رعاية المسؤولية
بثت في:
3/جمادى الثانية/1431هـ
17/ مايو/2010م
—————————
مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في لقاءٍ جديدٍ من برنامجكم دين الرحمة، موضوعنا اليوم بحول الله تعالى سيكون عن رعاية المسؤولية.
ما من إنسان إلا وتقلد في هذه الحياة مسؤولية كبيرة، يوسِّعها المفهوم وتضَيِّقها الفهوم؛ لكن الذي لا يتجادل عليه اثنان هو مسؤولية الإنسان عن نفسه، ثم عن أسرته وأبنائه، بيْدَ أن نصيب هذه من الرعاية قليل، ولا يستيقظ البعض إلا على دمعةٍ يتحسر معها على ما فرَّط في جنب هؤلاء، وفي القرآن الكريم يَذكُر الله تعالى فضل الإنسان على سائر المخلوقات، ويمتن عليه بكرامةٍ فُضِّل بها على كثيرٍ ممن خلق؛ لكن شأن المسؤولية تَظهَرُ قاسماً مشتركاً مع بقية هذه المخلوقات، وكأنها عند تعاطيها عاقلةٌ كعقل الإنسان؛ فالهدهد وإدراكه للمسؤولية-لمسؤولية التبليغ-والنملة وإدراكها لمسؤولية حماية رفاقها شواهد فصيحة على ذلك، فهل كان ذلك جِبِلَّة؟ أم أن المسؤولية استشعار الكون كله كعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال تماماً؟
لقد أدرك الإنسان أنه مسؤول، فما فُضِّل به على سائر الخلق يكفي لفهم هذه المهمة؛ لكن الذي يحتاجه كما يبدو هو تعلم كيف يكون راعياً في هذه المسؤولية.. كيف يرعى مسؤوليته، وكيف يكتسب ثقافة التعاطي مع الأمانة التي يَحْمِلُها في صيانة نفسه وأسرته ومجتمعه.
في حلقة اليوم مناقشة رعاية المسؤولية، والتعمق في تفاصيل عناية الإنسان بأداء هذه الأمانة من خلال توجيهات ديننا الحنيف، نناقش في هذا الموضوع كعادتنا المُعِدَّ والمُقدِّم لهذا البرنامج فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة.
*******************************
أهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ…
الشيخ كهلان: حياكم الله، وأهلاً وسهلاً بكم، وأنا أُحيي وأرحب بالإخوة والأخوات الذين يتابعون هذا البرنامج، وأسأل الله عز وجل في بدايته أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، إنه تعالى سميعٌ مجيب.
مقدم البرنامج: آمين.
الآن فضيلة الشيخ هذا الموضوع طبعا يشتمل على معاني كبيرة ودلالاتٍ واسعةٍ؛ لذلك فإننا في البداية نريد أن نحدد المقصود بهذا العنوان، وما الذي تطرحونه فيه من عناصر، وماذا تقترحون على الإخوة أن يشاركوا به في حلقتنا أيضا.
الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن موضوع رعاية المسؤولية هو من الموضوعات التي تستحق الدراسة والبحث والنظر؛ ذلك أنه-كما تفضلتم-ما من واحدٍ منا إلا وتناط به مسؤولية، إلا أنه قد لا يشعر بتلك المسؤولية أو أنه يشعر بها لكنه لا يعرف كيف يؤدي حق تلك المسؤولية.. كيف يرعاها، وكيف يحوطها بعنايته لكي تبرأ ذمته أمام ربه وخالقه الذي حمَّله تلك المسؤولية أو أمام من كلفه بما كلفه به من مصالح تجري على يديه أو منافع يحققها لغيره من الناس أو منافع تُحَقِّقُ للمجتمع ما يصبو إليه من رخاءٍ واستقرارٍ وأمنٍ وأمانٍ أو أنه يدرك ذلك كله لكنه لا يعطي الموضوع حقه التعبدي ولا حقه الدنيوي الذي يُمكِّنه من أن يعي ويفهم رسالته في هذه الحياة، فهو إما أنه يُضَيِّقُ مفهوم المسؤولية أو أنه لا يعرف كيفية رعاية تلك المسؤولية،
ومن هنا كان شِقّا هذا العنوان مقصودين في حلقتنا اليوم، فالرعاية مقصودةٌ، وسوف نتعرض لها تأصيلاً، وبحثاً عن أدلتها، ومحاولةً لفهمها، ثم المسؤولية أيضا مقصودة، فنريد أن نتعرف عليها، وما هي حدوها، وهل صحيحٌ أن المسؤولية لا تكون إلا حينما تناط بصاحبها الكثير من المصالح والمنافع أو أن كل واحدٍ يمكن له أن يكون مسؤولاً وعليه أن يرعى تلك المسؤولية،
وبعد تأصيل هذا المفهوم-مفهوم كلمتي العنوان-سوف نحتاج إلى أن نتعرف إلى ما يوجد في كتب الفقه كثيراً من مصطلحاتٍ يَظُنُّ بعض الناس أن لا صلة لها بواقع حياتهم، وأن ذممهم تبرأ حينما يقوم بها البعض منهم، تلكم هي فروض الكفاية، فلا يعطونها حقها أيضا من العناية، ولا يولونها من الرعاية ما تستحق، في حين أن فروض الكفاية هي من ما تحقق مصالح الأمة، وهي من العوامل الهامة في بناء التعاطف والتراحم بين المسلمين، وفي تحقيق وحدة الصف، وفي تآزرهم وتعاونهم على الخير، وفي إحاطة المجتمع بسياجٍ متينٍ من القيم والأخلاق.
بل إن فروض الكفاية هي من ما يحقق للمجتمع المصالح الدنيوية التي يسعى إليها كل مجتمعٍ إنسانيٍّ راقٍ؛ فالمهن والصنائع والحِرَفُ التي يحتاج إليها المجتمع لا يَنتَبِهُ كثيرٌ من الناس إلى أنها من فروض الكفاية بحيث إن المجتمع بأسره يهلك ويأثم عند الله تبارك وتعالى إن قَصَّرَ مع احتياجه إليها ومع كون وجوده قائماً على وجود تلكم الصنائع والمهن والحِرف وما تحتاج إليه من علومٍ وفنونٍ ومعارفٍ فإن قَصَّرَ المجتمع هلك الجميع، وإن قام به البعض سَلِمَ الجميع؛ فلذلك كانت فروض الكفاية من ما تتصل بموضوع رعاية المسؤولية باعتبارها الجماعي أو الجمعي؛ ولذلك تُشكِّل أصلاً لابد لنا أن نتعرض له اليوم؛ لأن ذلك ينبني عليه الكثير من الدلالات والمفاهيم التي سوف نتحدث عنها، كما أن طائفةً كبيرةً من القيم والأخلاق التي تناولنها في دين الرحمة والتي سوف نتناولها-بمشيئة الله تعالى-تتصل بهذا الأصل الشرعي المتين.
إذاً هذه القضايا سوف تكون في الجانب النظري من هذا الموضوع؛ لكننا لا يمكن أن نُقَضِّي الحلقة بأسرها في الجانب الوصفي النظري التأصيلي وإنما نريد أن نعطي أمثلةً، وخير ما يناسب المقام من التمثيل هو موضوعٌ جديرٌ بالعناية حقيقٌ بأن يُدْرَسَ وهو ما يشتغل به المجتمع الآن بسائر قطاعاته العامة والخاصة والمجتمعية وعلى مستوى الأفراد وهو قضية السلامة المرورية، التي تنطلق من التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة، ويتفاعل معها المجتمع بشتى شرائحه استجابةً لذلك النداء، وأداءً للمسؤولية، وتوفيةً ورعايةً لهذه الأمانة حتى نخرج بإذن الله عز وجل بحلولٍ ناجحةٍ مفيدةٍ لما يتصل بالسلامة المرورية، وسلامة المركبات والقيادة والطرقات، سيكون هذا مثالٌ مناسبٌ لما نتحدث عنه بمشيئة الله تعالى، وإلا فإن الأمثلة كثيرة، وسوف نُتْبِعُ هذه الحلقة بجملةٍ من الأمثلة الأخرى الهامة في معالجة ظواهر تحتاج إلى أن نعي المسؤولية، وأن نرعى المسؤولية الملقاة على عاتق كل واحد منا.
مقدم البرنامج: نعم..
السلامة المرورية إذاً فرصةٌ للإخوة أن يشاركوا في هذا الموضوع من منطلق أنها مسؤوليةٌ جماعية؛ لكن فضيلة الشيخ كونها من فروض الكفاية هذا يحتاج إلى مزيدٍ من التأصيل لابد أن يتعرف عليه المستمع؛ ولكن-إن شاء الله-بعد هذه الآية القرآنية.
*******************************
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً{58} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:58-59).
مقدم البرنامج: صدق الله العظيم.
فضيلة الشيخ المسؤولية الجماعية ذَكَرتُم بأنها من فروض الكفاية، وذكرتم بعض الأمثلة عليها كالسلامة المرورية مثلاً، ولربما يعرف الناس أن السلامة المرورية وغيرها من المسؤوليات الجماعية هي أمرٌ لابد أن يراعى؛ لكنه أن يكون من فروض الكفاية نحتاج معه إلى معرفة الأصول الشرعية، فما هي الأصول الشرعية التي أشرتم إليها؟-طبعا بعد التعريف وبيان المقصود.
الشيخ كهلان: هذا الموضوع هو من الموضوعات التي تسترعي منا كل انتباه؛ والسبب في ذلك أنه ما من حضارة يمكن أن تُشاد ولا رقي ونماء يمكن أن يصل إليه مجتمعٌ من المجتمعات إلا بأداء الأمانات وبرعاية المسؤوليات، وهذا الخطاب يتجه لعموم المسلمين.. الخطاب بجملةٍ من الأوامر والفروض حينما يكون فيها يكون الخطاب عامّاً لمجموع المسلمين بحيث إن ذممهم تبرأ بأداء البعض منهم فإن ذلك يدل على أهمية المأمورِ به؛ لأن في التفريط فيه هلاك المجتمع بأسره.
ولكن الذي يصنعه كثيرٌ من الفقهاء بالتمثيل ببعض الفروض التعبدية يَصرِف الناس عن فهم حقيقة فروض الكفاية، فيحصرونها في تلك المجالات العبادية كصلاة الجنائز مثلاً، فيتصورون بأن المثال الأصلح لفروض الكفاية هي أداء صلاة الجنازة، في حين أن ما يذكُره أهل العلم في كتبهم من وجوب إقامة مصالح الناس، وتشييد بناء وعمارة ما يحتاج إليه المجتمع من المرافق، والمنافع العامة، والمصالح، ودُور العِلم، وأماكن العلاج، ومن العلوم التي تُمكِّن من ذلك كالصناعات والحِرَفِ التي يحتاج إليها الناس، بل حتى من مِهَنٍ لابد منها لحياة الناس.. لحياة المجتمع كالتجارة والزراعة هي في الحقيقة ليست مجرد أعمالٍ دنيوية يُتَرَزَّقُ منها وإنما هي أداءٌ لفروض كفايةٍ تُبرِئ ذمم باقي المسلمين،
وكذا الحال في حالة أيضا ما يتصل بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى التي هي أشرف ما يُتقرَّب به إليه جل وعلا؛ فإن عموم أحوال الدعوة إنما تُبرِئ ذمم المسلمين بأداء بعضهم لها؛ لكنهم لابد لهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع ذلك؛ لأن أَوَدَ المجتمعات لا يقوم إلا من خلال التزامهم بذلك؛ ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول-مثلاً-في سورة العصر: { وَالْعَصْرِ{1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ{2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{3}} (العصر)، فالصنف الذي ينجو من الخسران هو مجموع المؤمنين المتصفين بهذه الصفات: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم هم في مجموعهم يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، إذاً حينما نتحدث عن مسؤوليات نتحدث عن واجبٍ جمعيٍّ على عموم المسلمين، كما قلنا فإن المجتمع كما يقول الفقهاء إن احتاج إلى أطباء ولم يكن فيه أطباء ولم يُوجِد المجتمع الوسائل التي تُمكِّنهم من توفير الأطباء فإنهم يَهلَكُونَ بذلك؛ لأن حفظ الأنفس من ضرورات هذا الدين.. إن احتاجوا إلى من يُعلِّمُهُم سائر أنواع العلوم النافعة ولم يسعوا إلى إيجاد هؤلاء فإن المجتمع بأسره يَهلَكُ بذلك.
إذاً كل ما تحتاج إليه ما نَعرِفه نحن اليوم باسم التنمية يندرج في هذا الباب في (فروض الكفايات)، وليست فروض الكفاية هي من النوافل التي لا يُلتَفتُ إليها ولا ينبغي للمسلم أن يشتغل بها، بل هي من الفروض عند الله سبحانه وتعالى، وكأن هذه الأمة بمجموع أفرادها فردٌ واحدٌ مكلفٌ مخاطب، فإن أدى الذي عليه برئت ذمته، وإن قَصَّرَ كان في عِداد المقصرين عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك هذا يتصل أيضا بموضوع مقاصد الشريعة؛ لأن من مقاصد هذه الشريعة.. نحن حينما نأتي إلى طائفةٍ كبيرةٍ من الأحكام الشرعية نجد أن المؤمنين مخاطبون بأن يكون أداؤهم لها جماعةً كـالصلاة، والحج؛ فإنهم يؤدّون الحج وشعائر الحج ومناسك الحج بشكلٍ جماعي.. وقوفهم واحد، ويوم طوافهم وإفاضتهم واحدة لهم سعةٌ لا شك لكنهم لا يخرجون عن ذلك التأطير، كذا الحال بالنسبة للمواقيت الزمانية والمكانية والأقوال والأفعال وما يَلبِسُون وما يتقون وما يتجنبون تجد أنهم يلتزمون بها جميعاً؛ لأن وحدة المسلمين مقصدٌ من مقاصد هذا الدين، ولأن إظهار شعائر الدين هي من مقاصد هذا الدين، ولأن تحقيق أيضا ما يؤدي إلى حفظ ضرورات الدين من حفظ الأنفس، وحفظ الممتلكات-الأموال-، وحفظ الأعراض لا يتحقق إلا بالقيام بهذا الواجب الجمعي.. القيام بذلك تعاوناً، والقيام بذلك جماعةً؛
ولهذا نجد أن الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات التي أنصتنا إليها نجد أنه يخاطب المؤمنين جميعاً {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا …}-وسوف نأتي إلى تفاصيل الآية فيما يلي-بإذن الله عز وجل–؛ لكن نحن لازلنا فيما يتصل بالتأصيل، إذاً لدينا ما يتصل بفروض الكفاية وعندنا الآن نتحدث عن مقاصد الشريعة كلها تندرج فيما يتصل بالمسؤولية الجماعية على عموم أفراد المجتمع؛ ولذلك نستطيع في ظلال ذلك أن نفهم مثل حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: “ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر”.
مقدم البرنامج: الآن-فضيلة الشيخ-قد يفهم البعض من هذه الأسئلة أو من هذه الأدلة التي سقتموها في بيان المسؤولية الجماعية أن الخطاب صحيح يتجه إلى الجميع إلا أن التطبيق سيكون فردياً، فهل يمكن أن تبينوا لنا أهمية هذه المسؤولية الجماعية حتى تكون هذه الخطابات إنما تعنيها مباشرة، ولا تعني الآحاد عند التطبيق؟
الشيخ كهلان: نعم..، لا تعني الآحاد عند التطبيق إنما يكون من خلال فهمنا أن امتثال المجموع إنما يكون بامتثال الأفراد؛ ولذلك نحن حينما تحدثنا في موضوع الإصلاح في الأرض وقلنا بأن الإفساد قد يكون في جزءٍ من الأرض لكننا نجد أن كتاب الله عز وجل يسمي ذلك (إفساداً في الأرض)؛ لأن الذي يُفسِد في جزءٍ منها كأنه أفسد فيها؛ هذا الذي يقتل نفساً كأنما قتل الناس جميعاً، ومن يُحْيِي-في المقابل-نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً؛ إذاً الخطاب فيها-خطاب الامتثال-إنما يكون إلى الأفراد مع ضرورة استحضارهم لأهمية روح الجماعة، وأن مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الأفراد، بل إن عليهم أن يعوا أن عليهم السعي لمصالح إخوانهم، وأن إيمان أحدهم لا يكون إلا حينما يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن هناك من القيم والمبادئ ما تجعل الأُخُوَّةَ أُخُوَّةً حقيقةً بينهم؛ فهو يجود بنفسه في سبيل حفظ إخوانه، وحِرزِ دينه، ويسترخص نفسه في سبيل ذلك، وهذا-كما قلنا-يُفهَمُ في مثل حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-“ترى المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم …”، هذه لا يمكن أن تكون مجرد مشاعر فقط، لابد أن يَظهَر أثرها في واقع حياة الناس؛ لأنه إن لم يكن لها أثر كانت مشاعر كاذبة أو كان صاحبها جاهلاً لا يعرف كيف يترجم تلك المشاعر.
حينما نجد أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول: “المسلمُ للمسلمِ كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً” هذا الحديث يُمكِّننا من فهم ما ذَكَرتَه في سؤالك من أن هذه المسؤوليات الجماعية إنما تتحقق بأداء الآحاد متعاضدين متعاونين يسعى كل واحد منهم إلى أن يؤدي الأمانة التي عليه، ويرعى المسؤولية الملقاة على عاتقه؛ حتى لا يكون الفساد في النظام العام، ولا يكون سبباً للخلل في عمومه.. لا يكون هو السبب في ذلك.. لا يكون الفساد والخلل من قِبَلِهِ هو؛ لأنه حينما يكون الآحاد غير مبالٍ، ويُسنِدُ كل واحدٍ منهم أداء ما عليه من أمانةٍ ومسؤوليةٍ إلى الآخرين فإن الخلل والفساد سوف يقعان لا محالة؛ ولهذا نجد هذا التأكيد على مثل هذه المعاني في أحاديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بل في كتاب الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ …} (التوبة:71)، و{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ …} (الحجرات:10)، والرسول-صلى الله عليه وسلم-يقول: “لا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانا”، ويقول: “لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يساوم أحدكم على سَوْمِ أخيه، ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه”؛ للدلالة على أن هذه المشاعر التي تكون بين أفراد المسلمين مشاعر معتبرة شرعاً، ويُنْفَى عنها كل ما يمكن أن يكدر صفوها أو أن يلغي تحقيقها في واقع حياة المسلمين، وفي معاملاتهم اليومية.
مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ:
لازلنا في هذا الموضوع، لو قلنا أن هذه المسؤولية-المسؤولية الجماعية-تكون آحاداً عند التطبيق، وأن الإنسان-كما تفضلتم-يستشعر المسؤولية الجماعية أثناء التطبيق على اعتبار أن النفع سيكون له ولمجتمعه، لكن الذي يحصل عند بعض الناس أنه عندما يُطبِّق ذلك الأمر يطبقه من منطلق أنه مسؤول عنه، وأن المسؤولية هذه ستكون مسؤولية جماعية فيما بعد لو تظافر الجميع على تطبيقها؛ لكن البعض يقول: ما دام الجميع قد أهملوا هذا الواجب وتركوه فهل سيكون تطبيقي أنا وأنا واحدٌ فقط في المجتمع سيؤدي إلى نفع المجتمع بهذه؟! أم أنها في النهاية تَسقُطُ عني كما سَقَطَتْ عن الجميع؟
الشيخ كهلان: لا، هذه من وساوس الشيطان، وهذا شأن المتراخين عن امتثال أوامر الله عز وجل، ومن ما يُزيِّنه الشيطان لهم، ومن ما يؤدي إلى حصول التواكل في المجتمعات، ويتنافى مع شرائع هذا الدين، ومع ما جاء به هذا الدين من نصائح وإرشاداتٍ بل ومن أوامر ونواهٍ؛ ذلك أنَّ لو كان كل واحدٍ يؤدي المسؤولية التي عليه، ويستشعر أن عليه أن يؤدي الأمانة، وأن يرعى المسؤولية المنوطة به، لما وُجِدَ التراخي، والتكاسل.
مداخلة متصل: عندي ثلاث نقاط لو تكرمتَ:
أبدأ بنقطة متعلقة بالنقطة الأخيرة التي طرحتَها وهي أن بعض الناس لا يقوم بمسؤوليات متحججاً بأنه لو قام بما عليه لما أَثَّرَ ذلك في الواقع شيئاً أو سيكون أثره بسيطاً، بمعنى: لنضرب مثالاً في الدعوة، كثيرٌ من الناس ربما لا يؤدي واجب الدعوة بحجة أن معظم الناس ليسوا مهتدين، وكذلك معظم الناس لا يحب استماع النصيحة، وربما لا يقبلونها، فيرى ذلك مُسْقِطاً لما يجب عليه من الدعوة..
مقدم البرنامج: وماذا عسى أن يصنع وهو فردٌ فقط..!!
المتصل: نعم، فيقول أنه لا يمكن أن يقوم ما لم تتكامل الحلقات، فيهجر الدعوة، ولا يقُم بما يجب عليه، وهذه حقيقة أنا شخصياً ألاحظها في كثيرٍ من الأشخاص، بمعنى عندما تكون عليه مسؤولية لا يجتهد في إيجاد الوسائل المناسبة لأدائها، بل نراه يجتهد في إيجاد مبررات والتعلات بعدم القيام به كمسؤولية كنوع من تأنيب الضمير-إن كان لا تزال في ضميره حياة-، هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانية: لا يمكن للإنسان أن يكون مراعياً لأي مسؤولية ملقاة على عاتقه ما لم يكن مدركا لأهميتها ولخطورتها، والإسلام-والحمد لله-بعكس الأنظمة الأخرى؛ فهو يجعل الإنسان مراعياً للمسؤوليات الواجبة عليه خوفاً من عذاب الله سبحانه وتعالى، وطمعاً في ثوابه في الدنيا والآخرة، فهو يَخْلُقُ فيه الضمير الحي، والوازع الداخلي المراقب لما يقوم به في كل الأوقات، فهو لا يعمل فقط عندما تكون عين القانون تلحظه، بينما استطاع التخلص من متابعتها فعل ما حلا له؛ بل إن الإسلام لا يكتفي من الإنسان بمجرد القيام بمسؤوليته، بل يأمره بإتقانها “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”.
النقطة الأخيرة: حتى يتحمل الإنسان مسؤوليته حقاً، ويكون مراعياً لها حق الرعاية اتجاه أي أمر فلابد أن يكون متصفاً بالأمانة والقوة {… إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص:26)، طبعاً القوة العلمية في ذلك المجال وكذلك القوة المادية، تحضرني قصة من تضييع بعض الآباء لمسؤولياتهم اتجاه أبنائهم: بلغني قبل فترة بأن بعض الأبناء يقوم بمشاهدة بعض الأشياء المحرمة.. بعض المقاطع، فسألت أحد القريبين منه، قلتُ: أين الأب؟ فقال: فقط هو مهتم بعمله، ولا يهمهُ ماذا يصنع ابنه أو ماذا يشاهد، حتى أنه أخبرني-للأسف الشديد-أنه ربما ذلك الابن يرى تلك المقاطع بحضور أبيه.. الأب مهتم بعمله والابن-كما يقول هذا الذي يخبرني-مهتم بمشاهدة تلك المقاطع المحرمة، فنرجو من فضيلة الشيخ-حفظه الله-أن يركز الحديث حول مسؤولية الآباء اتجاه أبنائهم.
مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ إذاً ما دام الجميع قد أهمل هذه المسؤولية فإن تطبيقها من فرد لن يكون مؤثراً كثيراً في المجتمع، فما دام الجميع يسرع في الطريق، ولا يحترم قواعد المرور-لو ضربنا مثلاً مثالاً بذلك-..، بمعنى: أنا الذي أسمعه عند الناس إن لم تَصْدِم سَتُصدَم، المهم في النهاية لابد أن تقع عليك المشكلة.
الشيخ كهلان: كما قلتُ هذه من وساوس الشيطان، وهذا من محاولة تسويغ الخطأ بأن الآخرين يرتكبون الأخطاء، وليس الأمر كذلك، نحن في الآية التي أنصتنا إليها والتي فعلاً نحتاج إلى أن نتأمل فيها نجد أن الله عز وجل يخاطب الجميع {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ…} أنتم أيها المخاطَبون {… أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}، ثم يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، هذا الخطاب إنما يُراد به هؤلاء جميعاً في عموم أفرادهم لكي يكون الامتثال صادراً منهم جميعاً ولو على حساب أنفسهم،
نحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل ولو على الأنفس وقال: {… وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى …} (المائدة:8)، فمن باب أولى يكون القيام بالمسؤولية في حد ذاته مأموراً به بغض النظر عن كون الآخرين يرتكبون نفس تلك الأخطاء؛ لأن المرء سوف يُحاسَبُ بين يدي الله سبحانه وتعالى عن ما اكتسب هو، وعن ما سعى إليه، وسعى فيه، وسوف لن يُسأل ولن يكون له عذرٌ أصلاً بأن يقول بأن الجميع كان يفعل ذلك، فضلاً على أن الصلاح إنما يكون بامتثال هؤلاء الأفراد، فلو أن كل واحدٍ في مقابل هذا الظن.. في مقابل هذا التفسير قال: لا، أنا سألتزم، وسوف يلتزم غيري.. سوف يلتزم مثلي كثير بإذن الله تعالى، فهنا سوف ينتشر الصواب، وسوف يعم-بإذن الله عز وجل-الالتزام، والتقيد بالحق، والسير على ما فيه الخير من قِبَلِ..، سوف ينتشر ذلك، فإن الدائرة تتوسع بتوسع الداخلين فيها.
مداخلة متصل آخر: أردت أن أستوضح من فضيلة الدكتور أنه ذَكَرَ أن هذا فرض كفاية، هل يقصد أنه بما أن المسؤولين هم يقوموا بإدارة الأمر وعليهم أن يقوموا بإدارة هذا الأمر بمعنى موضوع معين في أي مجال من مجالات الحياة يقومون هم بتسيير الأمر وتهيئة الأمر لتطبيقه في المجتمع، وعلى المجتمع أن يقوم بتطبيق هذا الأمر بما أنه يكون فرض كفاية على المسؤول أن يتابع هذا الأمر من خلال التطبيق، ومن خلال اشتراطات، وجميع تبعات هذا الأمر، ومتابعته في الجهة الثانية بتطبيقه في المجتمع، هل هذا هو المقصود من خلال كلام الشيخ؟ استيضاح فقط للأمر.
مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ قبل أن ننتقل إلى موضوع سؤال الأخ المتصل الثاني، هل هذا يدخل-هذه الحجج التي يأتي بها الناس-يدخل في معنى الإمعة التي نهى عنها النبي-صلى الله عليه وسلم-؟
الشيخ كهلان: نعم، والتي دلت عليها..؛ لأن نفس الحديث الذي ورد فيه ” لا تكونوا إمَّعة، إن أَحْسَنَ الناس أحسنتم، وإن أساءوا أسأتم، ولكن وطنوا أنفسكم إن ظَلَمَ الناس” وفي رواية “… إن أَحْسَنَ الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تحسنوا”، هذه الرواية فيها ضَعْف عند المُحَدِّثِين؛ لكن عموم الأدلة الشرعية الداعية إلى تحقيق القيام بالواجبات ورعاية المسؤولية ومنها الحديث الذي سوف ننصت إليه بعد قليل-بمشيئة الله تعالى-وطائفة أخرى من الأحاديث التي استشهدتُ أنا ببعضها كلها تدل.. بل الآيات القرآنية التي فيها وجوب إنصاف الآخرين من الأنفس قَبْلَ الإنصاف للأنفس من قِبَلِ الآخرين هذه كلها تؤكد على أنه لا يسوغ للمسلم أن يتراخى عن الخير وأن يتأخر عن المعروف وعن الإحسان وعن أداء ما عليه بحجة أن غيره غير مؤدٍ لما عليه، فذلك من الأعذار الواهية، وهي لا تنفعه عند الله سبحانه وتعالى، وتزيده تأخراً، كما أنها تؤثر على عموم سير المجتمع وحركته نحو ما يُفتَرض أن ينشده من الكمال، ومن النماء، والرقي، ورفاه العيش، ورغده، وسعة الرزق، وسعة الأمن، والاستقرار، والطمأنينة.
مقدم البرنامج: هذا الموضوع الذي ذكرتموه يُذكِّرني بقصة للإمام جابر-رضي الله عنه-، عندما مرَّ على جدار فأخذ عوداً-أظن أنه للتخلل-، ثم أرجعه، فقيل له: لماذا ترجعه؟! قال: لو كل واحد مرَّ على هذا الجدار فأخذ منه عوداً لما بقي منه شيء.
الشيخ كهلان: أحسنت نعم.
مقدم البرنامج: طيب الآن مع هذا الفاصل، ثم نعود للمناقشة بإذن الله.
*******************************
عن عبدالله بن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: ” ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولةٌ عنهم، وعبدُ الرجل راعٍ على مال سيده، وهو مسؤولٌ عنه، ألا فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته”.
مداخلة متصل ثالث: أخي عندي نقطتان حول النقطة الأخيرة التي ذكرتموها،
النقطة الأولى: بالنسبة لموضوع المسؤولية يوجد من الناس من يقول: وأنتَ ما دخلكَ في الموضوع هذا؟!! ، فمثلاً لو ضربنا مثالاً على مرافق الدولة، يوجد من الناس من يُحْدثون تخريباً فيها، فلو نصحت أحداً منهم قال: وما دخلك أنتَ؟!
والنقطة الأخيرة: ما هو الموقف اتجاه هؤلاء الناس الذي يعملون مثل هذه التخريبات كالتخريب في المرافق مثلاً؟
مقدم البرنامج: نعود إلى أسئلتنا فضيلة الشيخ، نحن كنا قد استمعنا في الفاصل الأول إلى آيةٍ قرآنيةٍ كريمةٍ تبيِّن بعضاً من هذه المسؤوليات التي يتحملها الإنسان بشكلٍ جماعي، نحتاج الآن إلى تأصيلٍ أكثر في موضوع تناول القرآن الكريم لإثبات خاصية المسؤولية الجماعية، وكيفية تصويرها.
الشيخ كهلان: وأنا أظن أيضا بأن الحديث الذي أنصتنا إليه سوياً مع الإخوة والأخوات المتابعين قد وَضَّح صورة ما نتحدث عنه الآن.
مقدم البرنامج: وأجاب أيضا على سؤال الأخ المتصل الثاني أظن..
الشيخ كهلان: نعم، وسنأتي إليه مرةً أخرى، لكن الآية التي أنصتنا إليها هي في الحقيقة جاءت لتُحذِّر هذه الأمة من الوقوع في خيانة الأمانة { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا…}، ونحن تعرضنا في موضوع الأمانة إلى أن الأمانات لا يُقصَد بها الأمانات الحسية.. الودائع فقط، وإنما يُقصَدُ كل ما كان يَصلُح أن يَصدُق عليه أنه أمانة، فالدين أمانة، والعلم أمانة.. الحق أمانة.. نِعَمُ الله عز وجل على الإنسان أمانات.. الولايات العامة أمانات، هذه كلها أمانات يُخاطَب الناس بأدائها، والأداء يُقصَد به التوفية وأداء الحقوق،
والآية وردت في سياق التحذير من ما وقع فيه أهل الكتاب قبل هذه الأمة من خيانة أمانة العلم بتحريف الكلم عن مواضعه، وبشرائهم لآيات الله عز وجل ثمناً بخساً، وبافترائهم عليه جل وعلا الكذب، وبالحسد، وبإنكارهم فضل الله تعالى الذي يؤتيه عباده فيختار منهم الأنبياء والمرسلين، ويُعلي منازل من يختصهم من عباده بما شاء، فدل ذلك على أن كل هذا الذي يَصْدُرُ من هؤلاء هو خيانةٌ للأمانات، فناسب ذلك أن تؤمر هذه الأمة بأداء الأمانات بما فيها من أماناتٍ حسيةٍ ومعنويةٍ، بل إن دلالتها على أداء الأمانات المعنوية من العلم، وأداء حقوق النِّعَمِ، ومن واجبات الدين، وأمانة الدين، ومن أمانة الحق، ومن أمانة التعاون على البر والتقوى هي من ألزم ما يُفهَم بل من أخص ما يُفهِم من هذه الآية الكريمة، والخطاب فيها ليس خطاباً خاصاً بأحدٍ دون أحد، فإن الخطاب فيها لكل من يَصْلُحُ لتَلقِّي هذا الخطاب؛ لأن في يديه ما هو مؤتمن عليه من تربيةٍ أو من علمٍ أو من عملٍ ما أو من مصلحةٍ معينةٍ أو من رأيٍ ومشورةٍ يبديها أو من كلمةٍ يمكن أن تكون سبباً لخيرٍ في المجتمع، وفي ذلك أيضا ما يتصل بالودائع، وتسليم الديون، وغيرها أو حتى مِن مَن يتولى الحكم بين الناس أو مِن مَن يتولى التشريع لهم أو مِن مَن يتولى مقاضاتهم أو كل من أؤتمن على شيءٍ من هذه الأمور دون تحديدٍ أو تضييق مجال،
وهذا ما يؤكده أيضا هذا الحديث الذي أنصتنا إليه؛ فإن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حينما ذَكَرَ أصنافاً من هذه الأمانات نجد أنه ذَكَرَ أول الحديث قاعدةً عامةً، وذَكَرَ آخر الحديث أيضا تأكيداً لتلك القاعدة، فقال أولاً: “ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته”، وذَكَرَ بعد أن ذَكَرَ أمثلةً منها.. وللأسف اشتغل الناس بالأمثلة دون هذا التأصيل مع أن أول الحديث كما قلنا: “ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته”، ونحن حينما نتحدث عن رعاية المسؤولية نتحدث عن هذا الحديث، وحينما نقول مسؤولاً لا نقصد به صاحب وظيفة، نقصد به ما عناه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-من هذا الخطاب “ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته”، وختم الحديث أيضا بقوله: “ألا فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته”.
مداخلة متصل رابع: أحببت أن أستشير الشيخ في موضوع المسؤولية ما مسؤولية..
شيخي العزيز ما يحدث الآن في الأمة من التعدي على الرسول، والتعدي على حرمات الإسلام في الأقصى، وغير ذلك.. مستوى التعليم.. حال الأمة الإسلامية بالكامل، أنا أعيش نوعاً من الإحباط، ما مسؤوليتي في الموضوع هذا؟ كيف أحاول أن أُروِّح على نفسي؟ كيف أحاول أن أفيد الإسلام؟ لأني أنا أعتبر نفسي مذنب نوعاً ما، فما رأيكم؟
مقدم البرنامج: أظن أن هذا يدخل فيما تتحدثون عنه قبل قليل، الآن قضية التذمم في موضوع حدوث مشكلات في العالم الإسلامي يجد الإنسان نفسه مسؤولا عن قضية التعاطي معها أو إبراز الصورة الناصعة للإسلام، هذه المسؤولية كيف تُتَرجَمُ على أرض الواقع؟
الشيخ كهلان: أولاً لا شك نحن نُثنِي على هذا الشعور، فهو شعورٌ يُنمِّيه هذا الدين؛ لأن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول: “من لم يشغله أمر المسلمين فليس منهم”، وبالتالي فالذي نأسف له نحن أن يُقتَل هذا الشعور أصلاً.. أن لا يوجد في أجيالنا مثل هذا الشعور، فلا تجد المسلم يأسف لما يحصل لمقدساته، ولبلاد المسلمين، ولإخوانه المسلمين، من ظلمٍ يقع عليهم، ومن بغيٍ وعدوانٍ عليهم وعلى أرضهم وعلى مقدساتنا، فإذاً هذا هو من ما يبرئ له ذمته أولاً-هذا الشعور-، ثم إن بعض الناس ينسى..، وقد أشار هو-الأخ المتصل الرابع-أشار إشارةً عابرة مع أنني ما كنتُ أتمنى له أن يقول مثلاً كلمة: (مسؤولية.. ما مسؤولية)، مسألة المسؤولية التي نتحدث عنها لا ينبغي أن يُنظَرَ لها باستخفاف-حاشاه، هو لم يَقصِد ذلك-؛ لكن حينما تكون نظرتنا إلى أنه مثل هذا الموضوع يقول لك: (مسؤولية.. ما مسؤولية) لا، نحن ينبغي لنا أصلاً..
ولذلك حتى في اتصال الأخ المتصل الأول ونحن صَدَّرنا الحديث وأنتم أيضا في مقدمتكم-جزاكَ الله خيراً-أشرتَ إلى هذا: إلى أن هذا الموضوع ينبغي أن يُعطى ما يستحقه من العناية، وأن نشعر نحن بعِظَمِ هذه المسؤولية لا أن نُضَيِّقُها في أفهامنا وفي ممارستنا وفي تطبيقنا بإيكالها إلى غيرنا، وبتبرئة ساحتنا، وبتحميلنا اللوم لغيرنا، بل لابد لنا أن تكون المبادرة، وأن نتهم أنفسنا بالتقصير أولاً، ثم مع هذا الشعور ومع إدراك المسؤولية فإن أداء توفية رعاية هذه المسؤولية إنما تكون بحسب ما يُتاح لكل واحدٍ منا من مجالاتٍ يمكن أن يكون عوناً بها على نُصرة إخوانه، فإن كان ذلك بكلمة المؤازرة فليكن.. إن كان ذلك بالمال الذي يعينه فليكن.. إن كان ذلك بالدعاء فليكن.. إن كان ذلك بمقالٍ أو بموقعٍ أو بمشاركةٍ في منتدياتٍ نافعةٍ أو.. الحاصل أن مجالات ذلك لا تُحصَر؛
لكن المطلوب من المسلم أن يعرف؛ لأن الأمور بمقاصدها، فالمقاصد معتبرة شرعاً، لابد أن يكون المَقصِدُ مَقصِداً موافقاً للشرع، وهو مَقصِدُ رفع الظلم والبغي والعدوان عن المسلمين، وأن تكون الوسيلة التي ينتهجها الفرد وسيلةً صحيحةً أيضا، لا تجلب للمسلمين مزيداً من العنت ومن الإذلال، ومزيداً من الظلم من قِبَلِ غيرهم، هذه كلها مجالات يمكن للمسلمين أن يُبْرِئوا فيها ذممهم، وكما قلتُ إنما تتنوع الواجبات-واجبات المسؤوليات-بحسب عِظَمِ المسؤوليات، فمن كانت-لا شك-مسؤولياته أعظم كانت واجباته كذلك أعظم، ومن كان في يده من القرار والنفوذ ما لا يوجد عند غيره فلا شك أن مسؤوليته عند الله سبحانه وتعالى ثم عند الناس أعظم أيضا، وعلى كلٍّ أن يستشعر هذه المسؤولية،
نحن الآن نتحدث وتجد بعضاً من شبابنا-للأسف الشديد-يُحَدِّثُ نفسه أنه قادرٌ أن يفعل كذا وأن يفعل كذا وأنه لو كان أتيح له المجال لفعل كذا ولفعل كذا وهو في الواجبات المأمور بها شرعاً مُقَصِّرٌ مُفرِّط، إذاً أليس هذا من وساوس الشيطان؟! أليس هذا مما يزينه له-والعياذ بالله-الشيطان بأن يزيِّن له أن شيئاً غائباً عنه لكنه قادرٌ على الوفاء به أما الشيء الحاضر المخاطَب به فهو مُقَصِّرٌ فيه، كيف يتأتى أن نفهم أنه سوف يكون إن كان هو مفرطاً في أمر صلاته، وفي صلته بالله عز وجل، وفي حقوق إخوانه، وفي برِّه بوالديه، وفي حسن معاملته لأسرته ولأقاربه وصلته بهم، وفي معاملته للناس أو كان غير مكترثٍ برزقه، ولا بنفقته أو كان غير مكترثٍ بحياته، ولا بحياة الآخرين، ولا بحفظ موارد الأمة، ولا بحفظ مرافقها العامة، كيف يُتَصوَّر منه أن يكون معواناً على نصرة قضايا الأمة الكبرى؟! لا يمكن ذلك.
مقدم البرنامج: نعم بالفعل..
والحقيقة لابد للمسلم أن يستلهم هذه المعاني التي ذكرتموها من القرآن الكريم، الشعور بالأسف عند بعض الشباب بالفعل يتحول إلى عاطفةٍ دامعةٍ .. أي يتعدى به الأمر إلى أن تكون لديه حركة لا يحسب لها عواقبها، في القرآن الكريم يبين الله تعالى عن بني إسرائيل {… وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ …} (يونس:87) {… اجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ …} (يونس:87)، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ …} (النساء:77)، إذاً الاهتمام بإصلاح النفس وتهيئة النفس لطاعة الله سبحانه وتعالى هذا الذي أشرتم إليه.
الشيخ كهلان: ماذا كان أيضا سؤال الأخ المتصل الثاني؟
مقدم البرنامج: الأخ المتصل الثاني سؤاله يتحدث فيمن يقوم بهذه المسؤولية الجماعية التي ذكَرتُم أنها من فروض الكفاية، هل هذا الفرض يتجه إلى المسؤولين في موضوع التشريع والمتابعة أم أن الأفراد أيضا؟
الشيخ كهلان: أنا فهمتُ الآن أن السبب أن كلمة مسؤولية ومسؤول-كما قلتُ-لا نقصد به .. لأن كثير من الناس الآن كلمة مسؤولية أو مسؤول يقصدون بها وظيفة وموظف، وليس الأمر كذلك، ما نتحدث عنه كما هو حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم–وهذه مناسبة للتعليق على الحديث-حينما قال: “ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته”، وما معنى “… راعٍ …” لما يقول الرسول-صلى الله عليه وسلم-؟ ما هو عمل الراعي الذي يرعى الأغنام؟ عليه أن يحفظ هذه الأغنام، وأن يختار لها المرعى الجيد.. أن يختار لها ما يُصلِح أحوالها، وأن يجنبها الشرور.. أن يُجنِّبها الأذى والضرر، إذاً هكذا هو مفهوم الرعاية رعاية المسؤولية، لكن ما هو نوع هذه المسؤولية؟ هي ليست وظيفة.. لا نتحدث عن وظائف ومناصب الآن، نحن نتحدث عن اعتباراتٍ شرعيةٍ في هذا الجانب؛ ولذلك أنا قلتُ التأصيل الفقهي هذا تأصيلٌ عام لا يقتصر على منصبٍ أو وظيفةٍ وهذا الذي نتحدث عنه؛ لذلك نجد أن حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ذَكَرَ أمثلةً فقال: “فالإمام الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ على أهل بيت زوجها-وفي رواية: على بيت زوجها وولده-، ومسؤولةٌ عنهم، وعبدُ الرجل راعٍ على مال سيده، وهو مسؤولٌ عنه”، ثم يأتي مرةً أخرى التعميم فيقول: “ألا فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته”،
وهذا ينال الجوانب الاجتماعية في المجتمع.. التربية، يتناول أيضا جوانب العلم والمعرفة.. يتناول جوانب الدعوة والإصلاح.. يتناول جوانب الاقتصاد والتنمية الاقتصادية في البلد.. يتناول جوانب الفكر، فكُلٌّ يمكن أن تكون له مسؤولية يقوم بها، وعليه أن يؤدي تلك المسؤولية حتى تتظافر الجهود، وبالتالي يتحقق ما يصبو إليه هذا المجتمع من التواد والتعاطف والتراحم، وما يرنو إليه أيضا من رفاهيةٍ، ومن استقرارٍ، ومن انتظام أحوالٍ، وتنساق أوضاع.
مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ لنستمع إلى هذا الحديث؛ لأنه بقيت معنا خمس دقائق نريد أن نُسَخِّرَها في الحديث عن السلامة المرورية وغيرها.
*******************************
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: “ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً يموتُ يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة”.
مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ قبل أن ننتقل إلى موضوع السلامة تعليق بسيط جداً على موضوع الأخ المتصل الثالث؛ لأنه كما قلتم هو الآن على قناعة بأن المسؤولية هذه ملقاةٌ على عاتقه سواءً كان فرداً أو في مجموعة، ولكن كما قُلنا طرحنا موضوع الإشكالية (إذا لم يكن الجميع يصنع ذلك الأمر فلماذا أنا أصنعه؟!) وقد أجبتم عليه؛ لكن هناك شيءٌ بقي وهو أنه: قد يُحافِظ هذا الرجل على رعاية مسؤوليته، ولكن سيأتي إليه من يقول له: (ما دَخْلُكَ أنت؟) مثلاً في قضية المرافق العامة، والمحافظة عليها.
الشيخ كهلان: يقول له: (دَخْلِي).. يقول له: (هذا من شأني، وليس شأناً خاصاً بك؛ لأن هذا من المرافق العامة، ولئن كان كل واحدٍ منا سوف يكون مِعْوَلَ هدمٍ لما استقرت أحوال المجتمعات، فإذاً هو من شأني، ومن شأنك أنت، ومن شأن سائر المنتفعين، وديننا يأمرنا بذلك، وأخلاق الإسلام تأمرنا، ومروءاتنا، وأعرافنا، وتقاليدنا كل ذلك يأمرنا بأن نتعاون، وأن نتعاضد، وأن نتكاتف، وأن نتناصح فيما بيننا؛ لأن في ذلك المنجاة لنا في الآخرة، والسعادة لنا في الدنيا)، وأنا أقول لما أقول: يقول له كذا.. أي ينبغي أن نَفهَمَ نحن جميعاً أن هذا هو المبدأ الذي ننطلق منه.
مقدم البرنامج: سؤال الأخ المتصل الأول بحول الله تعالى نحاول أن نُفرِد له حلقة فيما يتعلق بالمسؤولية الأبوية عن الأبناء، وخاصةً ربما نحن في فترة الصيف.. قد نحتاج إلى أن يتعلم الآباء كيفية التعامل مع أبنائهم في فترة الصيف.
الشيخ كهلان: نعم، نحن قلنا في بداية الحديث أننا سوف نُفَرِّعُ على هذا التأصيل اليوم بمشيئة الله تعالى جملة من القضايا ومنها موضوع التربية، ومنها أيضا موضوع حقوق الأولاد على آبائهم بمشيئة الله تعالى.
مقدم البرنامج: بإذن الله..
الآن لنأخذ الموضوع الهام الحيوي فضيلة الشيخ، هذا الموضوع طبعاً يمثل هاجساً يؤرق المجتمعات الإنسانية عموماً ومجتمعنا العماني خصوصاً، وهو موضوع (السلامة المرورية)، الأرقام التي تُنشَر وخاصةً في هذه الأيام حول حوادث السير، والخسائر البشرية والمالية، والآثار الاجتماعية والصحية، أرقام تستدعي العناية، ونحن تابعنا في ندوة افتتاح السلامة المرورية تلك الأرقام، وتابعنا في الحقيقة الكثير من ما يسترعي الانتباه؛ ولذلك طبعا جاءت التوجيهات السامية بإعطاء هذا الموضوع ما يلزم من العناية والدراسة، كيف يمكن أن نُطَبِّقَ التأصيل السابق-فضيلة الشيخ-على هذا الموضوع؟
الشيخ كهلان: باختصارٍ شديدٍ وبشكلٍ مباشرٍ وصريحٍ فيما يتصل بهذا الموضوع نحن جميعاً مسؤولون عن السلامة المرورية.. مستخدم الطريق مسؤولٌ عن ذلك، وعليه التزامات وواجبات ينبغي أن يفهمها وأن يعيها وأن يقتنع بها وأن يلتزم بها، كذلك الجهات التشريعية عليها مسؤوليات كبيرة.. الجهات الإعلامية والمسؤولة عن التوعية والإرشاد عليها مسؤولية كبيرة.. الجهات الفنية التي تُعنى بتخطيط الشوارع، ودراسة مواصفاتها، وإقامتها، وتشييدها وفقاً لتلك المواصفات التي تُحَقِّقُ السلامة والأمن أيضا عليها مسؤولياتٌ كبيرة.. الجهات المسؤولة عن المواصفات الفنية للمركبات ومواصفات الأمن والسلامة في المركبات عليها مسؤوليات كبيرة،
ليس فقط من يجلس أيضا على مِقْود السيارة.. المركبة يقع عليه عاتق مسؤولية وسلامة المركبة والركاب معه وحسن استخدامه وانتفاعه بالطريق بل الذين يركبون معه.. المارة في الطريق.. كل هؤلاء جميعاً عليهم مسؤوليات وفقاً لهذا التأصيل الذي نتحدث عنه، لن نتمكن ولن يتمكن مجتمعٌ من المجتمعات من إيجاد حلولٍ نافعةٍ تُحَفَظُ فيها أرواح البشر، وتُوفَّر فيها موارد الأمة، وتُوفَّر فيها طاقات هذه الأمة من الشباب، وهذه الطاقات الفكرية، والموارد المالية، والصحية، والذهنية، والأمنية، والشُّرَطيَّة التي تُبذَلُ وتُصرَفُ فيما يتصل بالطرقات والمرور والأمن والسلامة فيها، سوف يُوفَّر كل ذلك لكن لا يكون إلا بتظافر الجميع، إن ظَنَّتْ الجهات المسؤولة عن التشريع بأن تطبيق القوانين بيَدِ مستخدم الطريق، وأن هي ما عليها إلا أن تُشَرِّعَ فقط أو ظَنَّ رجل المرور بأنه عليه أن يُعاقِب ويُجازِي ويَرصُد المخالفات وأن بذلك تبرأ ذمته أو ظَنَّ مستخدم الطريق أن لا مسؤولية عليه لأن استخدامه للمركبة التي يملكها وله حقٌّ في الشارع، ولا يعنيه بعد ذلك أمر الآخرين أو ظَنَّ ذلك المسؤول عن مواصفات السيارات التي تُجلَبُ إلى هذا البلد من عجلاتٍ وسائر المواصفات الفنية التي بها يتحقق الأمان في الطريق-بإذن الله عز وجل-أن عليه أن يَغُضَّ الطرف عن بعض المواصفات التي يمكن أن تؤثر ولو بنسبةٍ ضئيلةٍ في نَظَرِه، إن ظَنَّ هؤلاء جميعاً أنه بإمكانهم أن يتخلوا عن المسؤولية، وأن يلقوا باللائمة على غيرهم لن يتحقق شيءٌ من ما نصبو إليه من تحقيق شعار هذه الندوة الذي هو (نعم للحد من حوادث المرور).
هي مسؤولياتٌ جمعيةٌ إذاً، تقع على عواتق الجميع، وينبغي أن يتكاتف الجميع، وهذا ما نراه بحمد الله تعالى؛ لكننا نؤكد على ذلك، وأن لابد من الشعور بالمسؤولية من الجميع، والشعور بمسؤولية القضية بأسرها ليس فقط في نطاق اختصاصه، نعم صاحب الاختصاص ، فمثلاً الإعلامي عليه أن يتحرى كل ما يمكن أن يُعِين على تحقيق هذه الغايات، وبالنسبة لرجل الشرطة، وبالنسبة للمُشَرِّعِ، وبالنسبة لرجل المرور، كما بالنسبة لمستخدم الطريق، ولمن يُصَرِّحُ للمركبات أو لمن يفحصها أو لمن يخطط الشوارع ويهندس بنيانها وإقامتها كل هؤلاء عليهم أن يشعروا بعِظَمِ المسؤولية، وأن يكون باعثهم في ذلك: الدين.. الضمير.. الصلة بالله عز وجل؛ لأن ذلك هو الذي سوف يعينهم-بإذن الله تعالى-من تحقيق الغايات المنشودة-غايات الخير-؛ فإن أداء هذه الأمانات هو امتثالٌ لأمر الله عز وجل، ورعاية هذه المسؤوليات فيه من الأجر والثواب عند الله تعالى ما لا يخفى.
ولابد أيضا من إدراك أهمية التعاون، وأَنَّا لا يمكن أن نحقق النتائج المرجوة بجهدٍ فردي أو بجهدٍ يُنْسَبُ إلى جهةٍ واحدةٍ فقط، لابد من تظافر الجهود، وأن نعْلم أن جهودنا معاً وتعاوننا جميعاً هو الذي يحقق لنا السلامة المرورية، طبعاً لابد أيضا من أن يكون ذلك كله مع الأخذ بأسباب العِلم، وما توصلت إليه الدراسات المعاصرة الحديثة فيما يتصل بكل هذه الجوانب، وأن يكون في ظِلالٍ من الصدق، وأداء الأمانة، والشفافية، والوضوح.
مقدم البرنامج: جزاكم الله خيراً، بالفعل نحن نحتاج إلى مثل هذه الكلمات التي تربط الإنسان بدينه في موضوع رعاية المسؤولية فيما يتعلق بالسلامة المرورية وغيرها، خاصة وأن الاستهتار بأرواح الناس جريمةٌ لا تغتفر.
شكراً لكم فضيلة الشيخ على هذا العطاء، وعلى هذا التفصيل في موضوع رعاية المسؤولية، وكنَّا نتمنى أن يطول بنا الوقت لنتناول المزيد منها، وفي حلقاتٍ أخرى ربما سيكون ذلك بحول الله.
الشيخ كهلان: بإذن الله.
مقدم البرنامج: شكراً لكم أعزاءنا الكرام، وحلقتنا القادمة-بإذن الله تعالى-ستكون عن مسؤولية التربية، وهذا بالفعل فيما يتعلق بجانب التوصيل لرعاية المسؤولية، شكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
انتهت الحلقة