الصدق

عنوان الحلقة “الصدق”

مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم.

مستمعينا الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلا بكم إلى حلقة جديدة من برنامج دين الرحمة، سنتناول قيمة أخرى من القيم التي أمرنا بها ديننا الحنيف وحضنا عليها ونهانا عن ضدها.. أمرنا بالصدق ونهانا عن الكذب، هذه القيمة العالية جدا التي سنبحر معها – إن شاء الله – على مدى الساعة القادمة مع الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي.

*******************************

أهلا بك الشيخ كهلان..

الشيخ كهلان: حياكم الله أخي، وأنا بدوري ونيابة عن الإخوة والأخوات الذين يتابعون هذا البرنامج أيضا نرحب بك في هذا البرنامج، وكلنا على ثقة أننا بمشيئة الله تعالى سوف نصل إلى مبتغانا من تحقيق النفع والفائدة لنا وللإخوة والأخوات الذين يستمعون إلى هذا البرنامج.

مقدم البرنامج: إن شاء الله.

هناك دعوى طبعا بقدر ما يقترح في البرنامج موضوع بعينه هناك دعوى للمشاركة أيضا في الموضوع وليدلوا المستمع بدلوه في موضوع الحلقة، موضوعنا هو “الصدق”.

الشيخ الدكتور كهلان بداية في هذه الحلقة أيضا نود أن نتعرف أكثر على موضوع الحلقة، ما الذي ستشتمل عليه هذه الحلقة من عناصر؟.. ما الذي نحن بصدد الحديث عنه؟

وأيضا – قبل قليل – نحن ندعو المستمعين للمشاركة.. للمشاركات التي ننتظرها من المستمعين، هناك أيضا الصلة بين هذا الموضوع.. بين القيمة – قيمة الصدق – وصلتها بالإطار العام لبرنامجنا دين الرحمة.. مجموع كبير من الأسئلة.

الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد النعمة المهداة والرحمة المسداة وعلى آله وصحبه أجمعين.

موضوع حلقة اليوم – كما تفضلتم أخي وكما أعلنا في آخر الحلقة الماضية – هو عن الصدق، ولاشك أن الصدق قيمة إسلامية نبيلة، دعا إليها الإسلام، وحث أتباعه على الالتزام بها، وعلق عليها النجاة في الدنيا، والسعادة في الآخرة، والصدق صفة محببة للناس، فهي من الصفات التي تنجذب إليها نفوس البشر بعيدا عن معتقداتهم وثقافتهم وخلفياتهم تبقى صفة الصدق من القيم الإنسانية النبيلة التي يشترك الناس جميعا في تقديريها وإعطائها منزلتها اللائقة بها؛ ولذلك في هذه الحلقة نحن نريد أن نتعرف على جملة من العناصر، وسردي لهذه العناصر هو من باب فتح نوافذ حتى نتلقى فيها مشاركات من الإخوة والأخوات الذين عودونا وعودوا البرنامج على أن يشاركوا بمشاركات قيمة – في الحقيقة – سواء كان ذلك بآية قرآنية أو بحديث نبوي شريف أو بحكمة أو بشيء من الأدبيات التي تتصل بهذه القيمة أو أن ينقلوا لنا تجربة من تجارب حياتهم فيما يتعلق بهذه الصفة؛ ولذلك سوف نتحدث – بمشيئة الله تعالى كمدخل للموضوع- عن منزلة قيمة الصدق في الإسلام.

سوف نتحدث أيضا عن احتياج واقعنا اليوم إلى هذه القيمة وبالتالي هذا يعني مدى تفشي ضد هذه القيمة أو مدى نقيض هذه الصفة.. إلى أي حد هو موجود في المجتمع؟

وكيف يمكن لنا أن نعالج هذا الوضع؟

ونحن كثيراً ما نركز أيضا على الجوانب التطبيقية العملية أي كثير من الجوانب التنظيرية والفكرية يشترك الناس في معرفتها – بحمد الله تعالى -؛ لكن ما يتصل بالواقع..المجالات التي ينبغي أن يحرص الناس فيها على الصدق.. من أبسط العلاقات التي تكون – على سبيل المثال – داخل الأسرة بين الزوجين.. بين الوالدين وأولادهم إلى من أعطي مسؤولية .. نعم من أعطي مسؤولية معينة.. من أعطي مسؤولية عامة..إلى أي حد نحن نحتاج إلى الصدق؟ وما هي نصائح أيضا الإخوة والأخوات في هذا الباب؟

أيضا من خلال قراءتهم لتاريخ الإسلام كيف يرون آثار التزام المسلمين بهذه القيمة على مستوى الدعوة إلى هذا الدين.. على مستوى إظهار جانب حضاري مهم من جوانب الحضارة الإسلامية الممتدة؟

أيضا يسعدنا أن لو شاركنا الإخوة المختصون في بيان بعض المناهج التربوية التي تعين على تعويد الناشئة على هذه الخصلة العظيمة المحببة للنفوس، هذه كلها العناصر التي سوف نعالجها وننتظر فيها مشاركات.

 أما الصلة بين الصدق والإطار العام لبرنامج دين الرحمة لا يعني أن معالجاتنا سوف تقتصر على صفة الرحمة وإنما كثير من الناس يظن أن هذا البرنامج يتناول كل ما يتصل بالرحمة وينسى المضاف أي يركز على المضاف إليه، أي أن عنوان دين الرحمة هو عنوان لهذا الدين وقلنا في أكثر من مناسبة: إن هذا الدين بما اشتمل عليه من قيم ومن أحكام وأخلاق ومزايا هو في ذاته دين رحمة للإنسانية جميعا، وهذا ما نحاول أن نظهره للناس الآن.

مقدم البرنامج: وتحت هذه الرحمة تندرج – أكيد – قائمة طويلة جدا من القيم النبيلة التي يتناولها البرنامج.

الشيخ كهلان: نعم بالتحديد، وهذا هو موضوع البرنامج، نحن نريد أن نبحث عن هذه القيم خاصة تلك التي نحتاج إليها اليوم، وأن نُعَرِّف بها، وأن نتعرف عليها، وأن نبحث في كيفية تطبيقها في واقعنا.

مقدم البرنامج: نعم، إذاً بسم الله نبدأ، وقبل أن نبدأ حديثنا وحوارنا مع الدكتور كهلان نتوقف مع هذه الآية الكريمة ننصت سويا ثم نعود إليكم.

*******************************

{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (الأحزاب:35).

مقدم البرنامج: صدق الله العظيم.

طبعا نحن استمعنا إلى آية؛ ولكن يظل القرآن الكريم مليء.. مواضع كثيرة جدا في النهاية تحث على الصدق.. وصفت شخصيات بعينها بالصدِّيقة وهكذا..

مداخلة متصل: حديث عن الصدق، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: “عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدى إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا”، صدق رسول – صلى الله عليه وسلم -.

مقدم البرنامج: شكرا لك، هل ستعلق على المتصل؟

الشيخ كهلان: سيأتي التعليق نعم بمشيئة الله، ومن حسن الحظ أنا كنت أتوقع أن الإخوة المتابعين للبرنامج سوف يشاركون بهذا الحديث؛ ولذلك لم يكن من ضمن الفواصل هذا الحديث؛ لشهرة هذا الحديث وكانت الفواصل أحاديث أخرى لعل شريحة كبيرة من الناس لا يعرفونها؛ لكن كان سؤالكم قبل الفاصل حول الآيات القرآنية التي تناولت هذه القيمة، والحقيقة أننا عندما نتأمل كتاب الله عز وجل نجد فعلا أن هناك منزلة عظيمة تبوأتها هذه القيمة، وأبلغ ما تتجلى فيه أن الله عز وجل وصف نفسه بالصدق في أكثر من موضع أيضا.. نجد في سورة آل عمران { قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (آل عمران:95)، نجد أيضا في سورة النساء {… وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا } (النساء:87)، ونجد في سورة النساء أيضا { … وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } (النساء:122).

 وكما تحدثنا في قِيَمٍ أخرى كالإحسان – على سبيل المثال – والوفاء عندما يصف الله عز وجل نفسه بصفة من هذه الصفات، وكل مسلم لا شك يعتقد أن ربنا سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال والجلال فإن ذلك مدعاة للمؤمن حتى يقتبس من أنوار هذه الصفات العليا والأسماء الحسنى لله عز وجل، فلا أبلغ من أن يتأسى المؤمن بشيء من الصفات التي اتصف بها ربنا سبحانه وتعالى، وإن كان اتصافه بها اتصاف الكمال المطلق واتصاف البشر وتأسيهم به سبحانه وتعالى في هذه الصفات إنما هو اتصاف بشري نسبي محدود، إلا أن هذا يحمل الشرف والمنزلة الرفيعة لهذا العبد الذي يريد أن يتأسى بربه سبحانه وتعالى وقد تواضع جل وعلا ووصف نفسه بهذه الصفات.

 كذلك نجد في القرآن الكريم أن الله عز وجل وصف أنبياءه وهم صفوة الخلق وخيرة الناس وصفهم بالصدق، وصف يحيى – عليه السلام- عندما بشر والده- بقوله:{… أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ…} (آل عمران:39)، ووصف عيسى– عليه السلام- لما تحدث عيسى عن نفسه أول ما تحدث قال: { وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ…}، ووصف رسولنا الخاتم محمد – صلى الله عليه وسلم – أيضا بالصدق في آية بليغة المعاني عندما أشهد الله عز وجل سائر أنبيائه ورسله على صدق دعوة محمد – صلى الله عليه وسلم – فقال: { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ…} (آل عمران:81)، طبعا الآية تحمل كثير من الدلالات والمضامين، ما يهمنا منها في هذا السياق هو وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه مصدق لما تقدمه من رسائل.. من شرائع ورسالات الأنبياء والمرسلين قبله.

 أيضا وصف الله عز وجل الكتب التي أنزلها على هؤلاء الرسل وخاطب بها الناس جميعا في مختلف أطوار تدرجهم التاريخي.. خاطبهم بهذه الكتب لكي تكون منارات هداية وإرشاد لهم، وصف هذه الكتب بأن كلاً منها يصدق ما قبله، ففي الآية التي تلوناها قبل قليل عن عيسى- عليه السلام- قال: { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ…} (المائدة:46) هذه صفة لعيسى – عليه السلام – عيسى نفسه {…مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ…} (المائدة:46).

 أيضا الكتاب الذي أُوحي إلى عيسى– عليه السلام- الإنجيل هو كتاب مصدق لما بين يديه.. لما تقدمه من كتب، ثم ختم الله عز وجل الآية بقوله: {…وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ…}، وخاطب – في نفس الآية بعدها بآية واحدة – خاطب نبينا – صلى الله عليه وسلم – أيضا { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ…} (المائدة:48)، وفي سورة أخرى – في سورة الأنعام – يقول: { وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ…} (الأنعام:92).

 فإذاً صفة الصدق اتصف بها الله سبحانه وتعالى، ووصف بها ربنا سبحانه الأنبياء والمرسلين، ووصف بها الكتب التي أنزلها على هؤلاء الأنبياء والمرسلين، أظن أننا لا نحتاج بعد ذلك إلى مزيد من سرد للآيات، وما أكثرها في كتاب الله عز وجل مما وردت سواء لوصف شخص بعينه له منزلة رفيعة كأم عيسى مريم – عليها السلام – حينما قال: {…وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ…} (المائدة:75)، وحينما وصف أيضا المسلمين والمسلمات في الآية التي استمعنا إليها من سورة الأحزاب نص على أن مِن أَلزَمِ صفاتهم الصدق، ثم في سورة التوبة – وهذه آية فيها ملحظ إن أذنت لي – { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119)، كثير من المفسرين يرى أن الأمر بالصدق هنا بهذه الصيغة {…وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } هو أبلغ من الأمر بصيغة فعل الأمر بـ اصدقوا مع أن الأمر الذي تقدم {…اتَّقُواْ اللَّهَ…} هو فعل أمر صريح؛ لكن لما أتى إلى الصدق قال: {…وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } فهذا كما يقول أهل التفسير: اشتمل على أمرين: الأمر بالصدق والأمر بملازمة الصادقين في كل الأحوال؛ ولذلك كانت الآية أبلغ في الدلالة على أهمية الصدق بالنسبة للمسلمين في تعاملهم.. في سجاياهم وقيمهم التي يتمسكون بها.

 وكذلك بَيَّن الله سبحانه وتعالى أن العاقبة إنما هي لأولئك الذين يصدقون في هذه الحياة الدنيا قال: { قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ…} (المائدة:119)، هنا لم يذكر العمل.. لم يذكر الإيمان.. لم يذكر شيئا.. ذكر الصدق فقط، وكما يقول – حسبما أذكر – كما يقول الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين عندما علق على هذه الآية: ” الصدق على ستة أنواع .. صدق العقيدة، وهو صدق النية، وهو صدق العمل ” وصدق العمل قال فيه: ” صدق القول والفعل “.

 هذا التعبير القرآني في هذا السياق {… يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ…} على القراءة المشهورة وإلا فهناك أيضا قراءة كلمة ( يومَ ) على الظرفية {…يَوْمَ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ…} وترتيب {…جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ…} (المائدة:119) لهذا الصنف من الناس دليل على أن صدق الإيمان وصدق النوايا والأعمال هو الذي يبلغ هذا العبد المنزلة التي أعدها لهم .. وهي المنزلة العالية الرفيعة والثواب العظيم الجزيل الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الناس.

مقدم البرنامج: نعم بمعنى أن الصدق ليس مجرد القول الصادق..

الشيخ كهلان: نعم..

مقدم البرنامج: الصدق سلوك..

الشيخ كهلان: سلوك، بل هو يبدأ من رسوخ عقيدة في القلب، وأصلا كلمة الإيمان في معناها إن استطردنا قليلا.. كلمة الإيمان ( آمن ) بمعنى صَدَّقَ في وضعها اللغوي، فهي في أساسها تحمل هذا المعنى.. هذه الدلالة المعنوية وليست الدلالة الفعلية؛ ولذلك كان تعبير الإيمان تعبيراً بليغاً جدا، والله سبحانه وتعالى وصف رسوله – صلى الله عليه وسلم – فقال: { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ…} (الزمر:33)، والذي جاء بالصدق هو رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم -، وكثير من المفسرين يقول: والذي صَدَّقَ به هو أبو بكر – رضي الله تعالى عنه -.

مقدم البرنامج: وأن يحظى سيدنا أبو بكر الصِّدِّيق بهذا اللقب العظيم أيضا هو دليل تصديقه له وإيمانه به.

الشيخ كهلان: نعم ولذلك صارت هذه الصفة ( الصدِّيق ) صفة ولقباً عليه.. لقباً ملازماً لا يكاد يقال أبو بكر إلا وقُرِنَ بالصدِّيق – رضوان الله تعالى عليه -.

مقدم البرنامج: كثيرون لا يعرفونه بأبي بكر.. يعرفونه بأبي بكر الصدِّيق.

مقدم البرنامج: الدكتور كهلان ننتقل أيضا في الحديث إلى نقيض الصدق وهو – العياذ بالله – الكذب، طبعا في النهاية الكل يعرف ضرر الكذب، ويعرف أنه منافٍ للأخلاق الكريمة؛ لكن المؤسف أن البعض من الناس يتساهلون في موضوع الكذب أحياناً لعدة دواعي منها على سبيل المزح أو المزاح.. منها ما تسمى الكذبة البيضاء أو الكذب الأبيض.. ومنها الشهيرة جدا كذبة إبريل في الأول من إبريل/ نيسان، أيضا هنا أكيد تطرح مجموعة من الأسئلة، ألا يمكن أن يصبح ذلك طبع في الناس – من طباعهم – كلما استسهلوا هذه المسألة؟

أيضا أحياناً البعض لا يقصد سوءًا أو ضرراً من كلمة ما – فهو أتي بها على سبيل المزاح.. أتي بها على سبيل ما يعرف بالنكتة.. بالطرفة -، وقد لا يرى في ذلك ضرر.. أنه لا يضر أحداً، هل على هذه الفئة أيضا من الناس أو على هذا النوع من السلوك.. هل عليهم حرج؟

الشيخ كهلان: أنا سأبدأ الإجابة على هذا السؤال من كلمة قلتها عندما طرحته وهو أن القلب يتساهل في الكذب حتى يكون طبعاً.. هو طبعٌ مكتسب وليس طبعاًً جِبِلِّياً فُطِرَ عليه الإنسان..

مقدم البرنامج: طبعا الفطرة الصدق.

الشيخ كهلان: نعم، والدليل على ذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سُئِلَ عن المؤمن أيكون جباناً؟ قال: “نعم”، أيكون بخيلاً؟ قال: “نعم”، ثم قيل: أيكون كذاباً؟ قال: “لا”، الفارق أن الجبن والبخل قد يكونان فطرة يُجْبَل عليها الإنسان مع أنهما لا يمنعانه من فعل الخير ولا من الإقدام حينما يُطلب للإقدام؛ لكنه يتردد، على سبيل المثال البخيل في هذا السياق الذي وردت فيه الحديث لا يقصد منه أنه يمنع الزكاة.. لا.. هو يؤدي الزكاة؛ لكن قد يتردد ويحسب الدرهم إثر الدرهم حينما يدفع هذه الزكاة، ولا يريد أن يؤدي إلا المقدار الواجب عليه فقط، والناس تتفاوت في هذه الخصال، أما الكذب لأنه مكتسب؛ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حينما سُئِل هل يكون المؤمن كذاباً؟ قال: “لا”، وفي رواية أخرى قال – صلى الله عليه وسلم – : “يُطبع المؤمن على الخِلال كلها ليس الكذب والخيانة”.. لا يمكن أن يكون كذاباً، ولا يمكن أن يكون خائناً.

مقدم البرنامج: لا يجتمعان في الإيمان.

الشيخ كهلان: نعم؛ لأن الكاذب أولا تنتفي عنه صفة الصدق مع الله سبحانه وتعالى، فإن كان في إيمانه ضرر أساساً فهو من صفة المنافقين الذين يُظهِِرون خلاف ما يُبْطِنون، وهذا أشد أنواع الكذب، ثم إن لم يكن كذلك لكنه كان مِن مَن يتساهل في الفرائض بترك الفرائض أو ارتكاب المحرمات فإنه غير صادق في إيمانه؛ لأن من لوازم الإيمان العمل، ومن لوازم طلب الجنة السعي لها، فحينما لا يسعى لها وهو يدعي أنه يريد الجنة فهذا لا شك أنه يكذب على نفسه ويكذب على الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل مطلع على سريرته وعلى ما في ضميره؛ فالكذب ليس من الصفات التي يمكن أن يعذر فيها المرء بخلاف الجبن.. بخلاف البخل.. بخلاف صفات أخرى عديدة؛ لكن الكذب يكتسب.

 ولذلك جاء في الحديث الذي استمعنا إليه من الأخ المتصل “… وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا” هذا الحديث كثير من أهل فقه الحديث يقولون: بأن الكذب فعلا حينما يستسهله المرء ويتمادى فيه يصبح طبعا فيه فلا يستطيع أن ينفك عنه إلا بمعالجة ومقاساة؛ لأنه استسهله وصارت حياته كلها مبنية على الكذب ولعلنا – حاشا السامعين – لكن رأينا بعض الناس في المجتمعات هكذا طبعهم الكذب، لا يستطيع يكاد يسبق إلى لسانه الكذب فيكون أسبق إلى لسانه من الصدق؛ لأنه تعود على ذلك فيما يعرف وفيما لا يعرف، وهذه الأحاديث التي ذكرتُها في التحذير من الكذب يتصل بها أيضا مما هو في صميم ما سألت عنه موضوع الكذب في المزاح، الكذب في المزاح الحديث عن المزاح النبي – صلى الله عليه وسلم – نص على تحريمه قال: ” ويل له.. ويل له.. ويل له ” ويل قيل: من يا رسول الله؟ قال: ” من يحدث بالحديث ليضحك الناس فيكذب فيه ” فإذاً رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعا عليه بالويل والهلاك ونص على أن الذي يحدث بالحديث ليضحك الناس فيكذب فيه.

مقدم البرنامج: رغم أنه الكاذب والمكذوب عليه يعرفان أنها كذبة.

الشيخ كهلان: نعم لا ينبغي للمسلم.. لا يجوز له أن يكذب أصلا؛ لأنه باستمرائه لذلك سوف يعتاد على الكذب، وإن كان هو يريد أن يضفى شيئا من المرح والجو الذي فيه ترويح للقلوب فليكن ذلك بالصدق، ونحن تحدثنا في حلقة سابقة عن فقه ترويح القلوب وذكرنا هناك أن من ضوابط ترويح القلوب الصدق في الحديث، فالنبي – صلى الله عليه وسلم –  كان يمازح أصحابه؛ ولكن كان لا يقول إلا حقا، وكان كثير من المواقف عنه r مشهورة مازح فيها أصحابه من الرجال والنساء، كقوله: ” سنحملك على ولد ناقة ” فقال الرجل: ” وما أفعل بولد ناقة ” كان يريد بعيرا يركب عليه فانصرف ذهنه إلى حوار، فقال: وما أصنع بولد ناقة يا رسول الله؟ فالرسول – صلى الله عليه وسلم –  قال: ” وهل تلد الجمال إلا النوق؟ ” .

 والمرأة التي قال لها: “لا يدخل الجنة عجوز”، فقالت: كيف يا رسول الله؟، قال: “إنك تبعثين شابة”، والكثير من المواقف التي مازح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيها أصحابه ومازحوه فيها، أيضا تقبل r منهم مزاحهم حينما كان صدقا وحقا، كالرجل الذي أراد أن يدخل عليه خيمته الصغيرة في إحدى الغزوات كانت قبة من أدم صغيرة جدا لا يكاد تتسع إلا لرجل واحد، وكانت قد نصبت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهذا استأذن على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال له – عليه الصلاة والسلام – : “ادخل”، طبعا هو يعرف أنه لا يمكن له أن يدخل لأنها لا تتسع له .. واستحى أن يطلب من الرسول أن يخرج إليه فكأنه استأذن عليه فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ادخل”، فقال: أكلي يا رسول الله؟ أي أأدخل كلي.. ؟!

فإذاً لا حرج في أن يتمازح الناس فيما بينهم في حدود الوسطية والاعتدال شريطة أن يكون ذلك بقول الصدق.

مقدم البرنامج: وفي الحديث متسع..وفي الحوار متسع، ولسنا مضطرين أن نلجأ للكذب حتى ولو من باب المزاح ليست هناك أي ضرورة.

الشيخ كهلان: نعم ليست هناك أي حاجة فعلا لأن يلجأ الناس.. سيما ونحن نعرف أن المسألة فيها وعيد شديد، لو كان الأمر متروكاً كقيمة تخضع للقصد والنية لكان حريا بالمسلم الذي يتحرى القيم والأخلاق والمبادئ النبيلة أن يترفع عن الكذب في المزاح، كيف ونحن نعلم أصلا أن فيها وعيداً شديداً كما استمعنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هذه الأحاديث التي ذكرناها وفي غيرها من الأحاديث التي بينت وعيد من يكذب في حديثه، وحينما نتذكر أيضا بعض صفات المنافقين نجد أنه قال – صلى الله عليه وسلم –: “وإذا حدَّث كذب”، فكانت خصلة؛ فلذلك سماها قال: “أربعاً من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه منهن خصلة كانت فيه خصلة من النفاق”، وكل الروايات تتفق على ” وإذا حدث كذب”، فهي من صفات المنافقين أصلا.

مقدم البرنامج: نعم.. أحسنت.

مداخلة متصل ثان: الصدق الميزة التي تفرق بين– إن استطعنا القول- المؤمن وغير المؤمن.. مطالبين بالصدق في أدق الأشياء، وفي أحلك الأوقات؛ ولكن للأسف اليوم الكثير من الناس يقولك يكذب ويتعمد الكذب وتناسوا حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “إن المرء ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن المرء ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا”، فكثير من الناس تجده يتكلم مع الشخص الآخر وهو غير صادق، وهذه أحط منزلة، روي عن الرسول – صلى الله عليه وسلم في ما معنى الحديث : “كفى بها خيانة أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق ، وأنت له به كاذب “، فتجد اليوم كثيراً من الناس يمزحون ويمزحون بالكذب، يقولك: أنا أمزح، يا أخي المزاح.. الكذب صفة ذميمة.

مقدم البرنامج: نعم، وكم من مزحة فيها كذب عملت مشاكل كبيرة.

 المتصل: نعم كبيرة، ولنا في اللغة العربية ( إن في اللغة العربية لمندوحة عن الكذب )، فإن اللغة العربية يستطيع المرء معها أن يتقي الكذب بشكل كلام مختصر، هذا من فضل اللغة العربية على أصحابها، تجد أن المرء في اللغة العربية يستطيع أن يحور الكلمة بحيث لا تكون كذبا، بينما في باقي اللغات قد لا يستطيع.

الشيخ كهلان: إذا تكرمت أخي تصحيح فقط على مشاركة أخي المتصل – بارك الله فيه، وهو من الإخوة الذين يحرصون على إغناء البرنامج بمشاركاته -؛ لكن الرواية التي أشار إليها “إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب”، المعاريض هي طبعا في اللغة العربية..

مقدم البرنامج: التعريض.

الشيخ كهلان: نعم التعريض بأن يستعمل حينما يضطر إلى ذلك .. لا ينبغي له أن يكون هذا ديدنه؛ لكن حينما يضطر إلى ذلك فله في المعاريض مندوحة، فأبو بكر الصديق في حادثة الهجرة لما سُئل عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من هذا؟ فقال: هذا هادٍ يهدي إلى السبيل أو مرشد يرشدني  الطريق، استعمل هذه المندوحة.. استعمل هذا التعريض ليوري عن حقيقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ حتى لا يناله ضرر وفي نفس الوقت هو لم يخطئ فيما قال.

مداخلة متصل ثالث: فقط عندي سؤال لو تكرمتوا، كيف يمكن للأب تربية الأبناء في الأسرة على الصدق؟ وما هي الخطوات التي يتبعها في حالة قيام الطفل بالكذب؟

مقدم البرنامج: يبدو هناك تدفق في المكالمات الشيخ كهلان.

الشيخ كهلان: بعض المواضيع تستهوي الإخوة والأخوة أكثر من غيرها، وهي قضية تحتاج فعلا إلى أن يتنبه لها الناس جميعا ويتعاونون على معالجة ظاهرة الكذب والسعي إلى تعميم خلق الصدق.

مداخلة متصلة: سمعت قصة عن رجل كذب في إبريل.. كذب على صديقه وقال له: إن والدك قد تعرض لحادث وتوفي، فعاد الرجل مسرعا وقد كان في الإمارات.. عاد إلى عُمان، فتعرض في الطريق لحادث وتوفي الرجل، وكان كل هذا بسبب كذبة إبريل.

الشيخ كهلان: ينبغي للناس أن يتنبهوا إلى خطورة هذا الأمر، هي عادة أصلا وجدت في غير مجتمعاتنا ودخيلة على ثقافتنا، ورأينا أضرارها أن بعض الناس الذين تساهلوا في فهمها وفي التنبه لخطورتها ورأينا لها آثارا كالقصة التي استمعنا إليها.

مقدم البرنامج: وهي دخلت من باب المزاح.

الشيخ كهلان: نعم.. نعم.

مقدم البرنامج: طالما نتحدث-قبل قليل- نشدد في حديثنا على رفض الكذب جملة وتفصيلا، هناك إشارة أيضا للقصة التي رويتها الشيخ كهلان عن أبي بكر الصديق واضطراره لأن يقول..

الشيخ كهلان: يعرِّض نعم.

مقدم البرنامج: هل هذه من الحالات التي يباح فيها الكذب؟، هل هناك أصلا حالات يباح فيها الكذب؟

الشيخ كهلان: طيب.. نعم.. هذا سؤال مهم ومعرفته أيضا مهمة للغاية، وفي أبسط صورة هناك ثلاث حالات نص عليها العلماء ولها مستند من أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وآثار مرفوعة وهي: حالة الإصلاح بين الزوجين، والإصلاح بين المتخاصمين، وحالة الحرب؛ لكن هذه الحالات الثلاث أيضا لها ضوابط شرعية، أي في الإصلاح بين الزوجين أجازوا للرجل ولكلا الزوجين للرجل والمرأة في سبيل إضفاء شيء من حسن العشرة ورفع الخصومة التي يمكن أن تنشب بين الزوجين أن يكذب.. أن يكذب الرجل على امرأته والمرأة تكذب على زوجها حينما يكون هناك خصام، لا أن يكون الكذب عادة بين الزوجين، وإنما حين يكون هناك خصام ولا سبيل لرفعه.. فحينما تقع كلمة مودة يقولها الرجل لزوجه يمكن أن تطفئ لهيب نار متقدة فيما بينهما، وقد لا يجد هو في قرارة نفسه فعلا حقيقة مشاعر الحب والمودة لزوجه؛ ولكنه بهذه الكلمة التي يمكن أن يقولها دونما ضرر على نفسه سوف يطفئ لهيب خصومة لا يعرف مداها إلا الله سبحانه وتعالى.. سيتضرر هو والمرأة والأولاد منها.

مقدم البرنامج: الغاية خير.. الغاية المنشودة هنا فيها خير..

الشيخ كهلان: نعم ولعله استنفد أيضا كل الوسائل التي تمكنه، وكذلك بالنسبة للمرأة، فإذاً.. كذلك حينما يكون هناك خصومة بين رجلين.. بين بعض المسلمين فيسعى أحد إلى الإصلاح بينهم فيأتي إلى طرف ينقل له أن الطرف الآخر يذكره بخير، في حين أنه لعله لم يسمعه البتة ذكره بخير، ويأتي للأخر أيضا وينقل له مثل هذا فيؤدي ذلك إلى أن يرأب الصدع ويلم الشعث الذي كان بينهم، فهذه أيضا من الحالات؛ لكن – كما قلت – لا أن يكون ذلك من ما يؤدي إلى إضرار..

لابد من الحكمة في مثل هذه الحالات، كذلك حالات الحرب هي أيضا ليست على إطلاقها؛ لأن من شيم المسلمين- حتى في حروبهم- الالتزام بالعهود والمواثيق والابتعاد عن الغدر، وإنما يكون لأجل مكيدة الحرب فقط، وإلا إذا كانت المسألة تصل إلى حد الغدر أو نقض شيء من العهود فإن ذلك يحرم في الإسلام ولا يجوز البتة، ونتذكر جميعا قصة فتح سمرقند– كما ذكر الطبري في تاريخه– أنه في عهد عمر بن عبد العزيز لما انتشر العدل فأتى أهل سمرقند وشكوا إلى واليهم أن قائد المسلمين الذي فتح بلدتهم لم ينذرهم ودخل البلد عنوة دونما إنذار، فرفع الأمر إلى أمير المؤمنين – إلى عمر بن عبد العزيز -، فأمر عمر بن عبد العزيز أن يرفع الأمر إلى القاضي، فلما تبين للقاضي أن قائد جيش المسلمين لم ينذر هؤلاء القوم حكم بأن يخرج جنود المسلمين من سمرقند، وأن يخرج جميع من أتى إليها من المسلمين واستقروا فيها، وأن تعاد إليهم أموالهم، ثم بعد ذلك ينذرون، فلما رأى أهل سمرقند أمرا ما كانوا يتصورنه البتة أن يصل العدل إلى هذا الحد، وإذا بجيوش المسلمين بدأت فعلا تنسحب.. أتوا هم إلى القاضي وقالوا: قد رضينا بوجودكم.. ارتضوا وكان ذلك أدعى إلى قناعتهم وطمأنينتهم بالإسلام.

مقدم البرنامج: وقد يلجأ إلى الكذب في الحرب على قاعدة أن الحرب خدعة.

الشيخ كهلان: الحرب خدعة هي مكيدة الحرب كما في حادثة الأحزاب عند الصحابي الذي أذن له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أن يفرق بين الأحزاب الذين تكالبوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فبث الفتنة فيما بينهم حتى يكون بأسهم بينهم شديدا؛ لذلك قال: “والحرب مكيدة والحرب خدعة”.

مقدم البرنامج: ننتقل الآن مع الحديث النبوي الشريف، ثم نعود لمتابعة الحوار معاً.

*******************************

روى الإمام مسلم في صحيحه عن حكيم بن حزام عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما”.

مقدم البرنامج: صدق رسول الله– صلى الله عليه وسلم –.

بعدما استمعنا إلى هذا الحديث النبوي الشريف نستمع إلى تعليق منك الشيخ كهلان.

ما الذي يستفاد من هذا الحديث خاصة في التعاملات المالية الاقتصادية بين الناس؟

الشيخ كهلان: هذا الحديث أصل أصيل في بيان قواعد مهمة جدا من قواعد التعاملات المالية بين الناس، وحينما يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن البيعان: “فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما” فإن هذا يدلنا على منزلة الصدق وأهميته في المعاملات المالية على وجه الخصوص، وهذا النص مع غيره من النصوص التي وردت في النهي عن النَّجش وعن الغش وعن التدليس في البيع والشراء، وعن أي غرر.. أي نوع من أغرار الغرر أو الغبن الفاحش في المعاملات المالية، يقيم أود التعاملات التجارية المالية بين الناس على أساس الصدق وكما نص الحديث أيضا ( البيان ) أي بيان كل ما يكتنف السلع وشروط العقد وكل ما يتصل بالمتعاقد عليه بين الطرفي،ن ويُحذِّر في ذات الوقت من أن تكون هذه العلاقة مبنية على غرر أو على تجهيل ( محاولة الطرف أن يجهِّل الطرف الآخر بما في السلعة من عيوب، أو ما في المتعاقد عليه من عيوب قد تؤثر على العقد بينهما ) .

فكلها تدعو الناس اليوم في الحقيقة حينما يلتزمون بها إلى ما هو خير لهم حتى في تجارتهم.. أي عندما يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “… بورك لهما في بيعهما” وفي المقابل “.. محق بركة بيعهما” ما أحوجنا نحن اليوم فعلا إلى أن يبارك لنا في بيوعنا؛ فلذلك كان حريا بالتاجر – ولنبدأ بهمسة في أُذن التاجر اليوم – إلى أن يراعي أحوال إخوانه – بين قوسين –  المستهلكين في السلع والبضائع التي يعرضها عليهم.. في العقود التي يتعاقد بها معهم، كثير من الناس – وهنا أناس حقيقيون أو أناس اعتباريون – حينما يأتي إلى معاملة مالية يسعى لكي يقتنص الفرص التي تحقق مصلحته هو ويغض الطرف عن الطرف الآخر الذي يتعاقد معه وكأن الطرف الآخر ليس أخاً له، في حين أن الشرع لم يقم على هذا الأساس.. حينما يقول الله عز وجل: {… وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ …} (الإسراء:35)، وحينما يقول في سورة المطففين: { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } (المطففين:2-3)، في هذا ترى الكثير من المبادئ الهامة جدا.. لا ينبغي للمسلم أن يرضى لغيره إلا ما يرضاه لنفسه، فإن كان هو لا يرضى أن يُخدع أو يُدلس عليه أو يُغرر به فكيف يرضى ذلك للآخرين؟! وما أوسع المجالات التي يمكن أن تتحقق حينما تبنى المعاملات المالية على الثقة بين الناس.

أنا لي تجربة بسيطة جدا في بعض البلدان الأوربية في وسائل المواصلات العامة، لا تُسأل كم تدفع، وتستخدم وسيلة النقل والتعرفة التي تدفع معروفة لدى الناس؛ ولكني في الحقيقة لم أرَ في يوم من الأيام أحدا ممن يستخدم وسائل النقل تلك وهو لا يدفع مع أن الجهاز الذي يُدفع فيه هو في طرف الحافلة أو في طرف الباص – في مؤخرته – ويأتي ويركب ويضع النقود ولا يُسأل كم دفع ولا ما دفع، ولم أر أحدا لم يدفع لا من صغير ولا من كبير، لماذا؟!

لأنه قد بنيت هناك ثقة بين الطرفين من يستخدم هذه الوسيلة ومن ينتفع بها، وينتفع بها الجميع، وحينما توجد هذه الثقة وهذا الصفاء بين الناس لا ريب يعم الأمن، كما ذكرنا في الحلقة الماضية كيف أن التاجر المسلم كان يترك دكانه مفتوحا لجاره الذي ينافسه في التجارة ويذهب لقضاء حاجة ويأتي هذا.. أي يأتيه الزبون لهذا ويقول: لا، اذهب لتشتري من دكان جاري ويذهب هو ويبيعه من دكان جاره في غيابه ويضع له النقود، ثم يعود إلى دكانه، لماذا؟! لوجود هذا الصدق في التعامل، ونحن نحتاج فعلا اليوم في معاملاتنا.. في تجارتنا إلى أن نتحرى الصدق وأن نلتزم به.

مقدم البرنامج: يمكن المسألة تنسحب حتى على بعض الإعلانات التجارية المضللة التي تقدم سلعة هي لا تصدق فيها ( تصفها بما ليس فيها ).. هناك إعلانات صادقة..

الشيخ كهلان: نعم صحيح.

مقدم البرنامج: لكن هناك من الإعلانات غير الصادقة وتضلل المستهلكين.

الشيخ كهلان: صحيح.. هذه نقطة هامة أيضا.

وإن كان عالم الإعلان الآن استطاع أن يضبط مسألة أن يكون إعلانه لبضاعته لا يؤدي إلى كساد بضاعة أخرى أي لا يضر بضاعة أخرى، فإذاً أنا على ثقة أنهم أيضا قادرون على أن يكونوا صادقين فيما يصفون به سلعتهم وبضاعتهم، وإلا فإن شرط الصدق في بيان البضاعة لا يمكن أن ينفك عن واقع هذه المعاملة، نحن وإن كنا نتحدث الآن على أمثلة ونحاول أن نجمع كل ما يتعلق بالقواعد المتصلة بالمعاملات المالية لكن في نهاية الآمر نجد أن خلاصتها أنها ينبغي أن تكون مبنية على الصدق.. يتصل بها الأمانة.. يتصل بها الذمة والثقة وغير ذلك؛ لذلك بنيت عليها في الحقيقة في الشرع قواعد مثلا: الأمين لا يضمن إلا بالتقصير، أي الأصل فيه أنه أمين؛ فلذلك فهو لا يضمن إلا إذا ثبت أنه قصر فعلا في هذا الأمر.

مداخلة متصل رابع: أنا أرى أن وقت البرنامج ضيق وإلا فأنا عندي عدة محاور حقيقة؛ ولكن أختصر كلامي في سؤال واحد للشيخ الدكتور، بعد حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي سمعناه ما نصيحة الشيخ الدكتور للمكاتب العقارية.. السماسرة الذين يقومون بالبيع والشراء، ونرى خاصة أن فيها الكثير من الكذب حقيقة، ونحن تعاملنا مع هذه الأماكن وربما انسحبنا لهذا الظرف ( ظرف أنك من اللازم إذا كنت تريد أن تبيع وتشتري فإنه من اللازم – يقال من بعض الإخوة للأسف الشديد – أنك من اللازم أن تتعامل بالكذب).

ما نصيحة الشيخ الدكتور لهؤلاء الناس خاصة لما ذَكََرَ في الحديث من تهديد ووعيد – والعياذ بالله -.

الشيخ كهلان: الأخ المتصل من الإخوة الذين يمتعونا بمشاركاتهم وإن كان يبدو أيضا أنه يريد كلمة خاصة.. الكلمة السابقة التي قلناها تشمل من ذكره وتشمل غيره، لذا لا نستطيع طبعا أن نعمم؛ لكن فعلا مثل هذه المخالفات الشرعية موجودة وقد لا يتنبه لها الناس.. قد لا يعرفون أن المسألة تصل إلى هذا الحد؛ ولكن نقول لهم: تمهلوا فإن القليل الذي يبارك الله تعالى فيه خير من الكثير الذي تمحق بركته، وحينما يحرص المسلم على أن يعامل الآخرين بالصدق والأمانة فإن ذلك سوف يكون مجلبة للزبائن ومن يتعاملون معه.

 كم رأينا من ناس يختارون مِن كل مَن يشتغل بالتجارة سواء من أصحاب المكاتب العقارية أو من أصحاب محلات التجارية أو غير ذلك .. يختار الزبائن من يثقون في صدقه ووفائه.. من يبين لهم ويصدق معهم، وبالتالي فإنا نعلم في المقابل صورة الرجل الذي ينفق سلعته بالحلف الكاذب الذي يدلس ويغش على الناس إن كان سوف يكسب في صفقة فإنه سوف يخسر صفقات؛ لأنه سوف يبتعد عنه الناس؛ ولذلك قلنا: إن الصدق منجاة في الدنيا وسعادة في الآخرة.

مقدم البرنامج: الوقت بدأ يضيق بنا بالفعل ربما أيضا نتساءل في موضوع الصدق التعامل مع الآخرين.. الآخرين المختلفين عنا الذين يختلفون عنا دينا.. ثقافة .. لغة.. قومية وهكذا، وربما دينا قد تكون في المقدمة؛ لأنه نحن منطلقنا ديني أيضا – من ديننا الإسلامي – قد يتخيل البعض أن لي الحق في أن أتعامل مع غير المسلم كيفما أشاء، وللأسف يفترضه عدوا من جانب المطلق وهكذا، وبالتالي يجيز لنفسه أن يكذب على الآخرين المختلفين عنا.

الشيخ كهلان: نعم للأسف هذا الموجود، وأظن أنك تريد جوابا مختصرا أيضا؟

أولا أُذِّكر بقصة أهل سمرقند فيها كفاية للكثير من الدلالات على جواب هذا السؤال الذي تفضلت بذكره أخي، نحن أولى أن نكون أكثر حرصا على الالتزام بهذه القيم وهذه المبادئ حينما نتعامل مع المختلف عنا؛ لأن أخانا في الدين والثقافة والفكر يمكن أن يعذرنا ويفهم بعضنا بعضا، لكن الآخر سوف يحكم على ديننا مِن تعاملنا؛ ولذلك كان ينبغي أن نكون أحرص وأكثر التزاما وأكثر تمسكا بهذه القيم خاصة صفة الصدق حينما نتعامل مع الآخرين.

 إذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حينما تعامل مع المشركين – مع مشركي مكة – وقد آذوه في نفسه وماله وأهل بيته وصحابته – رضوان الله تعالى عليهم – وهو لا يزال يعاملهم بكل صدق وهم يعرفونه بالصادق الأمين مع كون العداوة بينهم من قِبَلهم لا يمكن أن تكون أكثر مما كانت عليه؛ ولكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان أصدق ما يكون معهم؛ ولذلك في حادثة الهجرة – كما ذكرنا في هذا البرنامج – كان يهمه أمر الودائع التي أودعوه إياها كيف يردها إليهم، وقد استخلف عليها علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – أي اشتغل في وسط ذلك الحدث المهيب الجليل الكبير الذي يمكن أن يُتصور أن همَّ الواحد أن ينجو بنفسه، لكنه يشتغل – صلى الله عليه وسلم– بأماناتهم التي أودعوه إياها؛ فلذلك علينا أن نكون أكثر تمسكا في الحقيقة بهذه القيم حينما نتعامل مع الآخر المختلف عنا، سوف يكون نفع ذلك علينا.. على ديننا.. على حضارتنا.

 وكم جر علينا – في الحقيقة – التهاون أو تصور أن الآخر لا ينبغي لنا أن نتعامل معه بمثل هذه القيم والمبادئ كم جرت علينا من تشويه لصورة الإسلام.. لحضارة المسلمين..، كم جر علينا أيضا من أضرار وويلات لا على مستوى الفرد الذي صدر منه ذلك التصرف غير المسئول وإنما على مستوى الأمة؛ فلا أبلغ في النفوس من التعامل معها بصدق وشفافية.

مقدم البرنامج: بمعنى قد نضر ديننا ونحن لا ندري حتى في التعامل الفردي بين شخص وشخص من ديانة أخرى مثلا.

محطتنا الأخيرة.. سؤالنا الأخير يتناغم جدا مع سؤال الأخ ( المتصل الثالث ) – الذي اتصل قبل قليل – ويسأل كيف يمكن تربية الأبناء على الصدق؟.. ما هي الخطوات إذا كذب الابن أو الطفل أي كيف نقيم فيه هذا السلوك ونبعده عن الكذب ونغرس فيه الصدق وهكذا – أي ما هي مهمتنا تجاه النشء – ؟

الشيخ كهلان: جميل، يمكن أن نقول كلاما عاما: وهو ضرورة أن نغرس هذه القيمة لدى الناشئة؛ لكنه فعلا – كما ذكر بارك الله فيه الأخ المتصل – نريد إلى شيء عملي وأنا هنا وإن كنت غير متخصص في جوانب التربوية ولا أريد أن أقحم نفسي؛ لكن أُذِّكر بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي سمع امرأة تقول لابنها: تعال أعطك، فقال لها: “وما تعطينه؟” فقالت: شق تمرة، فقال – صلى الله عليه وسلم – : “لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة”.

 فإذاً أول ما ينبغي مما تعلمنا كيف نغرس الصدق في نفوس ناشئتنا هي أن نصدق نحن؛ لأن هؤلاء الأطفال إنما ينقلون سلوكنا ويقتدون ويتأسون بنا نحن الآباء والأمهات؛ ولذلك حينما نصدق نحن فإنهم سوف يكتسبون وتنتقل إليهم هذه الصفة، أما هذا الذي يحاول أن يسكت ابنه بقوله: تعالَ أعطتك. ولا يعطيه بعد ذلك شيئا، أو يقول لزميله في العمل حينما يتصل به آخر: قل له غير موجود وهو موجود في المكتب وولده يسمع ذلك أو يُتَّصل به في البيت ويقول له: قل له إني خارج. وهو في البيت وولده يسمع، كيف نتوقع بعد ذلك أن نغرس هذه القيمة في نفوس ناشئتنا؟! هذا باب.

 الباب الآخر هو أن نعزز ذلك بالقصص التي تغرس هذه القيمة.. حكايا ما قبل النوم مثلا ينبغي أن تشتمل على مثل هذه القيمة، وبالتالي هذه دعوة أيضا للقصاص ولأدبائنا وشعرائنا إلى أن يهتموا بغرس هذه القيم في أدبياتهم التي يتلقاها الناس، وناهيك عن دور المؤسسات الأخرى إعلامية وفكرية وأدبية في تعزيز هذه القيم لدى الناشئة.

مقدم البرنامج: نعم، للأسف وصلنا لنهاية الوقت، وربما تعرفنا أن حبل الكذب قصير، وقبل قليل يستشهد الشيخ الدكتور كهلان بمن يقول لابنه: قل لمن يطرق الباب: إني غير موجود، فيذهب هذا الطفل ليقول لمن طرق الباب: أبي يقول لك أنه غير موجود، بمعنى أن حبل الكذب قصير.

كل الشكر لك الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي.

الشيخ كهلان: بارك الله فيك.

مقدم البرنامج: شكرا لكم أعزائي المستمعين والمشاركين وإلى لقاء قادم مع موضوع آخر وقيمة أخرى من القيم الإنسانية الإسلامية النبيلة في الأسبوع القادم.

انتهت الحلقة