مسؤولية التربية ج4

مسؤولية التربية ج4

بثت في:

8/ رجب/ 1431هـ

21/ يونيو/ 2010م

————————–

مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد.

في عالم التربية تتعدد الأفكار والنظريات، وتكثر التجارب والاجتهادات، ورغم وجود معالم واضحة للخطوط التربوية العامة إلا أن الصور والمواقف المختلفة تتعدد وجهات النظر فيها، تماماً كما تختلف نفوس الأبناء في طريقة تقبلها لمناهج تربية الآباء، وأبرز طريقتين في حياة الناس هي طريقة التدليل، وطريقة التأديب، وهناك من يجمع بينهما لكنه يحتاج أن يحدد موضع قدمه فيها، وبأي نظريةٍ يأخذ، وفي عالم المسلمين قد يتكئ الأب كثيراً على موضوع الطاعة والبرِّ والإحسان، ويستخدم ذلك في ترشيد رغبات الولد أو البنت، وفي تحديد طريقة الحياة التي يريد حتى يكونوا نسخةً قاتمةً أو واضحةً من الأب، وفي الحلقات الماضية أيها الإخوة الكرام عالجنا هذا الموضوع بتحديد مفهوم الطاعة، والمرحلة التي تتحول فيها من طاعة امتثال إلى طاعة برٍّ وإحسان، وسنعالج اليوم-بإذن الله تعالى-قضايا تربويةً أخرى، ونطرح سؤال الحقوق المتبقية على الوالدين لأبنائهم إذا نَشَأوا على غير صلاح وتنكبوا الطريق، إذاً نحن في هذا اللقاء ننتظركم لتشاركوا بإذن الله سبحانه وتعالى في هذا الموضوع.

ضيفنا الذي يعدُّ ويقدِّم هذا البرنامج والذي نحاوره من خلال أسئلةٍ عدة ومن خلال أسئلتكم أيضا التي تأتينا هو فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة، وكعادتنا وكما قُلنا نطرح سؤالاً أيضا نطلب منكم فيه المشاركة بحول الله تعالى.

*******************************

أهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ..

الشيخ كهلان: حياكم الله، وأهلاً وسهلاً بكم، وأنا أُحيِّي أيضا الإخوة والأخوات الذين تابعونا في هذا الموضوع، والذين يتابعوننا باستمرار، وأسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه تعالى سميعٌ مجيبٌ.

مقدم البرنامج: آمين يا رب العالمين.

فضيلة الشيخ هذه هي الحلقة الرابعة والأخيرة-بإذن الله تعالى-في موضوع مسؤولية التربية، وأهم ما دار في الحلقات الماضية يتلخصُ في أن تربية الأولاد هي أمانةٌ ومسؤوليةٌ جمعية، يتحمل المجتمع بأسره أدواراً متفاوتة في أدائها، بدءً من الوالدين والبيت، ثم الروضة والمدرسة، ومروراً بالمسجد، ووسائل الإعلام المختلفة-كما بينتم-، وكذلك بالوسائل المعاصرة التي يتعامل معها أطفالنا من وسائل اتصال وترفيه وتسلية، وتم التأكيد على أن من ألزم حقوق الأولاد إحسان تربيتهم، وأن التأديب لا يعني القسوة والعنف، كما أن الرفق بهم لا يعني الدلال الزائد وكذلك تنشئة الأولاد على الميوعة والترف، كما أننا تناولنا قضيةً هامة وهي مدى سلطة الوالدين في التدخل في الشؤون الخاصة لأولادهم إذا ما صاروا رجالاً ونساءً لهم حرياتهم واستقلالهم، فهل يمكن فضيلة الشيخ أن نبدأ اليوم بهذه القضية لنلخصها مرةً أخرى للمتابعين؟ ثم لو نَذكُر العناصر الجديدة أيضا التي ستتناولها هذه الحلقة الأخيرة من هذا الموضوع.

الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن موضوع مسؤولية التربية هو في الحقيقة من الموضوعات بالغة الأهمية؛ وذلك لأنه يتعلق-كما تفضلتم-بصناعة الأجيال، وتربيتهم وتنشئتهم التنشئة التي تمكِّنهم بإذن الله عز وجل من أن يكونوا صنَّاع المستقبل، صالحين في أنفسهم، مصلحين في مجتمعاتهم، متسابقين إلى الخيرات، معمرين للأوطان، بنائين لكل ما من شأنه أن يرتقي بمجتمعاتهم وأممهم، محققين لكل الآمال الخيرة التي تصبو إليها النفوس، وتتطلع إليها المجتمعات، في ظلالٍ من الاهتداء بأنوار الشرع الحنيف، ومن السَّير على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ويحقق لهم بإذن الله عز وجل السعادة في الدنيا والنجاة في العقبى؛ ولذلك كان الموضوع فعلاً موضوعاً يستحق وقفاتٍ طويلة، ومع ذلك فنحن كما بيَّنا في الحلقات الماضية لا نتناول هنا الجزئيات التربوية، فهذه لها أهلها من المختصين من أهل هذا الفن الذين يتناولونها، وإنما نتناول هذا الموضوع في نفس إطار برنامجنا دين الرحمة، أي من حيث القيم والمبادئ التي تكتنف مسؤولية التربية، مع التنبيه إلى كونها مسؤوليةً مجتمعية تُرَتِّبُ أماناتٍ على عواتق أفراد المجتمع، لا كما يَظُنُّ بعض الناس أنها مسؤولية الآباء والأمهات فقط دون غيرهم.

وكنا قد استعرضنا نقاطاً عديدةً، واستوقفتنا مسألةٌ لخَّصتَها أنتَ اليوم في السؤال الذي أردتَ أن نبدأ به وكنا قد ناقشناه في الحلقة الماضية، وهو: إلى أي مدى يسوغ للآباء والأمهات أن يتدخلوا في الشؤون الخاصة بأولادهم إذا ما شبوا وصاروا رجالاً ونساءً؟ وهذه القضية الجواب فيها ليس بالجواب الذي يمكن أن يَظُنَّ ظانٌّ أننا ندعو فيه إلى أن يتمرد الأولاد على آبائهم أو أن يتسلط الآباء والأمهات على أولادهم؛ لأن حق كلٍّ محفوظٌ مهما كانت الظروف والأحوال؛ فإن الله سبحانه وتعالى إذا كان قد أمر بإحسان صحبة الوالدين المشركَين وإذا كان قد أمر بصحبتهما بالمعروف مع عدم طاعتهما في ما يأمران به من ما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى فإن ذلك لا شك يعني أنه من باب أولى أن يُحسِن المسلم إلى والديه، وأن يظل باراً بهما، مؤدياً لحقوقهما مهما كانت الأحوال والظروف، فالله عز وجل يقول: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً …} (لقمان:15)، والله سبحانه وتعالى حينما أمر عباده فقال: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى …} (النحل:90) وأي قرابةٍ يمكن أن تكون أشد وأقرب وألزم من قرابة الولد بوالديه والوالدين بولدهما؟!

ولئن كان الله سبحانه وتعالى قد أمر أيضا بالرفق في مواضع كثيرة فإن الرفق واللين أدعى أن يكون بين الوالدين وأولادهم وبين الأولاد ووالديهم، ولهذا فإن مسألة القيام ببرِّ الوالدين والإحسان إليهما ومصاحبتهما بالمعروف أمرٌ مفروغٌ متفقٌ عليه؛ لكن هذا في ذات الوقت لا يُسَوِّغُ للآباء والأمهات أن يتدخلوا في الشؤون الخاصة بأولادهم إذا ما صاروا رجالاً ونساءً؛ لأنهم يغدون-أي الأولاد-مكلفين في نظر الشرع الحنيف، يكونون مسؤولين عن تصرفاتهم أمام الله سبحانه وتعالى يُحاسَبون بالثواب والعقاب إن اختارهم الله عز وجل إليه، فطالما أنهم أهلٌ لحمل التكاليف الشرعية فأدعى أن يكونوا أهلاً لتحمُّل أعباء الحياة، وما الحياة الدنيا إلا مزرعةٌ للآخرة، وما الأمور الدنيوية بالنظر إلى أمر الشارع إلا أمورٌ يسيرةٌ يكدح فيها الإنسان، ويسعى لأجل عمارة آخرته، وهذا شأن العقلاء،

ولذلك فإن استدلال بعض الناس-كما قلنا-استدلال بعض الآباء بقول رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: “أنت ومالك لأبيك” فَيُسَوِّغُ الوالد لنفسه أن يأخذ من مال ابنه ومن كسبه هو استدلالٌ في غير محله، فإن ذلك مقيدٌ بشروطٍ تعرضنا لها في الحلقة الماضية، وقلنا بأنها في مجملها تدور حول الضرورة والاحتياج، وعدم إعناة الولد ولا إلجائه إلى العوز والفقر، وأن لا يكون احتياج الأب أيضا في ترفٍ ولهو، وأن يكون ذلك بالمعروف، وأن تتعذر وسيلة الرضا، وإلا فإن هذا الحديث مُعارَضٌ بقول رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: “كلٌّ أحق بماله حتى الوالد وولده”؛ لكن هناك أموراً خاصة كاختيارات الأولاد-أي الرجال والنساء-لحياتهم ولأزواجهم وزوجاتهم ولمسيرتهم التعليمية، وللطريقة التي ينفعون بها مجتمعاتهم، ويخدِمون بها أوطانهم وأممهم، هذه لا يَسُوغُ أن يقال بأن على الأولاد طاعة الوالدين في هذه الأمور، كيف ونحن نعلم أن كثيراً من الآباء والأمهات-للأسف الشديد-هم في جهل وأولادهم في هدى، أولئك في أمية وأولادهم في علمٍ ونور، فكيف يَسُوغُ أن يقال بأن على الأولاد أن يسمعوا ويطيعوا لآبائهم وأمهاتهم الأميين في ما يتعلق بمصالحهم هم أو بمصالح مجتمعاتهم أو بالكيفية التي يحيون بها ويتعاملون بها مع الآخرين!!

نعم للآباء وللأمهات أن يَنصَحوا ويُوجِّهوا ويُرشِدوا، كما أن على الأولاد أن يُحسِنوا صحبة آبائهم وأمهاتهم، وأن يَبَرُّوهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، أما اختياراتهم الخاصة الشخصية فإنها من أمورهم التي هم يُسألُون عنها يوم القيامة عند الله سبحانه وتعالى، وهذا يُحمِّلُ الأولياء-وهي نقطةٌ هامة-يُحمِّلُ الأولياء مسؤولية إعداد أولادهم لبلوغ هذه المرحلة، واستدللنا لذلك ببعض آياتٍ أحبُّ أن أُذكِّر بها؛ لأنها في الحقيقة مهمة، وهي قول الله سبحانه وتعالى في إيتاء السفهاء واليتامى أموالهم قوله سبحانه: { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً{5} وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ …} (النساء:5-6).

{وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى …} هذا الابتلاء إنما يكون بعد تهيئةٍ وإعدادٍ من قِبَلِ الأولياء حتى ولو لم يكونوا آباء؛ لأننا نتحدث عن ولاية اليتيم أو الآية تتحدث نصّاً عن أموال اليتامى، فالآية تتحدث عن إعدادهم وتهيئتهم ثم بعد ذلك عن اختبارهم بما يناسب أعمارهم في إدارة شؤون مالهم، فإن أحسنوا التصرف بعد أن يبلغوا سن النكاح أي يبلغوا الرُّشد فإن اِستُأنِسَ منهم الرُّشد.. العقل وحُسْنُ التدبير دُفِعَتْ إليهم أموالهم، وهذا يعني أنهم صاروا أكفاء وجدراء بإدارة شؤون أموالهم مهما عَظُمتْ، وأن على الأولياء أن يدفعوا إليهم هذه الأموال، فمن باب أولى أن يكون الذي يعيش في محضن والديه أن يكون أهلاً لتحمُّل هذه الأعباء.

ورسول الله-صلى الله عليه وسلم-رأى صبياً لا يُحسِن سلخ شاة، فقال: “يا غلام دعني أُريكَ كيف تسلخ الشاة”، فأدخل رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يده، وأراه الطريقة، وقال: “هكذا اصنع”-في روايةٍ في السنن-، فكان يُهيئ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وهكذا كان أيضا شأن صحابته الكرام، كانوا يُدَرِّبونَ أولادهم قبل أن يَصِلوا إلى سن الرشد.. يُدرِّبوهم على تحمُّل أعباء الحياة.. يُدَرِّبونهم على حتى ما نعرفه نحن اليوم بالتدريبات الرياضية التي تعينهم على بناء أجسادهم، وعلى اكتساب مهاراتٍ تعينهم في حياتهم، كانوا يُروونهم الأدب والشعر الذي يصقل أخلاقهم وهم صغار وهم أحداث، كانوا يعودونهم على الصلاة والصيام، وحتى أن روايةً من طريق الربيع بنت مُعَوِّل قالت: كنا ندرب الصغار على الصيام في غير صيام رمضان حتى الصبيان، وكنا نصنع لهم الدمى من العهن-أي من القطن-، فإذا ما سألوا الطعام وعدناهم بالهدايا أو وعدناهم بالدمى أي بعد الإفطار كمكافأةٍ وهديةٍ لهم؛ ولذلك لا نقول أنه ينبغي بل يجب أن يهيأ الأولاد على تحمُّل أعباء الحياة، وعلى القدرة على تدبير أمورهم وعلى نفع مجتمعاتهم وخدمتها، لا نقوله حتى يتمرد الأولاد على آبائهم أو حتى نوسِّع هوَّةً بين الآباء والأمهات من جانب وبين أولادهم من جانبٍ آخر، وإنما حتى نضع الأمور في نصابها.

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ الآن في تحديد مفهوم الطاعة معنى ذلك أن الابن أو البنت إذا وصلوا إلى الحدِّ الذي يستقلون فيه بحياتهم؛ لكن موضوع البنت تحتاج أيضا إلى مزيد تفصيل..

الشيخ كهلان: نحن استثنيناه.. ذكرناه سابقاً في مسألة ولاية التزويج وما يتصل بالضوابط الشرعية في خروجها ودخولها واستئذانها وإلى آخره، هذا تعرضنا له في الحلقة الماضية.

مقدم البرنامج: نؤكد أيضا على مفهوم الولاية، ما معناها؟

الشيخ كهلان: الولاية هي مراعاة المصلحة.. مراعاة مصلحة هذا الولد ذكراً كان أو أنثى، وبالمناسبة أنتم ذكَرتُم في المقدمة ما يستدعي شيئاً من البيان.. ذكَرتُم مسألة التأديب وفي المقابل التذليل، وأن المنهج الصواب هو المنهج الوسط، الحقيقة كلمة التأديب هي في عُرْفِ الناس اليوم  انصرفت إلى الضرب والعنف والقسوة، وإلا فليست هي كذلك، تماماً كما هي كلمة التربية، فإن كل المعاني التي تدور حولها كلمة التربية وكلمة التأديب لا تتصل بالضرب أبداً..

مقدم البرنامج: مأخوذة من الأدب..

الشيخ كهلان: مأخوذة من الأدب، والأدب يقولون أجمل المحامد، وأحسن الأخلاق التي يدأب عليها الإنسان، ويسعى إلى اكتسابها؛ ولذلك ما يحتف بها من الأدب الذي هو بمعنى ما يصقل المواهب ويرتقي بالذائقة من ما نعرفه نحن اليوم من الآداب من القصص والشعر والنثر وإلى آخره إنما سميت كذلك لأن الأصل فيها أن تَصنَعَ هذا الصنيع.. أن تَغرِس المحامد، وأن تُجنِّبَ الأخلاق الرذيلة، وأن ترتقي بالذائقة، وأن تَفتَح الآفاق، وتُفتِّقَ الأذهان، وحينما يقال رجلٌ أديب فإما أن يُقصَد بذلك حُسْنُ خُلُقِهِ أو أن يُقصَد بذلك سعة أُفُقِهِ ودرايته بهذه العلوم والمعارف أو بهذه الأدبيات التي نتحدث عنها أو أن يُقال ذلك لحلمه وسعة صدره واستيعابه لأخطاء الآخرين، فكلها معاني لا تدور حول القسوة والعنف والضرب، وكذا الحال بالنسبة للتربية فهي من رَبَّا يَرُبُّ بمعنى الرعاية والحفظ والعناية، هكذا هي كلمة التربية.

مقدم البرنامج: الآن نأتي إلى آيةٍ قرآنيةٍ نريد أن نسترشد من خلالكم في موضوع معانيها وما يتعلق بموضوع التربية الذي نتحدث عنه، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{14} إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن:14-15).

مداخلة متصلة: بخصوص تدخل الآباء في حياة أبنائهم أنا كشابة أرى أن تدخل والديَّ في حياتي شيء وارد، ويعتمد تقبل هذا التدخل على طريقة التربية أو التهيئة التي هُيّئنا عليها من قِبَلِهم، طبعا هذا لا يرجع إلى الثقافة لأن ما شاء الله أجدادنا ربوا وأخرجوا علماء.. أخرجوا أئمة مساجد لكن هي طريقة التربية، بمعنى ربما أنا أهلي ربوني على عدم تحمل المسؤولية في فترة الطفولة؛ اعتقاداً منهم أني سأظل تحت جناحهم لفترات طويلة؛ ولكن ربما بعد أن أصبح شابة وأخرج من تحت جناحهم أو أخرج من البيئة الضيقة التي كنتُ أعيش فيها للدراسة مثلاً أتفاجأ بأناس.. بتقاليد.. بمبادئ.. معتقدات توثر عليّ، وهذا الواقع، أنا أتكلم عن واقع لماذا؟ لأنه عندما كنتُ أسمع من أهلي: لا.. عيب.. غلط.. كنتُ أحس بأن أهلي يتسلطون عليّ، لكن بعد أن درستُ وانصدمتُ بواقعٍ آخر غير الذي أهلي ربوني عليه عرفتُ أن لا.. عيب.. غلط.. التي كنتُ أسمعها من والديَّ كانت هي حاجز بيني وبين أن أخطئ، كانت قوة لشخصيتي في مواجهة مجتمع لم أره وأنا صغيرة وإنما رأيته وأنا كبيرة، فجزاهم الله خيراً أنهم أسمعوني تلك الكلمات، لربما كانت بأسلوبٍ شديد ولكن أنا الآن أراها بنظرة مختلفة، بينما هناك آخرين نُشِّئوا على الدلع والدلال، فلم يحسنوا بعد ذلك التصرف في تدبير أمور حياتهم، وللأسف أدت تلك التربية بالكثير من الشباب إلى فساد أخلاقهم، ودخولهم في متاهات.

من جانب آخر نحن علينا أيضا مسؤولية اتجاه أهلنا من حيث توجيه النصح لهم، فصحيح أنهم هم الذين ربونا ولكن أيضا هم قد تصدر منهم أخطاء قد تؤثر علينا وتؤثر على أحفادهم، فمثلاً أنا قد أرى أبي يُقصِّر في أداء الصلاة أو لا يذهب إلى المسجد، فأبنائي قد يتخذوه قدوة ويتأثرون بما يرونه من إهمال في إجابة داعي الصلاة، لدرجة أني أصير مثلاً أخاف أن آخذ أولادي إلى بيت أهلي لهذا السبب، وهنا قد يحصل البعد والعقوق ويتعذر علينا مواجهة أهلنا بأسلوب الشدة الذي ربونا عليه؛ ولكن لابد من اتباع أسلوب مختلف، ولابد من الرقة في نصحهم.

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ الآية التي تلوناها قبل قليل نحتاج فيها إلى معرفة ما يُستفاد منها، وما مدى احتياجنا في واقعنا اليوم إلى هذه التوجيهات الربانية؟

الشيخ كهلان: نعم يقول الله سبحانه وتعالى في سورة التغابن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{14} إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، هاتان الآيتان فيهما خلافٌ عند المفسرين، هل هما آيتان مكيتان شأن سائر سورة التغابن؟ أم أنهما مدنيتان؟ والخلاف ثمرته واضحة، فأسباب النزول التي ذُكِرتْ إن كانت الآيتان مدنيتان فقد ذُكِر لها سببان، السبب الأول في جماعةٍ من المسلمين ما استطاعوا من الهجرة بسبب منع أولادهم وأزواجهم لهم، كانوا يؤخرونهم عن الهجرة، فلما هاجروا هاجروا متأخرين، فوجدوا أن إخوانهم من المؤمنين الذين هاجروا قبلهم قد تفقهوا في الدين، وسبقوهم في العلم، فشعروا بشيءٍ من الأسف حيال ذلك.

وقيل بأنها نزلت في عوف بن مالك الذي كان يهمُّ أيضا بالغزو ولكن كان ولده وزوجه يمنعونه من ذلك فيتأخر بسببهم، فشكا بعد ذلك أي بعد مدة شكا ذلك إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فنزلت هذه الآية .. إن كانت الآيتان مكيتين فإن هذا يعني أن كما هو شأن سورة التغابن تجد أن بداية تَكَوّنِ جماعة المسلمين كانت بحيث يؤْمن البعض ويظل البعض على شِركِه، فتجد في الأسرة الواحدة تجد الوالد مؤمناً وأولاده وأزواجه على غير الإسلام أو تجد الولد مسلماً وهو يعاني من والديه اللذين يدعوانه إلى الشرك؛ فلذلك العداوة هنا ظاهرة، على كلٍّ تحت كل هذه الأسباب عموم الآية فيه إشاراتٌ إلى ما نحن نتحدث عنه؛ فإن أولاً الآية تقرر أن {… مِنْ…} أي بعض الأولاد والأزواج-وليس الجميع-هم في الحقيقة أعداء، هذه العداوة إما أن تكون عداوة حقيقية، والعداوة الحقيقية هي أن يكون بين الأطراف شحناء، وأن تَحْمِلَ النفوس على الطرف الآخر بسببٍ من ذلك الطرف شيء من العداوة والبغضاء نحو الآخر أو أن تكون العداوة متحققة حتى ولو لم تكن مقصودةً من الطرفين بأن يَشْغَلَ الأولاد والأزواج الرجل عن طاعة الله سبحانه وتعالى، فيؤخِّر ولد الرجل وزوجه يؤخِّره مثلاً عن أداء ما افترض الله سبحانه وتعالى عليه أو أن يَدفع الأهل والولد رب الأسرة إلى أن يرتكب محظوراً استجابةً لعواطف الحنو والمحبة التي يحملها لولده وزوجه، هذه ليست عداوة حقيقية، أو العكس أن يَحمِل أيضا الرجل وولده الأم على أن تترك أو تتهاون في شيءٍ من الفرائض أو أن تأتي شيئاً من ما يَكْرَه الله سبحانه وتعالى،

في كل الأحوال فإن الله سبحانه وتعالى يأمر بالحذر، لا يأمر بالمضارة، لا يأمر بأن تُقابَل هذه العداوة بالإضرار بالولد والزوجة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {… فَاحْذَرُوهُمْ …} ثم بعد أمره بالحذر يقول: {… وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هذا هو موضع الشاهد، نحن نتحدث عن حقوق الأولاد.. عن مسؤولية التربية فلئن كان في السياق الذي يبين الله سبحانه وتعالى فيه أن من الأولاد والأزواج من هم أعداء للرجل ومع ذلك فإنه يأمر بالحذر منهم فقط، دون مضارةٍ، ودون مجاوزة حدٍّ، ودون تعدٍّ أو ظلمٍ أو بغي، بل يأمر بالعفو، والصفح، والمغفرة، ويُبَيِّن عاقبة ذلك، ويُذكِّرُ بأن الله سبحانه وتعالى هو الغفور الرحيم، فإن في هذا ما يدعو الآباء والأمهات إلى التريث في تأديبهم لأولادهم وفي معرفتهم أو في اهتدائهم بهذا الهدي القرآني الذي يدعوهم إلى إحسان معاملة الأولاد، وإلى حُسنِ تربيتهم، وإلى إكرامهم، وإلى أداء هذه الأمانة، ويأتي تأكيد ذلك في قوله سبحانه: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، والله سبحانه وتعالى قال-كما ذَكَرنا في سورة الأنفال في الحلقة الماضية-: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (الأنفال:28)، وقلنا بأن فتنة بمعنى ابتلاء، فإما أن تنجحوا فيه وإما أن ترسبوا فيه، وأنتم الذين تؤدون هذا الامتحان وبالتالي أنتم الذين تتحملون النتيجة، فإما أن تَرْقَوا الدرجات العلى بحسن أدائكم لهذه الأمانة وبتجاوزكم لهذه الفتنة بما يرضي الله سبحانه وتعالى، وإما أن تخفقوا و تتحملوا أوزار ذلك.

مقدم البرنامج: إذاً الفتنة صادرة من الأولاد ولربما نقول في البداية أيضا من الزوجة هي كالفتنة الصادرة من المال، فالذي يشعر أن أمواله فتنة عليه لا يعني أن يرميها في الزبالة، وإنما أن يُحسِن التصرف فيها، ويؤدي حقَّ الله سبحانه وتعالى فيها.

طيب فضيلة الشيخ نريد أن ننتقل الآن إلى موضوعٍ آخر، كنا طبعا في الحلقة الماضية تطرقنا إلى موضوع تحديد الطاعة أو تحديد مفهوم الطاعة، فإذا-كما تفضلتم-إذا وصل الولد والبنت-هذا ذكرتموه في بداية الحلقة-إلى مرحلة الرشد.. مرحلة القدرة على التصرف والاستقلال في الحياة فإن الطاعة عندئذٍ ستتحول إلى برٍّ وإحسان ولا يسوغ للوالدين أن يتدخلوا في الشؤون الخاصة بأبنائهم، الآن ننتقل إلى شيءٍ آخر: إذا بذل الوالدان الجهد الكافي في إصلاح الأبناء وقَدَّموا ما يستطيعون من ألوان التربية؛ لكن هؤلاء الأبناء تنكبوا الطريق وانحرفوا، هل يبقى بعد ذلك لهم حقٌّ على آبائهم؟

الشيخ كهلان: أنا أقترح أن نسمع قبل أن أجيب أنا.. أن نسمع من الإخوة والأخوات نفس هذا السؤال، وننظر ما الذي يظنونه هم في هذه القضية؛ لأن المداخلات في الحلقة الماضية تشير أو فَهِمنا منها أنه لا يزال هناك شيءٌ من اللَبْسِ حول فهمهم، حينما نتحدث عن حقِّ طرف فإن ذلك قد يُفهَم منه أن حقّ الطرف الآخر يضيع بناءً على ذلك، وليس الأمر كذلك، وإنما نحن نُعالِج جانباً من الجوانب نراه هاماً مع حفظ الحقوق الأخرى، ولذلك فيمكن لنا أن ننتقل إلى الفاصل.

مقدم البرنامج: يمكن..

السؤال الذي نوجهه إليكم أعزاءنا الكرام هو أن الأب وكذلك الأم.. الوالدان إذا بذلوا الطاقة في تربية الأبناء، وقدَّموا كل ما يستطيعون من جهدٍ؛ لكن الأبناء تنكبوا الطريق وانحرفوا عن الصراط الذي أراده لهم الوالدان هل يبقى بعد ذلك للأبناء على آبائهم شيءٌ من الحقوق أم لا؟ هذا الذي نسأله، ونبقى مع الفاصل، وريثما تفكرون في الإجابة.

*******************************

ورد في الصحيحين عن أنسٍ رضي الله تعالى عنه قال: “كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أحسن الناس خُلُقاً، وكان لي أخٌ لأمي فطيم يقال له عمير، فكان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إذا جاءنا قال: “يا أبا عمير ما فعل النغير؟!”، وعُمَير تصغير عُمَر أو عَمرو، والفطيم بمعنى المفطوم.

مقدم البرنامج: طرحنا قبل قليل سؤالاً للمستمعين الكرام، ما رأيكم هل ترون أن للأولاد حقوقاً على آبائهم وأمهاتهم إذ شبوا على غير صلاحٍ واستقامةٍ وبرٍّ؟ وكيف يتصرف الوالدان والمجتمع حينها؟

فضيلة الشيخ موضوع هذا الحديث الذي أنصتنا إليه نريد تعليقاً على معانيه، ودلالاته، كيف كان هدي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-في تعامله مع الأطفال؟

الشيخ كهلان: نعم.. والحقيقة أننا كنا نريد أن نصل إلى هذا الحديث النبوي منذ الحلقة الأولى التي من ضمن السلسلة التي خصصناها لموضوع مسؤولية التربية؛ لأن دلالته على ما نتحدث حوله واضحةٌ جلية.

أولاً: نحن نتحدث عن مسؤولية التربية، وقلنا بأنها لا تقتصر على الأبوين فقط، ولذلك نرى هنا أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-في هذا الحديث لا يُخَاطِبُ مع حفيديه السِّبطَين-عليهما السلام-وإنما يُخَاطِبُ أحد أولاد الأنصار، فإذاً المجتمع مسؤول عن تربية الأولاد، وعن أداء هذه الأمانة.

ثانياً: الرسول-صلى الله عليه وسلم- يُخَاطِبُ طفلاً فطيماً أي أنه ترك الفطام..  فُطِمَ قريباً، فهذا يعني أن التربية وما سوف نتعرض له من هذا الحديث لا يقتصر أو لا تكون في مرحلةٍ متأخرة، بعض الناس يَظُنّ أن هذه الوسائل التي انتهجها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إنما يُلجَأ إليها حينما يكون الصبي أو البنت في سني متقدمة.. السادسة.. السابعة.. الثامنة..، بينما نجد أن الرسول-صلى الله عليه وسلم-هذه الراوية أنه كان فطيم-أخ أنس بن مالك لأم-، ثم هذا الصبي اسمه عمير نجد أن الرسول-صلى الله عليه وسلم-يُكْنِيه.. يستخدم له كُنْيَة ويقول له: “يا أبا عمير ما فعل النُّغَير؟!”، ونحن نعلم أن الأطفال يحبون هذا النوع من السجع؛ لأن له موسيقى في آذانهم تستهويهم، فالرسول-صلى الله عليه وسلم-قصد ذلك.. قصد تكنيته.. قصد مِزاحَهُ.. قصد مشاركته في شيءٍ من اهتماماته حتى ولو كانت اهتمامات طفولية إلا أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يشارك ذلك الطفل وهو المأمور بتبليغ دعوة الله عز وجل يشاركه فيما يَهُمُّ الطفل.

ومما نفهمه من الحديث أيضا حتى ما يتصل بِلَعِبِ الأطفال بصغار الطير وأنه مأذونٌ به شرعاً فالرسول-صلى الله عليه وسلم-لم يُنكِر عليه ذلك، ملاطفة الصبيان ومؤانستهم هذه كلها هي في صميم ما نتحدث عنه من مسؤولية التربية، فينبغي أن يكتنف تربية الأولاد الشمائل الحسنة، والقدوة الصالحة، والمشاركة في الاهتمامات، والتبكير بغرس هذه المودة والمحبة في نفوس الأطفال من قِبَلِ الرجال الراشدين البالغين المسؤولين في المجتمع، وتعويدهم أيضا على نفس هذا السؤال يعني أنه يَنتَظِرُ جواباً.. وأن هذا الجواب سوف يُسمَع.. وأن هذا الجواب سوف يُخَفِّفُ عن هذا الطفل؛ ولذلك كل هذه تدل على هدي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ولذلك هو-عليه الصلاة والسلام-حتى في مسألة الكُنَى أرشد إلى استحباب تكنية الأطفال، فقال: “بادروا بِكُنَى أولادكم لا تَسْبِق إليها ألقاب السوء”، فإذاً هو يُرشِد إلى أمرٍ ويُبيِّن أن السبب وراء ذلك هو حتى يُجنَّب الأطفال أن تَسبِق إليهم ألقاب سوء؛ فلذلك كان من هديه-صلى الله عليه وسلم-أن يخاطبهم بمثل هذه الخطابات، فإما أنه كان يكُنيهِم، وإما أنه كان يخاطبهم بـ”يا غلام” أو “يا بني” من ما فيه دلالةٌ على الرفق واللين وعلى المحبة والمودة، وكما قلنا كان أيضا-صلى الله عليه وسلم-يشاركهم اهتماماتهم.

نحن اليوم-في حادثة سلخ الشاة التي ذكرتُها قبل قليل-القليل منا في الحقيقة من يُعوِّدُ ولده الآن اليوم على الذبح والسلخ، بل إننا كثيراً ما نجد من الآباء ما يخوفون أولادهم من أن يشاهدوا ما يفعله الآباء حينما يُضَحُّون أضحياتهم أو يذبحون ذبائحهم، بينما نجد أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-لما رأى أن الصبي لا يُحسِن قام بتعليمه وأرشده إلى ذلك، وكذا الحال بالنسبة إلى ما كان يجريه-صلى الله عليه وسلم-بينهم من أمور المسابقات، وما أرشد إليه، وما فَهِمَهُ الصحابة-رضوان الله تعالى عليهم-من ما رأوه من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: موضوع التقبيل.. موضوع التعجيل في الصلاة إن بكى طفلٌ.. موضوع التعويد على الصلاة وذكَرنا حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-في ذلك، هذه كلها من ما ينبغي أن يُتَنَبَّه لها، وأن تُتقَن، وأن تُوظَّف في الوسائل التربوية التي يشترك فيها المجتمع في صياغة شخصية الأطفال.

مقدم البرنامج: وقضية معاملة النبي-صلى الله عليه وسلم-الأبناء الصغار بالفعل كما ركزتم أن النبي-صلى الله عليه وسلم-ما كان يركزها فقط على أبنائه وأبناء أبنائه أو أبناء بناته وإنما أيضا يتعدى ذلك إلى أبناء المجتمع ليعاملهم بنفس المعاملة، وهذا موضوع-إن شاء الله تعالى-ربما سيُطرق في فترةٍ لاحقة.

ننتظر منكم مشاركة السؤال أو الإجابة على السؤال الذي طرحناه في موضوع تعامل الوالدين مع الابن إذا شبَّ وصار قادراً على الاستقلال بحياته، إلا أنه لم يتبع نهج والديه.. نهج الصواب، إنما اتبع طريق الخطأ، هل يبقى على الوالدين بعد ذلك واجبٌ آخر اتجاه هذا الابن أو تلك البنت؟ هذا موضوعٌ يثور حوله جدلٌ نفسيٌّ كبير في نفوس الآباء، نحتاج أن تشاركوا في الإجابة عليه.

مداخلة متصلة أخرى: أنا برأي أنه إذا كان الوالدين أحسنوا تربية أولادهم، واستخدموا كافة الوسائل من أجل صلاحهم ولكن أولادهم تنكبوا الطريق وانحرفوا ففي هذه الحالة يكون الوالدين قد أدَّوا ما عليهم، ويبقى أن عليهم الدعاء لهم..

مقدم البرنامج: أي ليس عليهم شيء بعد ذلك؟

المتصلة: ليس عليهم شيء إذا هم أدَّوا رسالتهم كاملة اتجاه أولادهم ولكن أولادهم انحرفوا، كما حدث في قصة النبي نوح-عليه السلام-مع ابنه…

مقدم البرنامج: أختي ما رأيك لو كان هذا الابن موجودٌ في بيت أبيه، وهو مستقل.. هو قادرٌ على الاستقلال.. كبير، لكنه يرتكب المعاصي، هل على الأب أن يطرده مثلاً من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

المتصلة: إذا كان سيتضرر منه إخوانه الآخرين كالأصغر منه سناً كأن يقتدوا به وكان هو في سن الرشد ويمكن له الاعتماد على نفسه ففي هذه الحالة يطرده من البيت؛ وطرده من البيت لربما يكون سبباً لمراجعة نفسه، ولإحساسه بخطئه اتجاه والديه، وبأنهما لم يقصرا في حقه، فيكون ذلك سبباً لهدايته وعودته، أما إذا كان الوالدين فقط هم الذين يتأذون منه فهنا عليهم أن يتحملوا وجوده في البيت.

مقدم البرنامج: هذا الذي أردنا أن نصل إليه وجهات النظر عند الآباء والأمهات في قضية التعامل مع مثل هذا النوع من الأبناء، نريد أن نستمع أيضا إلى رأي الآباء في هذا الموضوع؛ لأنهم دائما ما يكونون هم الواجهة، ولا بأس أن نستمع إلى الأقران.. إلى الأصدقاء الذي علموا من أصدقائهم شيئاً من التمرد على آبائهم، وكيف يتصرفون معهم حتى تكون الفائدة كبيرة من خلال هذه المشاركة.

مداخلة متصل ثالث: أرى أن يكون الحل الأول هو النصح، فمثلاً لو كان هذا الابن يسكن في بيتي وكان لا يصلي أو يشرب الخمر فهذه كبيرة، فلابد من نصحه ووعظه وتذكيره بالعقوبة، أما إن أصرّ على عناده ولم يستجب للنصح ولم أستطع عليه فهنا لابد من إشراك المجتمع في حل المشكلة.. أهله.. أعمامه.. أخواله..

مقدم البرنامج: أخي هذه النصيحة وإشراك المجتمع-كما قلتَ-هل هي من حقوق هؤلاء الأبناء على الآباء أم هي عمل فيما بعد فقط مجرد ملافاة أو عمل تطوعي؟

المتصل: لا، النصيحة واجب، إن كان لا يصلي هل أتركه وأقول فقط: (أنا الذي عليَّ أديته) طبعا لا، الطرد ربما يكون عقاب ولكن إن كنت أحس بأن أولاده لن يتضرروا، لكن إن طردته ولم يكن لديه بيت يعيش فيه فما ذنب أولاده؟

مقدم البرنامج: هذا بالفعل موضوع يحتاج إلى معالجة صحيحة.

الشيخ كهلان: وبالمناسبة أيضا نحن لا نَصُوغ السؤال بحيث أننا نُعرِّض المشاركين إلى أن يكون جوابهم خطأً.. لا، وإنما كلٌّ ينظر إلى الموضوع من زاوية؛ ولذلك فنحن نحث المستمعين أنه لا حرج عليكم في إبداء وجهات نظركم، وإنما سوف نحاول أن نؤطرها بعد ذلك في إطارٍ شرعي بإذن الله عز وجل.

مداخلة متصلة رابعة: بالنسبة لتربية الأبناء فإن الوضع يختلف بين البنت وبين الولد من حيث التربية، يوجد آباء تَحسبُ أنهم صالحين، وتربيتهم لأولادهم تربية طيبة؛ ولكن قد يخرج من أولادهم-سواءً كان طفلاً أو شاباً أو شابة-من يَشذّ عن نهج الصلاح، فهنا الموقف يختلف، فإذا كان هذا الابن شاباً قادراً على تحمل مسؤولية نفسه، وكان أهله قد حاولوا إصلاحه بكل الطرق واستنفذوا معه كافة الوسائل إلا أن ذلك لم يُجْدِ فيه نفعاً فهنا أنا برأي أن المفروض أن هذا الولد يخرج من البيت؛ لأنه من الممكن أن يؤثر على إخوانه الأصغر، ولكن إن كانت المشكلة مع البنت فوضعها بالطبع يختلف عن الشاب، فمجتمعاتنا لا تسمح بخروج البنت؛ وطرد أهلها لها من المنزل يعني خروجها من سيء إلى أسوء، وقد تلجأ لطرقٍ أخرى تُلحِق بها ضرراً أكثر من ما كانت في بيت أهلها.

مقدم البرنامج: وجهة نظر..

مداخلة متصل خامس: بالنسبة لموضوع حق الأولاد: هناك من الأصحاب من يقول بأن إذا لم يستجب الابن إلى النصائح سأطرده من البيت، الطرد من البيت والإبعاد من البيت هو خطأ، لابد أن يحاول معه بالنصح، وأن يتعامل معه بسياسة، يحاول بأي وسيلة، وإذا لم يستجب يعتمد على عمه.. خاله.. والناس الذين هو يُقَدِّرهُم أكثر، وإن شاء الله سيستجيب، وعلى الوالدين الدعاء له، ولا ييأس أبداً.. لا ييأس من رحمة الله، هذا هو الحل.

مداخلة متصلة سادسة: أردت أن أبدي رأي: الأخ الذي تكلم قبل قليل فعلاً لما عارض فكرة الطرد من البيت أرى أن عنده حق، لأن الوالدين الذي يقدرون عليه النصيحة والكلمة الطيبة طبعا لها أثر كبير، وأنا اتبعت فكرة في معاملة أحد أولادي وهي التذكير بِنِعَمِ الله، مثلاً كلما أرى منه تهاوناً في الصلاة أو غيره أُذكِّره أن الله سبحانه وتعالى أنعم عليك بالصحة وبكذا وكذا.. فأُذكِّر ابني دائما أن الله سبحانه وتعالى كريم معنا وفضله عظيم علينا ونحن مقابل هذا لماذا نهمل في أداء الواجبات والفرائض وإلى آخره، أما الطرد فلا أتوقع أنه الحل الأنجح، لأن طرده من البيت يعني خروجه إلى مجتمع مليء بخيرٍ وشر، ويمكن-لا سمح الله-يتعرف على أحد المنحرفين، وبالتالي تزيد المشكلة أكثر.

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ أمامك مجموعة من الأفكار، ومجموعة من وجهات النظر حول التعامل مع الولد أو البنت الذين خرجوا عن الطاعة-طاعة الله سبحانه وتعالى-وهم في بيت والديهم أو في الخارج، على العموم ما الذي يبقى على الوالدين اتجاههم؟

الشيخ كهلان: نعم..

أولاً أنا أشكر جميع من شارك، وأقول لهم بارك الله فيكم، وكلكم واضح أنه غيورٌ على أداء هذه المسؤولية، وعندكم من الأفكار والرؤى ما يستحق النظر، وهو لا يخرج عن ما سنقوله؛ لكن أنا قصدتُ من هذا السؤال أن أُبيِّن-ولم يذكره أحد من الإخوة، لم ينتبهوا له-أولاً:

كما أننا قلنا بأن وصايا الوالدين لا ينبغي أن تكون سبباً لسلب الأولاد إن شبوا رجالاً ونساءً لسلبهم حرياتهم واستقلالهم، فإن انحراف الأولاد لا ينبغي أن يكون طوقاً يأسر الآباء والأمهات عن المضي قُدُماً في حياتهم الدينية والدنيوية-إن جاز التعبير-، هذه نقطةٌ أساسية، فإن بعض الآباء والأمهات يضيق ذرعاً، تضيق نفسه، ويأسره الحزن، ويستبد به اليأس حينما يُحسِن الغِراس والتعهد بالري والتربية لكن الثمرة لا تكون كما كان يأمل ويشتهي، نقول له: طِبْ نفساً فإنك قد أديت ما عليك، ولك في من قصهم علينا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من الأنبياء والمرسلين أسوة وسلوان، نعم عاطفة الأبوة والأمومة لا يمكن إنكارها؛ لكن لا يصح أن يكون ذلك عائقاً أمامكَ وأمامكِ من المضي قدماً في درب الصلاح والخير ورعاية سائر الأولاد والقيام بأدواركم في هذه الحياة على خير ما تستطيعون.

وأما النقطة الثانية في هذا السياق:  كل ما ذكروه من مسألة التعهد بالنصيحة، والدعاء، وإشراك الأقارب، وتوخي الوسائل المناسبة، كل ذلك صحيح؛ لكن ليتهم ذَكَروا ما نحتاج إليه أيضا اليوم من البحث عن الأسباب، إذاً بعد النقطة الأولى لابد من البحث عن الأسباب، حتى نعالج هذه المشكلة لابد لنا من أن نبحث عن ما أدى إليها، فلعل هناك خللاً في التربية.. لعل هناك جوانب يحتاج إليها هذا الشاب أو تلك الفتاة.. لعل هناك مشكلاتٍ وعقباتٍ أو صعوباتٍ يواجهونها يحتاجون فيها إلى عون أدت بهم إلى ما لا يُرضِي الله سبحانه وتعالى ثم لم يرضِ الآباء والأمهات، إذاً البحث عن الأسباب التي أدت إلى الانحراف، وهذه لما قلنا مسؤولية أيضا المجتمع، إذاً يُبحَث هل وسائل الإعلام.. هل ما يُشاهِده هؤلاء-أطفالنا.. أولادنا-من مشاهد عنف أو مشاهد جنس أو مشاهد مجون أثَّرت أو أن هناك قرناء سوء أو أن الخلل في المربين أنفسهم أو أن الخلل في المؤسسات.. في القطاع.. في الشارع.. في السوق.. إلى آخر الأماكن التي يمكن أن تكون سبباً يؤثر أو أن هناك مشكلاتٍ نفسية أو مشكلاتٍ صحية بين هؤلاء..

مقدم البرنامج: أي ليس صحيحاً ما يقوله الناس أن الله قدَّر له الفساد مثلاً، وقدَّر أن يكون هكذا..

الشيخ كهلان: لا، هذا ما نريد أن ننفيه، ومن حسن الحظ أن كل المكالمات لم تَذكُر هذا الشيء.. لم تشر إلى هذا أبداً، وكأنهم الصورة واضحة عندهم، إذاً لابد من البحث عن الأسباب، قد يكون-كما قلتُ-قد يكون الآباء والأمهات أساؤوا من حيث يظنون أنهم يحسنون، ظنوا أنهم قاموا بواجب التربية بينما كان في تربيتهم خللاً، وبالتالي عليهم أن يصححوا ما قاموا به.

أما مِن ما أريد أيضا أن ألفِت النظر إليه أنه لا حرج من استشارة المختصين، وأنا أنصح بذلك، الآن صارت التربية كما يقال فن، ومعاملة الأطفال وتدريبهم ومعاملة المراهقين والشباب صارت فنوناً وطُرُقَاً فيها من الوسائل العلمية وفيها من المكونات النفسية والاجتماعية ما يحتاج الآباء والأمهات إلى أن يتعرفوا عليه؛ لكي يعينهم ذلك على إصلاح أحوال أولادهم؛ فإذاً حبذا لو استشار الآباء والأمهات المختصين بالتربية وبتنشئة الأطفال وإصلاحهم الأمناء الثقات في المشكلة التي يواجهونها، وأما ما ذَكَرَه الإخوة والأخوات فهو في صلب الموضوع من: الدعاء، وله أهمية بالغة، خاصةً دعاء الوالدين.. خاصةً الأم لولدها، والتعهد بالنصيحة والتوجيه والإرشاد، ولعلنا يمكن أن نختم بالحديث الأخير؛ حتى يكون مسك الختام.

مقدم البرنامج: نستمع إذاً إلى هذا الحديث في هذا الفاصل..

*******************************

روى الإمام الربيع بن حبيبٍ في مسنده عن أبي عبيدة عن جابرٍ عن ابن عباسٍ عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: “ألا من غشنا فليس منا، ومن لم يرحم صغيرنا ولم يوقِّر كبيرنا فليس منا”.

مقدم البرنامج: لا يسعنا إلا أن نتوجه بالشكر الجزيل إلى فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة على هذا العطاء في هذا الموضوع الحساس،

شكراً لكم فضيلة الشيخ..

الشيخ كهلان: شكراً جزيلاً أخي، بارك الله فيكم.

مقدم البرنامج: وشكراً أيضا لكل من اتصل، ولكل من استمع إلينا في حلقة اليوم، ونعدهم بحول الله تعالى لمناقشة موضوع آخر في حلقةٍ أخرى قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

انتهت الحلقة