عنوان الحلقة “حسن الظن”
بثت في:
3 / ذو الحجة / 1429هـ
1 / ديسمبر / 2008 م
مقدم البرنامج: أيها الإخوة المستمعون السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، نحييكم في حلقة جديدة من برنامجكم دين الرحمة، وحلقة هذا اليوم سنتناول فيها موضوع “حسن الظن”، وفي حلقة اليوم معكم الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي.
مثل ما ذكرنا في البداية في حلقة اليوم سنتناول موضوع “حسن الظن”.
دكتور: مرحبا بك.
الشيخ كهلان: وحياكم الله، وأحيي أيضا الإخوة والأخوات الذين يتابعون هذا البرنامج، ونحيي أكثر ونرحب بالإخوة والأخوات الذين سوف يشاركوننا بإذن الله تعالى في هذا الموضوع.
مقدم البرنامج: أهلا وسهلا دكتور.
في بداية الأمر دكتور نود أن نتعرف على العناصر التي سنتعرض لها هذا اليوم في هذه الحلقة الجديدة من البرنامج.
ما هي المجالات التي يمكن للإخوة والأخوات أن يشاركونا بها؟
وما صلة هذا الموضوع بالإطار العام لبرنامج دين الرحمة؟ أعني حسن الظن.
الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد النعمة المهداة والرحمة المسداة، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن موضوع الظن هو من الموضوعات الهامة التي ينبغي للمسلم أن يقف عندها؛ لأنه لا يتصل بقضية هي من نوافل خلق المسلم أو من الفواضل التي يمكن أن يتحلى بها في وقتٍ ويتحلى بضدها في وقتٍ آخر، وإنما يتصل بمبدأ هو من المبادئ اللازمة لصلاح هذا الإنسان، ولسلامة صدره، ولطمأنينته في سيره في هذه الحياة حينما يتعامل مع غيره، فموضوع حسن الظن وبالتالي النهي عن إساءة الظن بالآخرين هو من الموضوعات ذات الصلة الوثيقة بخلق المسلم وبقيمه.
وطالما اتصل هذا الموضوع بمنظومة القيم والأخلاق في هذا الدين فهو بذلك لا ينفك عن كونه علامة من علامات الرحمة في هذا الدين.. الرحمة بهذا الإنسان، والرحمة في تعامل هذا الإنسان مع غيره ممن يتعامل معهم أخذاً وعطاءً وجذباً ودفعاً، ونحن نتحدث هنا لا نتحدث عن الظن الذي هو ضد اليقين فيما يتعلق بأمور العقائد وكيف أنها تبنى على يقين لا على ظن، ولا نتحدث أيضا – حتى نحدد الموضوع – عن أهمية أن يحسن المرء ظنه بربه تبارك وتعالى حينما يُحسِّنُ عمله وحينما ينقلب إليه، وإنما نتحدث عن حسن ظنه بغيره، وكيف أن من أخلاق المسلم أن يحمل غيره على حسن الظن وعلى سعة العذر وأن يتبع كل السبل والوسائل التي تحقق له سلامة صدره في ظنونه التي يحملها على الآخرين أو للآخرين، وبالتالي فالموضوع واضح.. نتحدث عن حسن الظن الذي هو أساس في معاملة الإنسان لغيره.
ونتحدث في هذا الإطار عن جملة من العناصر يمكن للأخوة والأخوات أن يشاركونا فيها، من هذه العناصر: تصورهم عن أهمية إحسان الظن بالآخرين، وكيف ينظرون إلى هذا المبدأ؟ هل ينظرون إليه على أنه فعلا ذو أهمية وينبغي للمسلم أن يحفل به وأن يوليه عناية؟
وما هي الأدلة الشرعية التي وردت في هذا الخصوص؟
وما هي الآثار الناتجة عن ذلك؟
أم أنهم ينظرون إن كان هناك من ينظر إلى إحسان ظن الفرد منا بغيره من الناس على أنه علامة على الغفلة وعلى السطحية وعلى ترك الحزم، وأن الأصل بأن الأحزم والأولى بهذا الإنسان أن يسيء ظنه في الآخرين؟
أو أن هناك تفسيراً لكلا هذين الطرحين ( بين إحسان الظن وإساءة الظن )؟
هذه من أهم العناصر التي سوف نتعرض لها.
ثم ما هي الوسائل والخطوات العملية التي تمكن هذا الإنسان من إحسان ظنه بغيره؟
هناك عنصر آخر يتعلق بأثر إحسان الظن.. الآثار أو آثار الظن إن كانت إحسانا أو كانت إساءة ظن ما هي الآثار الناتجة عن كِلا الفعلين؟
ثم إلى أي حد؟ ما هي الدوائر والحلقات أو المستويات التي نحتاج فيها إلى هذا المبدأ – إلى إحسان الظن – هل هي على مستوى علاقتنا كأفراد فقط أم أن المسألة أوسع من ذلك؟ أي بين الجانب الاجتماعي في داخل الأسرة.. داخل المجتمع.. في المجتمع المسجدي.. في مكان الوظيفة ما هي الدوائر التي يمكن أن نوسع إليها هذا المبدأ حينما نتحدث عن حسن الظن؟
كل هذه وغيرها – إن شاء الله تعالى – هي من عناصر حلقة اليوم، وهي من القضايا التي نرحب فيها بكل مشاركة أو إضافة أو استفسار بإذن الله تعالى.
مقدم البرنامج:نعم، دكتور.. مستمعينا الكرام قبل أن ندخل في ضمن هذا الموضوع نستمع إلى الآية الكريمة.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ {13} يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات12-13).
مقدم البرنامج: صدق الله العظيم، أهلا وسهلا بكم أيها الإخوة المستمعون مرة أخرى.
الشيخ كهلان استمعنا إلى هذه الآية الكريمة ونريد منكم مزيداً من البيان والتفصيل عن هذه القيمة النبيلة – قيمة حسن الظن -، وكيف تناولت الأدلة الشرعية – سواء من كتاب الله العزيز أو من السنة النبوية الشريفة – موضوع الظن أولا بشكل عام؟
الشيخ كهلان: نعم هذه الآية من سورة الحجرات فيها من الأدب الرفيع الذي ينشئ القرآن الكريم عليه أتباعه، وقد تضمن السياق الذي وردت فيه هذه الآية جملة من هذه الأخلاق الرفيعة والقيم النبيلة التي يحثنا عليها ديننا الحنيف، هذا النداء في هذه الآية هو النداء الخالص المصدَّر بـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا…} مما يدل على الاهتمام الكبير بهذا المنادى به.. بالأخلاق التي تقررها هذه الآيات الكريمة الواردة في هذا السياق، فنحن حينما نتأمل قول الله تعالى في صدر هذا السياق نجد أن الله عز وجل يقول: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الحجرات:10)، ثم يأتي بعد ذلك نهي عن جملة من الأخلاق.. نهي عن جملة من العادات السيئة التي تتنافى مع خلق المسلم ومع هديه القويم فالله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ…}( الحجرات:11)، ثم قال: {…وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (الحجرات 11)، ثم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…}، وسلسلة أخرى أيضا من المنهيات التي تتنافى وتتعارض مع أخلاق المسلم {…وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا…} إلى آخر الآية الكريمة.
فهذه الجملة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…} قلت بأن هذه الآية أو صدر هذه يشتمل على أدب جمٍّ رفيعٍ يدعونا القرآن الكريم إلى التحلي به، هذا الأدب هو نقيض هذه الصفة المنهي عنها في هذه الآية، الآية تنهى عن الظن والمقصود به ( الظن الذي يؤدي إلى الإثم وهو سوء الظن )، وهذا الذي نُهينا عنه هنا إنما نُهينا عنه لعظيم الضرر الناشئ عنه في الدنيا والآخرة، ففساد العقائد إنما يكون على اتباع التخريص والظنون.. فساد الأخلاق إنما يكون بسبب حمل الناس على أسوأ الاحتمالات.. التضييق عليهم في أمر العذر، أيضا إساءة علاقات الناس بعضهم ببعض إنما تنشب حينما تُستل من الصدور علاقة المودة والعطف والرحمة، واستلالها إنما يكون بإساءة الظنون في تصرفات الآخرين وبحملهم على أسوأ المحامل؛ ولذلك حذرنا القرآن الكريم بهذه اللفتة التي فيها من الوخز ما فيها حينما قال: {…إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…} أي لو كان هذا الظن يتجزأ لكان القليل منه كافيا لكي يكون مجلبة للإثم فما بالك بالكثير من الظن؛ حتى لا يظن الناس أن بعض الظن إثم وبالتالي فكثير من الظن ليس فيه إثم لا، {…بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…} في هذه الآية المقصود منها أن القليل من الظن إثم فما بالكم بالكثير؟!.. ما بالكم بكل الظن السيئ؟!
مقدم البرنامج: قليله وكثيره.
الشيخ كهلان: قليله وكثيره نعم، فالآية تبين خطر إساءة الظن وعظيم وزر الظان ظنا سيئا بغيره ببيان أن أقل درجات هذا الظن مجلبة للإثم، فكيف بما هو أكبر من ذلك وأبلغ في إساءة الظن، وهذا السياق – كما قلت – كله يدل على أهمية إحسان الظن، وعلى عظيم خطر إساءة الظن؛ لأنه ورد في جملة من القواعد الخلقية التي لها أثرها الكبير في إقامة أود المجتمع المسلم على آصرة الأخوة التي قررتها الآية التي صدَّرنا بها الحديث { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ…}، وفي إقامة أود العلاقات الإنسانية بشكل عام والتي اختتم بها هذا السياق من الأخلاق في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13) في إشارة إلى أن إحسان الظن هو سبب لتعزيز آصرة الأخوة الإيمانية، كما هو سبب لتمتين آصرة الأخوة الإنسانية العامة التي تظلل الناس جميعا، فهو مبدأ أصيل في هذا الدين.
وهكذا تناول القرآن الكريم موضوع الظن، نحن جميعا نعلم قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (الحجرات:6) لماذا هذا التوجيه الرباني؟ لأن الوشاية هي مدعاة إلى إساءة الظن بالآخرين؛ ولذلك نجد هذا التنبيه القرآني البالغ الذي يخاطب ضمير المسلم بأن يَحْذََرَ من هؤلاء الذين يسعون بالوشاية في المجتمع بـ التبين والتثبت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } ولماذا قال: {…إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا…}؟
لأن الأصل في المسلم حينما يكون صالحا.. مستقيما.. متقيداً بأخلاق الإسلام وبهدي هذا الدين أن لا يكون نقَّال أحاديث.. أن لا يكون سبب وشاية ونميمة في المجتمع، وإنما يتحلى بهذا الخُلق من كان في إيمانه وفي خلقه وسلوكه دخل؛ ولذلك كثير من المفسرين يقولون: { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ {10} هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } (القلم:10-11) قالوا: قلما يكون الذي يمشي بالوشاية بالنميمة في المجتمع إلا وتجتمع فيه هذه الخصال جميعا، هذا أيضا من الأسباب التي تناول فيها القرآن الكريم موضوع الظن، وهناك آيات أخرى نعم تشير إلى سؤالكم.
مقدم البرنامج: ولعل الشيخ كهلان الآية صدرت {…إِن جَاءَكُمْ…} ولم يقل: إذا جاءكم.
الشيخ كهلان: نعم أحسنت.. هذا ملحظ آخر نعم.
مداخلة متصل: لدي بعض النقاط لو تتكرم:
الشيخ كيف نوفق بين إحسان الظن ( بين أن يكون الإنسان يحسن الظن وبين أن يكون حذرا ) وأن لا يكون بليدا كما يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم-: “المؤمن كيِّس فطن” ؟
الأمر الثاني: كثير من الناس الآن ينادي بأن هذا الوقت ليس وقت إحسان ظن – هكذا يقول البعض – بسبب ما يراه ويشاهده من خيانات وكثير من التصرفات فيقول الآن الناس أصبحت – كما يقولون في اللغة الدارجة: ما مثل أول كثير النفوس غير صافية -.
مقدم البرنامج: توجد نقطة أخرى؟
المتصل: نعم، عن تجربة أن الإنسان عندما يريد أن يحسن الظن يضع نفسه مكان الآخرين، حقيقة دائما عندما أحاول أن أطبق هذا – لا أدعي بأني أطبق هذا المبدأ ولكن أحاول أن أطبقه – أكون في بعض المواقف فأقول لو أنا رأيت شخصا في مثل هذا الموقف كيف كنت سأظن فيه؟ كيف كنت سأفكر فيه؟ فكنت في البداية عندما أسمع ( التمس لأخيك سبعين عذرا ) أفكر بأن هذه مبالغة؛ لكن فعلا الإنسان ولكل شخص له أعذاره ربما نحن لا نتصورها ولم نتطلع عليها، فالإنسان دائما يضع نفسه في مكان الآخرين ويقول لو كان شخص آخر في هذا الموقف وأنا رأيته أو في هذا المكان وأنا رأيته ماذا كنت سأظن فيه؟.. فمثلما هو يحب أن الناس يحسنوا الظن فيه فكذلك يحسن الظن في الآخرين، واعذرونا عن الإطالة.
مقدم البرنامج: دكتور الأخ المتصل طرح ثلاث نقاط.
الشيخ كهلان: نعم، وسنأتي على بعض النقاط التي ذكرها.. هي من ضمن العناصر التي سوف يأتي الحديث عليها بمشيئة الله تعالى، وما ذكره أخيرا من إضافة أيضا هي إضافة مهمة من أن الإنسان في شتى القيم التي نتحدث عنها قلنا عليه أن ينصف الآخرين من نفسه، وإنصاف الآخرين من نفسه إنما يكون بأن يجعل نفسه في موضع الآخرين، وبالتالي لا ينبغي له أن يقبل أن يُعَامِل الآخرين بما لا يقبل هو أن يعامله به الآخرون.
مقدم البرنامج: عامل الناس بمثل ما تريد أن تُعَامَل.
الشيخ كهلان: بمثل ما تحب أن يعاملوك به.. نعم، الآن – وسنأتي إلى النقاط التي ذكرها – أي هذه المعادلة بين إحسان الظن بالآخرين وبين أن لا يكون المرء ساذجا أو غافلا عن حقائق الأمور وبواطنها سوف نأتي إليها بمشيئة الله.
نعم؛ لأني أريد أن ألفت الانتباه إلى جملة من هذه الأدلة الشرعية التي قد لا يتنبه لها الناس، الآن ذكرنا آية سورة الحجرات { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا…}، نتذكر أيضا دعاء المؤمنين الذين امتدحهم الله تعالى في كتابه الكريم في سورة الحشر حينما قال: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (الحشر:10) هذا الجزء من الآية {… وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا…} دليل على أن المطلوب من المسلم أن يكون سليم الصدر فيما يظنه بالآخرين.
مقدم البرنامج: نقي السريرة.
الشيخ كهلان: أن يكون نقي السريرة.. أن يكون سليم الباطن فيما يُعامِل به وفيما ينظر إليه.. فيما ينظر به إلى الآخرين؛ ولذلك فهو حريص على أن يسأل ربه أن يعينه على ذلك أيضا {…وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }؛ لأن إساءة الظن تورث الغل والحسد والحقد وتوغر القلوب وتوغر الصدور فيما بين الناس، أما سلامة الصدر وحسن الطوية وسلامة المخبر ونقاء الطوية كلها أسباب تدعو إلى تآلف هذه القلوب؛ وبالتالي يتحقق التلاحم الذي يكون بين المسلمين، ليس بين المؤمنين الذين يتعاصرون في عيشتهم بل بين أجيال المؤمنين جميعا، فبذلك علمهم القرآن الكريم هذا الدعاء – على لسان من امتدحهم في سورة الحشر -.
كذلك ننظر إلى بعض الآداب القرآنية التي تتصل بهذا الخلق مثلا: النهي عن النجوى بالإثم والعدوان فالله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى…} (المجادلة:9) إلى قوله تعالى: {…وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (المجادلة:10) الآن النهي عن التناجي كما نفهم أيضا من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث” – حديث معروف في الصحاح، وبعدة روايات – وبيَّن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأن في ذلك مجلبة للحزن لذلك الثالث الذي تناجى عنه الاثنان حتى تكون الأمور في خُلْطَة ساعتها يمكن أن يتناجى اثنان دون غيرهم، لماذا هذا النهي؟ لماذا هذا التوجيه والأدب القرآني؟ لأنه في الغالب هذه المشاعر النفسية أيضا مراعاة، وأمر النجوى حينما يسر المرء إلى أخ له من صديق أو قريب أو معرفة بأمر فإن الإسرار بالنجوى مدعاة إلى التوسع في موضوع النجوى ذاته؛ لأن الذي يُسِر بالحديث يعلم أن غيره من الناس غير مطلعين على حديثه وبالتالي هذا – في ظنه هو – يسمح له بأن يتوسع في نقله عنهم وفي نسبة ما يريد إليهم؛ ولذلك نجد أن القرآن الكريم ينهى نهياً شديدا عن أن تكون النجوى بالإثم وبالعدوان أو بمعصية الرسول، ويأمر في المقابل.. لا يكتفي بالنهي فقط وإنما يأمر بأن تكون النجوى بالبر والتقوى.
فالنجوى غالبا نتصورها في موضوع الغيبة.. في موضوع النميمة.. في موضوع الافتراء والبهتان.. الوشاية.. الإشاعة.. كلها إنما تبدأ بهذه المناجاة بالإثم والعدوان، والنهي عن هذا النوع من النجوى والأمر بأن يكون موضوع النجوى بالبر – أن تكون النجوى بالبر والتقوى – هو من ضمن سلسلة هذه الأخلاق المتصلة بإحسان ظن الناس بعضهم ببعض، هذه الالتفاتة في القرآن الكريم وفي سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى هذا الأدب الرفيع يندرج أو يندرج فيه موضوع أن يحسن الفرد ظنه بغيره من الناس، هذا ما يتعلق ببعض الآيات القرآنية التي وردت مما لها صلة بموضوع إحسان الظن، أما الأدلة الأخرى إن شئتم أن نتحدث عن الأحاديث النبوية الواردة في هذا السياق فهي أيضا كثيرة.
مقدم البرنامج: نعم جميل دكتور أن نعطي أمثلة تطبيقية من هدي الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام – رضي الله عنهم – فيما يخص حسن الظن أيضا.
الشيخ كهلان: نعم جميل، لنبدأ أولا بحديث سوف نستمع إليه لكنه أصل في هذا الموضوع وهو قوله – صلى الله عليه وسلم –: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”، هذا حديث صريح موافق للآية التي استمعنا إليها، لكن لننظر – كما قلت – مثال تطبيقي وهو هدي الرسول – صلى الله عليه وسلم – لما حدثت أم المؤمنين صفية – رضي الله تعالى عنها – وقالت: ( كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – معتكفا ذات ليله فأتيته أزوره فحدثته وقمت فانقلبت فقام معي ليقلبني ) أي ليوصلني.. ليرافقني، وكان مسكن السيدة صفية في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي – صلى الله عليه وسلم – أسرعا، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: “على رسلكما إنها صفية بنت حيي”، قالا: سبحان الله يا رسول الله!! فقال: “إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا” أو قال: ” شرا “.
فالحديث فيه جملة من الدلالات فيما يتصل بموضوع إحسان الظن، أولا الرسول – صلى الله عليه وسلم – بهذه الإشارة حينما نادى على صاحبيه فقال: “على رسلكما إنها صفية بنت حيي” يعلم أمته إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يضع نفسه في مواضع الريبة، هو تعليم منه عليه الصلاة والسلام لأمته، لا ينبغي للمسلم أن يضع نفسه في مواضع الظن السيئ، وأن يبادر هو إلى أن ينفي عن نفسه ذلك.
عودة المتصل الأول: أعتذر عن معاودة الاتصال مرة ثانية، توجد نقطتين غابتا عن ذهني والآن تذكرتهما، النقطة الأولى: بما أنا نتكلم عن إحسان الظن هناك موضوع يُطرح وهو إحسان الظن بالله سبحانه وتعالى فيا حبذا لو تركزوا عليه.
مقدم البرنامج: إن شاء الله.
المتصل: هناك كثير من الناس مصابون بالوسواس، الشيخ كهلان إن شاء الله يكون كفؤ؛ لكن يا حبذا لو كان أيضا من ضمن المشاركين في البرنامج شخص متخصص في الأمراض النفسية أو الصحة النفسية، يا حبذا أيضا الشيخ كهلان يعطي نصائح من خلال الأدلة الشرعية لهؤلاء الأشخاص المصابون بالوسواس القهري.
مقدم البرنامج: شكرا لك أخي.. الدكتور نواصل الحديث.
الشيخ كهلان: نعم، فهذا النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلم أمته أولا هذا الدرس وهو أنه لا ينبغي للمسلم أن يضع نفسه في موضع الريبة، الأمر الثاني أنه أيضا يبادر.. المسلم يبادر إلى أن ينفي عن إخوانه المسلمين من أن يسيئوا الظن، فهو ليس فقط لا يضع نفسه.. بل لابد من هذا الملحظ – أن الرسول– صلى الله عليه وسلم – يبتدر هؤلاء بإخبارهم بمن معه، أيضا فيه أنه ينبغي للمسلم أن يسد على إخوانه المسلمين من أن يقعوا في إساءة الظن فيبين لهم الصواب، ثم إنه لم يربأ هو عليه الصلاة والسلام ليبادر الناس يقول: أنا من أنا ولا يمكن أن أُتَّهم بحال من الأحوال، فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .. ولم يسمّ هذه تهمة أصلا وإنما بادر هو نفسه إلى بيان الموقف وسد باب أن يدخل الشيطان إلى قلوب المسلمين فيفسد عليهم دينهم بإساءتهم الظن في إخوانهم المسلمين فكيف برسول الله – صلى الله عليه وسلم –؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن هذا فقال –: “…إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا” أو “شرا” كما في الروايات المختلفة.
مقدم البرنامج: ولعل الشيخ كهلان – اسمح لي أقاطعك – بأن هذا ترجمة لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – نفسه عندما قال: “ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه”.
الشيخ كهلان: نعم أحسنت، أيضا حديث موجود في السنن عند أبي داود والترمذي وغيرهما حديث من طريق أبي هريرة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “حسن الظن من حسن العبادة “، وكذلك لأن في معناه وجوهره لا ريب أن من حسن العبادة حسن الخلق، وحسن الخلق – كما بيَّنا – من مبادئه الأصيلة إحسان الظن بالآخرين، أيضا هذا هدي رسول – صلى الله عليه وسلم – أنه كان لا يريد أن يأتيه أصحابه بأخبار وأقاويل عن بعضهم البعض؛ ولذلك قال: “لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر” – هذا الحديث موجود أيضا في السنن عند أبي داود والترمذي وبروايات متقاربة وفي سياقات متقاربة جدا، وأبو عيسى الترمذي يميل إلى أن الحديث مقبول وكذلك أبو داود -.
إذاً هذه النفسية التي يريد أن يلاقي بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أصحابه “…فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر” أو “…أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر” هذا هو المطلوب من المسلم، كيف يكون سليم الصدر إن كان صدره قد أوغر بالضغائن وبالظنون وبالأحقاد وبالوشايات والإشاعة؟! ولذلك فمن المبادئ الأصيلة في تعامل المسلمين فيما بينهم هو هذا الذي يقرره – صلى الله عليه وسلم – تقريرا عمليا يدعو فيه أصحابه إلى أن يكون الواحد منهم سليم الصدر.
إذاً كل هذه الأدلة الشرعية سواء كانت من كتاب الله عز وجل أو من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تؤكد على أن لإحسان الظن منزلة رفيعة وأن علاقة المسلمين فيما بينهم ينبغي أن تبنى على الشفافية والوضوح والصدق وعلى الأخوة الصادقة التي يسعى فيها الواحد منهم إلى مصالح أخيه وإلى أن يحبه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، وهذا ما أشار إليه الأخ في اتصاله أن الإنسان ينبغي أن يضع نفسه في موضع الطرف الآخر وينظر كيف يريد أن يُفَسَّر فعله أو أن يُعَامَل من قِبَلِ الآخرين.
هنا ركيزة تتصل بهذا الموضوع – هي غاية في الأهمية، أحب أن ألفت الأنظار إليها – وهو أن في مقابل ذلك قد يقول بعض الناس بأن في أن يُحذِّر غيره من المسلمين من خطر بعض أفرادهم مصلحة ومنفعة أو أن في تحذيره من بعض أفراد المسلمين مصلحة ومنفعة، مع ذلك مهما كانت المقاصد سليمة فإن الوسائل لابد أن تكون سليمة.
وهذا الشرع علمنا كيف تكون النصيحة؛ فلذلك ينبغي له أن يتبع آداب النصيحة التي طالما تحدثنا عنها أيضا في ثنايا هذا البرنامج، ينبغي له أيضا أن يحاول قدر المستطاع بداية أن يلتمس العذر لإخوانه المسلمين، هذا سعد بن أبي وقاص – هو ومن هو؟ – اشتكاه أهل المدينة التي كان فيها واليا وقاضيا في جملة من الأمور؛ فلأجل تلبية رغبات المشتكين أرسل إليه عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – من يتفقد أحواله ويسأل عنه، فكان كلما أبدى سعد ابن أبي وقاص حقيقة ما يفعله وأصل فعله الذي يشتكي منه الآخرون أو بعض أهل الولاية التي هو فيها كان عمر ابن الخطاب يؤكد قوله.. يكرر قوله: ( هذا ظننا فيك،.. وهذا ظننا فيك) أي كان كلما ذكر له.. موضوع إطالة الصلاة على سبيل المثال فبيَّن سعد بن أبي وقاص أن ذلك كان هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الركعتين الأوليين، وأنه كان يتجوز في الركعتين الأخريين، فكان عمر بن الخطاب يقول له: ( وهذا ظننا فيك )؛ فلذلك كان يقول أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، عن موقف أبي بكر الصديق حينما أُخبِر بحادثة الإسراء والمعراج فقال: ( إن كان قاله فإني أصدقه، وأنا أصدقه في خبر يأتيني به من السماء ) فهذا أيضا من الركائز والأمثلة التي تبين لنا كيف كان يتعامل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما بينهم.
مقدم البرنامج: الشيخ كهلان هنا أيضا بهذا الموضوع علاقة بموضوع آخر وهو أن البعض يرى أن إحسان الظن بالآخرين دليل أو علامة على السذاجة أو الغفلة أو السطحية أو عدم عمق التفكير، إلى أي حد برأيك من الممكن أن نقبل هذا الكلام؟
الشيخ كهلان: هنا معادلة وهي ليست بالمعادلة الصعبة، نريد أن نبين بداية حسن الظن الذي نتحدث عنه هو الأصل في العلاقة؛ لكن هذا فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بغيره.. في المعاملة التي يعامل بها غيره وفي تفسيره لما يصدر عن غيره من تصرفات وأقوال وأفعال؛ لكن في حذره هو وفي حيطته وفي احتراسه وفي حزمه فيما يريد لنفسه فهو لا مانع من أن يحتاط لنفسه، لكن لا يبني حُكما على ما يفعله الآخرون وإنما – كما قلت – يحتاط لنفسه.. يحتاط لنفسه بالحزم.. يأخذ بأحزم الأمور وبأحزم الاحتمالات.
أيضا أن يحمل تصرفاته على ما هو أولى وأسلم وأبعد من أن يقع في براثن الغفلة أو براثن الوقوع فيه أو السطحية أو التعامل مع الأمور بعيدا عن العقل ورجاحة العقل والأناة والحكمة، وهذا الذي أشار إليه اتصال الأخ – بارك الله فيه- أن ( المؤمن كيِّس فطن ) متى يكون مسموحا أن يُعَامِلَ الأمر بحسب معطيات أخرى غير إحسان الظن؟ إن وجدت قرائن.. إن وجدت أمارات تدل على أن الآخر إنما يقصد سوءًا ويقصد شرا من قول أو فعل – بمعنى ظهرت أمارات حسية وليست مجرد انطباعات قلبية، ظهرت أمارات لهذا الإنسان.. لهذا الفرد تؤكد له أن الطرف الآخر إنما يقصد سوءًا ويريد فتنة ويريد نشر فساد ويريد مقاصد غير حميدة، ولا تتفق مع مقاصد هذه الشريعة، إن وجدت شيء من القرائن والعلامات، فساعتها لا يمكن أن يقال لهذا المسلم بأن عليه أن يحسن ظنه بالطرف الآخر، هذا الأحزم في حق المسلم.
وهنا أذكر لكم ما ينسب لـ أكثم بن صيفي أنه قال: ( حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة )، وبعض ما ينسب إلى العرب أنهم قالوا: ( أحزم الحزم سوء الظن )، وهناك بعض الأبيات الشعرية التي قيلت في هذا المعنى، المقصود بهذا الذي تحدثنا عنه- كما يقول كثير من أهل العلم أنه فيما يحتاط به لنفسه.. فيما يبني عليه تصرفاته وأفعاله وأقواله لا فيما يحمل عليه تصرفات الآخرين ويُفَسِّر به أقواله وأفعاله، فإذاً هي للذات لا للآخرين.
الأمر الثاني فيما إذا وجِدت أمارات؛ ولذلك لا ينبغي للمسلم أن يكون سطحيا وأن يتعامل مع الأمور ببعد عن الحكمة وعن التأمل والتفكر في بواطن الأمور، فحينما يكون ما يصله عن أخيه المسلم لم يصله بطريق الوشاية والسعاية بالسوء والنميمة والغيبة أو وصله عن طريق أيضا الإشاعات لا، هو بحسب المنهج الذي تحدثنا عنه فيما مضى من التثبت والتبين والحزم والصدق وكل الآداب والأخلاق التي تنتظم في سلك هذه المعاملة، هذا الذي يحقق هذا التعادل بين هاتين المقولتين ( بين إحسان الظن وإساءة الظن ) كما يظن بعض الناس.
مقدم البرنامج: طيب الشيخ كهلان إذا كان الشخص في موقع المربي كالأب أو المعلم فهنا إحسان الظن أيضا بالابن ربما تكون هناك علامات أو أمارات عن انحراف في السلوك أو غير ذلك، كيف نطبق هذا المبدأ إذا كان هذا الشخص في موقع التربية مثلا؟
الشيخ كهلان: لا فرق إذا وُجِدت أمارات.. أوعلامات فإنه ينبغي للمسلم أن يتعامل مع الموقف بحسبه، فيما ينسب إلى عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – أنه قال: ( من رأينا منه خيرا، وعلمنا عنه خيرا، وسمعنا فيه خيرا، ظننا فيه خيرا، وقلنا فيه خيرا ) فإذاً ليست مجرد انطباع وإنما بحسب واقع سلوك هذا الفرد الذي نتعامل معه، حينما نجد أن من كان بهذه الحالة وصدرت منه بعض الأفعال التي تحتمل التفسيرات الحميدة والتفسيرات غير الحميدة.. حينما تحتمل أن تُفَسَّر بخير وأن تُفَسَّر بِشَرٍ ، الأصل أن يحمل المسلم على الخير؛ ولذلك قرر أهل العلم أنه ينبغي للمسلم أن يلتمس العذر لأخيه، هذا من حقوق المسلم على المسلم أن يلتمس له العذر فيما أتاه وفعله.
وكذلك في مسائل كثيرة مثلا: مسائل الإيمان والكفر – على سبيل المثال – ( أنَّ كلمة المسلم إن كانت تحتمل تسعة وتسعين بابا لتُفَسَّر على أنها كفر ولا تحتمل إلا بابا واحدا لتُفَسَّر على أنها الإيمان فينبغي أن تُفَسَّر بالإيمان لا بالكفر ) مما يدل على شدة عناية علماء المسلمين بقضايا التفسيق والتبديع والتكفير حتى في هذا السياق طالما أن أفعال المسلم تحتمل ولو كانت احتمال الواحد في المائة، أي كما يقولون هم تحتمل تسعة وتسعين وجها ولا يحتمل الإيمان إلا وجها واحدا فإن حمل المسلم.. المؤمن على جانب عدم الكفر أي على الإيمان لازم له.. من حقوقه علينا.
ونلخص هذا الموضوع في هذه المسألة أنه قد يكون أحيانا الحزم في سوء الظن بناء على ما ذكرناه من الأمارات التي يمكن أن تصدر، وبناء على احتياط المرء فيما يخصه بنفسه، حينما يتعامل مع غيره لا على ما يحمل عليه تصرفات الآخرين، أي المقصود مثلا هو أن لا يركن إلى أحد لا يعرفه فيودعه سره وأمانته، وليس من لوازم حسن الظن أن يكشف له عن سريرة فؤاده وسريرة قلبه فيودعه أسراره وأماناته لا، حسن الظن بأن يقف عند حدود حسن المعاملة وحسن حمل تصرف المسلم على ما هو أفضل في حقه، وأيضا في مواقف مثلا النصح لا ينبغي للمسلم أن يحمل من نصحه على سوء الظن، ويظن أن هذا يتتبع عوراته وأن هذا يريد به شرا لا، الأصل أن يحمل من أظهر له نصحا، وقال له قولا حسنا جميلا، ورأى منه أمارة الخير يجب عليه أن يحمله على حسن الظن؛ ولذلك يقول أهل الأخلاق: ( احمل أمر أخيك على أحسنه حتى يبدو لك ما يغلبك عليه )، وهذا معنى مقولة ما يروى عن عمر بن الخطاب: ( من رأينا منه خيرا، وعلمنا فيه خيرا ..) كذلك قال: ( من علمنا عنه شرا، ورأينا منه شرا، وسمعنا منه شرا، قلنا فيه شرا )؛ لأنه هناك أمارات وخرج الأمر من حد الظن إلى حد اليقين؛ لذلك قال: ( من علمنا…) واضح فيما يبدو لي هذه المعادلة، فإذاً ليس من لوازم إحسان الظن الركون إلى الناس واستيداعهم الأمانات والأسرار وكشف بواطن أمر هذا الإنسان، وإنما المقصود به المعاملة والتماس العذر للآخرين.
مقدم البرنامج: طيب الشيخ سؤال لربما يتبادر إلى ذهن المتصل بهذا الموضوع ، هل يمكن أن يقال أن هناك منطقة متوسطة بين حسن الظن وسوء الظن؟
الشيخ كهلان: أنا قلت.. قررت بداية – أن الأصل هو إحسان الظن هكذا “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”، والآية أيضا صريحة في الأمر باجتناب الظن؛ لأن بعض الظن إثم – كما استمعنا -، وبالتالي فالأصل إحسان الظن بالآخرين، ما يتعلق بما نجده في بطون الكتب من أمر الحزم والاحتياط إنما هو في إساءة الظن بالآخرين هذا إنما يتصل بمواقف معينه – كما قلت – فيما يتصل بتفسير نصح الناصح وفي حمل تصرفات الآخرين على المحامل الحسنة، وفي عدم الركون التام إلى الآخرين بكشف خفايا الصدور واستيداعهم الأمانات والأسرار، أي المسلم يحسن ظنه بغيره لكنه مع ذلك يكون حذرا ويكون محتاطا؛ لكن إن قلنا بأن المصالح هي التي تحدد علاقات الناس فيما يتعلق بالظن فهذه مشكلة؛ لأن إساءة الظن دائما تؤدي إلى احتقان العلاقات بين الناس – إن جاز لي أن استخدم شيئا من التعبيرات المعاصرة – أي تكون القلوب مشحونة.. تصير القلوب مشحونة على الآخرين ودائما ما يتبادر إليها ما يسبق إليها سوء الظن بالآخرين وقطع العذر عنهم وهذا سبب للكثير من الآثار السلبية كما سوف نبين بمشيئة الله.
فاصل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال -: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا”.
مقدم البرنامج: صدق رسول الله، الشيخ الدكتور هل لنا أن نقف على مضامين هذا الحديث النبوي الشريف، وما دلالة اقتران النهي عن سوء الظن بالخصال الأخرى المنهي عنها في هذا الحديث الذي وردت؟
الشيخ كهلان: نعم، أولا الحديث لعله تقدم بيان مضمونه وحقيقته فهو نهي صريح يتوافق مع ما استمعنا إليه من كتاب الله عز وجل في سورة الحجرات، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يحذر بهذه الصيغة التحذيرية “إياكم والظن..”، ثم يبين، لماذا؟ “… فإن “الظن أكذب الحديث”، إذاً الظن المنهي عنه ما رافقه تصرف من قول أو فعل أو نسبة قول أو فعل إلى آخره، واقترانه بهذه الخصال المنهي عنها في هذا الحديث، كذلك كاقترانه بالخصال التي وردت في السياق القرآني الذي أشرنا إليه، ذلك أنه يكاد لا يتحقق إحسان الظن بالآخرين إلا مع تحقق هذه الخصال الأخرى، كما قلنا هناك نهي عن الغيبة والنميمة والنهي عن التنابز بالألقاب، وعن اللمز مدعاة إلى أن يتجنب سوء الظن فكذلك النهي عن التحسس والتجسس وعن النجش وعن الحسد والتباغض وعن التدابر والقطيعة، فتكرر كل هذا يحقق الأخوة، فكما كانت الآيات هناك مصدَّرة { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ…} والحديث هنا يختم بهذا “وكونوا عباد الله إخوانا”.
ولذلك فنحن في الوقت الذي ندعو فيه إلى إحسان الظن أولا لابد أن يكون واضحا في أذهان المستمعين والمستمعات أن هذه القيمة متصلة بجملة من القيم ينبغي أن تطبق في واقعنا.. لابد من البعد عن تتبع العورات بالتجسس والتحسس.. لابد أيضا من التزام آداب المعاملات المالية كالنهي عن النجش مثلا والمزايدة على سلعة ما لرفع سعرها.. ورد في بعض الروايات النهي عن أن يخطب المرء على خطبة أخيه – في نفس هذا السياق – .. النهي عن التحاسد والنهي عن القطيعة والتدابر والتباغض كلها مما يعين على تحقيق هذه القيمة في المجتمع .
طيب في المقابل ما هو المطلوب من المسلمين؟ المطلوب سلامة الصدر.. المطلوب النصيحة الصادقة ، أن يكون المرء لا يجد غضاضة من أن يسدي نصيحة لأخيه، لا يتكلم عليه من ورائه، فإذاً لأن أمر النصيحة هو من الدين.. الدين النصيحة كما قال – صلى الله عليه وسلم -، أيضا من التزام أدب الكلمة الطيبة.. من التزام أدب حب المسلم لأخيه المسلم .. من التزام أخلاق ضوابط نقل الحديث – عند مسلم في صحيحه -: “كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع” هذا أيضا يتصل بهذا الموضوع؛ لذلك نجد أن من ما ينخر في وحدة المجتمع هذا التدابر والتحاسد والقطيعة والبغضاء التي تكون وتتبع العورات وترك النصيحة وترك أمانة النقل وأمانة الكلمة، والبعد عن ضوابط التثبت من الأخبار، وهذه التي نجدها في هذه الوفرة من أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يترجمها الواقع، نجد أن هذه الخصال يتصل بعضها بعضا سواء كانت سيئة حينما تسود في المجتمع.. حينما تختفي من المجتمع خصال الخير أو حينما يخفت طنينها من المجتمع، كما أننا نجد حينما تسود المودة والرحمة والتواد والتحاب بين الناس تظهر أريحية الصدور فيقبل الواحد منا نصح أخيه ويبادر هو إلى أن ينصح أخاه أيضا، أيضا لا يجد غضاضة في أن ينكر المنكر.. في أن ينهى عن المنكر.. في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب الضوابط الشرعية المقررة في ذلك فتسود بين الناس المودة والآصرة التي تبني هذا المجتمع إلى ما هو أفضل وأحسن للناس.
مقدم البرنامج: طيب الشيخ كهلان الوقت الآن يدركنا فقط هناك سؤال، حسن الظن وسوء الظن لكل منهما آثار ونتائج؛ ولكن هذه الآثار والنتائج هل هي على مستوى فقط علاقات الناس بعضهم لبعض أم أنها أوسع من ذلك؟
الشيخ كهلان: لا هي واسعة جدا، من الخطأ أن نظن أن دائرة إحسان الظن إنما تقف على معارفنا مثلا فيما بين الأزواج.. فيما بين الأبناء والأولاد.. فيما بين الجيران هي ركيزة في كل هذه الدوائر لكن مع ذلك لا تقتصر مع المعارف والأقارب بل تمتد لتشمل الجميع؛ لأنها تمثل منهجا، لنأخذ على سبيل المثال العلماء، العلماء عليهم أن يحسنوا ظنهم ببعضهم البعض، فأن يحمل العالم غيره على حسن الظن في اجتهاده الذي أداه إليه سواء كان هذا الاجتهاد جماعيا أو كان فرديا في الأدلة التي عول عليها، وهكذا كان دأب صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والسلف الصالح من علماء هذه الأمة، أما إذا كان واقع علماء المسلمين أن كل واحد منهم، أو أنهم يسيئون ظنهم ببعضهم البعض، فلنتصور هؤلاء الناس الذين يتلقون من هؤلاء العلماء، كيف تكون حالتهم إذا كانت حالة العلماء الذين يفترض أن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم من أبناء المسلمين في المجتمعات، وهم بينهم من إساءة الظن ما بينهم.
ولذلك – وهذا أيضا فيه ما يجيب على تساؤل ما ورد حول واقع الناس – إذا كان واقع الناس تسوده القطيعة والبغضاء وغير ذلك مما نهى عنه هذا الشرع الحنيف، فإن هذا لا يسوغ أن يتخلى المسلم عن مبادئه وقيمه، وأن يعامل الآخرين بحسب ما يعاملون به.. بحسب هذا الواقع الذي هم فيه؛ ولذلك الحديث عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نهى أن يكون الواحد منا إمعة أي يكون مع الناس إن أحسنوا أحسن وإن أساءوا أساء لا، بل أَمَرَ أن يحسن إن أساء الناس وأن يبادر إلى النصح وأداء الواجب.. النصح لهذا الدين ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.
فاصل:
قال الإمام علي – كرم الله وجهه – يوصي ولده الحسن: ( إن من خير حظ الدنيا القرين الصالح، فقارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، ولا يغلبن عليك سوء الظن، فإنه لن يدع بينك وبين خليل صلحا ).
ومما قالته العرب: ( احمل أمر أخيك على أحسنه حتى يبدو لك ما يغلبك عليه ).
مقدم البرنامج: الشيخ الدكتور كهلان كلمة أخيرة نختتم بها البرنامج وحبذا لو كانت حول تنشئة الأجيال على هذه الخصلة النبيلة.
الشيخ كهلان: نعم، أولا لابد من إدراك أن الهدي الإسلامي الراشد فيما يتعلق بهذا الخلق الذي نتحدث عنه اليوم وهو إحسان الظن إنما يكون من بواعثه الأخذ بالظواهر من أعمال الناس وتصرفاتهم؛ لأن المقصود هو الابتعاد عن رميهم بالظنون والتهم والشكوك وعن محاولة تفسير سرائر الناس، ينبغي أن يحملهم على سلامة الصدر وأن يلتمس لهم الأعذار، لا أن يسعى إلى أن يغوص في خصوصيتهم وأن يدخل في تتبع عوراتهم ثم السعي بالوشاية في مثالب الآخرين؛ لأن هذا موكول إلى رب العباد فهو يعلم السر وأخفى.
وليس للمسلم من أمر أخيه إلا ما ظهر له من عمله من قول أو فعل، فهذا الذي ينبغي أن تنشئ عليه الأجيال.. ينبغي أن ينشئوا في البيت وفي المدرسة وفي المسجد.. عبر وسائل الإعلام المختلفة والمؤسسات المعنية بالتربية على سعة الصدور التي تعني بسلامة الصدور وعلى حمل الآخرين على محاسن الظنون لا على أسوأ الاحتمالات، وأن يسعى إلى التماس العذر لأخيه المسلم، يكون ذلك عن طريق القدوة الحسنة التي يريها المدرس لأولاده.. التي يلقنهم إياها من خلال أمثلة يضربها لهم.. من خلال تفسيره لتصرفات الطلاب بين أيديهم، أو الوالدان فيما يعلّمانه لأولادهم في داخل الأسرة، كيف أن كل واحد منهما إنما يحسن ظنه بالآخر؛ لأنها تكون – كما قلنا – مسألة احتقان، وحمل كل زوج الطرف الآخر على سوء الظن سوف يؤدي لا ريب إلى الكثير من المشكلات الأسرية التي لا تحمد عاقبتها لا على الأزواج أنفسهم ولا على النشء الذين هم أمانات في أعنافهم؛ لذلك كان المسلم التقي حريصا على أن يكون متحرزا في كل كلمة يقولها.. في كل فعل يصدر منه { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } (الإسراء:36).
مقدم البرنامج: نعم شكرا لك الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي.. شكرا لكم مستمعينا الكرام على حسن تواصلكم وبرنامج دين الرحمة، وكانت حلقة اليوم تبحث في موضوع “حسن الظن”، شكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
انتهت الحلقة