العفة ج2

العفة ج2

بثت في:

6 / شوال / 1429هـ

6 / أكتوبر / 2008 م

مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم، أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، وعدنا أن نتحدث في هذا اليوم عن العفة والنزاهة.

العفة والنزاهة أيها الإخوة الكرام قيمة من قيم العدل الذي جاء الإسلام بالدعوة إليه، وترسيخ مفهومه في حياة الناس، وتعميمه في كل أشكال التعاون والتفاهم فيما بينهم، وحرم كذلك الظلم، واعتبر عدم النزاهة والعفة لوناً من ألوانها، وكثيراً ما يتحدث الناس عن النزاهة عندما يتناولون موضوع الفساد.

فما علاقة النزاهة بالفساد؟

وكيف نفهم هذه القيمة – قيمة العفة والنزاهة – ونجعلها واقعا في حياتنا، ونفتش في جوانب حياتنا كلها لننظر كيف هي كبيرة وعالية في جانب العفة، – هذا عندما يكون الرجل يتحدث من منطلق أنه مسلم يؤمن بهذه الأشياء ويعتبرها جزءاً من عقيدته ودينه -؟

موضوع العفة والنزاهة سنناقش فيه فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي في إطار برنامجنا دين الرحمة، ونرغب منكم مشاركة فاعلة في الموضوع.

*******************************

أهلا ومرحبا بكم فضيلة الشيخ..

الشيخ كهلان: أهلا وسهلا بكم، وحيَّا الله أيضا الإخوة والأخوات الذين يتابعون والذين يشاركون في هذا البرنامج، ونسأل الله سبحانه وتعالى في مستهله أن يوفقنا إلى ما فيه الخير، وأن يبلغنا مرضاته، وأن يعلمنا ما ينفعنا إنه تعالى سميع مجيب.

مقدم البرنامج: آمين..

فضيلة الشيخ موضوع العفة نحن الآن نتحدث عنه في جزئه الثاني، الآن هل هناك شيء جديد نريد أن نتحدث عنه في موضوع العفة؟

وكذلك أريدكم أن تأكدوا على المستمع الكريم في موضوع نوعية المشاركة التي ترغبون أن تكون هنا في هذا البرنامج.

الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :

فإن حديثنا اليوم في هذا الموضوع هو امتداد لحديث سابق في بعض معاني ومضامين هذا العنوان الذي نطرق بابه اليوم مرة أخرى؛ ذلك أن هذا الموضوع يتصل بجملة من القيم والمبادئ.. العفة.. العفاف.. الحشمة.. الوقار.. الستر.. الحياء.. كل هذه وغيرها من المبادئ والقيم متصلة اتصالا وثيقا بهذه القيمة التي نتحدث عنها، والتي كما تفضلت في المقدمة ذكرتَ بعض مرادفاتها : العفة والعفاف والنزاهة.

وتناولنا لهذا الموضوع مرة أخرى إنما نريد به أن نطرق عناصر تعرض لها بعض الإخوة المشاركين في الحلقة الماضية التي خصصناها لهذا الموضوع، فقد ذكروا جملة من النقاط الهامة التي ينبغي فعلا أن نقف معها وقفات ولم يسعفنا الوقت يومها أن نتعرض لها؛ لكننا هناك كنا قد ركزنا الحديث على العفة باعتبارها قيمة من القيم التي تغطي كامل أخلاق المسلم بمعنى أنها تتعلق بعفة الجوارح بأسرها، حتى أن الفواصل التي أنصتنا إليها – آية الاستئذان التي صدَّرنا بها الحديث في الحلقة الماضية من هذا الموضوع – كنا نريد أن نؤكد بها أن معنى العفة لا يقتصر على ما يظنه كثير من الناس أنه متصل بعفة الفرج فقط، وإنما هي خصلة – أي العفة والعفاف – هي خصلة تتناول كل أخلاق المسلم في كل ما يأتيه وما يذره.. في كل معاملاته مع الآخرين سواءً كانت تتعلق بجارحة اليد أو بجارحة اللسان أو العين أو الأذن أو بالمعنويات التي يتعامل بها مع غيره من الناس، فلما قررنا هذا المعنى ذكرنا أدلته، وذكرنا المستندات الشرعية، ثم بعض التطبيقات، اليوم نريد أن نتناول جانباً هاماً من الجوانب التي يكون العفاف فيها ركناً أساسياً وهو جانب المال أي سنركز عليه مع تعرضنا أيضا للمعاني الأخرى للعفاف؛ لكن كثير من الناس لا يعير أهمية المال في نظر الشرع الحنيف لا يوليه أهمية لائقة فإذا به يفقد منه مبادئ العفة التي نتحدث عنها.. النزاهة التي يدعو إليها الشرع، والتي طبقها المسلمون طيلة قرونهم المتوالية، والتي نحن اليوم في أمس الحاجة إليها.

النزاهة.. الشفافية.. العفة.. البعد عن الشبهات كل هذه فيما يتعلق بالمعاملات المالية سوف نقف معها اليوم- بمشيئة الله تعالى -، مع تأكيدنا على أن معنى العفة والعفاف لا ينحصر في هذا الجانب فقط، وإنما يتناول عفة سائر الجوارح.. البعد عن الحرام واجتناب مواضع الريبة – كما عرَّفنا العفة أيضا يومها -.

مقدم البرنامج: وماذا عن نوعية المشاركة؟

الشيخ كهلان: نوعية المشاركات- كما تفضلتم -، منهج وطريقة هذا البرنامج كانت أننا نرحب بالآراء المختلفة المتعلقة بالموضوع الذي نطرقه.

لاحظنا في الفترة الأخيرة أن بعض المشاركين توهم أننا لا نقبل إلا أسئلة تتعلق بالموضوع، وليس الأمر كذلك، الأسئلة هي محل ترحاب لا شك حينما تكون متصلة بالموضوع، ولها التقدمة أيضا؛ لكننا نريد من الإخوة والأخوات أن يضيفوا شيئا أيضا إلى البرنامج لعلنا لم نتعرض لشيء ما، أيضا قد تكون لهم وجهة نظر مختلفة عن ما نطرحه هنا فلا مانع أيضا من تذاكرها،- وكما تفضلت أنت أيضا- قد تكون لهم تجارب معينة وهذه التجارب عملية نافعة جداً في تأصيل وتأكيد المعاني التي يدور حولها الحديث، كل هذا مما نرحب به في هذا البرنامج، وله الأولوية في سير الحلقة بمشيئة الله تعالى.

مقدم البرنامج: جميل..، لننصت الآن إلى هذه الآية القرآنية الكريمة، ثم ننطلق من خلالها في هذا الحوار إن شاء الله تعالى.

*******************************

{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا } (النساء:6).

مقدم البرنامج: صدق الله العظيم، مرحبا بكم أعزاءنا الكرام مرة أخرى في برنامج دين الرحمة، وموضوعنا اليوم عن العفة، وقد استمعتم إلى هذه الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن هذا الموضوع بطريقة سيتولى فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي شرحها بإذن الله.

وقبل أن تشرحها فضيلة الشيخ نستمع إلى هذه المكالمة..

مداخلة متصل : نريد شرح تفصيلي للعفة.

مقدم البرنامج: إذاً- فضيلة الشيخ- الآن من خلال هذه الآية التي استمعنا إليها وردت سياقات العفة في القرآن الكريم بعدة معانٍ، فهي جاءت في سياق عفة الفرج، وعفة المال، وهناك العفة خلقاً يتورع به المسلم عن الدنايا، هذه الآية التي أنصتنا إليها قبل قليل تتحدث عن موضوع العفة في المال، ما الذي نستفيده منها خاصة وأنكم بشرتم بالحديث عن هذا الموضوع بكثافة؟

الشيخ كهلان: نعم..، أولا لأُعَرِّف أو لأُذَكِّر بتعريف العفة؛ حتى نجيب أيضا على سؤال الأخ المتصل- بارك الله فيه- العفة والعفاف في أحسن تعاريفها تعني : الكف عن المحارم، والبعد عن خوارم المروءة، فكل ما كان فيه الكفاف والابتعاد والامتناع عن ما حرم الله عز وجل، وعن ما يضر بمروءة المسلم فهو من العفة، وبالتالي فالعفة وإن غلب عليها أنها تُستخدم في جانب كف شهوة الفرج عما حرم الله عز وجل إلا أنها تشمل كل أخلاق المسلم، فهي امتناع وإمساك عن كل ما لا يحل ولا يجمل بالمسلم التقي فعله.

وهي من حيث وضعها اللغوي هي فعل لازم يقال : عَفَّ يَعِفُّ عِفَّةً وعَفَافاً وعُفَافَة، ويقال أيضا : تعفف واستعف أي طلب العفة، وفي الصفة يقال : رجلٌ عَفُّ، ويقال : رجلٌ عفيفٌ، ويقال : امرأةٌ عفيفةٌ أيضا، هذا هو معنى العفة في اللغة وفي الشرع كقيمة من قيم ومبادئ هذا الدين الحنيف.

وقد وردت- كما قُلت- في سياقات مختلفة- كما تفضلتَ- ببيان أنها وردت في سياق ما يتعلق بالمال.. وردت في سياق أيضا النكاح والزواج أو شهوة الفرج، ونجدها أيضا في سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمثل هذه المعاني، ووردت أيضا في جانب التحلي بأخلاق هي من التهذيب الإسلامي الراقي بهذا الإنسان مما يؤدي إلى أن يوصف المرء بالعفة.. أن يكون عفيفاٌ.

 كذلك من نوع ما يتعلق بجانب النكاح والزواج أو عفة الفرج قول الله تعالى في سورة النور: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ … } (النور:33)، ومن باب التذكير فإن هذه الآية وردت بعد سلسلة أيضا من الإجراءات الخُلقية التي هي من باب العفاف، فأَمْرُ الرجال بغض الأبصار في سورة النور- قبل هذه الآية بآيتين أو ثلاث-، فأَمْرُ النساء أيضا بغض الأبصار، وحفظ الفروج، والستر في اللباس، وبيان من يحل لهن أن يبدين زينتهن له، ثم يأتي بعد ذلك قوله تعالى: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (النور:32) وبعدها { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ … }، أي ولسيتعفف الذين لا يجدون النكاح سواء كانوا لا يستطيعون الزواج لأسباب مالية أو لا يقدرون على مهر الزواج- كما يقول بعض المفسرين- أن عليهم طلب العفة.. عليهم أن يتحلوا بالعفاف سواء كان ذلك بالصبر أو بالصيام أو بمعالجة ما يؤدي بهم إلى العفاف عن الوقوع فيما حرم الله عز وجل بكثرة الذكر.. ذكر الله عز وجل.. اللجوء إليه بالدعاء.. التضرع إليه.. التماس الرزق، إلى أن يغنيهم الله من فضله فيتمكنوا من الزواج.

مقدم البرنامج: إذاً الأمر هذا ليس موجهاً للفرد وحده.. موجه قبله إلى المجتمع.. حتى يوفروا جو العفة لهذا الرجل.

الشيخ كهلان: تماما، وهذا أيضا حينما نتحدث عن قيمٍ أخرى لما قلنا بأنه متصل بالستر والحياء والحشمة والوقار كل هذه من القيم والمبادئ التي خوطب بها أفراد المسلمين كما خوطب بها جماعة المسلمين في مجتمعاتهم.

مقدم البرنامج: الحقيقة تعاليم الإسلام كلها تدور في هذا الفلك.

الشيخ كهلان: أحسنتم.

مقدم البرنامج: أي تمهيد كامل جدا لمسألة الالتزام.

الشيخ كهلان: ونفس هذه الميزة في تعاليم هذا الدين نجدها أيضا حينما نتحدث عن العفة في جانب الأموال وبتنميتها.. الآية التي أنصتنا إليها- إن أردنا الانتقال الآن إلى موضوع المال – قول الله عز وجل : { وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ … } فإذاً الخطاب للأغنياء في المجتمع.. الأوصياء على أموال اليتامى { … فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ … }، ويأتي بعد ذلك التوجيه الرباني لهؤلاء الأوصياء وللمجتمع بأسره، { … وَلاَ تَأْكُلُوهَا … } أي أموال اليتامى {… إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ … }.

مقدم البرنامج: العفة الأولى إذاً في مسألة اختبار هؤلاء الأشخاص؛ لأن البعض ربما يريد أن يتخلص فيدفع إليهم الأموال كيفما اتفق سواءً كانوا بلغوا الرشد أم لم يبلغوا.

الشيخ كهلان: وليس بلوغ الرشد أي بلوغ سن الرشد هو الشرط الوحيد، الآية ذكرت شرطين : بلوغ النكاح، ثم بعد ذلك { … فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا … } فإذاً دفع الأموال إلى الأيتام من قبل الأوصياء.. أداء هذه الأمانة إنما يكون بتحقق الشرطين وهما : بلوغهم سن النكاح، ثم بعد ذلك إيناس-أي مخايل الرشد وحسن التصرف والعقل تبدو عليهم.

لكن موضوعنا هنا { … وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ … } الآن خاصة على رأي جمهور المفسرين من أن الوصي القائم على أحوال الأيتام، وعلى أموالهم، وعلى شؤونهم أنه يباح له إن كان محتاجا أن يأخذ من مال اليتامى الذين تحت كفالته أجرة المثل أو مقدار العناء فإن هذا الأمر لا يشمل الأغنياء منهم؛ لأن الله عز وجل خاطب الأغنياء بقوله : { … وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ … }، – وسوف نقف معها وقفة أخرى -.

مداخلة متصل آخر: صحيح أن الله سبحانه وتعالى في الآية قد خاطب الإنسان نفسه { … فَلْيَسْتَعْفِفْ … }، كذلك غيرها من الآيات التي تحث على عفة الفرج؛ لكن قبل هذه الأشياء المجتمع هو الذي يخاطب، وعندما يخاطب الفرد فإن المجتمع يخاطب بذلك، فمثلا عندما يخاطب الله سبحانه وتعالى ويطلب من الإنسان أن يكون عفيفا في فرجه كذلك على المجتمع أن يهيئ للإنسان هذا الأمر.. أولياء الأمور يهيئوا بناتهم أو يسهلوا من أمور الزواج بحيث أنهم لا يرفعون من كلفة الزواج فيثقل كاهل الشاب؛ وبذلك يمتنع عن الزواج أو لا يستطيع الزواج، كذلك بالنسبة { … وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ … } خاطب الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الأغنياء بأن يستعفوا عن أموال اليتامى، أما بالنسبة للفقراء فإنهم لا يأكلونها إلا بالتي هي أحسن، وذلك بحيث انه ينمي هذا المال، فلا تأكله الصدقة، ولا يأكله كذلك هو عندما يقوم عليه، فالمجتمع مخاطب- من وجهة نظري-، حتى وإن كان سياق الكلام موجها للفرد؛ لكن المجتمع يشمله بحيث إنه يكون هو القاعدة التي يتهيأ لها هذا الفرد من أجل العفة في المال أو العفة في الفرج أو حتى العفة من حيث انه لا يسقط في متاهات الدنيا أو في حضيض الشهوات أو في غيرها من الأمور.

مقدم البرنامج: الحقيقة كما قيل بأن آيات القرآن الكريم جاءت تحمل معاني سورة الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (الفاتحة:5) خطاب جماعي.. الجميع يعبد الله ويستعين به.

الشيخ كهلان: كذلك في سورة الفاتحة { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } (الفاتحة:6).

ما الذي دعانا إلى أن نطرح هذا الموضوع أو نركز على موضوع المال؟

لأن بعض الناس في جانب العفة في الأموال يتصورنها محصورة فيما يتعلق بالسؤال.. مد اليد بسؤال الناس وطلب الفتات منهم، في حين أن موضوع العفة في الأموال هو أوسع من ذلك وأشمل، أي يتناول ما يأخذه كل ما يتعامل به الفرد مع غيره في جانب الأموال.. لا يقف فقط عند حد السؤال، أي لا يُظن أن العفة التي تتعلق بالأموال هي تلك التي يُخاطَب بها الفقراء حتى لا يسألوا الأغنياء.. هذا المعنى صحيح وموجود؛ لكن العفة لا تنحصر فيه، فالله عز وجل قد أثنى على أهل ( الصفَّة ) – كما ذكرنا في الحلقة الماضية – { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } وفي قوله – صلى الله عليه وسلم – : ” اليد العليا خير من اليد السفلى “، ثم قال : ” ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغنِ يغنه الله “.

 فإذاً العفة التي نتحدث عنها لا تقف عند هذا الحد بدليل هذه الآية الكريمة التي أنصتنا إليها؛ ولذلك كانت قصدا هي الفاصل الذي أنصتنا إليه؛ لأنها لا تتعلق بهذا النوع من العفة في الأموال، وإنما هي نوع آخر من العفة في الأموال حيث تجتمع كل الأسباب التي تمكِّن الوصي من أن يمد يده على أملاك اليتيم- الذي هو تحت وصايته- وقد لا يلاحظ المجتمع ذلك.. وقد لا يلاحظ اليتيم نفسه ذلك، وهنا يأتي هذا الأمر الرباني، حتى أن بعض أهل العلم وصل به الحال إلى أن قال: بأن { … وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ … } المقصود بذلك القرض الحسن فقط، فإذا وجد يسارا بعد ذلك رد، وهذا المعنى موجود حتى أنه ينسب إلى عمر بن الخطاب-رضي الله تعالى عنه- وإلى جملة من صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؛ لكن موضع الشاهد الآن في العفة التي هي بغير معنى النهي عن سؤال الناس وإراقة ماء الوجه في التسول.. لا، مع كون هذا المعنى صحيحا إلا أننا نتحدث عن العفة عن سائر حقوق الناس المالية-وسوف نتعرض أيضا حتى للحقوق المعنوية-.

مقدم البرنامج: جميل.. إذاً نعود مرة أخرى – فضيلة الشيخ – إلى تأكيدكم على موضوع العفة في المال، وجاءت العفة عن مال اليتيم كلون أو كصورة من صور العفاف عن المال، هذا يقودنا الآن إلى سؤال كبير نوعا ما، إلى أي مدى تمثل هذه العفة أهمية للمسلم في معاملاته المالية؟ ونريد منكم مجموعة من الصور حول هذا الموضوع، كما نريدكم أن تتحدثوا عن آثار تخلي المسلم عن هذه القيمة النبيلة.

الشيخ كهلان: نعم.. أولا دعنا نذكِّر حينما نستصحب معنى تعريف العفة الذي ذكرناه والذي يفهمه الناس، ثم نستذكر أو نحاول قدر المستطاع أن نستذكر بعض الأدلة الشرعية الواردة فيما يتعلق بالمال كقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” القليل من أموال الناس يورث النار “، قالوا : ولو كان شيئا يسيراً يا رسول الله؟ قال : ” ولو كان قضيبا من أراك “.

فإذاً المسألة ليست بالأمر اليسير الذي يمكن أن يتساهل فيه المرء ويتهاون أو لا يلقي له بالاً.. لا، المسألة هذا الوعيد الشديد المرتب على أخذ أموال الناس بالظلم، فقد يظن ظان بأن هذا في تعامل الناس بعضهم مع بعض غير مستساغ لتحريم الشرع له؛ لكنه فيما يتعلق بالمال العام يكونون أكثر تساهلاً فلا يراعون هذه الحدود، ولا يتقيدون بهذه الضوابط الشرعية، ويتأولون في ذلك ويتوسعون، وأنا هنا أذكرهم بجملة من النصوص الشرعية أيضا قول الله تعالى: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } (المطففين:1-3)، الآن هذه السورة الكريمة وهذه الآيات وما بعدها يظن بعض الناس أن هؤلاء القوم الذين نعى عليهم القرآن الكريم فعلهم هذا بالتطفيف في الكيل أنهم إنما كانوا يطففون بالصورة التقليدية، وأن هناك ميزاناً معينا للذي يكيلون به لأنفسهم، وميزاناً آخر يكيلون به للناس، هذا الميزان الآخر هو راجح لصالح البائع، وراجح عن صالح المشتري، وأن هذه هي الصورة المنهي عنها فقط، وليس الأمر كذلك.

التطفيف في المكيال : هو تعبير عن سائر أنواع الظلم المالي الذي يبدو في المعاملات المالية بين الناس في بيعهم وشرائهم، ولهذا جاءت الشريعة بقواعد جليلة فيما يتعلق بمعاملات الناس بحيث تُبنى معاملاتهم على الوضوح والصدق والأمانة وعدم الغش ” من غش فليس منا “.. نجد وعيداً شديداً، هناك ” القليل من أموال الناس يورث النار ” وهنا ” من غش فليس منا ” أو ” من غشنا فليس منا “.. الأمانة في تبيين العيوب.. النهي عن التدليس.. النهي عن الغرر الذي يكون منشؤه ولو عادات الناس.. فالنهي عن أن يبيع الحاضر للبادي أو البادي للحاضر، لماذا؟

لأنه لا يعرف أعرافهم وتقاليدهم في البيع والشراء، فقد يُغَرر به؛ ولذلك نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من هذا النوع من التغرير، فضلا عن ما يتصل بالاحتكار – كما قلنا النهي عن الغش بكل صوره -.

هذه الضوابط الشرعية التي أتت فيما يتعلق بالمعاملات المالية بين الناس خاصة إذا أضيف إليها ما يتعلق بالنهي عن الظلم الذي ينتج عن الربا الصريح المحرم في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما فيه من عواقب دينية ودنيوية وخيمة، كل هذه تؤكد على أن معاملات الناس المالية فيما بينهم في المجتمع المسلم يجب أن تقوم على العفة التي تعني الصدق.. الشفافية.. تبيين العيوب.. البعد عن التدليس.. البعد عن الغش.. البعد عن كل صور الظلم.. وتعني أيضا الأمانة في البيع والشراء.. وتعني أيضا الحرص على الأموال الخاصة كالحرص على الأموال العامة.

 كثير من الفقهاء يصنف أموال اليتامى على أنها من الأموال العامة؛ لأن الله سبحانه وتعالى خاطب المسلمين بهذا الخطاب – حينما خاطبهم قال : { … أَمْوَالِكُمْ … }، { … وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ … } (النساء:2)..

 لنأخذ كيف فهم صحابة رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – هذه المعاني السامية، حتى حذا حذوهم من جاء بعدهم من السلف الصالح، عمر بن عبد العزيز-رضي الله تعالى عنه– حينما كان خليفة للمسلمين، وكان معه وزيرٌ أو خازن دولته في ذلك الوقت، فكانوا يقومون بالحسابات حتى فرغوا منها، وكانوا على ضوء قنديل سراج، فلما فرغوا من عملهم ذلك، أخذ هذا الخازن أو هذا الوزير يسأل الخليفة عن أموره الاجتماعية عن أهله.. عن حاله.. عن صحته، فنهض عمر بن عبد العزيز – كما هو مشهور في القصة – وأطفئ ذلك القنديل، لماذا؟

لأن ذلك-في نظره– مال عام لا ينبغي إلا أن يكون في المصلحة العامة، أما وقد تحول الحديث لحديث خاص، أطفأه وأشعل سراجاً خاصاً به، فإضاءة المصباح من زيت أخذ من مال المسلمين قد يستمر طيلة الليل لأمر خاص بالخليفة رآه عمر مما لا ينبغي، حتى أن ذلك الخازن استغرب، فلما سأله بيَّن له عمر بن عبد العزيز؛ فلذلك حينما يكون الناس حريصين على المال العام الذي تعود منفعته للمجتمع بأسره فإن هذا دليل على وعي هذا المجتمع، وهذا يعكس أيضا حرصهم بعد ذلك على أموالهم الخاصة.

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ هناك أكل للمال العام؛ ولكن من طريق آخر، ربما تعرضتم إليه إجمالا، نريد الآن التفصيل.

قد يجني هذا الشخص على القوانين العامة.. القوانين التي تنظم الناس.. تنظم حياتهم.. تجعل كل واحد من الناس يحصل على قدره ونصيبه سواسية بإخوانه.

ولكن وربما هناك قوانين من مصلحتها أن تنفذ لأن فيها حماية لهذا الإنسان، فيأتي البعض مثلا إلى شخصية معينة، ومن أجل أن يساعده على تخطي تلك القوانين وهو مستشار في أمر معين ويطلب منه أن يساعده أو أن يمضي له على تعدي ذلك القانون من أجل أن يكسب الرهان ويحصل على أمره من غير أن يمر على رقابة، هل هذا نوع من أكل أموال الناس بالباطل مثلا، والجناية أيضا على الأمن العام والمصلحة العامة؟

الشيخ كهلان: هذا الذي ينبغي أن يتنبه الناس له، الآن حينما نتحدث عن هذه القيم متى يظهر التزام الناس بهذه القيم؟ إنما يظهر في مثل هذه المواقف، أما في حالة السعة التي لا يتعرضون فيها لمثل هذه الامتحانات فهم أساسا لم يدخلوا فيما تمتحن به أخلاقهم فيُظهرون خلق الإسلام وقيمه ومبادئه، وبذلك يتميزون عن غيرهم؛ لذلك نحن في سائر هذه القيم التي تناولناها والمبادئ التي نركز عليها في هذا البرنامج في الحقيقة هي ليست من فواضل هذا الدين.. ليست مما يمكن أن يُستغنى عنه وأن يتحلى بها فقط صفوة الناس، وإنما نتحدث عن قيم أصيلة هي من ذات هذا الدين.. نُعرِّف في الحقيقة بها الدين، لو لم تكن من الأهمية بحيث إنها ترقى لكي تكون مُعرِّفة لهذا الدين خير تعريف لما تناولناها واخترنا مواضيع فقهية مما يتعلق بمعاملات الناس.

 لكن نريد أن نبين للناس أن هناك مداخل في معاملاتهم.. في أحكامهم.. في تعاليم هذا الدين مبعثها هذه القيم والمبادئ، وأن ما بعدها من تعاليم الأحكام الفقهية إنما هي ضوابط تُرسِّخ هذه القيم والمبادئ؛ فلذلك يتصل بهذا الموضوع – موضوع العفة، ومثل الحالة التي ذكرتَها – ما يتعلق بالنهي عن الرشوة، الآن النهي عن الرشوة ليس كما يظن الناس لأن لو كان الأمر – أمر الرُّشا – متعلقاً وزره على الراشي لقلنا بأن ذلك يتحمل وزره هذا الذي يرتضي لنفسه هذا الخلق؛ لكن الأدلة الشرعية في هذا المقام جاءت لكي تخاطب كل شرائح المجتمع، فإذاً الراشي والمرتشي والرائش بينهما – ونحن نتحدث عن ماذا؟ عن حكمٍ واحدٍ من أحكام المعاملات المالية الذي يتعلق بالرُّشا ومع ذلك نجد أن الحرمة لا تقف عند حدود من يدفع الرشوة فقط، وإنما هي – كما قلنا – الراشي : الذي يدفع، والمرتشي : الذي يأخذ الرشوة، والرائش بينهما الرسول بينهما، ولماذا كل ذلك؟

لأن المجتمع بأسره مسؤول عن المحافظة على هذه القيم، والمجتمع بأسره- مرة أخرى نكرر- مخاطبٌ هذا الخطاب الذي يُدعى فيه إلى المحافظة وإلى تهيئة الأسباب التي تدعو الناس إلى الالتزام بهذه القيم والمبادئ.

مقدم البرنامج: النتائج إذاً والآثار التي تترتب على ترك هذه القيمة..

الشيخ كهلان: وخيمة بدون أدنى شك.. هي نتائج وعواقب وخيمة على الأفراد وعلى المجتمعات؛ لأن ذلك يعني انتشار الفساد، وتفشي الفساد المالي والإداري.. تغير مهن الناس.. يصبح الحق باطلا، ويصبح الباطل حقاً، ويصبح الغاية تبرر الوسيلة، وتصبح الحياة حياة منافع ومصالح، وتختفي القيم النبيلة التي على أساسها يتعامل الناس.

مقدم البرنامج: هل هو هذا الظلم الذي يعتبر ظلمات؟

الشيخ كهلان: أكيد، والظلم يؤدي إلى ظلمات، وهو أكل لأموال الناس بالباطل، وهو تنكب عن حدود الشرع التي جاء بها فيما يتعلق بالأموال، والوعيد فيها شديد، رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حينما يقول : ” ولو كان قضيباً من أراك “، وحينما يقول : ” من غش فليس منا ” – الغش مطلقا – ” فليس منا ” أي ليس من جماعة المسلمين، والصورة التي ذَكرَ فيها – كما هو مشهور – التي ذكر فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا الحديث أنه حينما أدخل يده في الطعام فوجد بللاً في الطعام؛ ولذلك اشتد نكيره وقال : ” من غش فليس منا “، ونجد معنى ذلك كيف انعكس على فهم المسلمين، فكان الواحد منهم إذا باع واشترى بيَّن كل العيوب.. كان هو الذي يبادر إلى أن يبين العيوب، الآن من الذي يبين العيوب؟؟!!

الآية التي ذكرناها { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } أن الناس لا ترضى أن تُعَامل هي بذلك، والمشكلة أنهم يقبلون لأنفسهم أن يَخدعوا الآخرين، وأن يدلسوا عليهم هذا إن لم يأكلوا أموالهم هكذا عياناً؛ لكنهم لا يقبلون وينتقدون ويُذكِّرون بالله عز وجل وباليوم الآخر وبالحقوق والقانون والعدالة إن مورس عليهم ذلك الشيء.. ما الذي تتوقعه؟!

مقدم البرنامج: هي انتكاسة في التفكير..، وأظن أن هذا الموضوع نحتاج فيه إلى مشاركة على الأقل نتعرف على الكثير من المواقف التي رأى الإنسان أنه يحتاج معها إلى تذكير.. تذكير المجتمع، نستمع الآن إلى هذا الفاصل.. إلى هذا الحديث النبوي الشريف، ثم نعود بإذن الله.

*******************************

عن عبد الله بن عمرو عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه “.

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ قبل أن نأتي إلى اتصالات الإخوة نريد تعليقاً أيضا على هذا الحديث، هذا الحديث يبين أو يُعرِّف المسلم بأنه ذلك الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، ما علاقة هذا الذي سمعناه الآن قبل قليل بموضوع العفة؟

مداخلة متصل ثالث: سؤالي حول العفة، كيف نربي مجتمعنا وأولادنا على سلوك العفة؟ هذه النقطة الأولى.

النقطة الثانية فيما يتعلق بالمحافظة على الأموال (الأمانة العامة) فنحن نرى مثلاً – مجرد مثل – الموظف الذي يُعطَى بدلا من النقل وفي نفس الوقت هنالك فرصة في أن يستخدمه في أغراضه الشخصية، كيف نربي هذا المجتمع؟ كيف نربي هذا الموظف سواء كان يعمل في وظيفة أو في أي مجال يستطيع من خلال ذلك المجال أن يستهلك الأموال العامة بأي ظرف كان؟

شاكراً لكم مسبقاً.

مقدم البرنامج: الآن نعلق قليلا على الحديث ثم نعود إلى طرح صورتين طرحهما الآن الأخ المتصل .

الشيخ كهلان: نعم، هذا الحديث ورد في عدة مصادر وأيضا بألفاظ قليلة وفي بعضها زيادات، فهذا الحديث الذي استمعنا إليه الآن ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ” وهناك رواية ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم “، هذا الحديث عند الترميذي بهذا اللفظ، فصلة هذا الحديث بموضوع العفة واضحة فيما أرى؛ ذلك أن العفيف هو الذي يتصف بالعفاف في كل شيء، فهو بعيد عن إيذاء الآخرين.. بعيد عن ظلم الناس.. بعيد عن إيقاع شيءٍ من الضرر للناس، حتى بأدنى أنواع الضرر وهو الإيذاء بالكلمة التي عبر عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بلسانه ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه “، فإذاً أقل أنواع الأذى هو ما يمكن أن يكون بكلمةٍ نابيةٍ فيها تحقير.. فيها ظلم.. فيها إعانة على ظلم الآخرين أو أن يكون ظلماً باليد، فالذي يبين أو يميز المسلم عن غيره هو أنه عفيف اليد.. عفيف اللسان، عفيف اليد عن ما في أيدي الآخرين.. عن أكل أموال الآخرين.. عن ظلم الآخرين، عفيف اللسان أيضا عن الخوض في أعراضهم.. الخوض في التنقيص من حقوقهم.. الخوض في الإعانة على وقوعهم في الإثم.

وكذلك” والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ” أو في الروايات الأخرى ” والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ” فهم يأمنونه على دمائهم وأموالهم، ونحن نذكر حتى في مجتمعاتنا العمانية حينما كان التاجر يخرج من دكانه للصلاة ويترك دكانه مفتوحاً فيأتي المشتري، فإما أن يشتري السلعة ويعلم سعرها ويترك القيمة حتى يأتي البائع ويأخذ قيمته وقد خرج المشتري، أو أن ينتظره حتى يعود ولا يمس شيئاً منه، من الذي يستطيع أن يقوم بذلك اليوم؟!

مقدم البرنامج: عندما يتربى الناس على العفة.

الشيخ كهلان: نعم؛ ولذلك نحن محتاجون فعلا إلى أن نعيد هذه القيم إلى المجتمعات بغرسها في النفوس، سوف نأتي إلى بعض المسائل العملية التي تتعلق بغرس هذه القيمة؛ لكن لابد أن نعيى أولاً أهميتها وندرك أيضا الآثار السلبية الناتجة عن التخلي عن هذه القيمة.

مداخلة متصل رابع : لدي استفسار لو سمحت، الشيخ : بخصوص العفاف موضوع ما شاء الله  ذو شجون، وصعب أن نغطيه في هذه السويعات القليلة؛ ولكن مشاركة بسيطة عن العفاف: الموضوع عن البائع في المحلات وأمانته هل أمانة البائع يدخل في العفاف؟ في بعض الحالات قد تريد أن تشتري حاجة ولكن البائع في نفس الوقت لا يحاول أن يوضحها للمشتري، هل هذا يدخل من ضمن العفاف في المال؟

مقدم البرنامج: بالنسبة لسؤال الأخ المتصل عن حركة النزاهة في التفكير أو النزاهة الفكرية هذا شيءٌ نتحدث عنه لاحقاً ..

الشيخ كهلان: يمكن باختصار لأنها نقطة مهمة جداً قضية العفة في المعنويات، فهي تتصل مرة أخرى بالنهي عن التطفيف في الكيل، هذا ما يعرف اليوم حتى في عالم السياسة بالكيل بمكيالين، وفي الحقوق المعنوية ليس فقط في الماديات التي يتعامل بها الناس سلعة مقابل مال أو سلعة مقابل سلعة، نحن نتحدث عن قيم يتعامل على أساسها الناس فمثلا العدالة.. العدالة هي حق لكل الناس.. لكل الشعوب، وهكذا جعل الله سبحانه وتعالى قوام السموات والأرض الميزان، ميزان القسطاس.. العدالة التي تكون بين الناس، وبها جاء الرسل، وهكذا أنزلت الكتب، وبالتالي فالوصول إلى الصواب وإلى الحقيقة لابد فيه من البعد عن الهوى والعصبيات، ومن البعد عن كل المؤثرات الخارجية التي قد تجنح بهذا الإنسان عن تحري الصواب، وعن السعي إلى نشدان الحقيقة؛ ولذلك كانت العفة حتى في التفكير.. كانت العفة في المعنويات التي يتعامل بها الناس فيما بينهم.

مقدم البرنامج: طيب نحن على كل حال نمر الآن سريعاً – فضيلة الشيخ – على هذه الأسئلة حتى نعطيها حقها باعتبار أن الإخوة ينتظرون الإجابات، بشكل عام ما ذكره الأخ المتصل في النقطة الثانية من وجود بعض المتساهلين من أصحاب المسؤوليات مقابل معارف معينة أو مقابل رُشا – كما تفضلتم –، وما ذكره أيضا الأخ المتصل الثالث من غير ذكر الصور؛ لأن الصور ربما تحتاج إلى فتوى، ونحن الآن نحتاج إلى مسألة النصيحة.

الشيخ كهلان: للتعليق على هذه القضية وتلخيص ما فيها أنا أذكر أن مستعرباً يابانياً كتب عن ما رآه في بعض بلاد العرب المسلمين، فذكر من جملة ما رآه كيف أن في دولة ما–سماها هو في الكتاب – كيف أن الناس ينهبون المال العام نهباً، وكيف أنهم يترفون ويضيعون الممتلكات.. يخربون الممتلكات العامة بينما تجد الواحد منهم حينما تزوره في بيته فيما يتعلق بممتلكاته الخاصة مرتباً.. شديد المحافظة عليها.. شديد الحرص عليها.. شديد الغضب إذا أتلفت ولو بخطأ غير مقصود كما لاحظ هو حينما زار بعض البيوت، فلما طَرَح موضوع هذه المفارقة الغريبة وجد أن الناس لا توجد عندهم موازين– كما سماه هو– في التعامل.. في المبادئ التي يتعاملون بها مع المال العام والمال الخاص، وهذا وضع سيئ طبعا دعاه هو إلى أن يذكر هذا كنقد للأوضاع  التي رآها في هذه البلاد العربية.

 فلذلك الأمثلة التي يمكن أن تُذكر مما يجانب فيه الناس قواعد العفة والنزاهة والصدق والأمانة كما سماها أيضا الأخ المتصل الرابع هي صحيحة، أي كلمة الأمانة في هذا السياق كلها تشي بعواقب وخيمة في الدنيا والآخرة، القرآن الكريم ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – سماه غلول، فالغلول هو من أشد ما يورث الناس النار– والعياذ بالله– وحديث الرجل الذي أخذ الشملة.. عباءة بسيطة أخذها من الغنيمة .. من المال العام.. ، بيَّن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنها تشتعل عليه في نار جهنم والعياذ بالله.

مقدم البرنامج: والعياذ بالله، وقال أن قيمتها رخيصة كانت.

الشيخ كهلان: نعم هي شملة، فما بالكم بالتسور والتحايل على الأنظمة والقوانين؟! وحينها تضيع ذمم الناس، وتختفي معها سائر الأخلاق، هذا الذي أشار إليه المتصل مثلا عدم بيان العيوب، نوع واحد فقط من أنواع البيوع الذي صرح به الفقهاء يسمى ( اشتراط البراءة من العيوب )، أي يخبرهم بأنني بريء من أي عيب يظهر في هذه السلعة، ويوافق ذلك على هذا الأساس، يقيِّم السلعة ساعتها، ويفحص ويبيع، القائلون بجواز هذا البيع يتممون الصفقة بينهما على هذا الشرط، أي لا يسكت.. لا يزين له السلعة، الآن وصل الناس إلى أنهم يزينون العيوب أي يظهرون العيوب وكأنها مزايا ويدلسون على الناس ويخفونها ويسترونها وغير ذلك، وانما الشرط أن يقول لك: هذه السلعة افحصها جيدا وأنا أبيعك إياها كما هي وأشترط البراءة من أي عيب يظهر فيها.

مقدم البرنامج: ولكن في كل الحالات؟

الشيخ كهلان: لا، هو نوع فقط..

مقدم البرنامج: كل المبيعات يمكن أن تكون هكذا أيضا..؟

الشيخ كهلان: الواجب على البائع أن يبين العيوب التي تكتنف السلعة، نحن لا نتحدث – كما قلت – عن موضوع بيع وشراء، نتحدث عن ما يتعلق بالحقوق التي تطال كل أنواع المعاملات المالية بما فيها الوقوف عند حدود الأنظمة والقوانين والسلطة.. حُسن استعمال السلطة، وحُسن معاملة الناس في إطار ما جُعِلَ لهم من ضوابط تنظم علاقاتهم بعضهم مع بعض.

مداخلة متصلة : فقط أردت أن أعلق قليلاً على البرنامج؛ لأنا ما سمعنا شيئا عن المرأة في موضوع العفة..كيف يمكن للمرأة أن تحافظ على عفتها؟

مقدم البرنامج: هذا الموضوع إن شاء الله نحن سنمدده في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، فأرجو أن تتابعي.

مقدم البرنامج: نتوافق معكِ في الموضوع، وإن كنا نحن في الجزء الأول من العفة تحدثنا على كل حال عن العفة عند المرأة وعند الرجل، وتحدث الشيخ كثيراً في هذا الموضوع؛ ولكن بشكل خاص وتفصيلي دقيق إن شاء الله سيكون في الحلقة الثالثة أو في الجزء الثالث من العفة.

*******************************

من أمثال العرب : العفة جيش لا يهزم.

وقال أيوب السختياني : لا يَنبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان : العفة عن أموال الناس، والتجاوز عنهم.

وقال بعض الحكماء : العفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار.

مقدم البرنامج: أهلاً ومرحبا بكم أعزاءنا الكرام في برنامج دين الرحمة، تحدثنا طوال الدقائق الماضية والتي قاربت الساعة الآن ستنتهي ربما بعد دقيقتين عن موضوع العفة، وطرقنا مجموعة من النقاط تحدث فيها الشيخ بتفصيل رائع فيما يتعلق بالعفة عن الأموال خاصة، وتحدث أيضا عن العفة الإدارية، وعن عفة تعامل الناس مع بعضهم في الأموال العامة أو تعامل الناس مع الأموال العامة..

فضيلة الشيخ كلمة أخيرة لنختم بها.

الشيخ كهلان: نعم، العفة موضوعٌ غاية في الأهمية، ومع كوننا تعرضنا له في ما مضى وبعض النقاط التي ذكرها الإخوة وشاركونا بها تعرضنا لها هناك؛ ولكن نرى- كما تفضلت – بأننا نحتاج إلى أن نخصص له حلقة ثالثة، وسوف يكون في أغلبها إجابة على الاستفسارات التي لم نتمكن من الإجابة عليها اليوم أو في الحلقة الماضية التي لم نعطها حقها، ثم بعد ذلك نعرج بمشيئة الله على عناصر جديدة منما يتصل بموضوع العفة والعفاف والنزاهة.

مقدم البرنامج: والمرأة كما قالت الأخت المتصلة.

الشيخ كهلان: العفة والعفاف دائما ما تكون من أعلى خصال المرأة.

مقدم البرنامج: جميل، إذاً نشكركم أعزاءنا الكرام على استماعكم وإنصاتكم ومشاركتكم، وابقوا معنا في الحلقة القادمة إن شاء الله لنتحدث عن موضوع العفة في جزئها الثالث، وسنطرق الكثير من النقاط والصور والأمثلة المهمة في حياة الناس وواقعهم، نرجو منكم المشاركة، كما قلنا لكم في بداية اللقاء المشاركة تكون عبارة عن إغناء لهذا البرنامج، والمشاركة بالكثير من الصور والأمثلة والوقائع والمشاهد، بالإضافة إلى الأسئلة كما استمعتم اليوم، وأظن أن حلقة اليوم ضمت نوعين من المشاركات مشاركة بمعنى إضافة وأسئلة.

شكراً لكم أعزاءنا الكرام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

انتهت الحلقة