الصبر

عنوان الحلقة “الصبر”

مقدم البرنامج: أيها الإخوة الكرام السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد الذي اعتدنا أن نلقاكم فيه في كل يوم اثنين حيث نتناول معكم قيمةً من القيم الإنسانية الكبرى التي يتحلى الإنسان بها في حياته، وتكون سبباً بحول الله تعالى في سعادته.

وكنا قد وعدناكم في الحلقة الماضية أن نتحدث اليوم عن قيمة “الصبر”.

الصبر هذا المصطلح ليس غريباً على السامعين، فهو صفةٌ يمارسها الناس بمقادير مختلفة، ويُقدِّرون كذلك حاجتهم إليها، لكن الصبر بعد هذه المعرفة الطبيعية عند الناس يحمل معانٍ أكثر عمقاً وأعمق معنى.

فللصبر أدوارٌ كثيرة لو أدرك الناس معناها لأصبح طلب الحديث عنها مستمراً.

وقد جاءت حلقتنا هذه تلبيةً لهذا الطلب، فما الذي سوف نسمعه في هذه الحلقة عن قيمة الصبر؟؟

وما الذي عدَّه لنا فضيلة الشيخ الدكتور ” كهلان بن نبهان الخروصي” المستشار العلمي بمكتب المفتي العام للسلطنة؟؟

هذا ما اعتدتم عليه دائماً حيث تستمعون منه وتسمعون منه الكثير الكثير من المعاني الطيبة حول القيم التي يتناولها معنا بالشرح والتفصيل.

*******************************

مقدم البرنامج:عودتنا فضيلة الشيخ دائماً أن تحدثنا عن أهمية هذا الموضوع، وعن سبب اختيارك له، وكيف يتفق ويتلاءم مع الإطار العام للبرنامج ” دين الرحمة”، كما تبين لنا أيضاً العناصر التي يمكن للإخوة أن يشاركوا فيها.

الشيخ كهلان: قيمة الصبر هي من القيم الإنسانية النبيلة في هذا الدين.

 إن الصبر قوام إيمان الفرد في هذا الدين، به تستقيم حياته، وبه يتصل بالله سبحانه وتعالى ثقةً وأملاً، فما منا إلا ويُبتلى في هذه الحياة الدنيا بأنواعٍ من المآسي والكروب والغموم، فما لم يتعلق بالعروة الوثقى مستمسكاً بالصبر.. متصلاً بالله سبحانه وتعالى فإن اليأس سوف يستبد به، ولن يتمكن من الاستمرار في هذه الحياة؛ ولذلك كان الصبر من القيم الهامة في حياة المسلم التي تصاحبه في سائر شؤونه.

وحينما نتحدث عن الصبر نتحدث عن تلك الملكة التي يتمكن المرء بها من مواجهة الخطوب ومن تخطيها.

من الصبر على المآسي والآلام والمصاعب حتى يكتب الله سبحانه وتعالى له الفرج، ويكشف ما أصابه من كربٍ وغم.

وكون هذه القيمة من قيم هذا الدين التي يُكافأ المرء عليها، وينال بها جزاءً هو فوق عد العادين وحساب الحاسبين هو دليل رحمة هذا الدين بهذا الإنسان.

وكون هذه الصفة من الصفات التي دعانا هذا الدين إلى أن نتواصى بها، وإلى أن يأمر بعضنا بعضاً بالتمسك بها فإن ذلك دليلٌ على أن قوام المجتمع ووحدة المجتمع وتماسكه إنما يُراد أن تبنى على بناءٍ متينٍ يقوم على أساسٍ من التعاون والتكاتف الذي لا بد للصبر من أن يكون له فيه الحظ الأوفر؛ ولذلك فإن الصلة واضحةٌ جلية، وسوف نتعرض بمشيئة الله تعالى لعناصر عديدة.

في الحقيقة موضوع الصبر موضوعٌ طويل لكننا سوف نحاول أن نتخطى الكثير من الجوانب النظرية التي تصاحب موضوع الصبر لننتقل إلى الجوانب العملية التطبيقية سواءً من خلال النماذج التي نعرضها، أو من خلال المجالات التي نحتاج إليها اليوم نحن المسلمين حتى نتحلى فيها بالصبر.

ما هي المجالات والجوانب في واقع حياتنا التي نريد أن نتمسك فيها بالصبر فعلاً؟؟

كذلك كيف يمكن للواحد منا أن يتحلى بهذه القيمة؟؟

نحن دائماً نتحدث عن الصبر وثواب الصابرين ومكانة الصبر في الإسلام وكيف عالج القرآن الكريم هذه القيمة، ولكننا قلَّ ما نتحدث كيف يمكن للواحد منا أن يشعر أنه محتاجٌ فعلاً إلى أن يتحلى بالصبر.

كيف يمكن له أن يتحصل على هذه القيمة في واقع حياه؟؟

ثم إننا أيضاً بمشيئة الله تعالى سوف نستعرض – لا شك – جملةً من الآيات القرآنية والسياقات القرآنية، والسياقات التي امتلأت بها أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسيرته العطرة مما يتصل بموضوع ” الصبر”.

مقدم البرنامج: وأنا أريد أيضاً من الإخوة والأخوات جميعاً أن يشاركوا في الكثير من النقاط المتعلقة بالصبر؛ لأنني أريد أن أتعرف أيضاً على معنى الصبر عند الناس.

هناك الكثير من المعاني تحتاج إلى توضيح، وأيضاً هناك الكثير من التطبيقات يحسب الإنسان فيها أنه غير صابر وفي الحقيقة هو صابر، ولكن كيف يفهم أنه صابر؟

*******************************

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } (البقرة:155-157).

مداخلة متصل: الصبر هي كلمة بسيطة ولكن مضمونها كبير.

أيضا الله سبحانه وتعالى أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – وأمر المؤمنين وأمرنا بأن نصبر حيث قال سبحانه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ{127} إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل:127-128).

أتساءل فضيلة الشيخ عن الابتلاءات التي تصيب الإنسان في حياته اليومية هل تدخل في هذه الدائرة؟؟

مقدم البرنامج: تذكر لي مثالاً واحداً على الأقل.

المتصل: مثلاً الابتلاء بين الإخوة والأصحاب.. الابتلاء بين العائلة.. الابتلاء بالشغل.

فأنا أتساءل إذا الإنسان صبر على هذه الابتلاءات هل يدخل في دائرة الصبر؟؟

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ قبل مكالمة المتصل الأول نريد أن نضع تعريفاً هذه المرة من خلال تناول القرآن الكريم لقيمة الصبر.

نعم الصبر معروف – كما وضحنا في البداية -، والناس تدرك معناه وتطبقه، وقد لا تفهم أنها تطبقه في بعض الأحيان ربما لأنها تحتاج إلى توضيحٍ فيه.

الآن دعنا نتناول موضوع الصبر من خلال تناول القرآن الكريم له، ومن ذلك أيضاً ما هي منزلة هذه القيمة – قيمة الصبر في الإسلام -؟؟

الشيخ كهلان: تناول القرآن الكريم قيمة الصبر في سياقاتٍ متعددة، بل إننا نلمس الصبر في مجالات العقيدة والدعوة إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى أو شيءٍ من أركان الإيمان المعروفة.

نجد الصبر صفةً من صفات الله عز وجل، فهو تعالى صبور.

نجد الصبر صفةً من الصفات التي اتصف بها الأنبياء والمرسلون، والقصص القرآني الذي تناول ما تعرض له الأنبياء والمرسلون من أقوامهم، وكيف واجه الأنبياء والمرسلون ذلك الأذى بالتحلي بقيمة الصبر هي في الحقيقة سياقاتٌ تدعو إلى الكثير من التأمل.

لا يكاد يوجد نوعٌ من الأذى والابتلاء وما نعرفه نحن اليوم من الكربات والمصائب والمصاعب إلا وقد تعرض لأشده أحدٌ من رسل الله تعالى وأنبيائه الكرام – عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام -.

المرض تعرضوا لأشد أنواع المرض.. التكذيب والجحود من أقوامهم والاستهزاء بهم تعرضوا لما لا يمكن لعقلٍ بشري أن يتصوره.. الفقر والجوع تعرضوا لأشده.. التعذيب تعرضوا لما يقشعر البدن من تذكره حينما يوصف.

كل الابتلاءات التي يتصورها الناس تعرض لها في الحقيقة الأنبياء والمرسلون (الحبس.. السجن.. المرض.. الفقر.. الابتلاء من الولد.. الابتلاء من الأقارب.. الابتلاء من الأقوام.. التعذيب المادي والمعنوي) كل ذلك تعرَّض له خير البشر – أنبياء الله تعالى وصفوته.. رسله الكرام صلوات الله وسلامه عليهم -، ونجد القرآن يسرد لنا في مناسباتٍ شتى ما تعرض له هؤلاء الأنبياء والمرسلون وكيف واجهوه بجميل الصبر.

وسوف نتعرض لبعضه في كتاب الله عز وجل أي (من صبر أيوب ونوح ويوسف – عليه السلام – ويعقوب ونبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – وإبراهيم وإدريس) حتى أن الله عز وجل كان بعدما يسرد قصصهم يثني عليهم بتحليهم بصفة الصبر.

تعرض أيضاً القرآن الكريم لصفة الصبر بالأمر الصريح ( بـ الصبر) “اصبروا”.

أو بالأمر بالاستعانة بالصبر ” واستعينوا بالصبر”

“واستعينوا بالصبر والصلاة” في أكثر من مناسبة.

أو “واصبروا وصابروا ورابطوا”.

فإذاً بالأمر الصريح للعباد بأن يتحلوا بهذه الصفة الكريمة.

تعرض له في مقام التذكير بما ينبغي للعبد أن يتوجه به إلى ربه سائلاً وطالباً، فحكى لنا كيف أن الأنبياء والمرسلين وكيف أن الصالحين في هذه الأمة.. المؤمنين عبر تأريخ البشرية كانوا يتوجهون إلى ربهم تبارك وتعالى بالدعاء {…رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً…} (البقرة:250) في أشد الساعات حلكة، وفي أعظمها بلاءً.

نجد أن القرآن الكريم أيضاً يتناول أشد المواقف التي تواجه الناس من حروب ومن ابتلاءات فإذا به يُذَّكر العباد بقيمة الصبر.

نجد أن الله سبحانه وتعالى في سياقاتٍ أخرى من الكتاب الكريم يبين ثواب الصابرين وجزاءهم في الآخرة وما أعده لهم {…ِ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } (الزمر:10).

هذه السياقات كلها تعرض لها القرآن الكريم، وهناك الكثير من الأمثلة من الآيات القرآنية والأدلة التي سوف نتعرض بمشيئة الله تعالى لبعضها.

*******************************

مداخلة متصل: أود أن أسأل الشيخ عن موضوع الصبر (الصبر عن المعصية، والصبر على الطاعة) أيهم أكثر ثواباً الصبر عن المعصية أم الصبر على الطاعة؟؟

مقدم البرنامج: هل يمكن أسألك قليلاً؟؟

المتصل: تفضل.

مقدم البرنامج: ما معنى الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة؟؟

الصبر عن المعصية عرفناه وهو أن الإنسان يصبر على ترك المعاصي ، لكن كيف يكون الصبر على الطاعة؟؟

المتصل: أن يصبر على أداء الصلوات، وزيارة الأرحام فمثلاً أحياناً الإنسان يتكاسل أن يذهب لزيارة أرحامه فيضغط على نفسه ليذهب.

الشيخ كهلان: من خلال اتصال المتصل الأول وسوف نؤجل اتصال المتصل الثاني؛ لأنه من صلب النقاط التي سوف نتعرض لها بمشيئة الله تعالى.

بالتالي فإن ما يواجهه الإنسان في حياته قد تختلف أنواعه ودرجاته شدةً وخفة إلا أنه في كل أحواله هو مما يحتاج فيه إلى الصبر.

كثيرٌ من أهل العلم يقولون بأن الإنسان المسلم لا يكون إلا بين إحدى حالين ( إما أن يكون صابراً، وإما أن يكون شاكراً) لأنه إما أن يكون في بلاءٍ يمتحن الله تعالى به إيمانه فيصبر على هذا البلاء، ويواجه مرارة البلاء بحلاوة الصبر، وإما أن يكون في نعمةٍ وسعةٍ من الله عز وجل ليبتليه أيضاً ربه تبارك وتعالى بما يشاء فيشكر، والحديث مشهور ” عجبٌ لأمر المؤمن كله له خير وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له”.

فهو لا يخلو أن يكون إما في حالة صبر أو في حالة شكر، فإن كان ما يواجهه حتى في حياته العادية أحياناً حتى إلى مستوى المزاح الذي يكون بين الناس، فبعض الناس لا يحتمل المزاح ولو كان المزاح في حدود المعقول بين عموم الناس إلا أن طبائع الناس تختلف فمنهم من لا يحتمل المزاح فإذا به ينقلب خصماً وينقلب وحشاً كاسراً على من أراد ملاطفته – نحن نتحدث عن المقدار المسموح به شرعاً من المزاح هنا – فلا يحتمل.. لا يصبر حتى على المزاح، أو أن يكون ذلك في نطاق عمله.. في نطاق معاشرته لأهله وولده ( تصرفٌ بسيطٌ من ولدٍ صغير لم تكتمل ملكات عقله وتصوراته بعد ولكنه يقابل ذلك بالعنف والقسوة.. لا يحتمل من طفلٍ صغير يريد أن يتودد إليه مثلاً).

مقدم البرنامج: ربما يصل إلى الإضرار به.

الشيخ كهلان: فيؤدي نعم إلى عنفٍ وقسوة تؤثر سلباً بكل المعاني على هذا الطفل الصغير.

أو أنه لا يحتمل الشيبة الكبير – كما تحدثنا في حلقاتٍ سابقة – فيتأفف ويتضجر وهنا نتذكر قول الله سبحانه وتعالى {…فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً{23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ…} (الإسراء: 23- 24) كل هذه المعاني تحتاج إلى صبر، أي – تطبيقها لا بد له من صبر-.

كذلك حينما يتلقى الإنسان أذىً – أي نوع من أنواع الإيذاء المادي أو المعنوي – فإنه لا شيمة كالصبر تمكنه من التغلب على هذا الأذى، فالله سبحانه وتعالى يقول: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً…} (آل عمران:186)، ثم يقول بعد ذلك: {…وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } (آل عمران:186).

فإذاً مواجهة كل ما يمكن أن يصنف على أنه إيذاء إنما يكون بالصبر؛ وبالتالي كل هذه المواقف التي عددها المتصل الأول – بارك الله فيه – في اتصاله هي داخلةٌ في دائرة الصبر، ومن تحلى بالصبر في مواجهتها مخلصاً لله عز وجل كان لا شك ممن يناله ثواب الصابرين.

مقدم البرنامج: أي الذي يصبر على الابتلاءات التي يواجهها في حياته اليومية هي داخلة في مفهوم الصبر ويحصل الإنسان على أجورها.

الشيخ كهلان: نعم.

مقدم البرنامج: المتصل الثاني طرح موضوعاً آخر أيهما أفضل هل الصبر عن المعصية أم الصبر على الطاعة؟

الشيخ كهلان: لا يوجد دليلٌ شرعي – حسبما أعلم –  يُفضِّل صبراً على صبر، وهذا التقسيم أساساً – بتقسيم الصبر إلى صبرٍ عن المعاصي والآثام وإلى صبرٍ على الطاعات والواجبات – هو تقسيمٌ لدى بعض أهل العلم وإلا فكثيرٌ منهم قسّم الصبر إلى أقسامٍ أخرى كثيرة، وبالتأمل فعلاً يمكن تقسيم الصبر إلى أنواعٍ أخرى سوف نذكرها بمشيئة الله تعالى.

لكن كلها مما يؤجر العبد عليه، أما أيهما أكثر أجراً وثواباً عند الله تعالى فهذه تدخل فيها عوامل أخرى من إخلاص النية والقصد والتجرد لله عز وجل.

ما نعرفه أن الله عز وجل قال: {… وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } (البقرة:155).

والله تعالى قال: {… إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } (الزمر:10).

مقدم البرنامج: هل يخضع لموضوع البيئة أو الظروف التي يعيشها الإنسان؟؟

فالبعض مثلاً يعيش في موقع تكثر فيه المشكلات والفتن وغيرها من الأشياء التي تحتاج إلى دفعة قوية من الصبر كما فعل يوسف – عليه السلام – حينما اختار السجن مثلاً.

الشيخ كهلان: نعم لا شك، وحسنا فعلت بذكرك لقصة يوسف، فعلى مقام النبوة  وكما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –عنه ” الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم” أي ( هو يوسف بن يعقوب النبي ابن إسحاق النبي ابن إبراهيم النبي خليل الرحمن – عليهما السلام – ويتعرض للإيذاء من إخوته، ثم للرمي في البئر، ثم للرق وهو من هو في منزلته ومكانته وهو يعلم ذلك من نفسه، ثم ما تعرض له أيضاً من ابتلاءات مختلفة متعددة) لا ريب أن هذا التمحيص في مثل هذا المقام وفي مثل هذه الظروف لا ريب أنه أعلى منزلةً وأكبر درجةً من كثيرٍ مما يمكن أيضاً أن يصيب غيره من الناس.

لا ريب أن للظروف والأحوال دوراً فيما ينال الصابر من أجرٍ وثواب مع العوامل الذاتية التي ذكرناها.. التي تُشترط في كل عملٍ من الأعمال، وفي كل خصلةٍ يتحلى بها هذا الإنسان من الإخلاص والتجرد لله تعالى وإحسان النية.

*******************************

عن أبي سعيدٍ الخدري – رضي الله عنه – إن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال: ” ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدخره عندكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر”.

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ نحن سنتحدث بمشيئة الله تعالى معكم عن حقيقة البلاء وكيف يتعامل الإنسان مع هذا الأمر لكن نريد الآن أن نبقى مع الحديث وجو الحديث لتبينوا لنا ما يُستفاد من هذا الحديث حول موضوع الصبر.

الشيخ كهلان: الحديث فيه الكثير من المعاني والدلالات لكن دعنا نتأمل سويةً وأعيد الجملة الأخيرة التي وردت على لسان رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.

 يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: “… ومن يتصبر يصبره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر” أي هذا الحديث ” ومن يتصبر” دليل على أن الصبر من الصفات التي ينبغي للإنسان أن يتحلى بها، وأن لا يتكل، على أن صفة الصبر قد تكون طبيعةً لدى بعض الناس، فبعض الناس أكثر احتمالاً للأذى وأكثر مقدرةً على مواجهة الصعاب بالصبر من غيرهم، فيترك الأمور هكذا على عواهنه؛ بل عليه أن يسعى إلى أن يُصَّبر نفسه؛ ولذلك يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “… ومن يتصبر يصبره الله…” ثم يبين منزلة وقيمة الصبر بقوله “… وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر”.

 فإذا كانت الكروب تجعل من خُلق هذا الإنسان ضيقاً، وتجعل من نظرته أيضاً إلى الحياة نظرة ضيقة.. وتجعله يشعر بأن الأرض ضيقةً على نفسه بما رحبت هذه الأرض فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينبه بهذه اللطيفة أن الصبر هو أوسع عطاء لماذا؟؟

لأنه حينما يتحلى المكروب أياً كان كربه – كما قلت – بقيمة الصبر فإن ذلك الضيق وتلك الشدة التي هو فيها سوف تتحول إلى فسحة بماذا؟؟

بهذه القيمة التي تحلى بها، وعليه أن يُصَّبر نفسه.. عليه أن يحمل نفسه على الصبر؛ ولذلك ورد في حديثٍ آخر صحيحٍ عنه عليه أفضل الصلاة والسلام قوله ” إنما الصبر عند الصدمة الأولى” ؛ – وهذا يعود بنا إلى السؤال السابق الذي أشرتَ إليه حول المعايير التي يمكن أن يتفاوت بها الصبر وثواب الصبر من مناسبةٍ إلى أخرى وعند شخصٍ إلى آخر – الصبر عند الصدمة الأولى هو لا شك أكمل أنواع الصبر.

مقدم البرنامج: طيب لكن دعنا نقف مع النقطة الأولى التي سبقت هذا الموضوع “… ومن يتصبر يصبره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر” .

الملاحظ في هذا الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يصف العفة بأكثر من أنها عفة وكذلك الاستغناء وإنما الصبر أعطاه صفةً أخرى زيادة، هل الصبر هنا لو أعدنا تصوير الحديث مرةً أخرى ووجدنا مثلاً شخصاً يعطيه النبي – صلى الله عليه وسلم – مالاً فيقبله، وشخصٌ يتعفف لشيء وشخصٌ يستغني، هل الصبر في هذا الحديث يعني الجمود عند نقطةٍ معينة، أم يعني حركة معينة يدعو إليها النبي – صلى الله عليه وسلم -؟؟

لأن الناس قد يفهم والله أنا أصبر حتى تأتيني الأموال، وأحاول أن أكتم ما في نفسي من حاجة.

الشيخ كهلان: لا، هناك فارقٌ بين الصبر على الوضع الذي فيه الإنسان وبين اليأس وبين العجز والكسل.

الصبر هو حالةٌ تُمكِّن الإنسان من تخطي ما هو فيه إلى ما هو أفضل وأحسن، فيأخذ بالأسباب ويسعى إلى أن يتجاوز المرحلة التي هو فيها فينتقل إلى حالةٍ أفضل مما هو فيها، وهذه فائدة الصبر؛ لأن الصبر يدخل فيه القدرة على تملك العواطف والمشاعر.. الثقة واليقين بالله تعالى واللجوء والضراعة إليه.

يدخل فيه أيضاً الحلم والأناة والتعقل والتمسك بالأخلاق، وأن لا يقول المرء إلا خيراً، وأن لا يفعل إلا خيراً، فهذا يساعده على تخطي المرحلة التي هو فيها لأجل أن ينطلق إلى فسيح فضاءات فرج الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك هناك رواية أخرى عند الإمام مسلم فيها ” والصبر ضياء” أي هو بمثابة الضياء الذي يأتي ليبدد حلكة الظروف والمآسي التي تصيب هذا الإنسان.

المريض حينما يستبد به المرض، ولنقل بأن الأطباء آيسوه من الشفاء ولكنه متمسكٌ بالأمل أن الله عز وجل هو الشافي، وأن العافية بيد الله تعالى فيكون ذلك كالضياء الذي يبصر به حتى يكون موعده مع الشفاء بيد الله تعالى، وكذلك المكروب الذي يصاب بالبلاء في نفسه أو ماله أو في حاله فإذا به يتمسك بالصبر، فإذا بهذا الصبر يتحول إلى ضياءٍ وإلى أنوارٍ تبين له دربه الذي ينبغي أن يسلكه.

مقدم البرنامج: طيب لنتحول إلى موضوع الابتلاء الذي أشرتَ إليه قبل قليل.

هناك مآسٍ كثيرة تصيب الإنسان في نفسه وماله وفي عمله وفي تجارته وغيرها من الأشياء، وبعض الناس يسخط أمام هذه الابتلاءات التي تصيبه، ولا يفهم ما معنى الابتلاء حتى يُقدِّر قيمته.

 هذا السخط الذي يكون من هؤلاء الناس يفَوت عليهم ثواب الصابرين، نحن نريد منك أيضاً فضيلة الشيخ أن تعطينا توجيهاً إسلامياً للمسلم في هذه الحالات.

الشيخ كهلان: من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن بين لهم في كتابه الكريم أن شأنهم في هذه الحياة الدنيا أنهم يُبتلَون ويصابون، فطبيعة الحياة كما بينها لنا الله عز وجل في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم – أنها دار ابتلاء، فهي أساساً لا تخلو من الأكدار والمآسي والمصائب.

لا يمكن أن تخلو من ذلك، هذه هي حقيقتها.

ومُكلــــِّف الأيام ضد طباعهـا *** متطلبٌ في الماء جذوة نارِ

طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً *** من الأقذار والأكـــدارِ؟؟

لذلك قال:

ومُكلِّف الأيام ضد طباعها *** متطلبٌ في الماء جذوة نارِ.

هي هكذا طبيعتها، والله سبحانه وتعالى في الآيات التي استمعنا إليها من سورة البقرة وفي آياتٍ كثيرة في كتاب الله عز وجل يُخاطب عباده بقوله { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ…} (البقرة:155)، ثم بعد ذلك يقول: أي أخبرهم بحقيقة الدنيا قبلاً ثم بعد ذلك قال: {… وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } (البقرة:155)، بين تعالى ما الذي ينبغي لهم أن يفعلوه.

 مداخلة متصل: الإنسان إذا ابتلاه الله بأمر عليه أن يصبر، وهناك بعض الناس من يحاول أن يستفز الإنسان لكن الإنسان إذا صبر فإنه يكون هو الكاسب، والصبر مفتاح الفرج.

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ كنا قد قطعنا عليك الموضوع الذي كنت تتحدث فيه.

الشيخ كهلان: نعم، فإذاً قضية الصبر متصلة في القرآن الكريم بهذا الخطاب الذي بينه لنا القرآن الكريم.. بينه لنا ربنا تبارك وتعالى من كشف حقيقة الدنيا.

فإذاً لن يكون مفاجئاً للمسلم أن يصاب ويبتلى في هذه الحياة؛ لأنه قد علِم سابقاً أن الحياة هي هكذا.. هي طبيعتها هكذا، وهذا مما يعينه على الصبر، ثم يأتي بعد ذلك توجيهٌ آخر بينه لنا أيضاً رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حينما قال: ” ما من مسلمٍ يُشاك شوكةً فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة ومُحيت عنه بها خطيئة”.

فإذاً كل ما يصيب الإنسان في هذه الحياة الدنيا من تمحيصٍ وبلاء إنما هو رفعٌ لدرجاته.. حطاً لخطايا أو رفعاً لدرجة، فذلك أيضاً مما يعين.

حينما يتذكر الإنسان أولاً يتذكر حقيقة الدنيا أنه لا بد أن يصاب كما بين الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم (خوف: وهي أشد الأنواع التي تحتاج إلى الصبر.. أشد الحالات والمواقف التي تحتاج إلى الصبر هي انعدام الأمن.. إذا انعدم الأمن فلا بد من الصبر على مستوى الأفراد والجماعات.. هو الذي يمكِّن الناس من تخطي حالة الهلع وعدم الاستقرار، أو كان ذلك في وقت الفقر والجوع والكوارث التي عُبِّر عنها بـ “الجوع”، أو كان ذلك في ذوات الناس من فقد عزيزٍ من ولدٍ أو والدٍ أو قرينٍ أو زوجٍ أو زوجةٍ أو أخٍ حبيبٍ قريبٍ إلى الناس، أو نقصٍ في الأموال) .

كل هذه الابتلاءات قد علمنا بما أخبرنا الله تعالى أنها من طبيعة هذه الحياة الدنيا.. فشأنها كذلك، لكن من طبيعة الإنسان أن ينكسر قلبه أيضاً، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – انهمرت عيناه بالدموع لوفاة ولده إبراهيم، وقال: ” إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ولكن لا نقول إلا خيراً”؛ فلذلك مما يعين على الصبر وعلى تخطى مثل هذه الحالة التي وصفتها في سؤالك من اليأس ومن السخط ومن عدم الرضا هو الإيقان بحقيقة الدنيا أولاً، ثم الإيقان بحقيقة الثواب الذي ينتظر الصابر، ثم الإيقان أيضاً بأن الصبر متصل بالإيمان بالله تعالى، فالله عز وجل أمرنا في كتابه الكريم حينما أمرنا بالإيمان أمرنا أيضاً أن نتحلى بالصبر.

متصل رابع: الحقيقة أن الصبر لا تكفيه حلقة أو حلقتان، والصبر هذا موضوع ذو شجون فنرى في الوقت الحاضر أن الصبر على الفتن وعلى ترك المعاصي وخاصةً أن المعاصي في متناول اليد، وترك النظر إلى المحرمات وهجران المعاصي كفتنة النساء – والعياذ بالله – هذا من أشد أنواع الصبر في الوقت الحالي، نراها كذلك، كذلك الصبر على الطاعات وأن الإنسان يتوجه إلى طاعة الله تعالى عند سماع الأذان وأوقات الصلوات ،أي – كيف يستطيع هذا الإنسان أن يترك الدنيا ويذهب إلى المسجد حيث إن الله تعالى ناداه -، ففي الحقيقة في وقتنا الحالي انشغال الناس بالدنيا، وسهولة الذنوب والمعاصي، وانفتاح الحياة إلى درجة أن العالم صار قرية واحدة فصار كل شيء في متناول اليد.. كل شيء في متناول الأعين.. كل شيء في متناول الآذان، فما يحدث في الغرب يكاد تسمعه في الشرق وما يحدث في الشرق يكاد أن تراه في الغرب برغم طول المسافة، فما هي الطريقة التي ينبغي للمسلم أن يتبعها لكي يكون صابرا على هذا كله؟؟

ففي الحقيقة نسمع بعض الأحيان عن الانتحار، وهذا أمر دخيل على مجتمعنا، فهذا الإنسان الذي انتحر لم ينتحر إلا بعد أن نفد صبره، فلو كان يوجد صبر عنده لما انتحر، فبماذا يستطيع المسلم أن ينال الصبر، هل بالقرآن.. هل بالطاعات.. هل بقيام الليل؟؟

مقدم البرنامج: لنتحدث هذه المرة عن موضوع الصبر من زاويةٍ أخرى ليس باعتباره قيمة فردية يتحلى بها الفرد في خاصة نفسه فقط، وإنما كقيمة جمعية تشمل المجتمع بأسره.

كيف يتعاون المجتمع على الصبر؟؟

وما هي مسؤولية الفرد نحو مجتمعه في هذا الشأن؟؟

الشيخ كهلان: يقول الله تبارك وتعالى:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{وَالْعَصْرِ{1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ{2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:1-3).

فإذاً الصبر هو من القيم التي خوطب بها المجتمع بأسره، وفي هذا السياق الذي يبين فيه الحق تبارك وتعالى أن الناس هلكى خاسرون إلا حينما يتحلون بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فجعل التواصي بالصبر ركيزةً أساسيةً من الركائز التي تُبنى عليها نجاة المجتمع، ويبنى عليها صلاح هذا المجتمع مع الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق؛ لأن كل هذه في الحقيقة حينما يتأمل فيها الإنسان ولو لم يُذكر الصبر نصاً لكان مُتَضَمناً في معاني ما ذُكر.

فالإيمان بحاجةٍ إلى صبر، والعمل الصالح بحاجة إلى صبر، والتواصي بالحق ( احتمال الحق، وتطبيق الحق، ودعوة الآخرين إليه، وتمثله في الأنفس ) إنما يحتاج إلى صبرٍ شديد؛ فلذلك نص الله سبحانه وتعالى عليه نصاً في هذه السورة الكريمة الجليلة القدر الكبيرة المعاني.

فلذلك الصبر الذي ندعوا إليه ليس فقط ما يتعلق بالأفراد، وإنما أيضاً ما يتواصى به المجتمع.. ما يعين فيه بعضنا بعضاً، فحينما يُصاب أحدنا فإن علينا أن نُصبِّره ويكون ذلك بالمواساة وقد تحدثنا عن المواساة، يكون ذلك بمواساته في مصابه.. بالتخفيف عنه، وتختلف طرق المواساة والتخفيف من عباراتٍ لطيفةٍ ومن بيان ثواب المصيبة التي أصابته، ومن الدعاء له بأن يُخلف الله تعالى عليه خيراً مما أخذ عنه.

إذا كان أحد صحابة رسول الله – صلى الله عليه ولم – وهو يدفن ولده في القبر وإذا بصحابيٍ آخر يقول له: أأبشرك؟؟ – وهو يدفن ولده -، فيقول: بم؟؟

فيبين له ثواب ما ابتليَ به من مصيبة فقدان الولد حتى يخفف عنه ويُسليه.

فإذاً ينبغي لنا أن نعمم – لنقل – ثقافة التواصي بالصبر في المجتمع.. يواسي بعضنا بعضا.

ليس من شأن المسلم أن يقول هذا ليس من شأني.. البلاء الذي أصاب جاري أو أخي أو زميلي في العمل أو من أعرف هو ليس من شأني، لا، ينبغي للمسلم أن يبادر إلى أن يواسي إخوانه وأن يدعوهم إلى التحلي بالصبر، وأن يبين لهم عاقبة الصبر فإن في ذلك من التخفيف ومن الآثار التي تحقق معاني الأخوة ما لا يخفى.

فإذاً لذلك كان الصبر من القيم المجتمعية التي يدعو إليها هذا الدين وليس فقط قيمةً فرديةً يتحلى بها الناس في ذواتهم وأفرادهم فقط.

مقدم البرنامج: نعم؛ لأن الإنسان على كل حال الذي يصاب بشيء يتطلب الصبر إذا وجد الناس متفاعلين معه في هذا الجانب يزيد من قوته للتحمل؛ لأنه يشعر بالتضامن الأخوي.

طيب هناك ذكرتم في موضوع الابتلاء، وأن الإنسان لكي يتحمل هذا الابتلاء عليه أن يكوِّن مجموعة من المعتقدات والقناعات، هل يمكن أن يكون من بينها فضيلة الشيخ أن هذا الابتلاء الذي أصيب به في حقيقته خير ولكنه لا يعلمه؟؟

الشيخ كهلان: نعم، وهذا المعنى نص عليه القرآن الكريم {…وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ…} (البقرة:216)، هذا مما يعين.. من الوسائل التي كنا سنتعرض لها في كيفية توطئة النفس وحملها على الصبر، فإذا كنت تريد أن نتحدث عن هذا الموضوع .

مقدم البرنامج: لا بأس هو أيضاً يدخل في مكالمة المتصل الرابع، أي أن نذكر بعض الوسائل العملية التي تعين من كان حظه من الصبر قليلاً بحيث يتمكن من حمل نفسه على الصبر في المواقف التي يحتاج إليها.

الشيخ كهلان: جميل، إذاً خطابنا الآن لكل أحدٍ يرغب في أن يتحلى بقيمة الصبر، وأن يحمل نفسه على الصبر، وأن يعود نفسه فيما يواجهه من خطوب على التحلي بقيمة الصبر.

أولاً: التقوى فإن الله سبحانه وتعالى قد ربط بين الصبر والتقوى في أكثر من موضع من كتابه؛ ولذلك نجد في سياقات متعددة أن القرآن الكريم يقرن بين الصبر والتقوى فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (آل عمران200)، ويقول: { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } (آل عمران:186)، وفي بعض الآيات يأمر بالصبر ثم بعد ذلك يبين عاقبة المتقين، وكأنأخص صفةٍ من صفات المتقين في ذلك السياق الذي قصه لنا الله سبحانه وتعالى إنما هو الصبر.

حتى في قصة موسى-عليه السلام- { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (الأعراف:128)، هناك يأمرهم بالصبر ولكن يقول لهم والعاقبة للمتقين، لم يقل لهم والعاقبة للصابرين وكأن الصبر هو روح التقوى التي يأمرهم بها.

ونجد مثل هذا المعنى أيضاً في آياتٍ كثيرة من كتاب الله عز وجل مثلاً بعدما قصَّ الله عز وجل على رسوله محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – قصص الأنبياء والمرسلين في سورة هود قال: { تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ…} (هود:49)، ثم قال: {…إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود:49)؛ فلذلك لا بد أن يحمل الذي يريد أن يمتلك ناصية الصبر أن يتحلى بالتقوى، وهذا يعني أن يحمل نفسه على طاعة الله عز وجل، وعلى الكف عن محارمه.. أن يدرب ويعود نفسه على ذلك وهذا هو شأن المسلم دائما في حقيقة الأمر.

 ومع هذا أيضاً ينبغي له أن يداوم على الصلاة؛ للأمر الصريح بها في كتاب الله عز وجل مقرونةً بالصبر وهذا تعرضنا له سابقاً في أكثر من موضع من كتاب الله عز وجل، فالمداومة على الصلاة هي مما يعين على أن يتمكن المسلم من التحلي بصفة الصبر حينما يحتاج إليها.

أيضاً الدعاء:

الدعاء كما علَّمنا الله تعالى في كتابه الكريم مما ينبغي للمسلم أن يحرص عليه، وعلمنا صيغة الدعاء فمثلاً في سورة البقرة يتكرر هذا { وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (البقرة:250).

سألوا ربهم أن يفرغ عليهم الصبر قبل أن يسألوه النصر على عدوهم والثبات في الموقف الذي هم فيه، وهذا نجده أيضاً في سورة الأنفال أيضاً فالله سبحانه وتعالى حينما أمر عباده بطاعته وبطاعة رسوله وبالثبات والاتحاد أمرهم أيضاً بالصبر .

مقدم البرنامج: صبر داخلي وصبر خارجي (الصبر على نفسه التي وهنت أمام هذا الموقف العظيم وعلى صعوبة المواجهة).

الشيخ كهلان: نعم الصبر يمكن أن يُنظر إليه من حيث طبيعة البلاء.

هل هو بلاءٌ يصيب الأجساد أو هو بلاءٌ يصيب النفوس؟؟

يمكن أن يُقسّم هناك صبر أجساد، وهناك صبر نفوس، وكثيرٌ من أهل التزكية يقولون بأن صبر النفوس أشد وأصعب من صبر الأجساد؛ لأن صبر الأجساد يتصل بالقوة البدنية على احتمال الأذى المادي الذي يصيب هذا الإنسان، أما صبر النفوس فهو الذي يمكن أن يحمل الأبدان أصلاً على أن تحتمل أيضاً الأذى المادي، فهو أهم؛ ولذلك قلنا إن تقسيم الصبر إلى صبر على الطاعة وصبر عن المعصية إنما هو تقسيمٌ باعتبارٍ معين وإلا فيمكن أن ينقسم الصبر إلى أقسامٍ كثيرة باعتبارات مختلفة.

فإذاً ذكرنا التقوى.. ذكرنا الصلاة.. نذكر أيضاً الدعاء.

أن يحرص على أن يدعو ربه في الرخاء.. في حالات السعة أن يلهمه الصبر إذا احتاج إلى ذلك، أي – لا بد أن يداوم المسلم على سؤال الله عز وجل أن يفرغ عليه الصبر -.

قلنا الصلاة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (البقرة:153) فهذا يدعو أيضاً إلى خطوةٍ عمليةٍ أخرى رابعة أو خامسة وهي الإكثار من ذكر الله تعالى.

الإكثار من ذكر الله عز وجل هو مما يمكن المرء من الصبر على الشدائد، فلا يناسب أن يريد المرء لنفسه الصبر وهو غافلٌ عن ذكر الله تعالى، بل لا بد من المداومة على ذكر الله تعالى حتى يحيا هذا القلب، والقلب هو مبعث الصبر النفسي الذي نتحدث عنه.. أو صبر النفوس الذي نتحدث عنه، فإذا ما كان هذا الصابر واسعاً متعلقاً متوكلاً على الله سبحانه وتعالى واثقاً أن الفرج بيد الله عز وجل، وأن الله تعالى يبتلي العباد بما شاء فإن ذلك سوف يضفي على نفس هذا الإنسان صبراً وأناةً وتوكلاً حقيقياً على الله سبحانه وتعالى.

تأتي الخطوة التي ذكرناها أيضاً فيما مضى وهي أن يوصي بعضنا بعضاً بهذه الخصلة.

هذه كلها من العوامل..

مقدم البرنامج: المجتمعية.

الشيخ كهلان: نعم، هذه كلها من العوامل التي لا بد لكل واحدٍ منا أن يحرص عليها إن هو أراد لنفسه أن يكون صابراً.

مقدم البرنامج: جميل.

في موضوع الصبر أيضاً فضيلة الشيخ ما ذكره المتصل الرابع في مكالمته هل عدم هذه الأشياء التي ذكرتموها.. الطرق والوسائل التي تعين الإنسان على الصبر يعني عدم الصبر بطبيعة الحال؟؟

مثلاً ذلك الذي يحاول الانتحار بعد أن تصيبه مشكلةٌ معينة.

الشيخ كهلان: نعم هذا واضح، ذلك أننا قلنا ابتداءً أن الصبر متصلٌ بالإيمان والتقوى والعمل الصالح، فإذا فقد الإنسان إيمانه فإنه يمكن أن يرتكب أي حماقةٍ؛ ولذلك كان من صفات المؤمن مهما اشتدت به الكروب أن لا ييأس من روح الله تعالى {…إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (يوسف:87)؛ ولذلك ينبغي له أن يكون أول ما يبادر به نفسه حينما تواجهه الخطوب أن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى بالتوبة والإنابة إليه، فإن الذي يمكن أن ينجيه من كل كرب إنما هو الله تعالى، والله عز وجل هو ذو القوة والجبروت، وبيده ملكوت السماوات والأرض وفي يده خزائن السماوات والأرض التي لا تنفد، وهو الذي يُسَير الأقدار ويُسَير نواميس هذا الكون؛ لأنه هو خالقها ومدبرها فهو قادرٌ على كل شيء.

وهو الذي خاطب موسى أن يضرب بعصاه الحجر فانفلقت .. فانبجست منها اثنتا عشرة عينا.

مقدم البرنامج: لكن فضيلة الشيخ الناس ربما لا تصبر على الاستجابة، بمعنى – قد تتأخر الاستجابة على ذلك الداعي أو اللاجئ إلى الله تعالى الطالب منه العون فلا يصبر فيقول: مضى شهر أو شهران ولم تأت الاستجابة التي دعوت بها -.

لو تحدثنا عن كيفية الصبر على موضوع النتيجة التي تأتيه من الله.

الشيخ كهلان: نعم وأنت ذكرتني بسؤالك هذا بخطوة أخرى من الخطوات العملية وهو أن يتعلم سيرة الأنبياء والمرسلين.. أن يطالع فيها وأن يقرأها.

هذه القصص التي قصها لنا الله عز وجل لا يراد منها المتعة فقط، يراد منها نعم التسلية والتخفيف فيما يصيب هذا الإنسان من ابتلاءات لبيان أن من هم خير منه قد أصيبوا بهذه الابتلاءات فهكذا كانوا.

عليه أن يقرأ وأن يتأمل في قصة يوسف – عليه السلام -، في أيوب وصبره وما أبتلي به من ابتلاءات وطول الصبر.. في نوح – عليه السلام – الذي مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وما آمن معه إلا قليل، وأقرب قرابته (ابنه) يكفر به ويجحد بدعوته، أي – هذا الأذى الشديد.. ألف سنة إلا خمسين عاماً وما يؤمن به إلا نفرٌ قليل، وبين لنا القرآن الكريم كيف كان يدعوهم سراً وعلانية.. ليلاً ونهاراً.. سراً وجهراً، هود – عليه السلام – وما لاقاه.. رسولنا – صلى الله عليه وسلم – الذي خوطب أيضاً بما خوطب به الأنبياء والمرسلون قبله.

كل هذا مما ينبغي أن يتأمل فيه الإنسان.

الصبر يحول الأشهر والسنوات إلى لحظاتٍ ودقائق، كما أن اليأس يجعل من الثواني أشهراً وسنوات.

مقدم البرنامج: هذا يعني أنه كلما طال صبر الإنسان زاد تقدماً وليس تأخراً.

خاتمة الحلقة

لنستمع إذاً إلى هذه الأبيات التي تصف هذا المعنى.

إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق لما به الصدر الرحيبٌ

وأوطنت المكاره واطمــأنت *** وأرست في مكامنها الخطـوب

ولم يُرَ لانكشاف الضر وجهٌ *** ولا أغنى بحيلته الأريــــبُ

أتاك على قنـوطٍ منك غوثٌ *** يـجيء به القريب المستـجيبُ

وكل الحادثات وإن تنـاهت *** فمـوصولٌ بها الفرج القريـبُ.

مقدم البرنامج: الصبر مفتاح الفرج.

شكراً لكم أعزاءنا الكرام في هذا اللقاء الذي تحدثنا فيه مع فضيلة الشيخ الدكتور ” كهلان بن نبهان الخروصي” حول موضوع الصبر.

انتهت الحلقة