عنوان الحلقة “التعاون”
بثت في:
1 / محرم / 1429هـ
29 / ديسمبر / 2008 م
مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم.
أهلا وسهلا بكم أيها الإخوة المستمعون والمتابعون في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الأسبوعي دين الرحمة، والذي نتناول فيه مجموعة من القيم والمبادئ التي تساهم في بناء الشخصية المسلمة، وتساهم في بناء المجتمعات، وحلقتنا في هذه المرة عن “التعاون”.
وضيفنا هو فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي المستشار الشرعي بمكتب المفتي العام للسلطنة، أهلا وسهلا بكم شيخ كهلان.
الشيخ كهلان: حياكم الله، وأنا أحيي أيضا الإخوة والأخوات الذين يتابعون هذا البرنامج، ونسأل الله عز وجل في مستهله أن يوفقنا إلى كل خير، وأن يجمعنا على طاعته، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا إنه تعالى سميع مجيب.
مقدم البرنامج: أيها الإخوة المستمعون سوف نستفتح برنامجنا بإنصات إلى هذه الآية العطرة من كتاب الله العزيز وبعدها نبدأ الحوار بمشيئة الله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (المائدة:2).
مقدم البرنامج: صدق الله العظيم.
شيخ كهلان استمعتم إلى هذه الآية الكريمة، نود منكم تعليقا على ما يستفاد منها فيما يتصل بموضوعنا موضوع التعاون.
الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد النعمة المهداة والرحمة المسداة وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فإن موضوع التعاون هو من المواضيع الجليلة القدر العظيمة الشأن؛ لأننا نتحدث عن مبدأ أصيل به تبنى المجتمعات، وبه تشاد صنوف الحضارات، وبه تتحقق للناس الألفة والمحبة والمودة، وبه تقضى – بمشيئة الله تعالى – مصالح الدنيا والآخرة، ذلكم المبدأ هو مبدأ التعاون الذي ورد فيما أنصتنا إليه من هذه الآية الكريمة من سورة المائدة هذا الأمر به صريحا في قوله تعالى: {..وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ…}.
وحينما ننظر في السياق الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة وهذا الجزء من هذه الآية الكريمة نجد أن هذا السياق يأمرنا فيه ربنا تبارك وتعالى بالوقوف عند حدوده، وتعظيم شعائره، واحترام ما حرم علينا ربنا تبارك وتعالى، ونجد أيضا أن الله تعالى في هذه الآية الكريمة يؤكد أهمية بسط العدالة قيمة سامية راسخة عند المسلمين، نجد أن الله سبحانه وتعالى يأمر عباده بالتعاون على البر والتقوى، مما يعني أن وسيلة تحقيق ما تقدم من تعظيم شعائر الله عز وجل وتعظيم واحترام من يعظم شعائر الله سبحانه وتعالى ممن يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا والوقوف عند حدود ما أمر الله عز وجل في كل شأن من الشؤون ومحاولة بسط العدالة وإن كانت ثقيلة على النفس كل ذلك لا يتحقق إلا بترسيخ مبدأ التعاون بين الناس ليكون أصلا أصيلا ومبدأ راسخا ثابتا في قاعدة معاملات الناس فيما بينهم؛ ولهذا ورد الأمر به صريحا {…وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى…}، ويأتي في آخر الآية الكريمة هذا الوخز الذي يناغي الضمير للأمر بالتقوى وبيان العاقبة التي يمكن أن يؤول إليها كل من يخالف التعليمات والأوامر التي وردت فيما تقدم من هذه الآية الكريمة {…وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
مقدم البرنامج: طيب شيخ كهلان السؤال الآن لماذا لم يقتصر الأمر بالتعاون في هذه الآية على إحدى الخصلتين البر أو التقوى (جاء مقرونا بالبر والتقوى) ، وكذلك في المقابل النهي أيضا لم يأت النهي عن خصلة واحدة الإثم أو العدوان مع أن العدوان إثم؟
الشيخ كهلان: نعم أحسنتم.
في الأمر بالتعاون على البر والتقوى والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان جملة من الملاحظ التي ينبغي للمسلم أن يعيها وأن يقف عندها، فالبر حينما يفكر المرء فيه- وقد خصصنا له حلقة خاصة- ويتأمل ويمعن النظر يجد أن البر هو جماع كل خير، فحينما نتحدث عن البر فإننا نتحدث عن كل صنوف الطاعات التي تقرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ وبالتالي فنحن نتحدث عن أفعال يقوم بها الإنسان تندرج في هذا الباب الواسع الذي هو باب البر، ساعتها قد يتوهم متوهم.. قد يظن ظان بأن التعاون المأمور به لو كانت الآية اقتصرت أو كان الأمر اقتصر على الأمر بالتعاون على البر أن يكون فيما يتعلق بأفعال الطاعات وصنائع المعروف التي تندرج تحت باب البر، لكننا نعلم أن الأمر بالتقوى وأن دلالة التقوى في ذاتها تعني اتقاء كل ما يؤدي إلى سخط الله عز وجل؛ وبالتالي دخلت فيها أيضا المدلولات، أي – يدخل في الأمر بالتعاون على البر كل ما كان من صنوف الطاعات التي يفعلها ويقوم بها الإنسان، ويدخل في الأمر بالتعاون على التقوى التعاون على كل ما يجنب سخط الله سبحانه وتعالى من ارتكاب المحرمات، والوقوع في المعاصي والآثام -، ومن العدوان والظلم من أن يتعدى ضرر الإنسان إلى غيره أيضا.
نحن نعلم أن الشرك بالله عز وجل هو ظلم؛ لأن الإنسان يظلم فيه نفسه، لكن في المقابل نعلم أن التقوى أيضا هي أن يقف المرء عند حدود الله سبحانه وتعالى فيؤدي ما أُمِرَ به وينتهي عما نُهِيَ عنه، فيتجنب بذلك سخط الله سبحانه وتعالى (هذا الذي يمكن أن يؤدي إلى سخط الله تعالى قد يكون بترك مأمور به أو بارتكاب محرم)؛ ولذلك فالتعاون إنما يكون في الحث على كل ما هو مأمور به من واجبات أو مندوبات أو مباحات وفي النهي عن كف كل ما حرم الله عز وجل، فالنهي عن الكف.. النهي عن التعاون على الامتناع عن ما حرم الله عز وجل وأن يعين الناس بعضهم بعضا في تجنب كل ما يؤدي إلى سخط الله عز وجل هو من التعاون المأمور به أيضا؛ ولذلك جاءت الآية بالأمر بالبر والتقوى.
مقدم البرنامج: إذاً هناك علاقة وثيقة بين التعاون، أو أن التعاون على البر والتقوى هو الذي يُفَسَّر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الشيخ كهلان: نعم.
فالتعاون على البر هو أن تعين غيرك أو أن تطلب العون من غيرك فيما يتعلق بأفعال طاعات تريد أن تؤديها أو تحث بها غيرك لكي يؤديها، لكن التعاون لنقل بالكف عن الشر.. التعاون في نهنهة الناس عن ارتكاب الشرور والآثام أو ما فيه مضرة بالآخرين هو الذي يفهم من الأمر بالتعاون على التقوى أكثر مما يفهم من الأمر بالتعاون على البر؛ وبالتالي نجد هذه النكتة اللطيفة في الأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم اقتصار الأمر بالتعاون على أحد هاتين الخصلتين العظيمتين من خصال هذا الدين، فإذاً التعاون على البر يكون بنشره بين الناس.. بنشر المعروف.. بتيسير سبله.. بإعانتهم على أداءه، والتعاون على التقوى إنما يكون بالتعاون على اتقاء الشر والعدوان والإثم، وأن تحول بين الناس وبين الوقوع في براثن هذه الأعمال التي تسخط الله سبحانه وتعالى.
نفس الأمر نجده – كما أيضا سألت – في النهي {…وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ…}.
الآن الإثم الأصل أيضا فيه أنه ما يقترفه الإنسان مما يغضب ربه في شأن نفسه ولا يعني بالضرورة أن يتعدى ضرره وأثره النفس إلى أن ينال الآخرين، فإن تعدى كان ذلك من العدوان على الآخرين؛ وبالتالي احتاج إلى أن يكون أيضا النهي من الإثم ومن العدوان (بمعنى أن النهي عن الإثم يشمل كل ما يرتكبه الإنسان مما يظلم به نفسه فقط في هذا السياق، والنهي عن العدوان هو أو التعاون على العدوان هو نهي عن كل ما يمكن أن يؤدي إلى إضرار بالآخرين ليؤصل بذلك قاعدة التعاون بين المسلمين والألفة).
بالمناسبة كلمة التعاون من مرادفاتها الإعانة، والنصرة، والمؤزرة، والتأييد، والإغاثة، والمعاضدة.. التناصر والمناصرة (هذه كلها من مرادفات الإعانة)؛ ولذلك قالوا: رجل كثير المعوان.. رجل معوان.. رجل مناصر لغيره.. مؤازر معين.. رجل يغيث الآخرين (كل هذه الصفات مرادفة لبعضها البعض) فلتقريرها في.. لجعلها راسخة في المجتمع أُمِرَ بما يجب أن يكون فيه التعاون، وحُذِّرَ في ذات الوقت مما لا يجوز أن يكون فيه التعاون، فلا يجوز أن يتعاون الناس على ترك ما أمر الله عز وجل أو ارتكاب ما حرم، ولا يجوز أن يعين – كما سوف نأتي أيضا إلى أدلة أخرى من كتاب الله عز وجل- أن يعين الناس بعضهم بعضا في بسط ظلم أو عداوة أو بغي وعدوان على الآخرين.
مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ هنا سؤال أيضا يطرح نفسه (التعاون هل يكون على مستوى فردي أو على مستوى المجتمع أو هو يتعدى إلى ما هو أكثر من ذلك؟) لكن نريد منكم أولا أن تحدثونا عن مبدأ التعاون في القرآن الكريم أين نجده؟
الشيخ كهلان: نعم يمكن الجمع بين السؤالين في جواب واحد.
أولا ننظر في جملة من الآيات القرآنية أيضا التي وردت فيها خصلة التعاون تصريحا أو كناية وإشارة واضحة، تصريحا هذه الآية التي أنصتنا إليها من كتاب الله عز وجل وفيها الأمر والنهي (الأمر بتعاون معين مخصوص، والنهي عن نوع مخصوص معين من التعاون) لكننا نجد أيضا في كتاب الله عز وجل في سورة الصف يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين بقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ… } (الصف:14) إلى آخر الآية الكريمة.
تصدر الآية بأمر المؤمنين.. مخاطبة المؤمنين بأن يكونوا جميعا في مجموعهم أنصارا لله، أي – هذه النصرة قلنا أنها من معاني التعاون.. من مرادفات التعاون التي نتحدث عنها -، فإذاً أمر المؤمنين بأن يكونوا أنصارا لله في صلتهم بخالقهم وفي تعاملاتهم فيما بينهم وهذه أيضا من المعاني التي يتحدث عنها الناس فيما يتعلق بالأمر بالتعاون على البر والتقوى أو العلماء يتحدثون عنها حينما يتحدثون عن دلالة الأمر بالتعاون على البر والتقوى والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان، كيف ذلك؟
أعمال الإنسان لا تخلو من أن تكون إما مما يندرج في صلة العبد بربه سبحانه وتعالى أو كانت صلة بينه وبين الآخرين، فالصلة التي تكون بينه وبين ربه هي التي عُبِّرَ عنها بالبر، والصلة التي يمكن أن تكون بينه وبين غيره وإن كان لصلته بخالقة أيضا فيها وجه هي التي أُمِرَ بها أو أشير إليها بالأمر بالتعاون على التقوى، ثم هذه العلاقة أيضا التي تكون بينه وبين غيره هي التي نُهِيَ من أن تكون مبنية على الإثم والعدوان، فحينما يكون الأمر بينه وبين ربه تبارك وتعالى فهذا منهي من أن يعين أو يطلب العون في ارتكاب إثم بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، ثم النهي عن التعاون على العدوان هو الذي يتعلق بمعاملاته بغيره.
إذاً الآية – آية سورة الصف – هي من الأصول أيضا التي تقرر مبدأ التعاون في المجتمع، وهي غاية في الأهمية وبالتالي كل السياقات التي وردت في قصص الأنبياء والمرسلين أيضا مما يتعلق بمخاطبتهم لأقوامهم في النصرة والتعاون والحث…الخ تندرج في هذا السياق أيضا.
لكن أيضا تخصيصا نجد في سورة التوبة { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ…} (التوبة:71).
أولياء بعض هي في الحقيقة هذه الولاية التي تقرها هذه.. التي تقررها هذه الآية الكريمة هي مبدأ التعاون الذي نتحدث عنه، وسوف نأتي إلى أن التعاون من شأنه الألفة والمحبة والمودة التي تكون بين الناس وليست هي فقط مجرد أعمال ظاهرة يؤديها الناس فإذا كانت الولاية تتحدث أيضا عن المحبة القلبية والألفة التي تستتبعها المؤازرة والمناصرة وتقرر بهذه الصيغة الخبرية التي تعني التقرير والتأكيد على أنها من رواسخ أركان المجتمع { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ…} في ماذا؟ {… يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر…ِ}.
مقدم البرنامج: شيخ كهلان اسمح لي أقاطعك.
ذكرت أن الولاية هذه منشؤها الألفة والتعاون، لكن أيضا بعد هذه الآيات في سورة التوبة جاءت آيات أخرى (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)(التوبة: من الآية67) إذاً هناك أيضا ولاية.
الشيخ كهلان: طبعا سوف نأتي لذلك، أي (هناك مصالح تجمع بين الناس سواء كانت هذه المصالح مصالح خير أو كانت مصالح شر لكنها تدفع الناس إلى أن يعين بعضهم بعضا وهذا مما يؤكده الواقع ويحكيه لنا مثل هذه الأدلة من كتاب الله عز وجل وغيرها من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -).
أيضا من شواهد أي من السياقات التي وردت، ورد تقرير وتأكيد مبدأ التعاون في المجتمع الإسلامي وبين المؤمنين القصص القرآني الذي المقصود منه أخذ العبرة والعظة، فحينما نقرأ مثلا في قصة ذي القرنين في سورة الكهف ونجد أن الله سبحانه وتعالى يحكي لنا أن ذا القرنين أوتي من كل شيء سببا ومع ذلك حينما طلب منه القوم الذين اشتكوا إليه فساد يأجوج ومأجوج نجد أنه يحكي لنا عن ذي القرنين الذي أوتي من كل شيء سببا أن ذا القرنين يخاطبهم بقوله {…فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ…} (الكهف:95).
الإعانة بالقوة التي يطلبها ذو القرنين فيما قصه لنا ربنا تبارك وتعالى في سورة الكهف قد لا تكون لاحتياجه إلى إعانتهم، وإنما لتأكيد مبدأ التعاون التي ينبغي أن تقام.. أن يشاد على أساسه بناء المجتمعات سواء كان ذلك في مقابل بناء وعمران وتشييد أو كان ذلك من أجل صد الفساد عن المجتمع وردع الظالم من أن يعتدي على حقوق المجتمع وعلى حرماته ومقدساته كما قص لنا ربنا تبارك وتعالى عن قصتهم أنهم اشتكوا من يأجوج ومأجوج فلذلك طلبوا منه الإعانة.. طلبوا منه أن يعينهم في ذلك فإذا به يطلب منهم أن يشاركوه العمل وأن يعينوه بقوة، وفي هذا من الدلالة ما لا يخفى.
إذاً هذا وغيرها أيضا مما سنأتي إليه في الأمر الصريح أيضا.
أي – ذكرنا إشارات، الآن نذكر إشارات بالأمر الصريح أو بالنهي الصريح أو بالقصص القرآني أو بتقرير صفات المجتمع المسلم-.
نجد أيضا في سياق الحديث عن ما ينجي هذا الإنسان ويحقق له السعادة والنجاح في دنياه وآخرته نجد سورة العصر أن من الخصال الأربع التي ذكرها الله سبحانه وتعالى حول من ينجيهم ربنا تبارك وتعالى نجد {…وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:3)، فبعدما قرر أن الإنسان خاسر إلا صنف من الناس يتصفون بصفات معينة {…إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فإذاً هذا أيضا سياق آخر نجد فيه الأمر بالتعاون لأن ورد بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهذا جوهر التعاون الذي نتحدث عنه.
مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ نحن برنامجنا دين الرحمة، ما علاقة التعاون أو تخصيصه بدين الرحمة؟
التعاون فطرة موجودة لدى البشر.. طبيعة موجودة لدى الناس بمختلف انتماءاتهم، فهم يحبون التعاون وإن لم يسعفهم التطبيق في أحيان كثيرة، فيما يختلف مفهوم التعاون في الإسلام عن ما هو موجود لدى سائر الناس؟
الشيخ كهلان: يختلف في جملة من الأمور ويمكن أن نصنفها للتسهيل إلى بعض النقاط: أولاً: التعاون مبدأ راسخ ثابت في هذا الدين ونحن لما نقول بأنه مبدأ وأنه ثابت وراسخ وأصيل في هذا الدين فهذا يعني أنه لا يراد لأجل أثره فقط وإنما يراد ويقرر لذاته؛ لأنه في ذاته من الأعمال التي يثاب عليها الإنسان، ولما كان كذلك كان حريا بهذا الدين أن يكون دين رحمة مع أن من المعروف والمقرر أن الإنسان كائن مدني بفطرته اجتماعي بطبيعته ولا يمكن له أن يقوم بكل شأنه وشأن ما سُخِّرَ له في هذه الحياة منفردا عن غيره مستقلا، لكن نحن لا نتحدث عن هذا المستوى من التعاون الطبيعي الفطري الذي يحتاج إليه الناس كما يذهب كثير من الناس في معالجتهم لموضوع التعاون، نحن نتحدث عن مبدأ أصيل يُسْعَى إليه ابتغاء ثواب الله سبحانه وتعالى، ويراد بأن فيه أجرا أعده الله سبحانه وتعالى لعباده الذين يقيمونه.. يقيمونه مبدأ راسخا في حياتهم، وهذا يؤدي إلى نقطة أخرى وهي أن التعاون طالما أنه مبدأ فهو غير خاضع لقاعدة المصالح الآنية الدنيوية الشخصية الذاتية، لا، وإنما هو مبدأ أصيل قد لا يكون لمن يشارك في التعاون أو يقيم مبدأ التعاون قد لا تكون له هو في ذاته مصلحة، لكن هناك منفعة عامة تنال الناس جميعا؛ فلذلك يقيمه ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى وتحريا لهذه المنفعة العامة التي قد لا يكون هو له فيها أدنى ذرة من نفع أو مردود مادي يراه الناس.
فإذاً هذه نقطة فارقة أيضا بين تقرير مبدأ التعاون الذي تؤكده لنا تشريعات هذا الدين الحنيف وبين مبدأ التعاون الذي يمكن أن يجمع الناس على مختلف مشاربهم وعلى مختلف أفكارهم وثقافاتهم، لكن الجامع هنا هو المصالح الدنيوية قد تكون مصالح آنية وقد تكون مصالح مستقبلية طويلة، لكن في كل الأحوال ومع ذلك التعاون خير من التفرق؛ بل التعاون في هذا الدين غير محصور بالمصالح المادية القريبة العاجلة؛ لأنه يُنْظَرُ إليه على أنه مبدأ ثابت، وأصل أصيل في هذا الدين.
بعد ذلك ينطلق التعاون في هذا الدين من جملة من الاعتبارات الشرعية مثل الأمر بالاعتصام بحبل الله عز وجل كقوله سبحانه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (آل عمران:102)، ثم يقول: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ… } (آل عمران:103)، فإذاً الاعتصام بحبل الله والنهي عن التفرق هو أصل في مبدأ التعاون؛ لذلك قلنا بأنه غير خاضع للمصالح الآنية المادية، وإنما هو أصل يجب على المسلمين أن يسعوا إلى ترسيخه عملا وقولا، وهذه فارقة أخرى أيضا؛ لأن الله عز وجل عاتب المؤمنين على.. أو عاتب الناس جميعا على أن يقولوا ما لا يفعلون وهذا الأصل حينما يقول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ{2} كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } (الصف:2-3).
هذا يعني أن التظاهر بالتعاون أو ادعاء التعاون أو أن يكون التعاون مقصورا على الكلام والأقاويل فقط هو ليس من شيم هذا الدين، التعاون الذي قررته هذه الشريعة السمحاء هو ذلك التعاون الذي لا يقتصر على الأقوال والكلمات، وإنما هو تعاون يدعمه الفعل والعمل في الواقع والسعي الحثيث الجاد في كل المستويات وعلى كل الأصعدة في الجوانب العلمية أو الفكرية أو في جوانب الخير، أي – في جوانب البر والتقوى بمفهومها الواسع -، وأيضا في جوانب النهي عن التعاون على كل ما يمكن أن يؤدي إلى مظلمة أو عدوان أو تعدي على حقوق الآخرين أو انتهاك أيضا حرماتهم من أعراضهم وأموالهم وأنفسهم إلى آخر أيضا ما نهت هذه الشريعة عنه وبينت عاقبته الوخيمة على النفس وعلى المجتمعات بأسرها.
إذاً هذه أيضا نقطة أخرى ما لم يكن هناك. .
لأن نحن نتحدث الآن عما يختلف فيه التعاون في هذا الدين الحنيف والتعاون الذي يعرفه الناس على مختلف – كما فهمت من السؤال – لا يكتفا في هذا الدين الحنيف بأن يكون بالأقوال والكلمات والشعارات دون أن يكون هناك أفعال راشدة حكيمة تنبع من صميم هذا الدين وتشريعاته وأخلاقه وآدابه أيضا لأنها تنطلق من قاعدة ولذلك الأمر { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا…} جاء عقب الأمر بالتقوى في الحياة وعند الممات {…اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ{3} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ…}.
أيضا من الفوارق الأساسية أن هذا التعاون هو ليس ثقيلا في هذا الدين على النفس، طبعا لأنه قربى وطاعة إلى الله عز وجل أولا، وثانيا لأنه ينطلق من قاعدة الألفة والأخوة بين المؤمنين (الألفة والأخوة بين المؤمنين فيما قرره لنا ربنا تبارك وتعالى أيضا حينما قال: { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ…}(الأنفال:63)، ومن قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليست الألفة أيضا يعني هي الألفة كقاعدة والتأليف أيضا ونريد أن يُرَسِّخ المجتمع أن يُرَسِّخ التعاون في المجتمع لابد له أن يؤلف قلوب الآخرين.. أن يتألف قلوب الآخرين ولهذا نتذكر قول الله تعالى { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ…} (آل عمران:159)، والخطاب لرسول الله وهذا يبين أيضا جزء من السؤال كنت قد أشرت إليه عن الصلة بين هذا التعاون.. هذا المبدأ وبين دين الرحمة هذه الآية { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ…}
إذاً الفظاظة وغلظة القلب وتنفير الناس هي مما لا يعين على ترسيخ مبدأ التعاون في المجتمع الإسلامي، وبالتالي فهذا يعني أنه لا بد من المودة والرحمة.. من تأليف الآخرين.
أنت إذا كنت تريد أن تستعين بالآخرين وتريد من الآخرين أن يكونوا أعوانا لك على الخير والبر والتقوى فلابد أن تتألف قلوبهم، وإلا انفضوا من حولك، إذا كان هذا الخطاب لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفي مجتمع صحابة رسول الله الذين كان فيهم رسول الله – عليه الصلاة والسلام – فما بالكم بغيره من الناس ومن البشر ومن أرباب العقول وأصحاب القرار وأهل المسئوليات في المجتمعات المعاصرة؟!
هم أحوج إلى ترسيخ الألفة والتأليف والمحبة واللين في المعاملة { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ…} هذا كله يؤدي إلى أن يكون التعاون مختلفا في هذا الدين الحنيف عن التعاون الذي يمكن أن يجمع الناس على مصالح وبانتهائها قد يتغيروا أو بتغير نتائج تلك المصالح قد يتغير مبدأ التعاون أو أن المصلحة الشخصية رابحة فيه على المصلحة العامة إلى آخر ما يتنافى مع هذه النقاط التي ذكرتها.
مقدم البرنامج: طيب شيخ أنت ذكرت في النقطة الأخيرة بأن التعاون من سماته أو النقاط الفارقة عن الإسلام وغيره من الأفكار أو المبادئ العليا أن التعاون في الإسلام سهل لين على النفوس المسلمة، لكن عندما نطالع في بعض كتب الأحكام الفقهية نجد أن التعاون قد يكون فرض عين على الإنسان، بمعنى(مثلا لو أن الإنسان رأى غيره يوشك على الهلاك، وكان باستطاعته أن ينجيه ولكنه لم يفعل ولم يوجد غيره بعض العلماء يوجب عليه الدية مثلا الدية أو غير ذلك من الأحكام الصارمة).
الشيخ كهلان: نعم.
هذا كله مما يؤكد أهمية التعاون، لكن أحيانا التعاون – كما صرح جملة من أهل العلم – أنه بحسب الأحوال التي يكون فيها قد يكون واجبا في بعض الأحيان كمثل هذه الحالة الفقهية التي ذكرتها، فالتعاون قد يكون واجبا هو واجب في الواجبات كما يقولون، أي – هذه المقولة أو هذا الرأي ينسب إلى الإمام الشافعي بأن هو واجب في الواجبات وهو مندوب في المندوبات والمباحات – فلذلك نحن نتحدث عن مبدأ ينبع من طوايا هذه النفس.
الرأي الفقهي هذا له ضوابط معينة لكن كان ينسب إلى بعض السلف أنه يقول: لو رأيت غريقا في نهر لما باليت أن أطرح نفسي في النهر ثم أنقذه، فو الله لذلك أحب إلي من الدنيا وما فيها”.
هكذا كانوا ينظرون إلى التعاون وهذا الذي نتحدث عنه، وهو بالمناسبة أنت قدتنا إلى صفات التعاون أيضا في المجتمع أنه أيضا تجد فيه الإيثار، تجد فيه التضحية، وقد تحدثنا عن هذه المعاني لكننا حينما نتحدث عن التعاون نجد أن أيضا التعاون فيه الإيثار وفيه التضحية وفيه كما قلنا أيضا الألفة والمودة؛ لأنه ينبعث من عقيدة راسخة، لهذا حينما نقارن بين صفتين أو بين خصلتين…
الله سبحانه وتعالى وصف المنافقين فقال: {…تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى…} (الحشر:14)، لكن حينما وصف المؤمنين قال: { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ…}، وهذا متصل بالقاعدة أيضا المتينة الراسخة وهي قاعدة أخوة الدين {…إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ…} (الحجرات:10).
أيضا في الأمر بالاعتصام بحبل الله عز وجل { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا…} معاني جليلة في آية واحدة قليلة الكلمات لكن نجد فيها كل هذه الفوارق والنقاط التي حاولنا أن نشرحها ونبسطها.
مقدم البرنامج: (طيب فضيلة الشيخ أنتم ذكرتم كذلك في معرض حديثكم بأن التعاون يرسخ أو التشريعات الإسلامية ترسخ صفة التعاون بين المسلمين) نضرب مثالا على ذلك، هل مثلا الزكاة مثلا ترسخ صفة التعاون؟
الشيخ كهلان: نعم.. نعم.
حتى الصلاة، لنأخذ الصلاة إذا كان من حيث الأجر والثواب مثلا – وهذا صرح به أهل العلم – حينما يصلي المصلي منفردا له أجر، لكن إذا صلى جماعة أي تعاون الناس.. تعاون المسلمون وصلوا.. أدوا الصلاة جماعة كانت درجة ثواب صلاتهم أعظم عند الله عز وجل من أدائها فرادا؛ ولذلك ورد الحديث “صلاة الجماعة خير من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة” كيف تتحقق ذلك؟
بتعاون المسلمين، حتى في الصلاة لما يصلّّ المسلم – كما ينسب هذا القول إلى العز بن عبد السلام يقول: إن المسلم له أن يرفع دعوى حسبه على غيره.. على مسلم غير مصلّ يطالبه فيها بحقه في صلاته؛ لأنه حينما يصلي ويقرأ القرآن يقول: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } (الفاتحة:6)، لم يقل (اهدني) بل يسأل ربه بالهداية له وللمسلمين { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }.
أما الزكاة فالأمر فيها واضح، هي تكافل اجتماعي فرضه الله سبحانه وتعالى لتحقيق أو لترسيخ أيضا هذا المبدأ وإعطاء صور حية، كل العبادات والشعائر التعبدية حينما يتأمل فيها الناس نجد أنها مما يعين الناس على ترسيخ مبدأ التعاون بخطوات عملية يمارسها الناس وبالتالي يسهل هذا كله من ترسيخه في القلوب.. ترسيخ التعاون مبدأ في القلوب، وتطبيقه أيضا في أرض الواقع.
مقدم البرنامج: نعم.
طيب أيها الإخوة المتابعون والمستمعون سوف نعود لمناقشة مبدأ التعاون ولكن دعونا قبل ذلك نتابع هذا الفاصل ثم نعود لاستكمال حديثنا.
روى البخاري ومسلم وغيرهما من طريق أبي بردة عن أبيه أبي موسى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ثم شبك بين أصابعه”.
مقدم البرنامج: شيخ كهلان كثير من الناس يدركون أهمية التعاون خاصة بعدما تفضلتم به الآن، ويعملون على تحقيقه لكن على النطاق أو المستوى الفردي، هل يقتصر مفهوم التعاون على هذا الإطار فقط؟
الشيخ كهلان: لا، لا يقف على جانب معاملات الناس فيما بينهم كأفراد، التعاون المطلوب من المسلمين.. من المؤمنين كما نفهم من هذا الحديث “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، ثم شبك بين أصابعه”.
حينما يقول: (كالبنيان) فإن ذلك يعني المجتمع بأسره، بين مجتمع ومجتمع، بين إقليم وإقليم، بين دولة وأخرى، بين مجموعة من الأقاليم والدول ومجموعة أخرى تتصل فيما بينها بروابط، فكيف إذا كانت بروابط ومصالح ومقومات مشتركة؟
فكيف إذا اجتمع مع هذه المقومات المشتركة والمصالح أيضا المشتركة إذا اجتمع مع ذلك دين يجعل من التعاون أساسا في تعاملات الناس فيما بينهم؟
يرسخ ذلك عقيدة الإخوة الإيمانية والأمر بالاعتصام بحبل الله عز وجل وأن يكون منشأ هذا التعاون المحبة والألفة والمودة بين الناس؛ لأن هذا أحرى أن يكون، فهو لا يقتصر على أن يكون في إطار الأفراد فيما بينهم وإنما يمتد ليشمل الجماعات والمجتمعات والأمم والأقاليم والدول؛ لأنه لصالح هذا الإنسان أي كان هذا الإنسان، ولأنه في هذا الدين الحنيف مما يثاب عليه هذا الإنسان حينما يسعى إليه وحينما يقرره، الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: ” لو دعيت إلى مثل حلف الفضول لأجبت”، وكان هذا الحلف الذي يشير إليه r لما أبرمه أهل الجاهلية في إبان دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع ذلك فهو يقول: ” لو دعيت إلى مثله لأجبت “، فكيف يكون الحال حينما نجد أن هناك أيضا مبادئ أخرى تتساوق مع هذا المبدأ، تقود الناس – كما قلت – بمجموعاتهم ومجتمعاتهم وأقاليمهم وشعوبهم.
ونفس الآية التي نفهم منها {…إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…} هذه آية أيضا تضاف إلى ما تقدم في تقرير مبدأ التعاون، ليس على مستوى الأفراد فقط في معاملاتهم وإنما على مستوى الشعوب والأمم.
مقدم البرنامج: نعم.
شيخ كهلان أيضا نلاحظ في قول الله تعالى { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (الممتحنة:8).
هل نفهم أن مبدأ التعاون كذلك لا يكون بين المسلمين فقط؟
الشيخ كهلان: نعم هذا واضح هذا في سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والآية التي ذكرتها أصل فيه، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – وقع المعاهدات في هذا الدين؛ لأن من طبيعته – كما قلت – نشر هذه الخصلة (التعاون على البر والتقوى)، وطالما أن هناك مصالح عامة يقررها هذا الدين فإن ذلك مما يحث عليه هذا الدين، فهي لذلك.. هي لا تقف عند حد البشر.. والناس فقط، يمكن أن يكون في الرفق العام الذي ينال حتى البهائم العجماوات، والرسول – صلى الله عليه وسلم – حينما يقول: “إن الله قد كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته” يتحدث عن الإحسان ويقرره ويذكر أصنافا تتصل بالبهائم والحيوانات والأنعام التي أباحها الله سبحانه وتعالى لنا.
مقدم البرنامج: نعم، إذا أتينا فضيلة الشيخ إلى فتح مكة، سببه الظاهر أن بعض القبائل نكثت العهد الذي كان مع أحلاف الرسول – صلى الله عليه وسلم – من غير المسلمين.
الشيخ كهلان: من غير المسلمين نعم نعم أحسنت.
مقدم البرنامج: طيب شيخ كهلان فصلتم الحديث {…وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى…}،هل لكم أن توضحوا لنا بالمزيد من الأمثلة عن المواضع التي يكون فيها التعاون محرما؟
الشيخ كهلان: نعم.
كل ما كان تعاون على إثم هو محرم، فالإثم.. المعاصي التي يمكن أن يقترفها الإنسان فلا يجوز للمرء أن يعين غيره على ارتكاب معصية أيا كانت هذه المعصية، بل الواجب عليه أن يعينه على ترك تلك المعصية، فتكون الإعانة بنهيه وبزجره وبردعه.. (بنهيه عن ذلك المنكر الذي يريد أن يقترفه)، وهناك جملة من النقاط التي يحذرنا منها رسولنا – صلى الله عليه وسلم – فيما يتعلق بجانب السؤال الذي تشير إليه.
مثلا: “ولا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”، “سباب المسلم فسوق وقتاله كفر”، حتى يبين لنا الجوانب التي لا يصح فيها تعرض المسلم على أخيه المسلم، فلا يجوز أن يعامل المسلم بالسباب.. أو أن يعين المسلم غيره من المسلمين على سباب آخرين، ومن هذا السباب التفسيق والتبديع والتكفير والتنابز بالألقاب والإخراج من الملل، وكل ما لا يرتضيه هذا الدين الحنيف، وأيضا ويقولr: “لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض” أيضا من ظلم الآخرين والتعدي عليهم، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يذكر أيضا أصنافا مثلا حينما يقول: “صنفان من أهل النار لم أرهما” بدأ قال: “قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات…” الخ الحديث.
هذا يعني أنه لا يجوز أيضا أن يعين الفرد غيره على إيقاع ظلم بآخرين، وأسوأ أنواع الظلم التي يمكن أن تقع هو الظلم في الأعراض والأنفس والأموال والدماء، هذه لأن شررها يصيب الناس جميعا لأنها مما جعلها الله سبحانه وتعالى من المحرمات لبقاء واستقرار هذا الإنسان في هذه الحياة؛ ولذلك نجد من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا.
مقدم البرنامج: نعم.
طيب شيخ الآن استمعنا لحديث “المؤمن للمؤمن كالبنيان” نطلب منكم أن تعرفونا على أهم مقومات التعاون في ديننا الحنيف من خلال أدلة تطبيقية تتصل بالتعاون.
الشيخ كهلان: لنبدأ إذاً بهدي الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول &: “من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غارما في عسرته أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله”، فإذاً لم يكتف بتقرير أن قاعدة التعاون التي تكون بين المسلمين راسخة في المجتمع وإنما يبين أوجه عملية من التعاون يحث فيها الناس على أن يسلكوا فيها، فمن أعان مجاهدا في سبيل الله أو غارما في عسرته في دَيْنِ.. في كرب هو فيه أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويقول أيضا – صلى الله عليه وسلم -: “من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له”، ثم قال الراوي: ثم ذكر أصنافاً من المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.
ولذلك بادر المسلمون إلى تطبيق هذا المبدأ في واقع حياتهم فأبدعوا في مجالات الأوقاف على سبيل المثال (اخترعوا طرقا أو اخترعوا أنواعا من الأوقاف كانوا يتنافسون فيها على انتقاء ما هو جديد وما هو نافع للمجتمعات)، فسارت حركة المجتمعات بهذا التعاون إلى حيث حققوا لأنفسهم الحضارة وحققوا لأنفسهم الرقي والنماء، وفعلا تجد أصنافا متعددة-أي في مجالات متعددة.. فموضوع الأوقاف – هو مثال واحد فقط – بينما تجد أصنافا من الأوقاف قد لا تخطر على بال أحد وكان لها الأثر الكبير في الازدهار العلمي والمدني حتى في المجتمعات الإسلامية).
مقدم البرنامج: هذه نقطة فارقة إذاً بين التعاون في الإسلام والتعاون في غيره من الديانات.
الشيخ كهلان: نعم.. ينطلق من عقيدة راسخة ومن أيضا مبادئ تحققه وتعين عليه.
هو في مصدره وفي سبيله وفي غايته مختلف عن غيره، لكنه من حيث مضمونه، أي – من حيث ذات التعاون – التعاون مطلوب مهما كان والمصالح التي تجمع الناس ويمكن أن تؤلف بينهم ويمكن أن توحد وجهتهم هذا أيضا مقصد من مقاصد الشريعة كما يقول الله سبحانه وتعالى: {…لِتَعَارَفُوا…}.
مقدم البرنامج: نعم.
أعزاءنا المستمعين والمتابعين تأكيدا وتلخيصا لما تقدم من الحديث عن التعاون أعددنا لكم هذا الفاصل المشتمل على حديث نبوي شريف.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، و من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريق يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه”.
“خاتمة الحلقة”
مقدم البرنامج: شيخ كهلان في ظل التكتلات والتجمعات التي يشهدها العالم اليوم في مختلف جوانب الحياة – كالتكتلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها – أين مكان المسلمين؟ وما مدى أثر التعاون الذي تفضلتم به في بلوغ ما هو أفضل لهذه الأمة؟
الشيخ كهلان: نحن نعلم يقينا أن كل الناس ينشدون التعاون، حتى الذين يبتغون الوصول إلى غاياتهم الذاتية المادية – بغض النظر عن مشروعية هذه الغايات – يسعون إلى الاستعانة بغيرهم، لكن الذي نتحدث عنه هو كما قلنا مبدأ أصيل ينطلق من ابتغاء ثواب الله عز وجل، وينطلق من قواعد راسخة أيضا تدعو إلى الألفة والتأليف وإلى المودة والرحمة، وإلى السعي في مصالح الناس وإلى حسن الظن بهم وإلى الثقة فيهم، وإلى أن لا تكون دعاوى التعاون دعاوى جوفاء فارغة وإنما تكون أعمالا وأفعالا حميدة رشيدة واعية؛ فلذلك ينبغي فعلا للمسلمين اليوم أن يتعاونوا.
نحن نعلم أن الناس صارت تجمعهم تكتلات.. اتحادات.. هيئات.. مجامع.. كلها؛ لأن الناس أدركت أهمية التعاون وأنه يمكن للمجتمع وأمة من الأمم أن تصل إلى مبتغاها بما هو أفضل وأحسن حينما تتعاون مع غيرها، فإذا كان حال واقع عالمنا المعاصر اليوم أنهم يدركون أهمية التعاون ويترجمون هذا المبدأ إلى واقع نجد فيه تجمعات متعاونة فاعلة في المجتمع فإن المسلمين أولى وأحرى نظرا لهذه المبادئ التي ذكرتها مما يقرر لهم أهمية التعاون وبواعث التعاون وطرق التعاون ومآلات التعاون.. هم أحرى وأولى بأن يجعلوا من التعاون ركيزة في مجتمعاتهم (فيما بين المجتمعات أنفسها.. فيما بين الدول والأمم والشعوب)، وأن ينطلقوا من هذه المبادئ؛ لأن في ذلك الخير لهم والخير للإنسان أيا كان هذا الإنسان، ولا ينبغي لهم أن يقفوا عند حدود الشعارات والأقوال بل لابد أن تكون تجمعاتهم بأي صفة كانت كان تطبيق التعاون فيما بينهم لابد أن يكون فاعلا وأن يكون مؤثرا وأن يكون أيضا في كل جوانبه – فيما يتعلق بالبر والتقوى وفيما يتعلق بالتعاون على كف الناس عن الإثم في نصرة بعضهم.
كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”، فقالوا: ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما يا رسول الله؟
قال: “بكفه عن ظلمه”، فإذاً الكف عن الظلم ورفع الضيم عن الناس وصيانة أيضا حرمات هذا الدين بتعاون وألفة ومحبة ومودة هي أدعى أن تكون في هذه الأمة، وإلا كانوا كما خاطب الله سبحانه وتعالى غيرهم من الأمم السابقة {…أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ…} (البقرة:85)، وكانوا أيضا ممن يشملهم قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ{2} كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } (الصف:2-3).
مقدم البرنامج: نعم وخاصة أن المسلمين تجمعهم روابط عديدة يمكن أن يتعاونوا فيها.
نحن نجد أن هناك تجمعات سياسية أو اقتصادية بين مؤسسات أو هيئات تكاد لا تربط بينها سوى لا دين أو لغة أو اتحاد في الأهداف.
الشيخ كهلان: وإنما مصالح فقط .. لأن هذه الاعتبارات التي لأجلها يجتمع الناس ويسعون إلى إيجادها حتى يحققوا بذلك التعاون فيما بينهم هي فيما يخص المسلمين جميعا موجودة بحمد الله عز وجل، ومع ذلك فوقها وقبلها ومعها هي عقيدة إيمانية تجمعه في ظلالٍ من آصرة الأخوة، وفي ظلالٍ من مبادئ المحبة والألفة والتعاون والإيثار والتضحية وتقديم المصالح العامة والرفق واللين، وإيجاد المؤسسات، لا ينبغي أن تكون نماذج يمكن أن تصغر وتكبر.. بل يمكن أن يُحقق من خلالها التعاون؛ ولذلك الحديث الذي أنصتنا إليه يذكر صورا عديدة من التعاون فضلا عن ذكره “ومن كان في عون أخيه كان الله في عونه”، أو بيان أيضا مآل هذا التعاون أنه في الحقيقة كأن المرء يعين نفسه حينما يعين غيره؛ لأنه بذلك ينال رضا ربه تبارك وتعالى عليه وينال عون ربه سبحانه وتعالى له.
مقدم البرنامج: نعم.
طيب فضيلة الشيخ ما الأمور في المقابل ترون أنها يمكن أن تؤدي إلى الإخلال بحقيقة هذا المبدأ؟
الشيخ كهلان: من هذه الأمور أيضا نجدها في كتاب الله عز وجل في مقدمتها التفرق؛ ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول: {…وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ…} (الأنفال:46).
التنازع هو الذي يؤدي إلى التفرق وإلى التشتت المذموم المنبوذ في هذا الدين؛ لذلك نجد أنه حينما نجد الأمر بالتعاون والألفة والمودة والاتحاد بين المؤمنين نجد مباشرة النهي عن التفرق والنهي عن التنازع والنهي عن كل ما يؤدي إلى ذهاب ريح المسلمين، فلهذا نجده في هذه الآية التي ذكرتها {…وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ…}، والنتيجة واضحة أيضا – إذا تنازعتم فشلتم-، {…وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } الصبر هذا يربطونه بسورة العصر{…وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
نجد أيضا في آية سورة آل عمران أن الله تعالى يقول: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا…}، ومرة أخرى يقول: {…وَلاَ تَفَرَّقُواْ…}، ثم يقول: {…وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ…} يعني مما يؤكد هذا المعنى بالأمر بالألفة والنهي عن التفرق {…وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا…} (آل عمران:103).
مقدم البرنامج: في ختام هذا البرنامج لا يسعني سوى أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي المستشار الشرعي بمكتب المفتي العام للسلطنة، والشكر موصول لكم جميعا أيها الإخوة المتابعون والمستمعون على هذه المتابعة ونذكركم بأن الحلقات المباشرة لهذا البرنامج سوف تتوقف خلال الدورة البرامجية القادمة بإذن الله.
“انتهت الحلقة”