيخاً لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه”.

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ قبل أن نتحول لسؤالٍ آخر نناقش بعض هذه المكالمات التي وردت.

المتصل الأول وقد أجيب على سؤاله ودخل ضمن أجوبتكم السابقة، لكن المتصل الثاني يطرح سؤالاً مهماً يقول: صحيح أننا نعتني بالمسنين ونجعل لهم مساحةً من الاحترام لكن تبقى هناك مشكلة معينة نحتاج فيها إلى التوضيح (في بعض الأحيان تختلف آراء الكبار الذين عاصروا ظروفاً وفترةً معينة عن آراء الشباب الذين كانوا في بيئةٍ أخرى مغايرة تماماً لما كان عليه هؤلاء الكبار، كيف يتم التلاقي الفكري بين الجيل القديم والجيل الحديث عندما تُطرح مثلاً قضية أمامهم من القضايا العصرية.

هم ينظرون إليها بمنظار الماضي، وبالتالي يحدث صدامٌ بينهم وبين الجيل الحاضر، كيف يتم التعامل مع هذه القضية؟؟)

الشيخ كهلان: أولاً أنا أشكر جميع من شاركنا إلى الآن، ومشاركاتهم بحمد الله تعالى قيمة جداً، وأظن أن بعض المشاركات تجيب على بعضها الآخر، أي (جواب هذا فيما ذكره المتصل الرابع أيضاً يقول: إذا كان إبراهيم – عليه السلام – يُخاطب والده ذا الشيبة المشرك هذا الخطاب الذي فيه من التودد والشفقة والدعوة إلى الخير ما فيه – مع مشرك، وليس أي مشرك بل كان سيد قومه في شركه، وكان سادناً للأصنام ولما كانوا عليه من الشرك بالله تعالى – ومع ذلك إبراهيم يخاطبه خطاب التودد والاستيعاب وبيان أنه مشفقٌ عليه، وأنه يتمنى له خاتمة الخير، وبهذا الأسلوب الذي نجده في كتاب الله عز وجل).

 فإذاً حينما يوجد – هو ليس دائما أي هذا التصادم بين جيل الماضي وجيل الحاضر هو ليس قاعدة مُطردَة – ويحصل لعله كثيراً لكن أن لو كانت الأمور لا تستدعي أن يحمل الواحد منا نفسه على الرحمة بالمسن وعلى توقيره وعلى حسن رعايته فإنه لا حاجة إلى كل هذا الذي نتحدث عنه؛ لأنه إنما يتحدث إلى قريبٍ له يألف أفكاره، ويألف تصوراته وكأنه يكلم نفسه، وليس الشأن كذلك، هكذا هي سنة الحياة، ولعلنا نحن.. أو هذا الجيل الذي يرى بأن هناك فجوةً في الفهم وفي التصور لدى الجيل المسن سوف يكون هو بعد فترةٍ هو الجيل المسن الذي يراه فيها غيره على أنه أيضاً من جيلٍ ماضٍ قديم لا يتقن أساليب الحياة المعاصرة، فـكما قلنا في موضوع الإنسان في الحلقة الماضية ليجعل نفسه هو في موضع الآخر، ولينظر كيف يريد أن يُعامل.

وإذا كنا نتحدث عن طرق عملية تعين الواحد منا على استيعاب تصورات وأفكار لجيلٍ متقدم – للمسنين – قد لا تناسب الواقع، وقد لا تفي باستيعاب أيضاً مفردات هذا الواقع الذي نحن فيه اليوم فلا بد أن يغرس ابتغاء الثواب من عند الله تعالى بحسن معاملته لوالديه وللمسنين في المجتمع.

لا بد أن يتذكر الأوامر التي جاء بها هذا الدين، والأحكام والمراشد والهدايات التي منها ما استمعنا إليه من أحاديث، أي (الحديث الأول الذي ذكرته سابقاً، والحديث الثاني ” ما أكرم شابٌ شيخاً لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه” – عند سنه هو -).

 أيضاً أن يكون في محاولته عليه أن يدرك ما عليه هذا الجيل، هو يعرف السبب الآن.. يعرف أن المسن لم يمر .. أو لم يطلع على معطيات هذا الواقع الجديد، وعلى ما أفرزه هذا الواقع الجديد فليأخذ منه الحكمة والخبرة والأسس والقدوة الحسنة، لكن تطبيقاته في واقعه هو سوف تكون بطبيعة الحال مختلفة.

مقدم البرنامج: موضوع الأسس هذه قواعد مهمة جداً بالفعل؛ لأن هذا الرجل الكبير في السن لديه خبرة في مختلف المجالات، وتكونت لديه من خلال هذه الخبرة مجموعة من القواعد التي يزن عليها بقية الأمور.

إذاً المسألة تعتمد على كيفية عرض الموضوع عليه.

الشيخ كهلان: وهي تحتاج أيضاً من قِبل الجيل الأصغر إلى استخراج تلك الخبرة والتجربة منه أي – لا بد أن يسعى هو إلى أن يستخرج هذه الخبرة وهذه الحكمة من الجيل المتقدم.. أن يعرف كيف يسأل.. يطالبه بسرد قصص.. يسأله عن الماضي.. يسأله أن لو كان الأمر الفلاني في وقتكم ماذا كنت تصنع؟… وهكذا.

لكن أعود مرة أخرى إلى موضوع دور المسنين، وأشار المتصل الرابع في اتصاله إلى أن إعطاء كل ذي حقٍ حقه لا يكون دائماً بسن القوانين وإنما يحتاج إلى إيقاظ ضمير وهذه نقاط غاية في الأهمية.

نحن أشرنا إلى أن بيئاتٍ معينة بسبب ظواهر معينة لجأت إلى إنشاء دورٍ خاصةٍ لرعاية المسنين، البعض الآخر في الحقيقة لجأ إلى سن قوانين وتشريعات لتُجرِّم من يهمل في رعاية المسنين من الأولاد ومن الأقارب.

هذه اجتهادات كلٌ يرى الأنسب لمجتمعه ولبيئته ولثقافته، لكن في كل الأحوال هناك اتفاق على أن الرعاية الأفضل هي التي تكون في محضن الأسرة، وأن أحسن من يقدم الرعاية للمسنين هم أولادهم وأقاربهم؛ لأنهم يعرفون مراحل حياتهم، ويعرفون احتياجاتهم، وعاشروهم فترةً من الزمن، وهنا يتصل مرةً الأخرى الأمر بقضية الإيمان بالله تعالى وابتغاء الثواب وتوخي العقاب من العقوق – عقوق الوالدين -، ومن إهمال حقوق المسنين.

وإذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأدبه الجم، وهو من هو كان يستوقفه الشيخ الكبير أو المرأة العجوز فيقف ويترك صحابته الكرام فيسمع من المرأة العجوز حاجتها بكل أدبٍ وإنصات، ثم يجيبها على ذلك وهو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .

يُعلِّم الناس كيف يوقرون الكبار، وهو الذي أيضاً في كثيرٍ من المناسبات، أي ( لعل المتابعين يعرفون أنه – عليه أفضل الصلاة والسلام – حينما يبدأ متحدثٌ بحديث، ويرى أن هناك أكبر منه فهو الأحق فيقول كَبِّر كَبِّر أي – قدم من هو أكبر منك -).

   ونذكر أيضاً قصة حينما كان عن يمينه ابن عباس، وقيل إنه ابن الزبير وشرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لبناً من إناء، وأراد أن يُقدِّم الشيوخ الكبار الذين كانوا عن يساره فاستأذن من الصبي، ولكن الصبي لم يأذن وقال: لا أوثر بفضلك أحداً يا رسول الله.

مقدم البرنامج: والمسألة هنا عاطفية، ولم تكن عدم احترام من ذلك الصغير.

الشيخ كهلان: لا أبداً…

مقدم البرنامج: هي مسألة التبرك؟

الشيخ كهلان: نعم هو أراد كما علل ” لا أُوثر بفضلك أحداً يا رسول الله”.

هو يعلم أن له حقاً، وهذا الحق له لأنه على اليمين راعاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وذكرنا هذا الملحظ في حقوق الصغار أيضاً، لكن الغاية هنا أن هذه وسائل – سواء كان إنشاء دور للمسنين، أو كان بسن تشريعات وقوانين تُجرِّم إهمال حقوق المسنين والعقوق بالوالدين – هذه كلها وسائل تستدعيها الظروف والملابسات.

متى ما وُجدت رغبة، ومتى ما وُجدت قناعة بأن هناك حقوقاً للمسنين تندرج تحت توقير الكبير يجب رعايتها فإن على المجتمع أن تتكامل جهوده، ويعين بعضه بعضاً في اقتراح ما هو أنسب.

مقدم البرنامج: طيب أنا أريد أن أستوقفك في نقطة معينة.

كما يبدو في خطابك الآن– الذي أفهمه أنا، والذي ربما قد يفهمه المستمع والمستمعة أنك ذكرت بأن إنشاء دور المسنين يعتمد على ظروف المنطقة التي نشأ فيها هذا بخلاف ما يُسمع من خطاب آخر حول هذا الموضوع حيث يعتبر دور المسنين من سلبيات الحضارات الأخرى التي لا تعتني بهؤلاء الكبار، الذي يُلاحظ في كلامك أن المسألة تخضع للظروف.

الشيخ كهلان: دعني أبين هذا الموضوع.

أولاً: نحن الآن ندرك – وكما قلنا في عدة مناسبات – أن هناك تغييراتٍ في المجتمعات – حتى في المجتمعات الإسلامية – والكل يتحدث عن هذه التغييرات.

هناك عقوقٌ حاصل.. هناك إهمال في حقوق المسنين، وإذا كنا في ما مضى نسمع عن هذه الظواهر التي نستغربها من إهمالٍ وعقوق كالقصة التي استمعنا إليها أن أحدهم يموت في شقته.. في مسكنه ولا يُعرف نبأ موته إلا بنتن ريح جثته، فإذا بنا نسمع عن حالات – لنقل – في مجتمعات المسلمين من هذا النوع.

وإذا بنا نرى أبناءً – للأسف الشديد – ذكوراً وإناثاً يقصرون في حقوق والديهم وفي حقوق المسنين، ويعتبرون موتهم راحةً لهم هم، وأنه ينبغي أن يكون مآلهم أو أن يُقضُّوا حياتهم في المستشفيات وفي دور الرعاية وغير ذلك؛ فلذلك نحن ينبغي لنا أن يُذكّر الناس بإيمانهم.. يُذكَّر الناس بالحقوق التي عليهم.. التي يفرضها عليهم دينهم، وأن يعين المجتمع بعضه بعضاً، لكن قد تكون هناك حاجة فعلاً.

قد يوجد من المسنين من لا قريب له.. قد يوجد من المسنين من لا يُعرف له قريب، هذا كله – كما قلت – إنما يكون كوسائل، لكن لا يعني أن توجد هذه الدور حتى يكون الناس اتكاليين، وحتى يتخلوا عن واجباتهم التي يفرضها عليهم دينهم، ويدفعوا بآبائهم وأمهاتهم، ويدفعوا بالمسنين إلى هذه الدور، لا.

مقدم البرنامج: أي لا يجب أن تكون بسبب وجود خلل في المبادئ، أو هبوطٌ في القيم.

الشيخ كهلان: لا بد من أن يكون هناك غرس وعيٍ، وتذكيرٌ بالله تعالى، وبيانٌ للحقوق التي على الصغار.. على الأولاد.. على المجتمع تجاه هؤلاء المسنين، حينما نجد الكثير من الأوقاف التي هي للمسنين، هناك مؤسسات المجتمع المدني – بحسب التعبير المعاصر – من أوقاف، ومن أعمال خيرية إنما توجه للمسنين، لماذا؟؟

لأن المجتمع أيضاً– المجتمع الإسلامي– خلال تاريخه وحضارته أدرك حاجة المسنين إلى الكثير مما يحتاجون إليه؛ فإذا بالناس يتنافسون لأجل سد هذا الباب من أبواب الخير.

فإذاً – كما قلت – قد يكون هناك بديل آخر غير دور الرعاية، وغير سن القوانين والتشريعات أن يوجد ما أشرنا إليه أيضاً في موضوع الرحمة بالصغير من إيجاد أسر بديلة.

فهناك من الناس من هو أوسع صدراً، ومن هو أكثر رغبةً في الأجر والثواب، وأقدر على أن يعول ويرعى المسنين فلا حرج في أن يبادر إلى ذلك شأن شيمة المجتمع الإسلامي.. فشأن المجتمع المسلم أنه يعين بعضه بعضاً، ونحن نعلم الوعيد الشديد الذي ذكره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الحي الذي يبيت فيه جوعان والناس شبعى.

*******************************

مداخلة متصل: سأبدأ من آخر نقطة ذكرها الشيخ كهلان والتي تتحدث عن دور المسنين، وأخبر أنه قد يكون حلاً في حالة المسنين الذين ليس لهم أقرباء، ليسمح لي الشيخ هنا أن أطلب منه توضيح هذه النقطة أكثر؛ لأنه من وجهة نظري أن المجتمع يكفي أن يكون قريباً لهذا المسن، بمعنى ( ربما تكون هناك دور للمسنين، لكن لا تكون هناك قطيعة لهذا المسن من قِبل المجتمع).

الآن الحاصل أن المسن ذكراً كان أو أنثى يُذهب به إلى دار المسنين ثم يُنسى – ينسى من قِبل المجتمع –.

 حتى وإن لم يكن عنده أولاد فهو عنده جيران.. عنده أهلون هنا أو هناك لم يكون مقطوعاً، ولو لم يربطه بهؤلاء إلا الإسلام أو الإنسانية نسبٌ أو صلة لكفى، لكن الحاصل فضيلة الشيخ أن المسن متى ما أودع هناك لا يُزار.

فأنا أردت أن أوضح هذه النقطة بأنه حتى إن وضع المسن في دور المسنين فعلى الأقارب والجيران زيارته والجلوس معه والخروج معه، أي – لا يُرمى -.

كذلك من ناحية لفظة الكبير يتبادر لذهن المرء عندما يسمعها بأنها تعني الشيخوخة، وأكثر الآيات التي طُرِقَت كانت من ناحية كبار السن وما إلى ذلك، لكن هو في الحقيقة احترام الكبير ينسحب حتى على من يكبر المرء بيومٍ واحد، فقط أنا أردت أن أنوه أن حاجز السن أو مشاعر السن أن هذا الإنسان أكبر من إنسانٍ هذه تنمو مع الإنسان ذاته، ومن ثم المجتمع والذين حوله من الناس، فيجب على الناس أن يحترموا هذا الشعور ويقدرونه، وبالتالي تختلف طريقة مخاطبة المرء لمن يكبره سناً عن مخاطبة من يصغره سناً أو من ساواه في العمر، وقد يُستأنس بالآية الواردة في حق الوالدين {…فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا…} (الإسراء:23) في أنه يجب احترام من يكبرنا في السن بحيث لا نرفع صوتنا عليه.

يمكن أن أعارضه لكن بطريقة وأسلوب يختلف عن معارضة من يصغرنا في السن أو من هو في سننا، وقال الله تعالى – من باب الاستئناس – {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ…} (الحجرات:2)، على أن هنا الكبير في مقدار  تكليف – تكليف الرسالة.. تكليف المقام -، أيضاً هذا الكبير قد يكون في السن وقد يكون في الوظيفة من ناحية التكليف الوظيفي، فيُستأنس من هذه الآية بأنه لا ينبغي رفع الصوت على من تقدمنا في السن.

مداخلة متصلة: لدي مشاركة أردت أن أقول فيها أن مراعاة المسنين هي دَين، فإذا كان الإنسان يراعي المسن في حالة صغره فإن هذا سيعود عليه بالفضل عندما يكبر في السن، ويجد من يكرمه عندما يكون هو في نفس ذلك العمر ويحتاج إلى المراعاة.

مقدم البرنامج: حقيقة في بعض الأحيان فضيلة الشيخ الناس يمارسون موضوع أخذ العجزة – إن صح التعبير، أنت كنت تتجنب هذه اللفظة – إلى دار المسنين من خلال دفعهم إلى المستشفيات، وإهمالهم هناك على اعتبار أن مجموعة من الممرضين والممرضات يقومون برعايتهم وعنايتهم، ولربما يلح صاحب ذلك الشخص أو قريبه على المستشفى حتى يُرقَّد فيه فترةً من الزمن، وقد يُخفي في نفسه شيئاً من هذا النوع .

الشيخ كهلان: هذا مما يؤسف له، والحقيقة أن – وأنا هذا الذي أردت أن أعلق فيه على كلام الإخوة المتصلين أيضاً – نحن هنا لا نقترح إنشاء دور للمسنين، نحن هنا نريد أن نعالج ظاهرة إهمال المسنين، وهذا العلاج إنما يبدأ بتوقير المسنين.. بدعوة المجتمع إلى توقير المسنين.. إلى رعايتهم.. إلى الرحمة بهم والتذكير بأن هذا أمرٌ غاية في الخطورة حينما يقف العبد بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك استعرضنا من الأدلة ما استعرضناه.

أخي الكريم هناك رواية أنا كنت أحاول أن أتجنب أن أوردها لما فيها من مقال لكن اطمأننت إلى تصحيح صاحب تلخيص الحبير، ووجدت أيضاً فيها ما يعضدها في بعض روايات مسند الإمام الربيع بن حبيب، رواية أبي موسى الأشعري عند أبي داوود في سننه قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط”، وفي بعض الروايات الإمام العادل.

إذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينص أن إكرام ذي الشيبة المسلم هو من إكرام الله سبحانه وتعالى فلنتصور إلى أي مدى يبلغ حد ثواب وأجر إكرام ذي الشيبة.

لا يتحدث الحديث هنا عن الوالدين أو عن أحدهما، إنما يتحدث عن إكرام ذي الشيبة المسلم، ويبدأ الحديث ” إن من إجلال…”، وفي بعض الروايات ” من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم”، وكما قلت جملة من أهل الحديث صححوا هذا الحديث ومنهم صاحب تلخيص الحبير، وأيضاً الحافظ العراقي في تحقيقه لأحاديث الإحياء.

 وعند النسائي أيضاً ” ليس أحدٌ أفضل عند الله من مؤمنٍ يُعمَّر في الإسلام، يكثر تكبيره وتسبيحه وتهليله وتحميده”؛ لذلك قلنا في أول الحديث أنها نعمة من نعم الله عز وجل، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه أيضاً حال من يتقدم به العمر ( أن يستغل هذا النضج، وخفوت الشهوات في الاتصال بأبواب رحمة الله عز وجل من الإكثار من ذكره، والمحافظة قدر المستطاع على ما يتمكن منه).

فإذاً هي دعوةٌ للمجتمع لإدارك أهمية هذه المرحلة، ولإعطاء هذه الفئة حقوقها وما تستحقه.

نحن نفتخر حينما يخلو المجتمع من دورٍ للمسنين، فهذا مؤشرٌ إيجابي على أن المجتمع قائمٌ بحقوق المسنين فلم يحتاجوا إلى إنشاء دورٍ خاصةٍ لهم وإلا فإن الموضوع – كما قلنا – هو علاج وليس ظاهرةً سلبية، وقد يكون ذلك في بعض دور المسنين الموجودة في بعض البلاد الإسلامية هي لفترة النهار فقط حتى يُلزم الأبناء والأقارب برعايتهم، وإنما تكون في النهار لأن الناس تسعى في الأرض في أعمالها وفي طلب الرزق فلا يوجد أحدٌ يقوم بشأن المسن، وأما في وقت المساء والمبيت فإنه يعودون إلى بيوتهم.. إلى منازلهم، – كما قلنا – هي بحثٌ عن حلول، قد تكون مشكلة في مجتمع من المجتمعات، لكن أساس علاج هذه المشكلة إنما هو بإيقاظ الضمير بوازع الإيمان في قلوب الناس.

*******************************

خاتمة الحلقة

ورد في المستطرف قال ابن نباتة:

 تَبسُّم الشيب بوجه الفتى يوجب سُحَّ الدمع من جفنــهِ

 وكيف لا يبكي على نفسه من ضحك الشيب على ذقنه؟؟!

وقال ابن المعتز:

فما أقبح التفريط في زمن الصبا *** فكيف به والشيب في الرأس شاملُ؟؟

وكان المأمون يتمثل بقول الشاعر:

رأت وضحاً في الرأس مني فراعها *** فريقان مبيضٌ به وبهــيمُ

تفاريق شيبٍ في السواد لوامـــعٌ *** فيا حسن ليلٍ لاح فيه نجومُ

ويقال في الرجل إذا شاب: ليله عسعس، وصبحه تنفس.

مقدم البرنامج: الآن فضيلة الشيخ بقيت معنا دقيقة نتناول فيها ما طرحه المتصل الثالث  يقول: هناك ظاهرة معينة موجودة على خشبات المسرح تسعى إلى التندر بالمسنين، وجعلهم فرصةً للضحك والاستهزاء بهم في كثيرٍ من الأدوار والمشاهد، يقابل هذا – طبعاً هذا كلام من عندي أيضاً – يقابله أن بعض البرامج – البرامج الدينية إن صح التعبير – دائماً تُصور تعاليم الإسلام.. تُصور القيم على أنها بين رجلٍ كبيرٍ في السن وبين طفلٍ أو شابٍ صغير.

نريد على كل حال حديثاً حول هذا الموضوع.

الشيخ كهلان: لعل هذا – أقول لعله – يعكس ما هو موجودٌ في الواقع أصلاً، أي – نحن نأسف حينما نرى مثل هذه الحالات في واقع حياة الناس، أن هناك فعلاً استهزاءً بالمسنين.. هناك حط لأقدارهم ومنزلتهم -، وهذا بكل صراحةٍ وبشكلٍ مباشر يتعارض وتعاليم هذا الدين.

هذا ليس من شيم المسلمين ولا من أخلاقهم ولا من مروءاتهم، وعلى من وقع في ذلك أن يتوب إلى الله سبحانه وتعاليم، وأن يعلم – كما قالت المتصلة السادسة – أن هذا دَين كما أشار حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” ما أكرم شابٌ شيخاً في سنه إلا قيض الله له من يكرمه في سنه” أو ” عند سنه”.

فينبغي له أن يراعي سداد هذا الدين، وأيضاً في الصورة التي أضفتها تعاليم الإسلام لا تتمثل في شيخٍ كهلٍ فقط، وإن كان – كما قلنا – يفترض بالشيخ الذي اِبيضَّ مفرق رأسه أن يكون أكثر تديناً، وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى إلا أن الصلاح والاستقامة هي شأن المسلم دائماً؛ ولذلك عد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الأصناف التي يظلها الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله ” وشابٌ نشأ في عبادة الله عز وجل”.

ولكي أختم – وأنا أرى أن الوقت يوشك – أن رعاية المسنين منا نحن.. من كل مؤسسات المجتمع.. من الأفراد إلى المؤسسات العامة والأهلية الخاصة في المجتمع لا بد أن تركز على جملةٍ من الأمور منها: حفظ سلامة المسنين، والأمن الاقتصادي للمسنين، ثم الجانب العلمي بالإضافة إلى الحقوق المعنوية من الاحترام والتوقير والتقدير.

انتهت الحلقة