القناعة

عنوان الحلقة ” القناعة “

بثت في:

20 / شوال / 1429هـ

20 / أكتوبر / 2008 م

مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد الذي جعلنا الحديث فيه عن ” القناعة “، وما أحوجنا للحديث عن هذه القيمة المستخدمة قديما وحديثا.

نعم استخدمت هذه القيمة لأغراض مختلفة، ولمكاسب تحققها فئة على أخرى، واستخدمها أناس ليكتفوا بما لديهم ويصرفوا النظر عن غيره مما يظنون أنهم لا يستطيعون إليه سبيلا.

وواقع اليوم يحتاج إلى إعادة فهم هذه القيمة، وإعادة تشكيل حياة الناس على ضوئها، ففي الحياة مغريات لا ينغلق قلب المرء إذا انفتح نحوها، وفيها محبطات لا يتقدم المرء خطوة إذا استسلم لها، فكيف يقنع؟

وما الذي ينبغي له أن يدركه قبل أن يقنع؟

هذا نناقش فيه بإذن الله تعالى اليوم فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي.

وكالعادة نرغب منكم مشاركة حول هذا الموضوع وما تتصورنه من مفهوم له، وما يترسخ في أذهانكم عنه، وما تريدون كذلك من تقديم ملاحظات حوله.

*******************************

أهلا ومرحبا بكم فضيلة الشيخ.

الشيخ كهلان: وأهلا وسهلا بكم، وبالإخوة والأخوات الذين يتابعون هذا البرنامج، والذين يحرصون على المشاركة فيه بمشيئة الله تعالى، ونسأل الله عز وجل في مستهله أن ينفعنا بما يعلمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا إنه تعالى سميع مجيب.

مقدم البرنامج: آمين..

هذا المصطلح – كما قلنا في البداية – من كثرة المفاهيم المحيطة به أصبح غامضا.. يكاد يكون غامضا.. يحتاج الناس معه إلى تحديد مفهومه، فنبدأ معكم في هذه الحلقة بتعريف القناعة، وبالتعرف كذلك على العناصر التي سوف تتعرضون لها في حلقة اليوم بإذن الله تعالى، وكذلك لماذا نحن نتحدث عن القناعة وعنوان برنامجنا دين الرحمة؟

الشيخ كهلان: نعم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد النعمة المهداة والرحمة المسداة وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد…

فإن موضوع القناعة موضوع متصل بسلسة القيم والمفاهيم الإنسانية التي يتناولها برنامج دين الرحمة؛ وذلك لأنه منتظم في سلك درر القيم والأخلاق التي تدعو إلى الفضيلة، وتسمو بأخلاق المسلمين، وتزكو بنفوسهم، وتهذب لهم طباعهم، وتحقق لهم – بفضل الله تعالى – المكاسب الحميدة في الدنيا والآخرة.

فموضوع القناعة موضوع متصل بالرضا بما قسم الله تعالى لهذا الإنسان.. موضوع متصل بالثقة بالملكات والقدرات التي وهبها الله عز وجل لهذا الإنسان مع شكر النعم التي أنعم بها المولى علينا، والانتفاع بتلكم الملكات والقدرات في سبيل أداء واجب شكر تلكم النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا.

كل هذه المعاني سوف تكون من ضمن هذه القيمة التي نتناولها اليوم – قيمة القناعة -، وبذلك يتبين أو تتبين صلتها بهذا الإطار العام – دين الرحمة – فهي متصلة باستغلال الملكات والقدرات التي وهبها الله تعالى للعبد في سبيل ما ينفع هذا العبد وينفع مجتمعه في دنياه وفي أخراه، وهي متصلة أيضا بجانب إيماني هام وهو الرضا بقدر الله عز وجل لهذا الإنسان، وهي متصلة اتصالا وثيقا – كما سوف نتبين – بحقيقة التوكل على الله عز وجل التي تدعو إلى الآخذ بالأسباب، وإلى ترك التواكل والتكاسل، ونبذ أسباب العجز والكسل، وهذا يكشف الغطاء عما سوف نتناوله – بمشيئة الله تعالى – في هذه الحلقة، فالذي نتحدث عنه هي القناعة التي تحمل في معانيها الرضا بقضاء الله عز وجل، والتوكل على الله تعالى، والأخذ بالأسباب، وتجنب سخط نعم الله عز وجل على هذا العبد، فهي من القناعة التي فعلها ( قَنِعَ ) وليست من القنوع التي هي بمعنى التذلل والخضوع والتي نجدها في قوله تعالى: {…فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ…}(الحج:36) لا، هي من باب القناعة التي تعني هذه المعاني التي ذكرتها.. هذه المعاني الإيجابية الدافعة إلى مزيد من العمل ومن التوكل على الله تعالى بنفس مطمئنة بعيدة عن الشح والبخل وعن الأثرة، كما أنها بعيدة كل البعد عن الطمع والجشع وعن الرغبة في التسول على حدود الشرع في سبيل طلب المزيد من الغنى.

مقدم البرنامج: نعم، إذاً بكل هذه المعاني تصبح بالفعل كنزا لا يفنى.

مداخلة متصل: القناعة في نظري هي الحب، إذا أحب الإنسان في رزقه فهذه قناعة، إذا أحب ما وهبه الله سبحانه وتعالى من زوجة صالحة وأولاد وعيشة هنيئة فهذا حب – حب لقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره معه -، وطالما أن الإنسان يقتنع بما قسمه الله له في هذه الحياة من كل الأمور من رزقه زوجة وأولاد وعمل وحياة وصحة فهذا يعكس حبه لله سبحانه وتعالى.

مقدم البرنامج: طيب أخي هناك بعض الأسئلة يمكن أن نوجهها إليك كي يتبين هذا المفهوم جيدا، الآن يتصور الناس أن القناعة هو الاكتفاء بما لدى الإنسان من مال أو من جاه أو من ولد، ولا يتحرك بعد ذلك للتقدم أكثر، هل هذا المفهوم في نظرك صحيح؟

المتصل: لا طبعا، القناعة هي التي أمرنا الله سبحانه وتعالى وحثنا عليها وحثنا عليها الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – .. حثنا على أشياء كثيرة جدا منها العمل، ومنها القراءة، ومنها التعلم، ومنها الارتقاء بالحياة، ومنها وأهمها الارتقاء بديننا.. الارتقاء بمفهوم الدين في داخلنا، فالعمل مطلوب والقناعة ليس معناها أن يقتنع الإنسان بما هو فيه فقط والسنين تمر وتتقدم من حوله وهو قانع في مكانه أو قابع في مكانه، بل على العكس المفروض أن يأخذ بالأسباب ويأخذ بما وهبه الله له من موهبة ومن عقل ومن تمويل، وفضلنا به على كثير من خلقه سبحانه وتعالى.

الشيخ كهلان: إن كان من تعليق ما لم يكن هناك اتصال..

نشكر الأستاذ المتصل على هذه المشاركة القيمة، وهذا التعبير الذي استخدمه تعبير في محله بمعنى تعبير الحب بالحب لقضاء الله وقدره هو قريب الصلة بالمعنى الذي استخدمناه وهو الرضا؛ لأن الرضا يعني في الحقيقة أقل درجات الحب هي الرضا، وقد لا يكون في ما يصيب الإنسان من قدر الله تعالى ما يستطيع أن يكلف نفسه محبته؛ لكنه مع ذلك مطالب بأن يرضى به، هذا الرضا الذي نتحدث عنه لا يعني الرضا بالدون وبالفقر والرضا بترك الأسباب وبحياة الهون لا، هذا ليس برضا، هذا في الحقيقة تواكل.. تكاسل.. هذا ضَعْفُ همة.. هذا مما أتى الإسلام لكي ينفيه عن الناس، فلا وجود لمثل هذه المعاني في منظومة قيم هذا الدين.

ولكن القناعة – لو نظرنا إليها بالنظر إلى أضدادها من الصفات – القناعة تنفي عن النفس الحسد.. تنفي عن النفس سخط نعم الله تعالى على العباد، بمعنى أن بعض الناس لا يرضى بما عنده مع أن عنده خيرا كثيرا، وإنما ينظر إلى ما في أيدي الناس، ويقارن نفسه بالناس.. بالآخرين، وينسى ما وهبه الله تعالى من نعم وآلاء في نفسه وبدنه وعقله وماله وولده إلى آخر النعم التي أنعم الله تعالى بها عليه، وإذا به فقط يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، هذا سوف يؤدي به إلى أن يترك شكر نعم الله تعالى عليه، وهذا الذي قلت عنه بأنه أن يسخط نعم الله تعالى عليه بالتالي تجد أنه دائما كثير التذمر، لا يشكر ما وهبه الله تعالى من نعم، وإنما يتذمر مما يفتقد إليه من نِعَمِ وآلاء، هو يتصور أنها ليست عنده، وبالتالي هذا ليس من القناعة في شيء هذا من التواكل ومن الحسد ومن سخط نعم الله تعالى عليه، وهذا غير مقبول في موازين الله عز وجل، ولا هو بمقبول في موازين الشرع.

مقدم البرنامج: يفهم من كلامك الآن أنك تشعر بأن هذا المفهوم تعرض إلى تشويه وسوء فهم، هل هذه الآن محاولة للتلميع وإعادة قيمته هذه.. أو للتصحيح؟

الشيخ كهلان: للتصحيح.. لتصحيح مفهوم هذه القيمة؛ لأنها قيمة كما في أبسط معانيها هي تُخلص من الشح، بمعنى أنها لا تمنع الإنسان من السعي في اكتساب المزيد ومن استغلال القدرات، بعض الناس يقول: هذا الذي رزقني الله تعالى- كنا نتحدث عن المال مثلا – ولا يسعى إلى الاستزادة، وفي المقابل بعض الناس يدفعه طلب المزيد إلى أن يكون حريصا أشد الحرص على المال.. حريصا على تلبية رغباته، فيطلب هذا الرزق بمعصية الله عز وجل، وهذا ما حذر منه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فإذاً هذه القيمة هي وسط بين هذا الطمع الذي يدفع بالإنسان إلى أن يطلب الرزق بمعصية الله عز وجل وبين الشح والبخل والهوان الذي يقعد به عن السعي في هذه الأرض وإلى الانتفاع بالقدرات والمواهب التي ركبها الله تعالى فيه، هذا ينسحب على القدرات العقلية.. العلم مثلا، بعض الناس يقول: أنا ليست عندي ملكات عقلية تمكنني من التعلم فيقنع ولا يستغل المواهب التي رُكبت فيه، وكذلك الحال أيضا بالنسبة للصحة بعض الناس يقعد ويظن بأن صحته لا تعينه، فلا يحاول أن يتغلب على حالته تلك في سبيل أن يكون منتجا نافعا صالحا وأن يزداد من فضل الله تعالى وآلائه.

مقدم البرنامج: لكن هناك بعض الناس من ينظر إلى الآخرين وما عندهم من طفرة مالية أو ما حققوه في الجانب المادي – مثلا من تقدم – ينظر إليهم لا ليحسدهم وإنما يحاول أن يتتبع الطرق التي وصلوا من خلالها إلى ذلك الأمر حتى يصل إلى ما وصلوا إليه.

الشيخ كهلان: لا، إن كان لا حسد فلا مانع، هذا من الأخذ بالأسباب المطلوبة، إن كان يريد أن يدرس كيف تمكنوا من ذلك ويريد أن يتخلى عن الطرق غير الصحيحة شرعا التي سلكها أولئك ويتبع هو أيضا السبل الصحيحة.

لنأخذ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – – وإن كنا سوف نستبق لكن لا بأس حتى يكون المفهوم واضحا – يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: “إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها – وفي رواية – حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا يُنال ما عنده بمعصيته”، هذا هو المعنى الذي نتحدث عنه، هنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يمنع الناس من السعي إلى طلب الرزق وإنما يقول لهم أنه لا يجوز لكم أن يحملكم استبطائكم لرزق الله تعالى لكم على أن تطلبوه بمعصية الله، هذا يعني أن لكم أن تطلبوه بما يرضي الله تعالى، وبما يبقي على دينكم وأخلاقكم، هذا هو المعبر عنه “…فإن الله لا يُنال ما عنده بمعصيته”، وفي رواية: ” …فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته”.

مقدم البرنامج: إذاً يقتنع الإنسان بما آتاه الله تعالى من مواهب وقدرات وليعلم أن تلك المواهب أنه قادر من خلالها أن يصل بالفعل إلى ما يتمناه، فالقناعة إذاً تدور حول هذا المعنى، إذاً نبقى مع هذه الآية القرآنية ثم نواصل حورانا بإذن الله.

*******************************

{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (النحل:97).

مقدم البرنامج: صدق الله العظيم.

نريد أن نتعرف على معنى القناعة في حياة الناس وما يتصورنه عنها.

نريد أيضا أن نستمع إلى مجموعة من التجارب والمشاهد التي من شأنها أن تبين لنا كيف ينظر الناس إلى القناعة.

فضيلة الشيخ استمعنا إلى هذه الآية القرآنية وقد أضافت لدينا معنى جديدا في موضوع القناعة، هل هو معنى جديد؟

أم هو نفسه الذي استمعنا إليه قبل قليل منكم؟

نريد توسعة في هذا الموضوع.

الشيخ كهلان: نعم.. هو ليس بالمعنى الجديد وإنما هو تأكيد لهذا المعنى الذي بادرنا إلى تقريره حتى تكون الصورة واضحة في أذهان الإخوة والأخوات المتابعين -؛ لكن نلمس أو نلحظ في هذه الآية أن لا وجود لكلمة القناعة ولا لكلمة الرضا التي دار حولها الحديث فيما تقدم، فحينما نقرأ هذه الآية من سورة النحل { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } الآن {… وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ …} هذا الجزء الأخير من هذا الوعد الإلهي {…وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }  واضح أنه في الآخرة {…فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً…}، جمهور المفسرين على أن المقصود بذلك في الحياة الدنيا؛ لكن الواقع أن ليس كل من يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى موسع عليه في هذه الحياة الدنيا، فمنهم من يُبتلى بالفقر، ومنهم من يبتلى بالمرض، ومنهم من يبتلى بفقدان الولد، ومنهم من يبتلى بأنواع الابتلاءات المتعددة، فإذاً أين هي الحياة الطيبة؟

إن كان هؤلاء من يعملون صالحات من الذكران والإناث إلا أن الله تعالى يبتليهم في هذه الحياة الدنيا بهذه الابتلاءات، فما الذي يرزق إياه هؤلاء حتى يعبر القرآن الكريم بهذا الوعد { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً…}؟

هنا يأتي موضوع الرضا بقضاء الله عز وجل الذي تحدثنا عنه، فحينما يكون المؤمن متكلا على الله عزوجل.. واثقا به.. معتصما بحبل الله تعالى المتين.. حريصا على عمل الصالحات فإن ذلك يورثه الرضا بما قسم الله تعالى له، فلا يسخط نعمة الله تعالى عليه وإنما إن أصابته ضراء صبر وإن أصابته سراء شكر كما وصف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا الشعور.

فحينما يكون غنيا.. موسرا.. موسعا عليه لا إشكال في فهم هذه الآية، أما حينما يكون – كما قلنا – مضيقا عليه.. مبتلى فإن هذا المعنى يبدو جليا، فإنه مع حالته تلك فهو يشعر بطمأنينة.. يشعر برضا فيما بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، ويوقن بأن ما أصابه إنما هو خير له في دنياه وفي آخرته، ولعل في ذلك كفارة له مما اقترف وأصاب، ولعل في ذلك رفعا له في منزلته عند ربه وفي الآخرة، ولعل في ذلك تمحيصا له، فهو يحمل الأمر على كل الجوانب الإيجابية والتفسيرات الإيجابية التي تبعث في نفسه السكون والطمأنينة والرضا بقضاء الله عز وجل، وهذا بحد ذاته يبعثه إلى العمل وإلى الشكر وإلى اللجوء إلى الله تعالى وإلى التمسك بحبله المتين؛ فلذلك هذه هي المعاني التي نلمسها في هذه الآية الكريمة.

يتصل بها جملة أيضا من الآيات حينما نتذكرها نجد أن من يؤتى هذه الخصلة يؤتى الخير الكثير، من ذلك قوله تعالى في سورة الحشر وهذا الجزء من الآية تكرر في أكثر من موضع، وهي قوله سبحانه: {…وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ…} (الحشر:9)، ونفس هذا الجزء ورد أيضا في سورة التغابن {…وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (التغابن:16)، فإذاً هذه الخصلة.. هذا شح النفس.. وهذه الأثرة.. وهذه الحالة النفسية التي عبر عنها القرآن الكريم في هاتين الآيتين الكريمتين مما لا ينسجم مع حالة الطمأنينة والرضا والسكون وحالة الإيمان الذي تحدثنا عنه سابقا من يوقى هذه الخصال فإنه يوقى الشر الكثير، وبالتالي يكون من المفلحين كما وعد القرآن الكريم {…وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.

مقدم البرنامج: نعم.. تحدثتم قبل هذا وقبل استماعنا إلى الآية الكريمة عن موضوع الاستزادة من الرزق، وأن القناعة لا تعني الخنوع، ولا تعني الاستسلام للواقع، وإنما تدعو الإنسان وتدفعه إلى الاستزادة في الرزق، المعادلة الآن بين القناعة والسعي للاستزادة من الرزق ليست بالأمر الواضح السهل عند الكثير من الناس، فما هو الميزان الوسط في هذه المعادلة؟

الشيخ كهلان: نعم نحن كنا تقدمنا فعلا الحديث في هذه القضية تحديدا..

مقدم البرنامج: نحتاج إلى الميزان.

الشيخ كهلان: نعم، أولا لنقرر أن المؤمن من أساسيات عقيدته وإيمانه بالله عز وجل أنه راضٍ بما قسم الله تعالى له من رزق، هذا المعنى نجده في قول الله تعالى: {…وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ونجده أيضا واضحا صريحا في قوله جل وعلا: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } (سبأ:39)، نجد هذا الربط.. هذه الصلة الوثيقة بين بسط الرزق لمن يشاء الله سبحانه وتعالى من عباده وبين تقدير الرزق لمن يشاء أيضا وبين الإنفاق وبين بيان أن ما ينفقه العبد في سبيل مرضاة الله عز وجل، فإن الله تعالى هو الذي يخلفه وهو أيضا في ذات الوقت جل وعلا هو الرازق لهذا العبد.. هو الذي يعطي ويمنع.. هو الذي يقبض ويبسط سبحانه وتعالى، هذا هو الأساس الإيماني الذي تنطلق منه هذه القيمة التي نتحدث عنها، وبالتالي فحتى جزء {… فَهُوَ يُخْلِفُهُ…} ما معنى هذا الجزء؟

معناه أنه هو تعالى الذي يعوضه ولا معوض سواه، فهو إما أن يعوضه عاجلا بالخلف من المال أو الولد أو بأنواع الرزق الأخرى أو بهذه الحالة النفسية من الرضا بما قسم الله تعالى، أو أن يعوضه آجلا في الحياة الآخرة بالثواب الجزيل من عنده، ففي كل الأحوال تجد أن المؤمن يشعر بهذا الاستقرار النفسي، هذا الشعور يجعله يستغل ما وهبه الله تعالى إلى مزيد من الخير ومزيد من العطاء، هذا في جانب اليسر والسعة واضح.

 في جانب الضيق وفي جانب لنقل الفقر والجوع وغير ذلك نجد تنبيه أو جملة من أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي تنبه الإنسان إلى أن غاياته ورغباته في هذه الحياة الدنيا لا حد لها، وإنما تكون التلبية الحقيقية لرغبات هذا الإنسان وملئ هذه الرغبات بما يشبعها فعلا إنما هو في النعيم الخالص الذي أعده الله تعالى لعباده المتقين في الآخرة، أما الحياة الدنيا فهي من طبيعتها أن كل نعيمها مشوب بكدر مهما كان.. مهما تصور الإنسان عن غيره من أهل الغنى واليسار فإن هؤلاء مع كل ما لديهم..

هي طبيعة الحياة الدنيا لا تصفو لأحد، لابد أن يشوب صفاءها كدر، ولابد أن يشوب غناءها عناء وفقر، ولابد أن يشوب راحتها غصص وآلام هي من طبيعتها كذلك، إدراك هذه الحقيقة من حول هذه الحياة الدنيا التي نحن فيها هو في ذاته مما يخفف على نفس المسلم أن يكون عنده شيء من الحسد اتجاه الآخرين أو أن يحقد عليهم أو يسخط ما وهبه الله سبحانه وتعالى حينما يكون مضيقا عليه.

مقدم البرنامج: أنا عندي هنا فضيلة الشيخ بعض التصورات أسألكم فيما إذا كانت تعيد إلى مفهوم القناعة بعض ما يتصوره الناس عنها، الآن هل يمكن القول أن القناعة يمكن أن تزيد من رصيد الإنسان المالي من حيث لا يشعر من خلال هذه القناعة نفسها.. اقتناعه بما عنده، مثلا في وسائل الإعلام إعلانات كثيرة جدا مثلا عن مقتنيات الإنسان.. إعلان في كل يوم عن هاتف نقال.. في كل يوم عن مادة معينة من المواد الاستهلاكية، فالإنسان أمام كل إعلان يندفع إلى شراء جهاز جديد، هذا من شأنه طبعا أن يكثف من خسارته في كل مرة؛ لأن الإعلانات كثيرة.

كيف نوظف مفهوم القناعة..؟

لا نريد أن نكسد على الناس ولكن هناك عدم اكتراث..

الشيخ كهلان: نعم نقطة مهمة وهي كانت تندرج في موضوع كيف.. أي الآن بعد بيان المفهوم الصحيح للقناعة، ما هي القناعة حينما نريد أن نطبقها في أرض الواقع؟ الجانب الإيماني تعرضنا له.. وهذا أمر غاية في الأهمية؛ لأنه أيضا بدون تلك الركيزة الإيمانية الاعتقادية لا يمكن أن نترجم هذه القيمة إلى الواقع؛ لكن نأتي الآن إلى الخطوات العملية، أولا لابد من تحديد الأولويات هذه غاية في الأهمية، ما هي ضروريات الحياة؟..ما هي حاجياتها؟.. ما هي تحسينياتها؟  حتى عندما تحدثنا عن مقاصد الشريعة ذكرنا هذا الشيء -، فلا يصح الخلط بين ما كان من الأمور التحسينية وبين ما كان من الأمور الضرورية.

الآن مثلا لنأخذ مثالا على ذلك التدخين في نظر المدخن ابتداء هل يرى بأن التدخين هو من الضروريات التي لا تقوم الحياة إلا بها؟ أو أنه يراه بأنه من الحاجيات التي أيضا لا يمكن إقامة الأود أو الحياة الهانئة المستقرة بدونها؟ أو أنه يرى أنه فقط من التحسينيات؟

 بداية لو جردنا النظر عن باقي ما يكتنف هذه المسألة من اعتبارات شرعية هو لا ريب في أحسن الأحوال إن بلغ الحال قد يصنف من ضمن التحسينيات.. قد يصنف – في نظر المدخن نحن نتحدث الآن – فإذا كنا نتحدث الآن عن الرضا بما يهب الله تعالى الإنسان من رزق ومن ملكات وقدرات هو في الحقيقة هذا الذي يَعُدُّه من التحسينيات يقضي على ضروريات وعلى حاجيات؛ لأنه يقضي على الصحة، وصحة الإنسان هي من الضروريات.. هي من أولى ما يعتني به الإنسان، – كما قلت – نحن الآن من باب المجادلة ننحي للحظة كثيرا من الاعتبارات الشرعية التي في الأساس يجب على المسلم أن يراعيها، وننظر إليها من منظور المدخن نفسه -، فإذاً هي تقضي على أولوية أولى وهي ضرورة من ضروريات الحياة وهي الصحة.. تقضي على ضرورة أخرى وهي المال، بمعنى هذا الشيء الذي يَعُدُّه تحسينيا يكون على حساب أولويات أخرى وضرورات أخرى قوامها المال، هو فيما يتعلق بالحاجيات سبب لإيذاء الآخرين – ليس فقط إيذاء نفسه – هو سبب لإيذاء الآخرين، فإن قلنا بأنه في نظر نفسه الحفاظ على صحته وعقله من الضرورات وحفظه لصحة الآخرين وصحته البدنية والنفسية وغيرها من الحاجيات فهو أيضا سبب لتفويت شيء من الحاجيات.

مقدم البرنامج: ربما تقضي على النسل أيضا؛ لأن التدخين له أثر على نسله أو ضرورة أخرى.

الشيخ كهلان: نعم، فإذاً نجد أن القائمة.. حينما تختلط المفاهيم سوف لا يمكن لهذا الإنسان أن يطبق حقيقة القناعة في واقعه، حتى في سلم الضروريات نفسها هناك أولويات هناك ما هو أهم.. مع وجود الهام هناك ما هو أهم، وبالتالي ينبغي له أيضا أن يراعي هذه الاعتبارات.

مقدم البرنامج: الصحة أهم عن المال مثلا.

الشيخ كهلان: نعم أحسنت فالمال يبذل لأجل حفظ هذه الصحة.. المال أيضا يبذل لأجل أن يتعلم هذا الإنسان.. المال يبذل وينفق لأجل أن يقوم أود الحياة على أساس من الاستقرار والطمأنينة.. بل المال يدفع لأجل أن يحفظ الإنسان دينه ومروءته وأخلاقه؛ ولذلك نجد حديثا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول فيه: “ليس الغني غني العَرَض، وإنما الغني غني النفس”، لماذا؟

لأن المقصود بالعَرَض المقتنيات التي يمتلكها هذا الإنسان، فليس هي في كثرة ما يقتنيه هذا الإنسان إن كانت نفسه دنيئة وإن كان لا يراقب حدود الله تعالى وأخلاق هذا الدين ومروءات الناس والمعروف بين الناس، وإنما يكون الغني – في ميزان الشرع – من كان غني النفس.. حافظا لحدود الله تعالى.. مراعيا للمروءات والآداب والأخلاق الحميدة.. ساعيا لصنع المعروف في المجتمع هو الذي يكون غنيا حقيقة، كما أن المفلس أيضا – كما بينه حديث أبي هريرة – هو ليس كما قالوا عندما سألهم من المفلس “أتدرون من المفلس؟” قالوا: المفلس فينا من لا درهم عنده، ولا متاع، فبيَّن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الإفلاس إنما هو في الأخلاق – حتى لا نطيل فيه -.

مقدم البرنامج: إذاً عندما يقتنع الإنسان بأن هذا المقتنى يحقق له ما يريد الزيادة فليس هناك داعٍ أن يطمح في شيء.

الشيخ كهلان: بل يجب عليه أن يفكر في أمر آخر – كنت سأتي إليه -، لا يقف فقط عند عدم وجود الشيء عنده لابد له أن يوازن بين الادخار والإنفاق.. لابد أن يضع في ذهنه موضوع الادخار، وهذا مما دعا إليه هذا الشرع الحنيف لحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”، بعض الناس يظن أن هذا دعوة للتقشف، لا ليس كذلك؛ لأن رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – قال: “عنده قوت يومه”، من أين عنده قوت يومه؟

نحن نعلم أن الإسلام يحرم السؤال والتسول، واليد العليا خير من اليد السفلى، فإذاً من كسب يده.. وعنده قوت يومه من كسب يده..

مقدم البرنامج: وهذا الكسب مستمر.

 الشيخ كهلان: مستمر في كل يوم ويعمل باستمرار، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يتعوذ من المغرم، لماذا يتعوذ من المغرم؟ لما فيه من ذل ومذلة ومن إرهاق لنفس هذا الإنسان ولاستقراره ولملكاته؛ فلذلك كان – صلى الله عليه وسلم – يستعيذ من المغرم، فالذي يقعد هكذا ويحسب أن ذلك من القناعة لأن فيها تقشفا وزهدا هذا يكون عالة على المجتمع.

مقدم البرنامج: إذاً نحن نريد أن نعاود الاستماع إلى هذا الحديث مرة أخرى، ثم نستقبل بعده مكالمة إن شاء الله.

*******************************

عن سلمة بن عبيد الله بن محصن الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “من أصبح منكم معافى في جسده، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا”.

مقدم البرنامج: أهلا ومرحبا بكم أعزاءنا الكرام في برنامج دين الرحمة وموضوعنا اليوم عن القناعة.

مداخلة متصل ثان: بالطبع موضوع القناعة موضوع شيق وجميل فالقناعة كنز لا يفنى، عندي تساؤل فقط، ما الفرق بين القناعة وهو الرضا بما قدر الله سبحانه وتعالى وبين تولد القناعة لدى الشخص بأنه لا يستطيع مثلا الوصول إلى هدف معين.. لا يستطيع الحصول على شهادة معينة هل هذه تعتبر قناعة؟ بمعنى أن يقتنع الإنسان بأنه لا يستطيع أن يصل إلى هدف معين وبين القناعة المقصودة بها في برنامجكم ( الرضا بما قدر الله سبحانه وتعالى )؟

مقدم البرنامج: ما هو تصورك أنت أخي؟

المتصل: أنا اعتبر تصور عدم القدرة على الوصول نوع من اليأس، فالإنسان لابد أن يكون دائما متفاءل.. لابد أن يأخذ بالأسباب.. لابد أن يكرر.. لابد أن يكتشف أسباب فشله طبعا..

لماذا لم يستطع الوصول إلى الهدف الذي ركن وخطط له؟ لابد أن تكون هناك أسباب.. أعتقد – ومن وجهة نظر شخصية – أن الرضوخ لهذه الحالة هو نوع من الفشل واليأس، وقد أمر الله الإنسان بأن لا يكون يؤوسا.

مقدم البرنامج: وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستعيذ بالله من الكسل والعجز.

المتصل: على الإنسان أن يتحرى الأسباب التي منعته من الوصول إلى هدفه، لا يوجد أخي العزيز شيء مستحيل، المستحيل أن يدخل الفيل في ثقب الإبرة كما علمونا.

متصل ثالث: ربما سيكون كلامي إعادة صياغة لما قيل، وربما سأضيف بعض الأشياء، المقولة التي نرددها منذ أن كنا صغاراً القناعة كنز لا يفنى ، وهي حقيقة لو تدبرها الإنسان لوجدها هي الكنز الحقيقي؛ لأنها الرضا النفسي لما يملك الإنسان سواء أكان ما يملكه قليلا أم كثيرا؛ لأن بعض الأشخاص عندهم تصور أن الإنسان القنوع هو الإنسان الذي يملك القليل بينما في الحقيقة حتى الإنسان الذي يملك الكثير إن كان قانعا بما يملك.. عنده حالة رضا نفسي، والرضا هنا ليس الاقتصار أو الاكتفاء بالشيء وإنما هي حالة نفسية تدفع الإنسان إلى أن يعرف ما يملك وأن يعترف به وأن يسعى لاستغلاله الاستغلال الأمثل، نجد أن الخطأ الذي يرتكبه الناس أنهم يركزون على ما لا يملكون وينسون ما يملكون، ولو عرفوا حقا قيمة الذي يملكونه وقيمة الذي  بين أيديهم لأبدعوا في استغلاله ولتغيرت أحوالهم إلى الأفضل.

هناك أيضا نقطة معينة وهي أن القناعة درجات تختلف من إنسان إلى آخر، فمفهوم القناعة لدى شخص يختلف عن مفهومها لدى شخص آخر.

مقدم البرنامج: من أين جاء هذا الاختلاف في الفهم؟، هل القناعة نفسها تؤدي كل هذه المفاهيم؟

المتصل: ربما مثلا شخص يرى أن العز مثلا في شراء جديد؟ ربما شخص يرى أن الأولى أن يشتري مثلا في السنة مرة واحدة.. ربما شخص يرى أن يشتري كل ستة أشهر، بمعنى الاختلاف في بعض القرارات.. في الفترة.. في النوعية.. في القيمة..

مقدم البرنامج: إذاً الاختلاف في تطبيقه.

المتصل: فكل شخص حدد له مقدار معين من القناعة، فكيف يتصرف رب الأسرة أو رب العمل أو من لديه تحكم في الأمور كيف يتصرف مع عائلته أومع الموظفين عنده؟.. في البيت؟..

وأيضا بعض الأشخاص تجدهم يوفون بأركان الإسلام الخمسة إلا أن سعيهم إلى تحقيق المزيد أو لجني المال الكثير ربما قد يدفعهم إلى اتباع الرخص أو إلى التفريط في بعض الواجبات كزيارة الأقارب، فما هي نصيحتكم؟

مقدم البرنامج: جميل.. شكراً جزيلاً لك أخي.. شكراً إضافات طيبة، وبالفعل هي تنصب في مفهوم القناعة وسنزيدها توضيحا إن شاء الله تعالى من خلال طرحها على شيخنا.

الأخ المتصل (الثاني) وهو إن كان قد أبدى ما في نفسه من تصور حول الموضوع الذي أراد منكم أن تجيبوا عليه ما الفرق بين القناعة وبين أن تتولد لدى الإنسان قناعات معينة أنه لا يستطيع أن يتقدم في الحياة خطوة وأن الهدف الذي أساسا بدأ طريقه نحوه توقف عنه؛ لأنه لا يستطيع أن يصل إليه.. اقتنع الآن أنه لا يستطيع أن يصل إلى الهدف الذي يريده أصلا، فهل هذا من القناعة؟

الشيخ كهلان: لا هذا ليس من القناعة التي نتحدث عنها، القناعة حينما ينظر إلى مدلولها اللغوي فقط والتي من معانيها الرضا، نعم فهذا قد رضي بهذا الرأي لنفسه أي الاقتناع الذي أشار إليه هو ما يعبر عنه اليوم بالاقتناع بأمر ما، فإن كان هذا المقدار اللغوي فهذا صحيح، أي أن هذا المقدار اللغوي موجود في هذا التعبير الذي يستخدمه الناس؛ لكن المعنى الصحيح المأخوذ من هذه الكلمة غير صحيح، بمعنى أن لا يرتضي الإنسان رأيا ما ثم بعد ذلك يعطل سائر ملكاته في سبيل الارتقاء والخروج إلى ما هو أفضل وإلى ما هو أحسن وأكمل في حقه وفي حق ذلك الرأي الذي يراه.. لا هذا غير صحيح ولا يطلب من الإنسان.

 المسلم دائما مطلوب منه أن يسعى إلى الوصول إلى الصواب وأن يتحرى الأكمل والأفضل وأن يتحرى الحق لنفسه وللآخرين ولو كان على حساب نفسه – كما قلنا – هذا يعني أيضا إن كان رضي لنفسه – كما يعبر اليوم – بقناعة ما فإن عليه أن يسخر تلك الملكات التي اقتنع بها في سبيل الوصول إلى ما هو أفضل وأحسن، لنوضح كما ذكر هو الأخ المتصل( الثاني ) عندما ذكر موضوع أنه لا مستحيل وأنه ينبغي للإنسان أن يكون طموحا وأن يسعى – أو معنى كلامه – أن يكون طموحا وأن يسعى إلى ما هو أفضل.. نعم هذا صحيح؛ لكن إن كانت قد تولدت – كما يقال – لديه اليوم.. تولدت لديه قناعة ما – ونحن الآن نتحدث عن القناعة في المعنويات .. أو كيف يعالج هو هذا الوضع الخاطئ؟ هو نعم اقتنع.. طيب اقتنع بأن هذه قدراته.. بأن هذه هي قدراته العقلية مثلا.. هذه هي ملكاته البدنية أيضا لا يعني هذا أن يعطل هذه القدرات وأن لا يسعى إلى أهداف عليا، وإنما المقصود من ذلك أن يصل إلى هدفه بانتفاعه وتسخيره لتلك القدرات والملكات التي اقتنع بها.

مقدم البرنامج: أنا أريد أن أزيد الموضوع – إن شاء الله – توضيحا من خلال سؤالكم بعد هذه المكالمة.

متصل رابع: الآن في موضوع القناعة في بعض الأحيان قد تكون مقتنعا بشيء ما ولكن البيئة التي أنت فيها والعصر لا يسمح لك رغما عنك بأن تقتنع بهذا الشيء أو أنك تنحرف عن هذه القناعة التي أنت مقتنع بها، السؤال كيف نطبق القناعة في هذه الصورة؟

مقدم البرنامج: تعني البيئة لا تشجع على تحقيق ما يريده الإنسان مثلا؟

المتصل: مثلا قد يكون هناك أمر معين أكون أنا مقتنعا به نفسيا وذاتيا بأن هذا حرام أو ما شابه.. ولكن بسبب البيئة التي أنت فيها وبسبب الناس والعصر الذي نعيشه اضطر لأن لا أقتنع بهذا الشيء أو أن أتنازل عن هذه القناعة، كيف تكون القناعة من هذا المنظور؟

هل أتنازل عن هذه القناعة؛ لأنه إن لم تتنازل عن قناعتك  فإنك قد تخسر أمور أخرى في المقابل؟

في بعض الأحيان أتوقع أن الإنسان لا يستطيع الإبقاء على قناعته، وتجبره ضغوط الحياة والبيئة على ذلك، أريد منكم توضيحا من هذه الناحية.

مقدم البرنامج: جميل أخي.. إن شاء الله تستمع إلى توضيح حول هذا الموضوع.. شكرا جزيلا لك.. أظن أنني أتنازل عن موضوع سؤالي وأطرح سؤال الأخ المتصل (الثالث)؛ لأن الوقت ربما لا يكفي.. الأخ المتصل يقول هناك من يملك القليل ويقنع بما لديه، وهناك من يملك الكثير ويقنع أيضا بما آتاه الله تعالى فالقناعة عند هؤلاء متساوية.

الشيخ كهلان: نعم، هو يصحح مفهوما – بارك الله فيه – هو يقول: بأن بعض الناس يتصورون بأن القناعة لا تكون إلا للفقير، وأن الفقير يقنع بما آتاه الله تعالى، وأن القناعة لا تتحقق لمن وسع الله تعالى عليه في الرزق، وبالتالي هو يشاركنا الرأي في تصحيح هذا المفهوم من أن القناعة لا تعني الرضا بالدون وأنها لا تختص بحالة الفقر لا.. هي لا تعني أبدا الرضا بالفقر بل تعني السعي إلى التخلص من الفقر، كثير من الناس يورد هذه القيمة في أطروحات معالجة أو مكافحة الفقر، لماذا؟

لأنه يقول بأنها تعني الأخذ بالأسباب.. استغلال الملكات لأجل الأخذ بالأسباب في السعي نحو الأهداف وهذا هو الذي يجيب على سؤال أو يلخص الجواب على النقطة التي أثارها الأخ المتصل ( الثاني )، والتي يثيره الآن الأخ المتصل ( الرابع ) كُنَّ نقاط متقاربة.

نحن أولا حتى نبين للناس صارت استعمال كلمة القناعة والقناعات بديلة  للآراء ونحن لا نتحدث عن القناعة بمعنى الرأي.. نتحدث هنا عن القناعة في المعاني التي ذكرناها وبالدلالات التي بيناها حتى لا نكرر أيضا ونعيد؛ لكن صار الناس يتحدث يقول: أنا عندي قناعة معينة بكذا، بمعنى أنه عندي رأي متمسك به بكذا أي مقتنع به، هذا مصطلح لنقل جديد ساقه العرف الآن؛ لكن إن كان المقصود بذلك، أنا أريد أن أبين أنه حتى هذه القناعات طالما نحن الآن لا نتحدث عن السبل التي توصل بها إلى الوصول إلى هذه القناعات، وهل هي صحيحة أم خاطئة، نتحدث عن كون ما يقتنع به الإنسان صحيحا فإذا كان مما وهبه إياه ربه تبارك وتعالى من ملكات عقلية.. صحية.. بدنية.. نفسية.. إلى آخر الأرزاق التي يهبها الله عز وجل لعباده فينتفع بهذه الملكات في سبيل أن يسعى إلى ما هو أفضل، وهذا ملحوظ في كل أحكام الشرع، مثلا المريض هل يقبل منه أن يقنع بحالته المرضية فلا يؤدي شيء من الفرائض؟

 لا.. لا يقبل منه ذلك وإنما هو عليه أن يرضى بقدر الله تعالى فيه في كونه مريضا وأن يؤدي العبادة.. أن يستغل وضعه فإن كان قادرا على أن يصلي جالسا فليصلي جالسا، وإن كان لا يستطيع الجلوس فليصلي مضطجعا، وإن كان لا يقوى حتى على الاضطجاع فليكبر.

هذا مثال توضيحي لما نتحدث عنه أن القناعة هنا تعني أن يستغل الإنسان الملكات والحالة التي هو فيها لأجل الوصول إلى تحقيق الأهداف، سواء كانت هذه الأهداف هي من صميم أداء الشعائر التعبدية أو كانت من صميم ما شرعه الله سبحانه وتعالى من سعي لكسب الرزق أو سعي للتعلم أو غير ذلك مما أباحه الله تعالى من طيبات هذه الحياة الدنيا في كل جوانبها المادية والمعنوية.

مقدم البرنامج: جيد.. لنضرب مثالا على موضوع الأخ المتصل ( الرابع ) الآن شخص أو شاب عنده مهنة معينة يزاولها تدر عليه مثلا راتبا قليلا، فلاحت له في الأفق فرصة عمل يراها هو أنها لا تناسبه، وأنها لا تتفق ومع معتقده، ولكن الواقع الضاغط والبيئة الملحة تدفعه أن يتجاوز ما اقتنع.. نقول نحن هنا: هذا الرجل قنع بما آتاه الله تعالى من ذلك العمل وذلك الراتب فيتحول بسبب هذا الضغط إلى عمل آخر لا يرضاه، كيف يتغلب على هذا الواقع؟

الشيخ كهلان: الأصل طبعا قبل كل شيء وبعده القاعدة التي قررناها بداية وهي أن الرزق لا يطلب إلا بطاعة الله عز وجل، فإن كانت الخيارات التي أمامه كلها من طاعة الله عز وجل وهي مما يرضي ربنا تبارك وتعالى فإذاً لا حرج عليه أن يسعى إلى ما هو أفضل له.. أن ينتفع بقدراته وملكاته في السعي إلى ما هو أفضل له بعيدا عن الأعراف التي لا تتفق مع القاعدة التي قررناها من موازين الشرع، وهذا ينسحب حتى من المعنويات ومن جوانب القيم والأخلاق التي يتعاشر الناس على أساسها طالما أنها لن تخرج عن القاعدة التي قررناها.

 على أنني أريد أن أُذَكِّر بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “لو كان لابن آدم واديان من ذهب – وفي رواية – واديان من مال لابتغى لهما ثالثا، وما ملأ جوف ابن آدم إلا التراب – وفي رواية – وما ملأ عين ابن آدم إلا التراب”، هذا يدل على أن خصلة حب الأثرة وحب التملك والسعي نحو الملكة متأصلة في الإنسان.. أنا كنت أريد أن أعبر بالجشع؛ لكن شهوة التملك هذه متأصلة فيه { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ …} (آل عمران:14)؛ لكن يبقى أن يؤطَّر السعي إلى تحقيق هذه المطالب وهذه الرغبات بإطار طاعة الله سبحانه وتعالى، وهنا تأتي جملة من الخطوات ذكرنا بعضها ويضاف إليها أيضا ما يفهم من قوله تعالى: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا …} (طه:131)، وهذا الذي يلخصه أيضا الشاعر في قوله:

والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع

هذا هو الذي نتحدث عنه هنا.. أي أن لا يكون شغل الإنسان الشاغل الذي يصرفه عن الأولويات-وأولى الأولويات هي طاعة الله عز وجل وعبادته- جمع وتلبية هذه الشهوات.. لا، لا ينبغي له ذلك بل لابد أن يراعي الأولويات، وأيضا لا ينبغي له أن يقنع ويخنع ويعجز عن السعي في الرزق وفي استغلال ما في هذا الكون، وعمارة هذه الأرض بحسب ما يستطيع مما يرضي الله تعالى بدعوى أنه مريض، أو ليست لديه ملكات عقلية أو ليست لديه قدرة مالية؛ لا، بل لابد أن يستغل هذه القدرات والملكات والنعم في سبيل الوصول إلى ما هو خير.

مقدم البرنامج: نعم كنت أريد أن أسألك عن الرابط بين القناعة والزهد تاريخيا، هل بينهما علاقة؟ ولكنك وقفت بنا عند بيت شعري نحتاج معه إلى سماع المزيد من حكم العرب وأشعارها حول القناعة، لنستمع إذاً إلى هذا الفاصل.

*******************************

ثمرة القناعة الراحة  ***  وثمرة التواضع المحبة

وقال ابن عقيل:

لو علمت قدر الراحة في القناعة والعز الذي في مدارجها علمت أنها العيشة الطيبة.

وقال أوس ابن حارثه: خير الغنى القناعة وشر الفقر الخضوع.

وقال بعضهم:

هي القناعة فالزمها تعش ملكا ***  لو لم يكن منك إلا راحة البدن

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ***  هل راح منها بغير القطن والكفن؟!

مقدم البرنامج: مرحبا بكم أعزاءنا الكرام في برنامج دين الرحمة وقد كان موضوعنا اليوم عن القناعة وقد وصلنا الآن إلى نهايته.

فضيلة الشيخ نحن تحدثنا عن القناعة كثيرا وصححنا الكثير من المفاهيم الدائرة حولها وأوضحتم الكثير مما يتعلق بها، الآن نحتاج إلى أن تبينوا لنا أثر القناعة على المجتمع ليكون ختام حديثنا.

الشيخ كهلان: نعم هذه القناعة بهذا المدلول وهذه المعاني التي تحدثنا عنها تورث المجتمع محبة وألفة؛ لأنها تنفي عنه الحسد.. تنفي عنه البغضاء.. تنفي عنه التنافر.. كما أنها أيضا تورث المجتمع استغلالا للإمكان والقدرات بعد أن يُتعرف عليها – على الإمكانيات والقدرات – .. لماذا؟

لأنه حينما يكون الأفراد قادرين على التعرف على ملكاتهم ومواهبهم والتي يعبر عنها اليوم بـ ( مهاراتهم ) وبالتالي القناعة تدعوهم إلى استغلال هذه المهارات هذا هو الفارق في المفهوم الذي نطرحه والذي ينبه إليه علماء الإسلام، فيحدد هذه المهارات ويرتب عليها قدرته في الوصول إلى ما هو أفضل وما هو أكمل في حقه؛ فلذلك هذا سوف يؤدي إلى رفاهية المجتمع الرفاهية الصحيحة في المعيشة، وهذا سوف يؤدي إلى أن ينتظم المجتمع بمنظومة القيم والأخلاق، وهذه المنظومة غاية في الأهمية بمعنى إذا تجردت أعمال الناس من القيم والأخلاق سوف يسود الشر والفساد – والعياذ بالله – أي إذا بقيت علاقة الناس فيما بينهم مبنية على المصالح مجردة عن القيم والأخلاق وعن مثل هذه المعاني التي نتحدث عنها فإن النتيجة الحتمية سوف تكون – والعياذ بالله – انتشار الفساد والتأخر وعدم القدرة على السعي إلى ما هو أكمل وأفضل للمجتمع.

مقدم البرنامج: وستصبح ضروريات الناس كماليات والكماليات ضروريات وتختل الموازين إذاً.

الشيخ كهلان: نعم.. نعم.

مقدم البرنامج: شكرا لكم فضيلة الشيخ على هذا العطاء الجميل في موضوع القناعة، وشكرا للإخوة المتابعين والمتصلين، وقد وضحت الآن هذه المفاهيم وتحددت هذه القيمة وبان أثرها في حياة الفرد وفي حياة المجتمع.

سنتحدث في الحلقة القادمة بإذن الله عن قيمة أخرى وهي مهمة جدا وعليها تركيز شديد وهي قيمة التواضع، نرجو منكم أن تشاركوا وأن تدلوا بالكثير من الآراء حول قيمة التواضع وخاصة فيما يتعلق بأثرها على الفرد والمجتمع.

ولكم تحياتنا وشكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

انتهت الحلقة