العفة ج1
مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم.
أيها الإخوة الكرام السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد الذي نواصل فيه معكم الحديث عن هذه القيم العظيمة، وعن هذه المعاني الجميلة التي يكتسبها المسلم من خلال التزامه بآدابه، ومن خلال تمسكه بهذه القيم الإنسانية الكبرى.
وكنا قد وعدناكم في المرة الماضية أن نتحدث اليوم عن النزاهة، بيد أننا رأينا أن نتحول مباشرة إلى موضوع ” العفة “؛ نظراً لأن هذا الموضوع لم ينل حقه من الحديث بعد، كما أن الناس يحتاجون أيضا إلى معرفة الكثير من تفاصيله.
والعفة خلق كريم، وإذا ما اكتسبه الإنسان سوف يكون محترماً بين الآخرين، كما أنه سوف يكون حافظاً لكرامته، وستعلو منزلته عند الله سبحانه وتعالى؛ لكن مصطلح العفة مصطلح يتبادر إلى الذهن مباشرة أنه يتعلق فقط بموضوع عفاف الإنسان عن الحرام فيما يتصل أو فيما يتعلق بالجنسين.
وهذا هو المعروف؛ ولكننا في لقائنا هذا مع فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي سوف يحدثنا عن مفهوم آخر للعفة بالإضافة إلى ما استمعتم إليه.
*******************************
أهلا ومرحبا بكم فضيلة الشيخ..
الشيخ كهلان: أهلا وسهلا بكم..
وأنا أحيي أيضا الإخوة والأخوات الذين يحرصون على متابعة هذا البرنامج، وأحيي أكثر الذين يحرصون على المشاركة فيه.
مقدم البرنامج: الآن فضيلة الشيخ – كما اعتدنا في كل مرة – نذكر أحباءنا الذين يستمعون إلينا في هذه اللحظات بعناصر هذا الموضوع الذي نتطرق إليه ونعالجه في هذا البرنامج، كما نتحدث معهم كذلك عن صلته بالإطار العام لبرنامج دين الرحمة.
الشيخ كهلان: نعم..
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الرحمة المهداة و النعمة المسداة وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
فإن موضوع العفة وما يتصل بهذا المصطلح من كلمات تحمل معنى النقاء والطهر والنزاهة والعفاف كلها من المعاني الرائقة التي تسعى النفوس إلى التحلي بها، وإلى التجمل بآدابها وأخلاقها، .. والسعي إلى اكتسابها.
ولذلك كانت لنا هذه الوقفة مع العفة.. مع العفاف وما تحمله هذه الكلمات من دلالات ومضامين، وكما تفضلت في المقدمة فإن كثيرا من الناس يحسب أن قيمة العفة إنما تتصل بكبح جماح الشهوة الجنسية أو شهوة الفرج، بينما للعفة معانٍ أكثر دلالة وأوسع فيما تدل عليه وفيما ينبغي للمسلم أن يتجمل به وأن يتحلى به في واقع حياته.
فسوف نتعرض لمختلف المعاني التي تندرج تحت العفة والعفاف، وفي هذا السياق سوف نتناول السياقات القرآنية المختلفة المتعددة التي تعرضت لمعاني العفة إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر في سياق بيان بعض صفات عباد الله المؤمنين من الرجال والنساء الذين يتحلون بهذه الصفة، وفي بيان بعض ما تؤدي إليه هذه الخصلة من آثار إيجابية على الفرد والمجتمع – وهذا عنصر آخر – لآثار اكتساب هذه الصفة على الفرد وعلى مجتمعات المسلمين وعلى الأمة في مجموعها.
كذلك سوف نتطرق للجانب العملي، كيف يكون الواحد منا عفيفاً؟؟
كيف يتمكن من التحلي بهذه الخصلة؟
وبين هذه العناصر سوف نستعرض– بمشيئة الله تعالى – أمثلة من هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .. من سنته القولية والفعلية ومن سيرته – عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام -، وسوف نركز كثيراً على الجوانب العملية المتعلقة بهذه الصفة من خلال بعض المظاهر الموجودة في الواقع وكيفية معالجتها – بمشيئة الله تعالى -.
لذلك تكون الصلة بين هذه القيمة – العفة – وبين كون هذا الدين دين رحمة واضحة جلية، فسوف يظهر أن العفة تتصل بجملة من الصفات.. من القيم والمبادئ التي تعرضنا لها.. تتصل بالمروءة وبالإحسان.. تتصل بالصبر، وتتصل بكظم الغيظ.. تتصل أيضا بالترفع عن دنايا الأمور وسفاسفها.. بالسعي إلى الكمالات؛ فلذلك هي جزء أصيل في منظومة القيم الإنسانية النبيلة التي يتصف بها دين الرحمة.. ديننا الإسلامي الحنيف.
مقدم البرنامج: نعم، وهذه المعاني التي ذكرتموها قبل قليل بالفعل تجعل الإنسان مستحقاً لرحمة الله سبحانه وتعالى عندما يكون عفيفا بهذه الصورة.
نحن كما اعتدنا نبدأ برنامجنا هذا بآية قرآنية، ننطلق منها بعد ذلك.
*******************************
{ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {59} وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (النور:59-60).
مقدم البرنامج: الآن – فضيلة الشيخ – هذه الآية القرآنية تحدثت عن موضوعين متصلين:
موضوع الاستئذان، وموضوع المظاهر التي تبدو عليها بعض النساء في حال كبرهن وقد رفع عنهن بعض التكليف فيما يتعلق بموضوع التخفف من الملابس.
في القرآن الكريم – فضيلة الشيخ – وردت مشتقات العفة في مواضع متعددة من القرآن الكريم، ومنها هذه الآية التي استمعنا إليها الآن ورد فيها سياق العفة واضحا.
كيف تعرض القرآن الكريم لموضوع العفة؟
وما الذي نقرؤه حول هذا المصطلح من معانٍ ومضامين؟
الشيخ كهلان: لنبدأ أولا بهذه الآيات التي أنصتنا إليها من سورة النور، هذه الآيات – كما تفضلتَ – تتحدث عن آداب الاستئذان – وكنا قد تحدثنا عن أدب الاستئذان في ثنايا حلقات هذا البرنامج -؛ لكن هذا السياق ورد في بيان تشريعات خُلقية للنساء المسلمات فيما يتعلق بلبسهن وما يتعلق بإبدائهن لزينتهن وبيان من يجوز أن يبدين زينتهن عنده ومن لا يجوز، ثم أتى بعد ذلك بيان هذا الأدب الرفيع.. تعليم أدب الاستئذان للأطفال الذين يناهزون البلوغ، وأن عليهم أن يستأذنوا، وللتأكيد على أن هذه الشريعة ما جاءت بحرج أو مشقة، وإنما جاءت لرفع الحرج والمشقة عن الناس كان بانتفاء الذريعة.. بانتفاء العلة التي لأجلها شُرعت الأحكام السابقة.. كان ملائما أن يناسب ذلك ارتفاع الأحكام التي بنيت عليها.
فالقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا.. لا يُرغب في نكاحهن.. قد فات قطار الزواج بهن، وصرن آيسات.. كبيرات.. لا يَرغبن ولا يُرغبُ فيهن – لا يَرغبن في النكاح.. في الزواج.. ولا يُرغبُ فيهن أيضا – فرفع الله تعالى عنهن الحرج { … فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ … } أي : أن لا يبدين كامل مفاتن أجسادهن، وإنما ما تعلق بما تحدثت عنه الآيات من الرأس والنحر والوجه والذراع.. وهكذا، ومع ذلك ففي هذا السياق يدعو الله سبحانه وتعالى.. ويرشد ربنا تبارك وتعالى هؤلاء النساء إلى أن العفة أفضل وأكمل في حقهن، فتأتي الآية في آخرها { … وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
فلذلك سبب ابتدائنا في الحقيقة بهذه الآية أن المعنى الذي فيها يختلف عن المعاني مما يتعلق بالعفة.. يختلف عن المعاني التي وردت في السياقات القرآنية الأخرى، هنا نصٌ صريحٌ على أن العفة هي بقيم الكمال المنشود للمسلم حتى في المواضع التي يخفف عنه أو تخفف عن المسلم بعض الأحكام وترفع عنه بعض القيود فإن هذه القيمة – قيمة العفة – ينبهنا القرآن الكريم إلى أنه ينبغي لنا أن نحرص على التزامها.. أن نحرص على التمسك بها، فهنا أمر إرشادٍ لهذه القيمة في سياقٍ ورد الأصل فيه ورد فيه التخفيف، فكانت الدعوة إلى المحافظة على العفة أو على ما يحفظ العفة والدعوة إلى الاستعفاف – أي طلب العفة – – أو إذا قلنا بأن ( السين والتاء ) هي للمبالغة أيضا – فكان تعففهن في هذا السياق عن وضع الثياب أكمل في حقهن، مما يؤكد لنا أهمية العفة في غيرها من المواضع التي تتصل بمناهي.. تتصل بمحرمات فإن ساعتها لا شك أن العفة.. أن التنزه والابتعاد يكون أمراً لازما جازما.. هذا السياق الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة.
لكننا نجد سياقات أخرى وردت فيها أيضا معاني العفة، من ذلك : النهي عن بذل ماء الوجه للسؤال، وهذا معنى ركز عليه القرآن الكريم كثيراً؛ لأنه أراد لمجتمع المسلمين أن يرتقي فوق مذلة السؤال.. أراد لأفراد المسلمين أن يرتفعوا عن السؤال والإلحاف في السؤال، وأن تختفي من المجتمع مظاهر التسول والطلب والسؤال والإلحاح، نجد هذا المعنى في سورة البقرة { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } (البقرة:273) ورد هذا الوصف في أهل الصُّفَّة الذين كانوا يبدوا عليهم في ظاهرهم الغنى.. والكفاية؛ لأنهم ما كانوا يبدون حاجتهم أبداً.. ما كانوا يسألون الناس إطلاقاً.. كانوا يتعففون عن السؤال، ويترفعون عن السؤال؛ ولذلك امتدحهم الله سبحانه وتعالى لتحليهم بهذه الصفة.. لتحليهم بهذا الخلق الرفيع مع شدة احتياجهم لكن كان هذا التعفف.. وهذا الارتقاء والتسامي عن السؤال – مع شدة الاحتياج – كان سبباً لأن يخلد ذكرهم بهذا المدح العاطر في كتاب الله عز وجل { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ … } يقول : { … يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء … } ما السبب؟! { … مِنَ التَّعَفُّفِ … }، { … تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ … }؛ لكنهم أبداً { … لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا … } في تنبيه لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن كان مخاطباً بأن يشرف وينفق على هؤلاء إلى أن هناك مخايل قد تبدو عليهم؛ لكنها أبداً لن تكون بتعبيرهم وتصريحهم عن احتياجهم.
مقدم البرنامج: لأنها أيضا ستضعف المهمة التي هم فيها أساسا، فهم محصورون في سبيل الله إما لطلب العلم أو لشيء آخر.
الشيخ كهلان: نعم أحسنتم؛ ولذلك إذا كان هذا مع من المحتاجين فعلا – وهذا سوف نتعرض له لاحقاً – فمن باب أولى يكون التعفف عن المسألة في حق من هو في غنى عنها حقيقة أولى وأجدر؛ فلذلك كانت العفة في بعض المواضع تكون واجبة لازمة، وتكون من الضرورات التي ينبغي الالتزام بها.
لننظر في سياق آخر أيضا.. في سياق رعاية أموال اليتامى في سورة النساء { وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ … } (النساء:6)، هذا الخطاب للولي المشرف على أموال اليتامى إن كان محتاجاً – كما يقول أهل العلم – إن كان محتاجاً قي رعايته وفي جهده الذي يبذله في رعاية أموال اليتامى فإنه مرخص له أن يأكل بالمعروف.. أن يأخذ قدر حاجته وما يتناسب مع جهده وعناه من أموال اليتامى؛ لكن نجد هذا التنبيه لهذه النفوس التي قد تضعف أمام هذا الترخيص من قبل الله سبحانه وتعالى – والمقام مقام حِِرز أموال اليتامى، وهي من أعظم الأمانات التي تلقى في مسؤولية المجتمع بأسره – نجد مناغاة الضمير في { … وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ … }، فالغني مأمور بالاستعفاف؛ حتى لا تمتد يده في حين أنه في غنى من أن يأخذ من أموال اليتامى؛ حتى لا يتوسع.. وحتى لا يأخذ من هذه الرخصة.. وحتى لا تحدثه نفسه بأن تمتد يده إلى أموال اليتامى، فإذاً يكون – مرة أخرى – الاستعفاف هنا أمراً مطلوباً شرعاً حتى في هذا السياق؛ لكن هذا السياق – كما قلت – سياق رعاية أموال اليتامى متصل.. أي هو مع اتصاله بالسياق السابق أو سياق المسألة إلا أنه مختلف عنه، الاتصال هو أنها كلها تتصل بالمال، والنفوس تضعف أمام الأموال؛ لكنها في موضوع المسألة وبذل ماء الوجه هذه القضية التي تُعالَج بالعفة، في هذا السياق هي ليست مسألة ذل سؤال وشدة حاجة قد تدعو إلى المسألة.. إلى أن يتجه الإنسان إلى المسألة، وإنما هي في مقام حفظ ورعاية وتثمير أموال اليتامى في مقابل صون النفس.. مع التأكيد على ضرورة صون النفس بالعفة وبالابتعاد عن هذا المال حينما يوكل إلى أحد من المسلمين رعايته.
ثم يأتي بعد ذلك بالرخصة { … وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ …}، وكلمة {… بِالْمَعْرُوفِ … } غاية في الأهمية؛ لأننا حينما نستذكر أيضا آية كقوله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ … } (الأعراف:199)، يروى عن الإمام زين العابدين يقول : هذه أكمل آية في الأخلاق؛ لأنها تناولت كل ما يتصل بالأخلاق، فالإنسان شهوة عقلية وبدنية وغضبية، هذه الآية عالجت كل أنواع هذه الشهوات – حسبما يرى – فما يتصل منها بموضوع العفة، يقول : يندرج في الأمر بأخذ العُرف من أخلاق الناس، والعرف من أخلاق الناس هو الطهر والعفاف، والابتعاد عن الفواحش، والابتعاد عن ذل المسألة.
سياق آخر وهو سياق الإحصان، والعفة أيضا تتصل بالإحصان كما هو شائع ذائع عند الناس حتى أن من معاني الإحصان أساساً العفة، فالله سبحانه وتعالى يأمر عباده الذين لا يجدون نكاحا يأمرهم بأن يستعففوا، يقول أمرا صريحا { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ … } (النور:33)، فيأمر الذين لا يجدون قدرة على الزواج بالعفة.. والذين تحدثهم أنفسهم بارتكاب الفواحش يأمرهم بأن يستعففوا بالنكاح ويكون ذلك – بمشيئة الله تعالى – سبباً في أن يوفقهم الله عز وجل حتى يغنيهم الله من فضله، وهذا المعنى أيضا ورد في كثير من أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .
مقدم البرنامج: لربما يحتاج المستمع إلى تجلية الموضوع مرة أخرى – موضوع الاستعفاف بالزواج -.
الشيخ كهلان: نعم.. بضدها تتميز الأشياء، فمما يؤثر عن عمر بن الخطاب وهو يقارن بين صفات معينة وأضدادها قوله ( الإسلام خير كله هو عفة وذكر خير وصلة، وأما الجاهلية فزنا وذكر سوء وقطيعة رحم )، هذا المعنى أيضا ذكره أبو سفيان في حديث – سوف نتعرض له – حينما سأله هرقل وكان أبو سفيان يومها لا يزال مشركاً بالله عندما سأله عن دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبين له أن دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تأمر بالعفاف، والعفاف في هذا السياق الذي يتحدث عنه.. هذه الآية الكريمة المقصود منه البعد عن كل ما يؤدي إلى الاقتران بفاحشة الزنا – والعياذ بالله -، فإذاً العفة هنا هي عفة الفَرْج.. بما تحمله من معانٍ تحجزه عما يؤدي إلى الوقوع في مزالق هذه الشهوة.
مقدم البرنامج: وهو أمر مقدور عليه؛ لكن هو يدعي مثلا بأن هذا الأمر لا يستطيع الإنسان كبح جماحه.
الشيخ كهلان: ” ومن يستعفف يعفه الله ” هكذا قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حديث تعرضنا له في حلقات سابقة، وسوف نتعرض له اليوم بمشيئة الله تعالى، وهذا التعبير أو هذه الأحكام نفسها التي وردت بداية لما ذكرنا آيات الزينة والتبرج التي تُخاطَب بها النساء.. الآيات التي وردت في أمر الرجال والنساء بغض البصر وحفظ الفروج.. الآيات التي وردت في آداب الاستئذان.. الآيات الكريمة التي وردت في الأمر بالزواج وفي الحض عليه حتى في هذا السياق { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {32} وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا … } (النور:32-33) إلى آخر الآية، كل هذه التشريعات هي من الأمور التي تجعل من تحقق العفة – عفة الفرج – أمراً سهلا مقدورا عليه؛ لكن التمادي.. والتسور على شيء من هذه الآداب والأخلاق لا ريب سوف يزيد النار اشتعالاً، وسوف يأجج من هذه الشهوة إن لم يسقها.. إن لم يتداركها خوف من الله سبحانه وتعالى.
مقدم البرنامج: هذه الآية – فضيلة الشيخ – التي ذكرتموها في الأخير عن موضوع العفة في أمر الزواج تبين الفَرَج أو تسوق إلى الفَرَج مباشرة وكأن العفة سبب في حصول هذا الفَرَج، الآيات الأخرى التي ذكرتموها لا تذكر هذا وإن كان لا شك أن الجائزة متضمَّنة في النص؛ لكن هذه الجائزة وضحها القرآن الكريم { … حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ … }.
الشيخ كهلان: نعم، وكأن سلوك سبيل العفة، والسعي إلى التمسك بسبل العفاف سبب يؤدي إلى أن يغني الله تعالى العبد من فضله.
مقدم البرنامج: وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى ومن أصدق من الله قيلا.
الشيخ كهلان: نعم.. نعم.
مقدم البرنامج: طيب إذاً نريد من خلال كلامكم هذا في موضوع العفة وتفصيلاتها ومشتقاتها أن تلخصوا لنا الآن معنى العفة.
وما مدى احتياجنا نحن أيضا إليها في واقعنا أفراداً ومجتمعات.
الشيخ كهلان: طيب..
العفة والعفاف وهي بمعنى – بعد أن رأينا كيف وردت في هذه السياقات القرآنية المختلفة – يمكن أن نلخصها بأنها – أي العفة – هي : الكف عن المحارم وعن خوارم المروءة، وهكذا في لغة العرب .. العفة أو العفاف هي الكف عن ما لا يحل وما لا يجمل بالإنسان، ففعلها -من باب الفائدة – عَفَّ.. يَعِفُّ – هي فعل لازم فهي بكسر العين – عَفَّ.. يَعِفُّ.. عِفَّةً.. وعَفَافاً، ويقال : رجلٌ عفيف، وامرأةٌ عفيفة، ويقال في الجمع : أعِفَّة وأعِفَّاء.
فإذاً هذا هو تعريف أو خلاصة تعريف العفة، وبعض أهل العلم يقول : العفة هي : الحفظ عن المناهي، سواءً كانت هذه المناهي تتصل بالأموال أو كانت تتصل بالأبدان كشهوات الفَرْج والبطن وغيرها أو كانت تتصل بالأمانات والأخلاق.
هناك معنى أيضا في العفة يتصل بالعفة الخلقية التي تحرز للمسلم سائر أخلاقه، لنأخذ مثلاً حفظ الأمانة، كثيرٌ مِن مَن تكلم في الأخلاق من المسلمين يعتبر أن إشاعة السر.. وإذاعته يتنافى مع العفة، هو يقول بأن : حفظ السر أكثر صعوبة في العفة من العفة عن الأموال، فإذاً هذا من معاني العفة التي – كما قلنا – أنها ليست في جانب الأموال والأبدان وإنما هي في جانب الأخلاق والأمانات والمعاني المعنوية.
القناعة كذلك.. فالقناعة هي من العفة، حينما نتذكر مسألة الاستعفاف عما في أيدي الناس فإن هذا يعني القناعة بما في يده، والقناعة كنز لا يفنى، ومن قنع بما رزقه الله سبحانه وتعالى سوف يترك السؤال.. سوف يُعِفَّهُ الله سبحانه وتعالى عن مذلة السؤال، وسوف يرزقه الرضا بما قسم الله تعالى له، هذا سوف يؤدي به إلى أن يتجنب الحسد والحقد الذي يمكن أن يحمله من لا يرضى بما قسم الله تعالى له، فإذا بقلبه يشتعل ناراً على من بسط الله تعالى له في الرزق أو الصحة أو الولد أو الجاه أو غير ذلك؛ فلذلك العفة تتصل بالقناعة.. تتصل أيضا بالرضا بما قسم الله عز وجل.
العفة أيضا تتصل – حينما نتحدث عنها في سياق المعنويات – تتصل بالمسامحة.. بالعفو، إذ لا يمكن أن يتأتى للإنسان أن يتملك العفاف إن كان يجد في نفسه حرجا لأدنى سبب.. إن كان ضيق الصدر؛ لأن هذا سوف يدفعه – إن كان ضيق الصدر وإن كان سريع الغضب – سوف يندفع وراء شهوة غضبه هذه إلى أن يأتي ما حرم الله سبحانه وتعالى، ونحن نقول بأن العفة تعني الابتعاد عن ما حرم الله عز وجل، والكف عن مناهيه، والابتعاد عن خوارم المروءة.
لو استحضرنا أيضا فيما يتعلق بالجزء الثاني من السؤال – وهو مدى احتياجنا اليوم لهذه القيمة – لا ريب أننا في أشد الحاجة إلى التحلي بهذه القيمة؛ لأننا نحتاج إليها في أخلاقنا.. في أماناتنا.. في مسؤوليتنا التي نتحملها.. في طلبنا للرزق.. في تعاوننا على البر والتقوى كمجتمع يسعى إلى البناء وإلى التآخي والتلاقي والتآلف فيما بيننا لابد لنا بكل ذلك من العفاف؛ لأن العفاف يكون بمنع اليد من أن تمتد إلى ما حرم الله عز وجل.. منع العين.. النظر والسمع وسائر الجوارح من أن تتسور على حرمات الآخرين.
العفة أيضا تعني الحياء أو من لوازم العفة الحياء، وكم نحتاج اليوم إلى خلق الحياء – كما تحدثنا في حلقة الحياء نفسه – .
لنأخذ ( أهل الصُّفَّة ) ما الذي يمنعهم من السؤال مع شدة احتياجهم؟؟!!
إنما حياؤهم يمنعهم من مذلة السؤال ، هذا الحياء في ذلك الحديث ” الحياء خيرٌ كله، والحياء من الإيمان “.
أيضا في سياق الفواحش والفجور نستذكر قصة أهل الغار الذين أطبقت عليهم الحجارة فسدَّت عليهم الباب فلجأوا.. وتضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى بأن ذكر كل واحد منهم قصة فيها موقف لا يبتغي به إلا وجه الله سبحانه وتعالى، وذكر أحدهم قصة محاولته الفجور بامرأة، ثم ما حصل بعد ذلك من تذكيرها له بالله، فاستحيا.. هذا الرجل استحيا من الله عز وجل، واستحيا من أن تكون هي أشرف منه فإذا به يكف عن ذلك.
نحن اليوم بحاجة إلى هذا الخلق، كثير من الناس يتساهل في أمر ضوابط آداب معاملة الشاب للمرأة.. الرجل للمرأة، وما يدري بأن في هذه الضوابط خيرٌ لكليهما؛ لأن هذه الصلة.. والعلاقة التي يمكن أن تكون بينهما إن لم تربط بضوابط الأخلاق والآداب الحميدة فإن الشيطان سوف يفسدها؛ ولذلك وجدنا حتى عندما يتحدثون عن العشق العذري يتحدثون عن عفتهم، حتى مشاهير هؤلاء العذريين حينما يَذكُر عن أحدهم كيف كانت صلته بعشيقته يتعجبون أن مجلسه بعيد منها.. أي كان يجلس بعيداً حتى أنه يُتعجب منه.
مقدم البرنامج: على الرغم من هذا الولع والشوق.
الشيخ كهلان: نعم، فكيف حينما يهذب ذلك أخلاق الإسلام، وتدعو إليه ما يوافق الفطر السليمة، وما يؤكده آثار ونتائج التساهل في مثل هذه الضوابط.
مداخلة متصل : فقط أحببنا أن نستفسر عن حديث رسول – صلى الله عليه وسلم – الذي كان يأمر فيه الشباب بالزواج ( من لم يستطع الباءة فعليه بالصوم )، في الوقت الحالي الشاب قد تواجهه مشاكل مادية تعيق مسألة زواجه كأن يكون دخله بسيط أو راتبه ضعيف فلا يقدر على الزواج إلا بأن يقترض، فهل الإنسان إذا اقترض لأجل الزواج هل هذا يعتبر حراماً أم ماذا؟
أحببنا من الشيخ أن يوضح لنا هذه النقطة.
كذلك محادثة الولد للبنت في الهاتف وغيره هل هذه الظاهرة حرام؟
مقدم البرنامج: حتى الرجل الثاني – فضيلة الشيخ – في موضوع الثلاثة الذين دخلوا في الغار – استعفف عن مال الأجير أيضا.
الشيخ كهلان: نعم أحسنت، أعطاه ثروة هائلة، فهذا يدل ويؤكد أهمية العفة والمجالات التي تكون فيها.
مداخلة متصل آخر : لدي سؤالان أتصور أنهما متعلقان بالحلقة، السؤال الأول : بعض الناس من منطلق – كما يقولون – العفة هناك أمور يحتاجون فيها إلى مساعدة الآخرين؛ لكن يقول من باب العفة وعزة النفس فأنا لا أطلب مساعدة أحد لي في هذه الأمور، بالرغم من أنهم لو طلبوها لا تعتبر أو لا تعد خارمة لمروءتهم أو تنقص من قدرهم، فيقول من منطلق العفة أنا لا أطلب، مما يؤدي إلى تفويت مصالح عليهم، بينما الطرف الآخر لما يراهم يتعاملون بهذه الطريقة يعاملهم بنفس الطريقة مما يؤدي إلى تفويت الكثير من المصالح، سواء كانت هذه المصالح ترجع في النهاية على الأشخاص بأنفسهم أو على مجتمعاتهم، واضح؟
مقدم البرنامج: نعم واضح.
المتصل : النقطة الأخيرة كيف نستطيع أن نربي أنفسنا ونربي إخواننا والنشء على العفة بمفهومها الواسع في ظل هذه الظروف، مثلا العفة عن شهوة الفرج في ظل وجود هذه المغريات الكثيرة في الحياة، وكذلك العفة عن طلب المال الحرام في ظل هذه الظروف والحياة المادية التي انغمس الناس فيها بشكل كبير جدا، والتي كما يقولون لإنها الآن أصبحت ضرورة من الضرورات أن الإنسان لابد أن يهتم بها وإلى آخره.
مقدم البرنامج: أنتم فضيلة الشيخ ذكرتم في ثنايا حديثكم موضوع هرقل، ولموضوع أبي سفيان ولقائه بهرقل لنستمع نحن إليه الآن في هذا الفاصل.
*******************************
ورد في حديث ابن عباس في صحيح مسلم وغيره أن هرقل عظيم الروم سأل أبا سفيان عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين ورده كتابه صلى الله عليه وسلم يدعوه فيه إلى الإسلام قال : بما يأمركم؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، قال : إن يكن ما تقول فيه حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أَخْلُصُ إليه لأحببت لقائه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قَدَمَيَّ.
مقدم البرنامج: الآن فضيلة الشيخ هذا الحديث الذي استمعنا إليه قبل قليل، والذي دار بين أبي سفيان وبين هرقل وفيه مدح عظيم للنبي – صلى الله عليه وسلم –، أحس قيمته هرقل واستشف من خلال هذه القيم التي عليها النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نبي وستمتد دعوته إلى أن تملك موضع قدمي هرقل وكان في الشام – على ما أظن -، في بيت المقدس، ماذا نفهم نحن من هذا الحديث فيما يتعلق بهذه القيمة في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – من خلال الأمثلة الأخرى التي توردونها لنا أيضا.
الشيخ كهلان: نعم، أولا هذا يؤكد لنا أصالة هذه القيمة في ديننا الإسلامي الحنيف … وقد صرح بذلك أبو سفيان؛ فما قدر ان يخفيها مخافة أن يؤثر عنه كذب، وإلا لو أمكنه لتحدث كذبا؛ فلذلك كان أبو سفيان يقتصر على ما لا يمكن له أن يستره، ونجد أنه مع ذلك ما استطاع أن يكتم أمر العفاف، واستخدم كلمة العفاف لم يستخدم الزواج أو النكاح لا، استخدم كلمة العفاف؛ لأنها كلمة شاملة لكل ما يؤدي إلى تحصين هذا المسلم من الفجور ومن الفواحش؛ فلذلك قال: ( قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف )، وهذا ما جعل هرقل يتأكد لديه أن دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي دعوة نبي صادق – كما صرح هو فيما قال -، فإذاً الحديث نأخذ منه أصالة هذه القيمة في منظومة هذا الدين الحنيف، وأنها تأتي جنباً إلى جنب مع باقي فرائض وواجبات هذا الدين، كذلك تدل على أنها تعبيرٌ تندرج تحته الكثير من المعاني التي تتعلق بالابتعاد عن أسباب الفجور والفواحش، أما ما ورد في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أمر العفاف فهو كثير.
فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي ذكرناه عدة مرات في هذا البرنامج حينما يقول : ” ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى الله أحداً عطاءً خيراً له وأوسع من الصبر “.
فالاستعفاف ” ومن يستعفف يعفه الله “، والاستعفاف أي أن يكون عفيفا..ً أن يطلب الإعفاف، والعفاف- كما قلنا – الحفظ عن المناهي في هذا السياق الذي وردت فيه، كان فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدعو الأنصار أو أناساً من الأنصار إلى أن يكفوا عن مسألته.. عن سؤاله، وأن يقنعوا.. يرضوا بما أعطاهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .. فيدعوهم إلى القناعة.
في سياق آخر نجد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم يقول – يَذكُرُ الصدقة وهو على المنبر – كما في الحديث من طريق عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال وهو على المنبر وهو يَذكُرُ الصدقة والتعفف عن المسألة : ” اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة “، وهذا الحديث يحمل الكثير من المعاني الجليلة فيؤكد على أهمية نبذ المسألة، وأن تختفي مظاهر السؤال والتسول في مجتمعات المسلمين، فيبين أن المعطي المنفق هو خير عند الله تعالى من الآخذ، مع النهي عن المسألة.
فهنا ” اليد العليا خيرٌ من السفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة ” كما يقول أهل التفسير أن النهي عن المسألة ورد من عدة نواحٍ في هذا الحديث أولا : في النهي الصريح أو الأمر بالتعفف عن المسألة.
الثاني : في الحض على الصدقة – هي معادلة ذات اتجاهين -، أيضا ينبغي للغني أن يبادر.. أن لا يجعل للناس فسحة في أن يضطروا إلى السؤال، بل يجب عليه أن يبادر بدفع زكاته وبالتصدق عليهم في صدقات النفل المعروفة والواجبة منها؛ حتى لا يصل بهم الحال إلى الاضطرار إلى السؤال.
ثم كذلك في التعبير بكون يد المعطي هي اليد العليا وأن يد الآخذ هي السفلى، وكلٌّ يريد أن يكون من ذوي الأيادي العليا، ثم في تفضيلها على اليد السفلى ” اليد العليا خير من اليد السفلى “، ثم في التنبيه على أن اليد السفلى هي اليد السائلة.
مقدم البرنامج: أنا أردت أن أسأل عن موضوع في جانب حياة النبي – صلى الله عليه وسلم –، وهو لماذا صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان يرفض أن يتقبل شيئاً من أصحابه الذين يقدمون له هذا الأمر من منطلق حبهم له، ومن منطلق رغبتهم في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، مثلا في الهجرة قدم له أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – جملاً، وقال : ” لا إلا بثمنه “، وجابر بن عبد الله عندما كان يمازحه في غزوة بني المصطلق – على ما أظن – قال له : ” أتبيعني جملك “، قال : هو لك يا رسول الله، قال : ” لا إلا بثمنه “، إلى غير ذلك… علامَ يدلنا هذا؟
الشيخ كهلان: هناك أمران، أولا لا شك أنه واضح للمستمع الكريم أن الصدقة لا تحل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا لآله؛ لكن هناك مواضع يبين فيها أنه يقبل الهدية عليه الصلاة والسلام – لكن فيما يتعلق بمثل هذه المناسبات – وقد ذكرنا هذا – هو يربي أمته.. يعلمهم على أن يبادروا إلى ما يحتاجون بنفقتهم، وأن يكون التعامل فيما بينهم على هذا الأساس، أن تكون هناك القدوة الحسنة، حتى هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعلو منزلته ومكانته في قلوب صحابته – رضوان الله تعالى عليهم – فمن المتوقع أن يبادروا هم إلى ذلك؛ لكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يده هي اليد العليا، وهو دائما المتفضل على أصحابه- رضوان الله تعالى عليهم –، وما كان من أمر قبوله للهدية فإنما هو لبيان الجواز – جواز قبول الهدية -، ولإعطاء القدوة في ذلك لما للهدية من أثر.
إن أذنت نعود إلى بعض السياقات التي وردت، مثلا في سياق ابتعاد الإنسان عن مواطن الريبة وأن ينفي عن نفسه الظن به – ظن الريبة به -، فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حينما نعلم أنه كان معتكفا وكان يحادث بعض أزواجه فمر رجلان من صحابته، فلما رأوه مع زوجه – وما كانوا يعلمون أنها زوجه أسرعوا في المشي – كما هو معروف – فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” على رسلكما إنها صفية “، قالوا : أوفيك نشك يا رسول الله؟!، فقال : ” إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق “، فإذاً هنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعلمنا نوعا مهما من أنواع العفاف وهو أن يبتعد الإنسان عن مواطن الريبة، أو حينما يجد أن هناك مُدخلا يمكن أن يأتي إلى النفوس ويلج منه الشيطان إلى نفوس المؤمنين بنسبة ريبة إليه أو شك فالمسلم مطالب بأن ينفي عن نفسه هذه الريبة؛ لأن المسلم عفيف ينبغي أن يتحلى بالعفاف، وأن يُعلِّم الآخرين أو يُعلِم الآخرين إن رأى بأن هناك سبباً يدعوهم إلى الشك فيه بما عليه حقيقة الحال.
كذلك من مواضع العفة التي علمنا إياها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أشار إليه بعض المتصلين من أمر الحث على الزواج ” يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج “، وقلنا إن من معاني الإحصان هو العفاف.. العفة، فهذه من المعاني التي أكدها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في كثير من المواضع.
مقدم البرنامج: نعم..
في هذا الأمر.. في موضوع الزواج وغيره – أنا سوف أجمع بين بعض الأسئلة الواردة هنا من الأخ المتصل الأول ومن غيرهم – موضوع تعفف الإنسان عن السؤال إذا جئنا إليه في موضوع الزواج أو في موضوع معاش الحياة عموما، هل التعفف هذا يعني الجمود على تلك الحالة من غير السعي إلى أن يكون الإنسان غنيا عن الآخرين؟؛ لأنكم لم تشيروا إلى موضوع أهل الصفة وأنهم كانوا في سعي لشيء آخر ربما سيحقق لهم مجداً ماليا أو مجداً يستغنون به عن الآخرين، الآن الأخ المتصل الثاني مثلا عفته هل يعني أنه يتوقف عن سؤال الآخرين في مسألة زواجه مثلا؟
الشيخ كهلان: موضوع التعاون يختلف عن موضوع المسألة، المسألة التي نتحدث عنها.. التي تتنافى مع العفة هي سؤال ما في أيدي الناس.. سؤالهم عن ما في أيديهم، أما ما كان من باب التعاون على البر والتقوى فهذا لا شك الله سبحانه وتعالى أمر به، وقال : { … وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ … } (المائدة:2)، وأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي جاء فيها ” المسلم أخو المسلم لا يغدره ولا يخذله ولا يحقره “.. مع هذا البيان حضت أحاديث أخرى على الهدية على سبيل المثال، وكذلك حض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لصحابته الكرام – رضوان الله تعالى عليهم – في أمر عون بعضهم لبعض، كل ذلك يكفي في بيان أن ما نتحدث عنه من أمر المسألة المنهي عنها مختلفة عن هذا، فالنهي عنه السؤال عما في أيدي الناس، ومعلوم أن الغالب أن يكون السؤال للمال.. لطلب المال.
وهنا يمكن أن نُدخِل جواب سؤال الأخ المتصل عمن تحل له المسألة، أهل العلم منهم من يقول بأن المسألة لا تحل أبداً.. لا تحل لأحد؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” لا تحل المسألة “، ومنهم من يقول بأنها تحل في ثلاث حالات، وهي حالات ضرورة قصوى، وهذا قول يؤكده حديث قبيصة، فحينما قال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: ” إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمَّل حَمَالة فحلَّت له المسألة فسأل حتى يصيبها ثم يمسك ” أي تحمل حَمَالةً في قومه.. أي غرامة لأجل صلاح.. أمر صلاح فيطلب العون؛ حتى يؤدي الحمالة التي عليه، ثم بعد ذلك يمسك، “ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله ” أي جائحة لأي سبب كان.. تاجر غرقت سفن شحنه دون تسبب منه فخسر كل ماله – على سبيل المثال –، فهذه جائحة كما يقول أهل الفقه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” فحلَّت له المسألة فسأل حتى يصيب قواماً من عيش – أو قال : – ” سداداً من عيش ” أي حتى يصل إلى حد الكفاية.. لا يقصد أن يعود إلى حالته السابقة، ثم الحالة الثالثة ” ورجل أصابته فاقة “- فقر مدقع شديد- ” حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجا ” – يشهد ثلاثة من ذوي الحِجا – ” من قومه : قد أصابت فلاناً فاقة، فحلَّت له المسألة فسأل حتى يصيب قواماً من عيش ” – أو قال : – ” سداداً من عيش ثم يمسك، وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتاً”.
مقدم البرنامج: الله المستعان..
لنستمع الآن إلى فاصلنا الأخير والذي يتضمن كلمات حول موضوع العفة.
*******************************
من أمثال العرب : العفة جيش لا يهزم.
وقال أيوب السختياني : لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان : العفة عن أموال الناس، والتجاوز عنهم.
وقال بعض الحكماء : العفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار.
مقدم البرنامج: بقي معنا سؤال واحد للأخ المتصل الثاني؛ ولكن أظن أنه في دقيقة – الشيخ كهلان –.
الشيخ كهلان: طيب.. إن شاء الله.
مقدم البرنامج: يقول : بعض الناس يرفض مساعدة الآخرين تعففاً على الرغم من أنه في حاجة ماسة.. إذا لم تصل إليه تلك المساعدة سيضر ذلك بمصالحه، هل هذا النوع من العفة؟
الشيخ كهلان: لا.. إذا كان هناك ضرر يترتب لا طبعاً، أما إذا كان هو يريد أن يقوم بشأن نفسه بنفسه وهو قادر على ذلك فنعمَّا يسعى فيه ونعمَّا هذا الخلق.
وقد كان صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما وصف بعضهم بعضا- سوطه يسقط تحت فرس الآخر فما يطلب منه أن يناوله.. تحت قدم الآخر، وإنما يتناوله بنفسه.
أما إذا كان هو قادر ولا يترتب مضرة على ذلك فهذا أكمل وأجمل في حقه، أما إذا كان يترتب عليه أضرار فالناس بعضهم لبعض عون وسند، وهذا من أخلاق المسلمين ولا حرج فيه.
مقدم البرنامج: جزاكم الله خيراً فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي على هذا العطاء في موضوع العفة.. شكرا لكم فضيلة الشيخ..
الشيخ كهلان: وشكراً لكم.
مقدم البرنامج: شكرا لكم أعزائنا الكرام، ولقائنا إذاً في الأسبوع القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
انتهت الحلقة