عنوان الحلقة: “الإيثار”
بثت في:
24 / ذو الحجة / 1429هـ
22 / ديسمبر / 2008 م
مقدم البرنامج: أيها الإخوة المستمعون السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
نحييكم في حلقةٍ جديدة تجمعنا بكم اليوم وبرنامج دين الرحمة، وحلقة اليوم سنتناول فيها موضوع “الإيثار”.
مستمعينا الكرام نرحب بكم معنا في هذه الدقائق و نرحب بضيف البرنامج الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مرحباً بك دكتور.
الشيخ كهلان: حياكم الله وأهلاً وسهلاً بكم، وأحيي أنا أيضاً الإخوة والأخوات الذين يتابعون هذا البرنامج، ونسأل الله تعالى في مستهله أن يوفقنا إلى كل خير وأن يجمعنا على طاعته وأن يُعلمنا ما ينفعنا إنه تعالى سميعٌ مجيب.
مقدم البرنامج: في بداية الأمر دكتور نريد أن نتعرف على العناصر التي سنستعرضها هذا اليوم في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج – ومثل ما ذكرت موضوع الإيثار -.
ما نوع الأفكار والمداخلات التي يمكن للإخوة والأخوات والمستمعين والمستمعات أن يشاركوا بها في هذا البرنامج اليوم؟
ثم ما صلة هذا الموضوع بالإطار العام لبرنامجنا دين الرحمة؟
ما هي الصلة المعينة؟
الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع الإيثار هو من الموضوعات التي حاولت مراراً أن نتعرض لها في هذا البرنامج لكنني كنت أرجئ ذلك وأحسب أن الفرصة قد حانت الآن لطرحه، والسبب أنه متصلٌ بجملةٍ من القضايا.. بجملة من القيم والأخلاق النبيلة التي كان ينبغي لنا أن نتعرض لها أولاً كالمحبة وسلامة الصدر والنزاهة والوفاء والسخاء والكرم، فالإيثار هذا الخُلُق النبيل وهذه الخصلة الكريمة وهذه القيمة التي أكرمنا بها هذا الدين الحنيف هي من ضمن الخصال والقيم التي تندرج في هذه المنظومة الطيبة المباركة من منظومة القيم و الأخلاق التي ذكرتها، فهي شديدة الصلة بالمحبة وهي شديدة الصلة بسخاء النفس وبالكرم وباحترام الآخرين وبالتعاون، وكل هذه القيم تعرضنا لها؛ وبالتالي أصبحت الفرصة مواتيةٌ الآن للتعرض لموضوع الإيثار، وسوف نتعرض فيه إلى جملةٍ من العناصر مثل فهم الناس للإيثار — ما هو الإيثار -.
متى يكون الإيثار.
كيف تناول القرآن الكريم والسنة المطهرة (بكل ما فيها من أقوالٍ وأفعالٍ وتقريراتٍ) كيف تناولت هذا الخلق النبيل وهذه الخصلة الحميدة؟
كذلك سوف نحاول أن نسبر أغوار المجتمع لنكتشف سوياً هل هذه الخصلة موجودة في المجتمع، أو هل يحتاج إليها المجتمع أو أننا في غنى عنها وما هي إلا من ضمن النوافل والفواضل التي يمكن لحياة المجتمع أن تستقيم بدونها وما هي إلا من الأمور التي هي أقرب إلى المثاليات منها إلى الواقع و إلى ما يحتاج إليه الناس في حياتهم المعاصرة.
هذه ستكون محور حديث – هذا العنصر.. هذه القضية سوف تكون محور حديثٍ أيضاً – فضلاً عن ما يتصل بآثار الإيثار في المجتمع سواء تصور الناس بأن هناك أثاراً إيجابية – وهناك لا ريب آثاراً إيجابية وإلا ما كنا عددناها من القيم وما اعتبرناها ذات صلة بقيم هذا الدين – لكن ما هو فهم الناس لهذه الإيجابيات، ثم أيضاً في المقابل اختفاء هذه الخصلة من المجتمع ما الذي يؤدي إليه.
وإن اتفقنا في النهاية على أنها من الخصال التي ينبغي أن نحافظ عليها وأن نغرسها فما هي الوسائل العملية أيضاً التي يمكن أن نربي عليها أنفسنا وأن ننشِّئ عليها أجيالنا بمشيئة الله تعالى.
(هذه كلها من العناصر والقضايا التي سوف نعالجها بمشيئة الله تعالى اليوم؛ وبالتالي أصبحت الصلة حينما قلت بأن هذا الخلق.. هذه القيمة متصلة بقيم – بالمحبة والكرم والسخاء والنزاهة والتعاون وحب الآخرين والوفاء والأمانة – أصبحت الصلة بين الإيثار وبين الإطار العام للبرنامج (واضحةٌ جلية لا نحتاج إلى مزيد شرحٍ وبيان) .
مقدم البرنامج: نعم.
وبالتأكيد نرحب بمستمعينا والذين يودون أن يشاركونا في هذا البرنامج، ودعونا الآن ندخل في الموضوع، وخير ما نبدأ به هو هذه الآيات الكريمة التي ننصت إليها سويةً ثم نعود إليكم مستمعينا تابعونا…
{ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:8-9).
مقدم البرنامج:صدق الله العظيم.
دكتور كهلان بعد أن استمعنا لهذه الآيات الكريمة نطلب منكم أن تحدثونا عن معنى الإيثار،وكيف تناول القرآن الكريم هذه القيمة النبيلة – قيمة الإيثار- ؟
الشيخ كهلان: هذه الآيات التي أنصتنا إليها من سورة الحشر هي آياتٌ تنص صراحةً على هذه القيمة التي نتحدث عنها، وهذا السياق الذي وردت فيه هذه القيمة هو سياقٌ
يُذكِّر بحادثةٍ فارقةٍ في تأريخ هذه الأمة، إنه سياقٌ يُذكِّر بحادثة الهجرة وما حصل في مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونجد في هذا السياق حتى – لا نخرج بعيدا عنه – أنواعاً من الإيثار وليس فقط ما نصت عليه الآية فقط من قول الله عز وجل {…وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ…}، وإنما نجد الإيثار في أبلغ معانيه بداية في ما فعله المهاجرون أنفسهم فإنهم خرجوا من ديارهم.. من ممتلكاتهم.. من أموالهم.. من دورهم.. من كل ما يملكون.
خرجوا لا يملكون إلا ما يلبسون، وأثروا ما عند الله عز وجل ، آثاروا الإيمان والعقيدة الحقة وقدموا كل ما يملكون من دور وأموال ومن أرحام ومن ذكريات في أرض ألفوها وألفتهم (كل ذلك آثاروا به ما عند الله عز وجل) وخرجوا يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله؛ نجد هذا المعنى في قوله عز وجل: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ…}، وهذا التعبير{…أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ…} يشي بالحالة النفسية التي كانوا عليها، وهو صريح في أنهم تركوا ما يملكون من دور وأموال وأن غايتهم كانت ابتغاء فضل الله عز وجل ورضوانه ونصرة الله ورسوله؛ ولذلك وصفهم بأنهم صادقون، فهم صادقون فيما تحلوا به ومما تحلوا به الإيثار.
هم صادقون في إيمانهم.. هم صادقون في مقاصدهم وغاياتهم ومع ذلك فإن الذين أضافوهم – الذين استقبلوهم – وصفهم الله عز وجل مرة أخرى صراحة بهذا الوصف فقال عنهم أي – الأنصار – {…وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ…} وهذا أبلغ أنواع الإيثار، فمعنى الإيثار هو أن تقدم غيرك على الحاجة مع افتقارك إليها مع رغبتك فيها، وهذا معنى قوله تعالى {…وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ…}.
الخصاصة هي ما يختص به المرء، أي – ما يحتاج إليه إلى حد أن يريد أن يريده ليكون خاصا به.. ليكون من خصوصياته كما نعبر نحن اليوم-.
هم مع شدة احتياجهم إلى ما في أيديهم.. مع شدة افتقارهم إلى ما في أيديهم – ونحن نعلم أن المهاجرين كانوا أهل تجارة وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة إلا أن الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة و ما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة -؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير{…وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ…}، فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغن عن تلك الحاجة فإن هذا لا يستغرب ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم حينما قال: {…يسألونك ماذا يُنفقون قل العَفْو…} (البقرة:219) أي الزيادة.. ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم ، لكن هذه المرتبة أعلى..هذه درجة أعلى هو أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجا إليه شديد الاحتياج شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي نتحدث عنه الآن ، والآية فيها جملة من الملاحظ فمثلا نجد أن الله عز وجل صدر صفات هؤلاء الأنصار بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه ولا يجد في نفسه شيئا أن يشارك إلى أن يقدم إخوانه على أن يقدمهم في الخير الذي لديه؛ ولذلك لا يجد في نفسه أي شيء (قد يعطي الواحد منا أخاه حاجة وهو محرج وهو يستحيي منه وهو يتمنى أنه لم يفعل ولم يُسأل ولم يُطلب منه ذلك لكن هؤلاء بفعل تلك المحبة وبفعل ذلكم الإيمان الصادق ما وجدوا في صدورهم حرجا؛ ولذلك عبر القرآن الكريم بقوله {…وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا…}
قال :{…وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ…}؛ ولذلك امتدحهم {…وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}).
فإذاً هذا هو معنى الإيثار بمعناه العام وهو أن يقدم الواحد منا حاجة أخيه على نفسه برغم احتياجه لتلك الحاجة.. برغم احتياجه إليها، فقد يجوع لكي يشبع غيره لكي يشارك أخاه في طعامه وقد يتكلف المشقة في حياته لكي يهنأ أخوه في معيشته وقد يبذل نفسه لأجل أن يحيي نفس أخيه الذي يؤثره عليه (كل هذا هو معنى الإيثار، وكل هذه المعاني والدلالات نلمسها في هاتين الآيتين الكريمتين اللتين أنصتنا إليهما على أن هناك آيات أخرى سوف نتعرض لها في سياق الحديث بمشيئة الله تعالى) .
مقدم البرنامج: طيب اسمح لي شيخ كهلان هنا سؤال من خلال تأمل هذه الآية (حدود من يؤثرهم الإنسان نلاحظ أن الله تعالى قال:{…وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ…} المفعول به هنا حذف، لم يقل أولا يؤثرون إخوانهم المسلمين، فهل هنا يدخل غير المسلم ؟ ، ثم أيضا لم يقل يؤثرون الناس، هل معنى غير الإنسان أيضا يدخل في هذا النطاق؟)
الشيخ كهلان: سوف نأتي للمعاني الواسعة العامة للإيثار، لكن المقصود هنا لا ريب أنهم يؤثرون إخوانهم الذين هاجروا إليهم ، هذا المعنى هو الذي أكد عليه أهل التفسير لكن معنى الإيثار سوف نتعرض له إلى ما تشير إليه أن الإنسان قد يُؤْثِرُ المسلم قد يُؤْثِرُ غيره بحسب مراتب وأحوال سوف نتعرض لها إلى حد أنه يعرض نفسه للخطر في سبيل إنقاذ حياة بهيمة وقد أشاد الرسول – صلى الله عليه وسلم – بفعل من صنع ذلك وشهد له بالجنة لكن هنا ملحظ أنا أستشفه أيضا من سؤالك، أي – حينما نقول بأن المقصود في هذا السياق القرآني هو إيثار الأنصار للمهاجرين نحن نتذكر هنا أن الأنصار هؤلاء الذين امتدحهم الله عز وجل ووصفهم بهذه الصفات ثم ذكر أنهم هم المفلحون كانت لما ينفضوا عن أنفسهم غبار حرب بعاث حينما أتى إليهم المهاجرون وكانت – تعبيرا نقول – لازالت دمائهم تقطر من الحروب التي كانت فيما بينهم – هم أنفسهم بين الأوس والخزرج – وإذا بهذا الإيمان وبهذه المحبة التي لامست شغاف قلوبهم إذا بها تتحول إلى هذا الخلق الرفيع وهذا السلوك الذي ضرب به المثل في كتاب الله عز وجل الخالد، لكن نحن نجد أن الله تعالى ذكر في كتابه أو أشار في كتابه الكريم أيضا حينما قال في سورة الأنفال { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (الأنفال:63)
إذاً هذه صفة يتصف بها المجتمع الإسلامي؛ لذلك بعض المفكرين يقول بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي – ليس لها مرادف في اللغات الأخرى.. مرادف يؤدي معناها ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف زكاها غرسها وحث عليها ودعا إليها .
نجد أيضا هذا المعنى، أي – ما أشرت إليه – في غير هذا السياق وهو إيثار غير المسلم الله سبحانه و تعالى امتدح المؤمنين.. امتدح المسلمين في كتابه الكريم بقوله { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً{8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} (الإنسان:8-9).
إذاً {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ…} هذا التعبير.. هذه الجملة المعترضة على رغبتهم فيه وعلى حبهم لذلكم الطعام ولذلكم المال إنما يطعمون به الأسير والأسير هنا المقصود به غير المسلم، ويطعمون به الفقير، ويطعمون به ذا الحاجة ابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، فإذاً المسلم يبادر أو هذه الخصلة مبعثها الإيمان، ويعني الذي يسوقه إليها هو ابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى وليس ابتغاء للمقابل من الطرف الذي يُؤْثَرُ على النفس .
مقدم البرنامج: إذاً شيخ كهلان كذلك يمكن أن نضيف بأن هناك فرقا بين الإيثار ومصطلح الكرم؟
الشيخ كهلان: نعم.
كثير ممن كتب في موضوع الإيثار حاول أن يَفْصِلَ بين جملة من الخصال النبيلة التي ترد في هذا السياق – بين الكرم والسخاء والإيثار- وصنفوا بحسب اعتبارات لأن منهم من يعتبر الإيثار أعلى درجات السخاء ويعتبر السخاء أعلى درجات الكرم، ومنهم من نظر إلى الإيثار على أن الإيثار ذاته هو درجات ومراتب، فهي المسألة اعتبارية اصطلاحية لكنها جميعا من الخصال النبيلة التي حث عليها هذا الدين وبينها فرض ، فالكرم وهو أيضا من الخصال التي أمرنا بها هذا الدين وحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته” صريح في الأمر بالكرم، وكم كان صلى الله عليه وسلم…أي – قصة الأعرابي وهي تصلح يستشهد بها في الموقفين الذي أتى إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكانت للمسلمين غنيمة من أغنام – كما في الرواية – تسد ما بين جبلين، فالأعرابي سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ما جاء به فأخبره بأنه نبي مرسل من عند ربه يدعو إلى توحيد الله عز وجل و إلى شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ثم أعطاه الماشية التي بين الجبلين كل ما فيها، هذا دعا الأعرابي ، نحن نعلم كانت هذه أموالهم وثرواتهم إنما كانت في الأنعام والمواشي، فوادي مليء بالأغنام وإذ برسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدفعه لهذا الأعرابي ، فيرجع الأعرابي إلى قومه فيأمرهم بالدخول إلى الدين و يقول لهم: فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أو من لا يخاف الفقر.
مقدم البرنامج: نعم.
دكتور تحدثنا عن الإيثار في الجانب القرآني وبالتأكيد السنة النبوية الشريفة مليئة بنماذج وبمعاني كثيرة عن الإيثار أين نجد هذه المبادئ وهذه المعاني وهذه العناصر المتوفرة في الإيثار في السنة النبوية الشريفة؟
الشيخ كهلان: نعم.
إذاً حتى ننتقل إلى السنة أنا أؤكد على ما ورد في سورة الدهر أو سورة الإنسان {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً(8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} (الإنسان:8-9)، وآية سورة الأنفال { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } (الأنفال:63)، وآيات سورة الحشر { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ… } إلى قوله تعالى {… وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ…} هذه المعاني نجد في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القولية والفعلية والتقريرية ما يؤكدها بأمثلة واقعية تطبيقية عملية فيها من العبر والعظات الكثير حينما يحسن الواحد منا النظر فيها (مثلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مرة من المرات يروى عنه أنه كانت له كساء جديد – قيل جبة وقيل غير ذلك لكنه كساء جديد – فخرج عليه الصلاة والسلام به في أول ما يلبس ذلك الثواب فرآه رجل من صحابته الكرام فأعجب به وطلبه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن خلع ذلكم الرداء أو ذلكم الكساء عنه وألبسه ذلكم الصحابي، صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عاتبوا ذلك الصحابي على طلبه هذا الرداء الجديد من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع علمهم باحتياج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لذلك الرداء لكن الرجل أيضا في الحقيقة ما كان كما عبر بنفسه قال: والله ما سألته لألبسه وإنما لأكفن فيه، هنا موقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي آثر أحد صحابته بذلك اللبس الذي كان محتاجا إليه والذي كان يلبسه لأول مرة، وهذا المعنى أيضا نجده حينما نتأمل في قصة الأعرابي الذي جذب أو جبذ كساء كان على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى أثر ذلك في عنقه الشريف – صلوات الله وسلامه عليه – فما كان منه عليه أفضل الصلاة والسلام إلا أن تعامل باللين والرأفة والرحمة مع ذلكم الأعرابي وآثره بما كان عنده.
أيضا حينما نتأمل بعض مواقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي هي الأصل في هذا الموضوع ومع أحاديثه القولية التي الأصل في هذا الموضوع وهو قوله عليه أفضل الصلاة والسلام “والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
هذا الحديث عمدة في هذا الموضوع الذي نتحدث عنه – موضوع الإيثار -، فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقرر أن اكتمال الإيمان لا يكون إلا بأن يحب الواحد منا أخاه أكثر من محبته لنفسه.. أن يحبه حتى أن يحب له الخير أن يحب له كل أنواع الخير كما يحب ذلك لنفسه.
هذا هو الذي يدعو إلى أن يؤثر الواحد منا أخاه إلى أن يبادر أصلا (قبل أن يسأله أخوه شيئا) أن يبادر هو إلى تفقد أحواله وإلى أن يعطيه ويجود عليه ولو كان هو محتاجا إلى ذلك الذي يجود به؛ ولذلك هذا يؤكد المعنى الذي ورد في سورة أو المعنى الذي أخذناه من سورة الحشر {…يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ…} فهي هذه المحبة – التي نتحدث عنها – هي آصرة أقوى من آصرة النسب.. أقوى من روابط الدم لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر.. لأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور.. لأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها وينال بها الآجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة؛ فلذلك موضوع المحبة هذا الحديث “والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” ينبغي أن نحرص على أن نفهم معناه وأن نعي المضمون الذي جاء به؛ لأنه قاعدة راسخة في بناء كثير من القيم التي نتحدث عنها.
لا يمكن لنا أن نتحدث عن إيثار دون أن يكون ذلك نابعا من محبة صادقة.. لا يمكن لنا أيضا أن نتحدث عن إخلاص وتعاون وتكاتف وصلة دون أن يكون مصدر ذلك المحبة بخلاف الكرم (الكرم لا يحتاج إلى محبة إلا للخصلة ذاتها لكنه لا يحتاج إلى محبة الطرف الآخر، فالكريم السخي يكون كريما سخيا في عموم أحواله ومع سائر الناس مع قريبه و عدوه؛ لأنه يرغب في معالي الأمور يرغب في أن يصل الآخرين مهما كانت أحوالهم ، لكن الإيثار يتحقق بالمحبة الصادقة).
مقدم البرنامج: دكتور نتحدث حول السنة النبوية المشرفة والإيثار وتذكر بعض النماذج في هذا الجانب .
الشيخ كهلان: نعم، نجد مثلا هي قصة أيضا فيها من الغرائب دلالة على كيف تأثر صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بخلقه الرفيع فيما يتصل بالإيثار(مثلا قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي، أي – عبد الله ابن كبير المنافقين في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما دعاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال له “ألا ترى ما يقول أبوك ؟”
قال: ما يقول بأبي أنت وأمي؟
قال: “يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”.
فقال عبد الله فورا: فقد صدق والله يا رسول الله أنت والله الأعز وهو الأذل، فلما وصلوا إلى المدينة كما يصف عبد الله بنفسه في هذه الرواية قال: وإن أهل يثرب ليعلمون أن ما بها أحد أبر مني بأبي، فقال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ولئن كان يرضي الله ورسوله أن أتيهما برأسه لأتيتهما به. – يتحدث عن والده -، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :”لا”، ولكنه لما وصلوا إلى المدينة منع عبد الله والده من دخول الدار وقال: والله لا يدخلها إلا بإذن من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فإلى هذا الحد انفصلت الوشيجة – وشيجة الدم – ويؤثر عبد الله طاعة الله ورسوله ويؤثر أخوة الإيمان على غيرها من الوشائج والصلات حتى أذن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله له” خله ومسكنه”، فقال: أما إذا جاء أمر نبينا – صلى الله عليه وسلم فنعم) هذا موقف.
موقف آخر وهو موقف شهير طالما قصته لنا سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهنا نجد في هذا الموقف إيثارا للنفس، ففي معركة اليرموك حذيفة العدوي لما انطلق في الجرحى يبحث عن ابن عم له فلما وجده كانت معه شربة ماء يريد أن يسقيها ابن عمه الجريح فلما هم ابن عمه بالشرب إذا به يسمع بمسلم آخر يتأوه ويستسقي الماء فأشار إليه أن اذهب إليه فلما ذهب إليه وجد أنه هشام ابن العاص فلما أراد أن يسقي هشاما إذا بهشام أيضا يسمع صوت أنين أو تأوه مسلم آخر فيشير إليه أن يذهب فلما ذهب إليه حذيفة وجد هذا الثالث قد قات فلما عاد إلى هشام وجده قد مات فلما عاد إلى ابن عمه وجده قد مات، فهذا المثال من الإيثار نحن نتحدث عن حاجة.. عن خصاصة لا يمكن أن يتصور أن فوقها خصاصة، على احتياج وافتقار لا يمكن أن يتصور افتقار ورغبة أشد منها، في المقابل حينما ننظر في واقع الكثير من المجتمعات أو بعض المجتمعات وبعض الناس الآن نجد أن الواحد من أبناء المسلمين للأسف الشديد يريد أن يستأثر حتى باللقمة التي يكاد يضعها الآخر في فيه وهو في حالة من الغنى والشبع وعدم الاحتياج أصلا، نحن هنا نتحدث عن نماذج صاغها الإيمان وأدركوا فعلا حقائق أخلاق هذا الدين وسمو ونبل وطهر قيمه وامتثلوها واقعا في حياتهم؛ لذلك استطاعوا أن كان الواحد منهم حينما يؤثر أخاه على نفسه كان شديد الفرح بذلك ويأسف حينما يجد أن أخا له يطلب منه شيئا يأسف على نفسه أنه لم يبادر هو إلى قضاء حاجة أخيه مما كان يمكن أن يجنب أخاه السؤال والطلب وهناك نماذج كثيرة أيضا حتى في تأريخ المسلمين عموما.
أنا أيضا مما قرأته أن أحد فضلاء المسلمين دخل عليه رمضان وهو معدم لا يجد شيئا فكتب إلى أخ له يطلب منه قرضا، فبعث إليه بصرة فيها ألف درهم فلما وصلت إليه الصرة إذا بأخ له يبعث إليه يريد أيضا قرضا لاحتياجه إلى ذلك فبعث إليه الصرة بما فيها دون أن يفتحها بخاتمها ثم ما لبث إلى أن جاءه من كتب إليه أولا ومن كتب إليه ثانيا – من كتب هو إليه ومن كتب إليه – جاءوه وسألوه عن قصته فإذا بهذه الصرة دارت على هؤلاء الثلاثة وهم كلهم محتاجون حتى عادت إلى مصدرها الأول، فهذا فيه من الدلالة على أن مجتمع المسلمين ينبغي أن يؤثر الفرد فيه إخوانه وأن يحقق معنى المحبة الصادقة في واقع الحياة، وأن يجعل من الإيثار فضيلة يتمسك بها ويحرص عليها كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكما كان صحابته الكرام.
هناك الكثير من الأمثلة لعل الإخوة والأخوات يرغبون في أن يشاركوننا بها لكن يمكن أن نؤجلها إن لم تصلنا مشاركات إلى آخر الحلقة، ولعلهم يؤثرون الراحة على المشاركة الآن .
**********************
مقدم البرنامج: طيب دكتور بعد هذه النماذج والقصص التي ذكرتموها ربما يرى البعض أن الإيثار صار من المثاليات التي ربما كانت سابقا، ولا نحتاج إليها الآن في وقتنا المعاصر، كما أن هناك آخرين يرون بأن الإيثار هو هضم للنفس وتقليل من مكانتها ومنزلتها وحقوقها ومستحقاتها، ما رأيكم؟
الشيخ كهلان: الإيثار ليس من المثاليات التي لا يمكن تطبيقها، هو من القيم والأخلاق والفضائل التي يمكن تطبيقها وقد تم تطبيقها في واقع حياة المسلمين عبر عصورهم المختلفة وفي مختلف المجالات سواء كان في الإيثار بالمال أو حتى في الإيثار بالنفس – كما رأينا – أو في الإيثار بالحقوق أو حتى في الإيثار بالقربات والثواب والأجر (كل هذه النماذج وجدت ويمكن أن توجد) لكننا فعلا نحتاج إلى هذا الخلق النبيل لأن الإيثار – كما قلت – هو علامة على الكرم والسخاء، وهي من أخلاق المسلمين.
الإيثار هو من نتائج المحبة وهي من ركائز بناء المجتمع الإسلامي (حينما نعود قليلا إلى قصة المهاجرين والأنصار نجد أن إيثار الأنصار كان في كل شيء، قصة شهيرة أن الواحد منهم كان يقسم ماله نصفين – يقسم ماله شطرين – ويخير أن الأنصاري كان يفعل ذلك فيخير المهاجر لأحسن أمواله – يختار له أحسن الشطرين -، حتى أنه ينظر يقول الواحد منهم انظر إحدى زوجتي هاتين تعجبك أطلقها وتتزوجها بعد أن تحل ، فلا عصبيات ولا قوميات ولا بواعث للفرقة ولا أية اعتبارات أخرى كانت تحول بين تحقيق هذه القيمة في الواقع )؛ ولذلك امتن الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين بهذه الخصلة حينما نتأمل مثلا قصة – على سبيل المثال – سوف تأتي في الفاصل الذي سوف ننصت إليه نجد أن صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أدركوا أن إيثارهم غيرهم بما يحتاجون إليه يعود نفعه عليهم هم أنفسهم لأن الله عز وجل هو الذي يرزق وهو الذي يخلف على العباد المنفقين، وهو الذي يكافئ العباد المنفقين، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – علمهم أن اليد العليا خير من اليد السفلى وعلمهم أن الذي يبادر إلى الخير هو الذي يحوز الأجر والثواب ، نجد أن مرة من المرات أبا بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – دخل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذكر له أنه تعجب من موقف من علي بن أبي طالب من الإمام علي – كرم الله وجهه – فحكى للنبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان حينما يلتقي بالإمام علي بن أبي طالب يكون علي ابن أبي طالب – عليه السلام – هو الذي يبتدر بالسلام فوجده مرة ولم يبدأ بالسلام وإنما بادر بعد ذلك أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – عليا بالسلام فخشي أبو بكر من أن يكون في نفس الإمام علي شيء منعه من أن يبتدئه بالسلام فذكر ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – وإذا بعلي يدخل عليهما فسأله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبين له الإمام علي – كرم الله وجهه – أنه أراد لأبي بكر أن يحوز فضل البدء بالسلام دونه، فكانوا يؤثرون بعضهم حتى في هذه المعنويات.. في هذه الحقوق التي فيها ما فيها من الأجر والثواب.
نحن الآن حينما نتحدث عن الإيثار بهذه الصور التي نذكرها بطبيعة الحال توجد في المجتمع الكثير من الاحتياجات.. الكثير من المطالب.. الكثير مما يحتاج إليه الناس، وهناك في المجتمع أيضا من عنده فضلة في كثير مما رزقه الله عز وجل، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم يقول: “من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له”.
حينما نتأمل في واقع الناس نجد أن كثير منهم يرغبون في الخير لكنهم قد لا يحسنون طرق أبواب الخير ويحسبون أن الناس في غنى من الاحتياج وأن هناك موانع نفسية تمنع من أن يصل الواحد منهم أخاه المحتاج بصلات بمختلف أنواع الصلات لكن الواقع غير ذلك، فهذا الإيثار الذي نتحدث عنه قد يأخذ شكل هدية.. قد يأخذ شكل هبة.. قد يأخذ شكل صدقة، أي – هو واسع في الأشكال التي يأخذها – وهذا ما نلمسه في كتاب الله عز وجل حينما نمعن النظر في أنواع الإنفاق التي نجدها في كتاب الله عز وجل، فهناك النفقة الواجبة من الصدقات من الزكوات من سائر النفقات الواجبة.. هناك النفقات النوافل التي يتنافس فيها المسلمون وهي أصناف لا يمكن أن تحصر..هناك أوقاف يمكن أن تقام لمصالح أيضا متعددة يتلمس فيها الأغنياء حاجات المجتمع فيقفون ما أنعم الله تعالى به عليهم لمصالح المجتمع.. هناك الحاجات الآنية التي توجد في المجتمع من فقراء ومساكين ومحتاجين وباحثين عن عمل وراغبين في التعلم و الدراسة كل هؤلاء… فكيف نتصور هذا المجتمع الذي يواسي بعضه بعضا دون خلق الإيثار؟؟!
فالنتيجة أن الإيثار ليس من الفواضل وليس من المثاليات التي لا يمكن تطبيقها ولسنا نحن اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية في غنى عن هذا الخلق النبيل وعن هذه القيمة الأصيلة بل ينبغي لنا أن نحرض عليها وكل ميسر لما خلق له وكل بحسب ما رزقه الله سبحانه وتعالى .
مقدم البرنامج: طيب شيخ الآن سنبقى بإذن الله تعالى مع هذا الفاصل الذي أعددناه لمستمعينا الأكارم ونعود بعد ذلك لإكمال الحديث عن موضوع الإيثار .
*************************
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك (لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء) ، فقال: “من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟”
فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟
قالت: لا إلا قوت صبياني، فقال: عليليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضيف ، فلما أصبح غدا على النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: “قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة” .
مقدم البرنامج: دكتور كهلان دار الحديث حول الإيثار وبينتم جانب الإيثار في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة، ما هي نتائج الإيثار في المجتمع؟
وما هي في المقابل أيضا الآثار الناتجة عن اختفاء الإيثار من أخلاق الناس ومعاملاتهم لبعضهم البعض؟
الشيخ كهلان: آثار الإيثار ونتائج الإيثار التي تنتشر في المجتمع كلها خير وكلها آثار حميدة بمشيئة الله تعالى ؛ لأن الإيثار يؤدي إلى التصافي، والإيثار يؤدي إلى أن يكون المرء عون أخيه وأن يفرج المسلم كرب أخيه، كما أنه ينطلق من المحبة فإنه يعزز من هذه المحبة.. يمتن هذه الصلة التي تكون بين المسلمين.
الإيثار يستل الأنانية من المجتمع لأن عكس الإيثار هو الاستئثار والأنانية والأثرة كما يقول أهل اللغة، فإن اختفى الإيثار من المجتمع حلت محله الأنانية والاستئثار والأثرة وهذه كلها من الخصال الذميمة التي تحول حياة الناس إلى حياة أشبه بحياة الغاب فكل يريد لنفسه فقط، ولا يسعى في حاجة غيره، وهذا سوف يؤدي بطبيعة الحال إلى أن يتعدى الواحد على حقوق غيره وعلى مطالب غيره .
مداخلة متصل: طبعا أنا أروي واقعة حقيقية من التطبيق العملي ( كان شخص له ابنتان ودائما هاتان الابنتان مريضتين باستمرار وتحتاجان إلى عناية ومستشفى وحاولت قدر الإمكان أن أقدم لوالدهما شيئا بسيطا كنوع من المساعدة، وظل هذا المبلغ عنده لمدة تقريبا عشرة أيام أو خمسة عشر يوما، ثم هذا الرجل إذا به يرجع المبلغ ، فقلت له بأني أعطيتك هذا المال بقصد المساعدة لوجه الله سبحانه وتعالى، قال: أنا الآن مقتدر وقد يكون هناك أشخاص معينين هم أحوج لهذا المال) فهل يعتبر هذا نوع من الإيثار الذي تتكلمون عنه؟
الشيخ كهلان: أكيد.. واضح بارك الله فيه ،هذا تصرف حسن من المعطي ومن الآخذ المعطي أيضا.
المتصل: إذاً يعتبر هذا إيثار؟
الشيخ كهلان: إيثار نعم .
المتصل: بالنسبة للحادثة التي رواها الشيخ كهلان – حادثة علي بن أبي طالب حاول قدر الإمكان أن يجعل الشخص الثاني هو الذي يبدأ بالسلام – لو أن أحد طبق الآن هذا في الحياة العملية الحالية هل يعتبر أو يقال عن هذا الشخص فيه نوع من الكبر أو شيء من هذا القبيل؟ ( كأن يقال لم يبدأ بالسلام يتركني أنا دائما أسلم عليه ).
هل لو طبق هذا أو تناول في الحياة العملية الآن هل يعتبر هذا الشخص فيه نوع من الكبر؟
كذلك أريد أن أقول بأن موضوع الإيثار من المواضيع التي لا يتم تناولها في وسائل الإعلام (دائما يتكلمون عن الصدقة وعن الزكاة ، أما موضوع الإيثار فنجد فيه نوع من الكتمان).
الشيخ كهلان: نحن اليوم نتكلم عن الإيثار بارك الله فيك .
المتصل: نحن لا نسمع عن الإيثار، دائما نسمع عن الصدقات وعن الزكوات .
مقدم البرنامج: يمكن لا تسمع به كمصطلح ولكن واقعا مطبق.
المتصل: نعم ولكن قد يكون رجل الشارع لا يتضح هذا الأمر عنده حتى يطبقه بمعنى الكلمة، حتى لا يكون في يوم من الأيام ونفقد معنى الإيثار الذي يعتبر عمودا أساسيا.
مقدم البرنامج: شكرا لك أخي، وهذه الحلقة تتحدث اليوم عن الإيثار وتبين هذه الخصلة الطيبة في نفوس البشر.
الشيخ كهلان: نعم هو أشار إلى نقطة بارك الله فيه.
أولا القصة التي ذكرها هي مثال من الواقع لهذا الذي نتحدث عنه، أن هذا المعطى لعلاج ابنته أو ابنتيه آثر غيره ممن قد يكون أشد احتياجا بما كان هو أيضا محتاجا إليه وهذا امتداد لأخلاق المسلمين وينبغي أن نحرص عليه وأن يغرس فعلا في هذا المجتمع، لكن النقطة التي أشار إليها وهي أن يُظَنَ ببعض التصرفات حينما يريد الواحد أن يقصد مثلا أن يؤثر غيره بأجر أو فضيلة إنما يكون ذلك حينما تنتفي قرائن أن يؤول ذلك التصرف على أنه تصرف غير مقبول شرعا، بمعنى (أن يؤول – كما قال هو مثلا – بأنه كبر أو أن ذلك من التعالي على الناس لا ، ينبغي له أن يحرصوا أن يكون ذلك في محيط وفي وقت وعند أناس يحسنون فهم، ليسوا من الذين يتعجلون في الأحكام.. ليسوا من الذين أيضا يأخذون الأمور فقط بحسب ظواهرها وإنما يحملون الناس على حسن الظن ويعلمون مثل هذه النكات واللطائف التي تكون بين المسلمين في معاملاتهم) .
مقدم البرنامج: نعم، ومثل ما ذكرت دكتور في حادثة الإمام علي – كرم الله وجهه – أبو بكر مع معرفة كل واحد بالآخر ولكن سيدنا أبو بكر ذهب إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحكى له الحادثة خوفا من أن يكون الإمام علي يحمل في نفسه شيئا عليه.
الشيخ كهلان: هي أيضا امتداد لما كنا نتحدث عنه من آثار الإيثار في المجتمع أنها تعمم سلامة الصدور وتعمم أيضا قاعدة حسن الظن التي تحدثنا فيها في حلقة سابقة منذ أمد غير بعيد، وهي من القواعد الأساسية أن تكون صلة المسلمين فيما بينهم مبنية على سلامة الصدور وعلى محبة صادقة وعلى حسن الظن فإن هذا الخير العميم ينفع المجتمع بأسره وهذا هو الذي يجعل من الأنانية خلقا منبوذا لأنه حينما تسود فقط المصالح هي التي تحكم علاقات الناس بعضهم ببعض فإن هذا – كما قلت – يحول المجتمع إلى مجتمع بعيد عن القيم والأخلاق.. إلى مجتمع أقرب إلى حياة الغاب وإلى حياة الحيوان، بينما يفترض في المجتمع المسلم أن يكون حريصا على هذه القيم لأنها يكمل بعضها بعضا، ونحن نتحدث عن قيم تؤدي إلى اختفاء ظواهر سلبية هي من أشد ما يتنازع الناس فيها اليوم، أي – مسألة المصالح هذه أن كل شخص ينبغي له أن يسعى إلى مصلحته وأن يكون حريصا على أن يناله هو الخير والسعة والرزق هي التي أدت بالناس إلى أن تحكم علاقاتهم وسيرهم في هذه الحياة المصالح الشخصية الآنية دون اعتبار للآخرة – وأبلغ مثال آخر مثل القصة حادثة دفن عمر ابن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – بجوار قبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصاحبه أبي بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – ( كانت السيدة عائشة – وقد صرحت بذلك- أولا القبران كانا في حجرتها لكن لما أشرف عمر بن الخطاب على حادثة طعنه من أبي لؤلؤة المجوسي فأرسل ابنه عبد الله إلى السيدة عائشة ليستأذنها في أن يدفن قرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر الصديق – رضي الله تعالى عنه – فصرحت السيدة عائشة قالت: قد كنت والله أدخر تلك المنزلة لنفسي أما والله وقد طلبها عمر فإني أُثره بها دوني فإذا بعمر ابن الخطاب يدفن بجوار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر الصديق)، وهذا يرد على ما كنا نتحدث عنه من موضوع أيضا الإيثار في الطاعات؛ لأن مما يوجد في بعض كتب الفقه كقاعدة لا إيثار في القرب أو لا إيثار في الطاعات – بعض الفقهاء يقول هذه القاعدة – أصلا غير صحيحة لكن هي أيضا قابلة…
هي في مواضع يمكن أن تكون إذا لم يكن هناك بدائل من أجر وثواب، أي – هذا الذي مثلا فعل السيدة عائشة هي آثرت الثواب بالتخلي عن ذلك المكان وآثرت أن يكون فيه عمر ابن الخطاب فهي تبتغي الثواب وتعلم أن في فعلها ذلك ثوابا وقربة تبلغها ما تريد عند ربها تبارك وتعالى، بعض الناس مثلا يذكرون أو يشبهون ذلك بقضية الصلاة في الصف الأول وأنه لا ينبغي للمسلم أن يؤثر غيره به ، هذه أيضا إن كان هو يقصد الأجر والثواب ويقصد أن يقدم غيره ليحوز ذلك الفضل فهذه لا حرج فيها.. هي مسألة اعتبارات أكثر منها بعض أهل العلم يقول أصل هذه القاعدة غير صحيحة أبدا بدلالة هذه الحوادث التي ذكرناها.
***********************************
“خاتمة الحلقة”
مقدم البرنامج: نعم دكتور نختتم الحلقة بعجالة، وماذا نقول حول هذا الموضوع؟
الشيخ كهلان: يعني هي من القيم التي ينبغي أن نغرسها وأن نحرص عليها وأن ننشئ عليها.. هذه قضية مهمة أن نربي عليها أولادنا بالمثال حينما يرى الطفل والديه يراهما يؤثر بعضهما بعضا.. حينما ينشئ الولد على أنه في الطعام في الهدايا يمكن أن يؤثر أخاه الأكبر أو الأصغر وأن الأخت يمكن أن تؤثر أخاها والأخ يمكن أن يؤثر أخته بأمثلة عملية وهكذا…
يكون أيضا في المدرسة يرى الأبناء ويرى الطلاب أمثلة الإيثار واقعا في حياتهم بين آباءهم وأمهاتهم.. بين مربيهم ومعلميهم، في داخل المسجد.. في المدرسة.. في السوق إلى آخر الأماكن التي يمكن أن يرى فيها الطفل الناشئ أمثلة حية بجانب هذه القصص التي ذكرنا بعضا منها وتراثنا مليء بالكثير منها كلها لا شك سوف تغرس هذه القيمة في واقع الأجيال المعاصرة.
مقدم البرنامج: نعم.
الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي شكرا لك على هذه المعلومات وهذا الإيفاء الجيد لموضوع الإيثار، مستمعينا شكرا لكم على حسن تواصلكم معنا نلتقيكم في حلقة قادمة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
“انتهت الحلقة”