الشيخ عبدالله العيسري: هل من عودة إلى القرآن الكريم؟
محاضرة إيمانية بأساليب بديعة في التربية والإبداع وحلاوة العيش مع القرآن الكريم، ألقاها-حفظه الله- بمكة المكرمة-شرفها الله.
* التعريف بالشيخ عبدالله العيسري
هو الشيخ عبد الله بن عامر بن سيف العيسري
– من مواليد 1392 هـ يوافقه 1973م.
– حصل على الإجازة العالية في القضاء الشرعي من معهد القضاء الشرعي بمسقط عام 1995م.
– حصل على الدبلوم العالي في الشريعة الإسلامية من جامعة الزيتونة بتونس عام 1998م.
– حصل على الماجستير في الشريعة الإسلامية من جامعة( لافبرا) بالمملكة المتحدة عام 2004م.
– له عدة إسهامات إعلامية كان أشهرها برنامجه الإذاعي ( قبسات من الرسول ) الذي لاقى قبولا جماهيريا واسعا ، و استمر بثه أكثر من ثلاث سنوات.
– رأس تحرير مجلة المعالم التي يصدرها من المملكة المتحدة.
– ابتدأ حياته الوظيفية باحثا إسلاميا بوزارة العدل و الأوقاف و الشؤون الإسلامية ، ثم مديرا للإعلام الديني ، و هو الآن مستشار لشؤون الوعظ و المدارس بوزارة الأوقاف و الشؤون الدينية.
- له مجموعة مدارس العيسري لتربية الناشئة على القرآن وحب العربية والأخلاق الفاضلة.
– له عدة دورات تدريبية صدرت في أشرطة سمعية أشهرها :
– ( كيف تكون إيجابيا )
– ( كيف تغير عاداتك )
– ( كيف تحقق أهدافك ) و غيرها من الدورات.
– له مشروع تربوي حول الاستراتيجيات الأربع لتنمية التفكير (القصة – اللعبة – السؤال – الخيال ).
– من أشهر تطبيقات مشروعه شريط (حكايات قبل النوم) الذي أصدره مركز مشارق الأنوار بسلطنة عمان و لقي إقبالا كبيرا.
————————————
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة والسلام على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
أيها الأخوة الأكارم
نحيكم جميعا بتحية الإسلام الطيبة:
فالسلام عليكم و رحمة الله و بركاته
و أهنئ نفسي وأهنئكم بالوصول إلى هذه العراص الطاهرة فقد منّ الله سبحانه و تعالى علينا جميعا بأن جمعنا في هذا المكان أول بقعة صدع فيها الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله و سلم ـ بالقرآن و بقول الحق و فيه أول بيت وضع للناس.
المواضيع التي تشغل بال المسلم في هذه الأيام ـ في الحقيقة ـ لا حدّ لها و لا حصر ، و أحسب أن كل واحد منا و هو يرى هذه الأحداث التي يموج بها العالم ، و الاضطرابات التي لا أول لها و لا آخر يتساءل المسلم ما هو المخلص ؟ و كيف المخرج ؟ فإذا جاء ليسأل أهل العلم أو ليرجع إلى الكتب أو يستمع إلى الأشرطة أو ليجلس مع أخوانه ، قيل له: ( إن المخرج هو القرآن الكريم ) ، و هذه العبارة دائما ما تُردد بأن رجوع الأمة إلى القرآن هو سبيل الخلاص ، و هذا كلام طيب وكلام صحيح لا غبار عليه .
لكن السؤال الذي يُلِحُّ على الفرد المسلم باستمرار كيف أرجع إلى القرآن ؟ و كيف أعود إلى القرآن ؟
هل العودة إلى القرآن بأن أنكبَّ على قراءته ليل نهار ؟!
هل العودة إلى القرآن بأن كل فرد من أفراد الأمة المسلمة ينبغي أن يكون مفسراً كابن جرير الطبري أو هود بن محكم الهواري أو الشيخ محمد بن يوسف أطفيش أو غيرهم من العلماء ؟!
هل العودة إلى القرآن تعني بأن لا أدع كتاباً في التفسير إلا وقرأته ؟ وما هي طبيعة هذه العودة إلى القرآن ؟؟
و كيف تعاملت الأمة مع القرآن في الوقت الذي كان فيه المسلم عزيزاً محترماً له وزنه و الآخرون يحسبون له كل حساب، ولم يكن وضعه كما هو اليوم أرخص الدماء دماء المسلمين في الأرض على الإطلاق .
فكيف تكون إذا هذه العودة إلى القرآن ؟؟
2- استقبال العرب للقرآن الكريم
حقيقة قبل الجواب على هذه الأسئلة لا بد من تصحيح طبيعة علاقة المسلمين مع القرآن عبر التأريخ كيف كانت ؟
فأول ما نزل القرآن الكريم على الرسول ـ صلى الله عليه و على آله وسلم ـ كان الناس لهم مذاهب متعددة و مناهج مختلفة في استقبالهم للقرآن الكريم ، فمن الناس من علم بأن هذا الكتاب إنما هو وحي من عند الله تعالى ، و لا يمكن أن يكون من وضع بشر فآمنوا به و اتبعوه من أمثال أبي بكر الصديق ، و عمر بن الخطاب الفاروق وغيرهم من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ .
و كانت هناك فئة أخرى تعلم يقينا بأن هذا القرآن ليس من وضع محمد و لكن بسبب أمراض نفسية امتنعوا عن التصديق به، من ذلك القصة المشهورة التي أوردها ابن هشام و غيره أن أبا جهل و أبا سفيان و الأخنس بن شريق اجتمعوا في يوم من الأيام في الليل يستمعون من الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ و هو يقرأ القرآن لماذا ؟
لأنهم أناس فصحاء يعرفون اللغة العربية فجلس كل منهم في مكان ، وقد أحس كل واحد منهم بعذوبة هذا الكلام الذي لم يسمعوا به من قبل، وعندما التقوا في الطريق تساءلوا فيما بينهم من أين أتيت ؟
فاعترف كل واحد منهم للآخر بأنني جئت لأستمع لمحمد، فتلاوموا فيما بينهم وقالوا : إذا سمعت عنكم سفهاء قرش لاتبعوا محمداً فلا يعودن منكم أحد إلى هذا بعد اليوم .
و في اليوم الثاني لم يطق كل واحد منهم أن يلتزم بما وعد، مع أن العربي من عادته في جاهليته إذا وعد لا يخلف، لكنهم كانوا مسحورين فعلاً، فالإنسان إذا اعتاد على شيء أو يحس بلذة شيء من الصعوبة بمكان أن يتخلى عنه ، فرجعوا مرة ثانية والتقوا من جديد، وقالوا: الآن لا بد كل واحد أن يعاهد الآخر ألا يرجع مرة أخرى و ليس مجرد كلام و إنما وعد وعهد فتعاهدوا على ذلك .
فلما أصبح الصباح ذهب الأخنس بن شريق إلى أبي جهل فقال له : أريد أن أسألك هل تعتقد أن ما جاء به محمد من عنده ؟ فقال : لا فهذا لا يكون من عند محمد أبداً . قال الأخنس : فعلامَ لا تؤمن به ؟ قال : كنا و بنو عبد مناف كفرسي رهان أطعموا فأطعمنا ، و سقوا فأسقينا ، حتى تجاثينا على الركب فقالوا منا نبي ، فمن أين لنا بنبي مثلهم ؟ والله لا أومن به ابداً .
فإذن أبو سفيان كان يوقن في قرارة نفسه بأن هذا الكلام ليس من عند محمد .
أما المثال الثاني الذي تحفظونه جميعا :
عندما جاء عتبة بن ربيعة إلى قريش وهم جلوس عند الكعبة قال لهم : ما تقولون لو قمت إلى محمد ؟ قالوا له : قم فأقنعه بأي وسيلة فكل يوم والمؤمنون في ازدياد ، قال : يا ابن أخي أقول لك فتسمع؟ قال له قل : فقال عتبة :إن كان إنما جئت به لسحر أتينا لك بالأطباء ، و إن كنت إنما قلت ما قلت تريد المال جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالا ، و إن كنت تريد الملك ملكناك علينا فقط اختر ما تريد و سننفذه لك، ولكن توقف عن دعوة الناس إلى هذا الكلام العجيب .
والنبي يستمع حتى فرغ فقال له النبي ـ صلى الله عليه و على آله وسلم ـ : أو قد فرغت ؟ قال : نعم . قال: أو تسمع مني كما سمعت منك؟ قال : نعم ، فقرأ عليه الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ صدرا من سورة الدخان، فما كان من عتبة وهو الفصيح الذي يعرف شعر العرب و نثرهم وسجعهم وغير ذلك، فما كان منه إلا أن تغير لون وجهه حتى أنه من شدة التأثر وضع يديه وراء ظهره كالشخص الذي يسقط من شدة الإعجاب بالكلام الغريب الذي سمعه .
و كانت قريش تنتظر هناك النتيجة، فلما رأوه من بعيد قال بعضهم : لقد عاد إليكم عتبة بوجه غير الذي ذهب به ، كيف ذلك و نحن أرسلناه لإقناعه فرجع إلينا وكأنه متأثر به، فهذا هو الصنف الثاني .
و لكن هل تعرفون كيف تعامل الصنف الأول ( الصحابة ) مع القرآن الكريم ؟؟؟
3- منهج الصحابة والتابعين في التعامل مع القرآن الكريم
منهج الصحابة في التعامل مع القرآن :
مع الأيام الصنف الأول (الصحابة) عرفوا كيف يتعاملون مع القرآن الكريم فابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: كنا نأتي إلى عشر آيات نتدارسها فنعرف ما فيها من أحكام ومن عظات وعبر ، ولا نتجاوزها حتى نقيم ما فيها .
و لكن هل وجدت بعد عصر الصحابة مدارس أو حلقات علم أو جلسات للناس جميعا أو لفئة من الناس تطبق منهج ابن مسعود ؟؟
هل توجد فئة بالفعل تطبق هذا المنهج ؟ فيأتي الواحد إلى عشر آيات فيبدأ من سورة الفاتحة يعرف ما فيها من أحكام وغيره حتى يقيم ما فيها ثم ينتقل إلى الآيات الأخرى .
فهل هذا المنهج موجود ؟؟
سؤال طويل عريض ينبغي أن تطرحه الأمة المسلمة اليوم . ما هو دور العلماء في إقامة مثل هذا المنهج ؟ ما هو دور الدعاة و دور المسلم بنفسه ؟ هل يبحث بالفعل فيأتي إلى الكتاب العزيز لكي يقرأ العشر الآيات ثم التي تليها وهكذا لا ينتقل إلى غيرها حتى يقيم ما فيها، هنا السؤال .
بعد ذلك انتهت حقبة الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ و كلما جاء جيل من المسلمين اختلفت طريقته و تعامله مع القرآن الكريم .
منهج التابعين في التعامل مع القرآن الكريم:
جيل التابعين و الذين يلونهم بعد أن اتسعت رقعة العالم الإسلامي، ولا نقول الدولة الإسلامية لأنا لا نعلم في الحقيقة ماذا نطلق على الدولة الأموية والعباسية والعثمانية ؟هل نطلق عليها دولة عربية أو دولة إسلامية أم ماذا ؟!
لكن لنقل اتسعت رقعة العالم الإسلامي فزاد عدد المسلمين، فكان من منهجهم في ذلك الوقت أن أخذوا يبحثون حول بلاغة القرآن، وإعجازه أين يكمن في بحوث قيمة و مثيرة ، و من أجل ذلك نشأ جيل من الناس عرَّبهم القرآن ولم يكونوا عربا .
تعال وابحث عن علماء التفسير تجد من أشهرهم الزمخشري وهو أصلاً ليس بعربي ولكن أصبح لسانا عربيا ناطقا، تعال أيضاً وابحث عن علماء النحو حتى من أسمائهم سيبويه ونفطويه وابن خالويه وأبو السعادات ابن الشجري وغيرهم من العلماء الذين كانوا في الأصل لا يعرفون من العربية كلمة واحدة، ولكن حتى يفهموا القرآن اضطروا أن يهاجروا من مسافات بعيدة ، ويلزم الواحد منهم الدرس فيدرس اللغة العربية نحوا وبلاغة وصرفا وغير ذلك من أجل ماذا ؟ من أجل أن يتلذذ بالقرآن و يدرك معانيه .
فمثلا لو جئت إلى كتب التفسير اليوم، وسألت من تشاء من العلماء ما هو الكتاب الذي يمكنني أن أعرف من خلاله شيئاً من بلاغة القرآن وأسراره اللغوية يقال لك: الكشاف للزمخشري وهو ليس بعربي ، فالحاصل في عصر التابعين كان هناك اهتمام في جانب من الجوانب مع ما اعترى كتب التفسير في تلك الحقب من دخيل كالقصص الإسرائيلية و نحو ذلك .
ثم لما قدَّر للعالم الإسلامي أن يرقد رقدته الطويلة اختلف منهج التعامل مع القرآن 180 درجة .
4- مراكزنا الصيفية وتحفيظ القرآن الكريم بالطريقة التقليدية
مراكزنا الصيفية و القرآن الكريم :
لقد أصبحت كثير من بقاع العالم الإسلامي لا يهتم فيها بالقرآن قدر اهتمامهم بجوانب أخرى ، هل أضرب أمثلة ؟؟
تقام مراكز صيفية في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، كم من هذه المراكز يكون القرآن المنهج الأول فيها ؟ في المقابل كم من هذه المراكز تهتم بالنحو وبدراسة المتون متون العقيدة ومتون الفقه ومتون اللغة و متون كذا ومتون كذا ، وكأننا تعبدنا بألفية ابن مالك وملحة الإعراب وبغير ذلك من المتون ، و للأسف لو قام العالم الإسلامي بعمل إحصائية كم من حفظة هذه المتون يعرفون كيف ينطقون القرآن الكريم فضلاً عن فهمه لوجد السواد الأعظم منهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع القرآن .
و لكن قد يحتج أحد الناس أن القرآن حتى يفهمه الناس لا بد له من أدوات، فلا يمكن لأحد فهم القرآن الكريم دون فهم للغة العربية، وهذا الكلام منطقي و صحيح 100% . ، و لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن يتحول الاهتمام 180 درجة إلى النحو فيظل الإنسان يدرس اللغة العربية عشر سنوات وعشرين سنة إلى أن يصل إلى القبر و هو لم يصل بعد إلى مرحلة تدبر القرآن الكريم و فهمه، فهذا ليس من العقلانية في شيء ، و لو سلمنا بهذا الكلام فيما يتصل بعلوم اللغة فماذا يقال عن العلوم الأخرى ؟؟
هل من الأولى أن ينصب اهتمامنا على تكوين إنسان يتعامل مع سورة البقرة و سورة آل عمران و سورة الناس و غيرها من سور القرآن ؟ أم الأولى أن ينصب اهتمامنا على تكوين أناس يحفظون المتون الفقهية ومتون المنطق ومتون الأصول ونحو ذلك ، وهم لا يقرؤون القرآن الكريم، تمر عليهم الأشهر تلو الأشهر ، فهذه فئة في العالم الإسلامي موجودة .
و هناك فئة ثانية قلبوا الآية.. .. ..
الخلل في فهم العلاقة بين القرآن و السنة:
هل تعرفون كيف قلبت الفئة الثانية الآية ؟
الفئة الثانية قلبوا الآية، فبدل أن تكون السنة خادمة للقرآن ، أصبح كل ما في الوجود يطوع لخدمة السنة، وأنتم الآن في هذه البلاد الطاهرة ادخلوا كثيرا من المكتبات الكبرى وانظروا ما المساحة التي تحتلها الدراسات القرآنية المعاصرة ؟ و ما المساحة التي تحتلها دراسات السنة المعاصرة ؟ لو وصلت دراسات القرآن بنسبة 10% إلى دراسات السنة فقد نكون بخير، و لكن للأسف لا تصل .
يعوَّد الإنسان على حفظ البخاري وعلى حفظ مسلم والنسائي وعلم الجرح و التعديل ونحو ذلك ثم ماذا بعد ذلك ؟؟ ينشئ لنا إنسان يتقن الجرح و التعديل لكنه لا يتقن كيف يتعامل مع القرآن الكريم ؟! فالاهتمام حتى في دور العلم غير موجود إلا من رحم ربي و قليل ما هم .
طبعا نحن لا نزعم بأنه لا يوجد اهتمام مطلقا بالقرآن الكريم ، هناك اهتمام لكن ما نوعية هذا الاهتمام ؟؟
الأزمة أزمة حفظ أم أزمة فهم ؟
أصبح الاهتمام في عالمنا الإسلامي في هذه الأيام ينصب على إيجاد نسخ جديدة من القرآن الكريم لكنها نسخ بشرية، يحفظ الطفل القرآن الكريم منذ نعومة أظافره ، وفي الحقيقة هذا في حد ذاته مغنم ، و كلنا ندعو إلى حفظ القرآن ، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا ممن يحاولون أن يحفظوا القرآن ويحفظوا أبناءهم القرآن ، فحفظ القرآن الكريم كرامة من الله تعالى وغنيمة ما بعدها من غنيمة ، وحفظه عن ظهر قلب هو الذي جعل المسلمين في الاتحاد السوفيتي قبل أن ينهار وفي غيرها من الدول التي دمرت فيها المساجد وقـتِّل فيها المسلمون هو الذي حفظ لهم دينهم لأنهم إذا أرادوا من يحفظهم سورة الفاتحة أو بعض السور التي يصلون بها يجدون على الأقل .
و لكن يطرح السؤال نفسه ؟ فالله سبحانه و تعالى دلنا فقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) وقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ، هذه الآيات و غيرها تطالبنا بالحفظ أم تطالبنا بالفهم ؟! لو رجعنا إلى منهج ابن مسعود ومنهج غيره من الصحابة لوجدنا بأن قلة من الصحابة كانوا يحفظون القرآن الكريم كاملاً، لكن الكثرة كانت تسأل عن أحكامه ، وتحاول أن تتعامل معه ، و أن تفهم ما فيه من آيات وأحكام ومن أسرار ، فالحل إذا ليس في أن يتجه العالم الإسلامي إلى الحفظ فقط دون تأمل .
فتجد كثيراً من حفظة القرآن الكريم، لكن اسأل واحداً منهم : هل تستطيع أن تستخرج الدروس والعظات أو العبر من قصص القرآن الكريم ؟! تجده لا يعرف ، لأن التنافس أصبح في الحفظ و ليس في الفهم ، فمنذ صغر سنه تأتي أمه تسأله وأبوه يسأله وإمام المسجد يسأله والناس كلها تسأله : كم تحفظ من القرآن الكريم ؟ لكن هل سأله أحد منه:
هل تفهم القرآن الكريم ؟ بل هل حاولت أصلاً أن تفهم ما في القرآن الكريم ؟؟
دعوني أقولها بصراحة:
دعونا نكون أكثر واقعية لو أراد أحد أن يفهم القرآن هل يجد السبل ميسرة ؟
مجرد محاولة الفهم في بعض الأحيان تعتبر جريمة عند البعض لا تغتفر ، يقول لك من أنا ؟! حتى أقول في القرآن الكريم ؟ فإذا كان طالب علم شرعي درس اللغة و درس البلاغة وغيرها من المواد ، و لكن تراه ُيعفي نفسه من مسؤولية تأمل القرآن الكريم و يقول لك: من أنا ؟! ودائما ما نردد العبارة المأثورة عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ : “أي أرض تقلني وأي سماء تظلني و أين أذهب ولمن ألتجئ إن تكلمت في كتاب الله بما لا أعلم”.
أنا لا أزعم ولا أقول ولا أطالب بأن كل واحد تعلم له كلمتين يأتي و يصبح ابن جرير الطبري في زمانه ، و لكن كذلك المسلم مطالب على الأقل أنه إذا قرأ القرآن وفتح المصحف يحاول أن يفهم على قدر استطاعته ، وإذا استعصى عليه شيء، فالحمد لله الآن السبل ميسرة وأهل العلم موجودون، عليه أن يسأل لماذا هذه الآية جاءت كذا ؟ ويحاول أن يرجع إلى ما لديه من كتب التفسير الموثوقة مثل تيسير التفسير وهميان الزاد وتفسير هود بن محكم الهواري وجواهر التفسير لسماحة الشيخ الخليلي ـ يحفظه الله تعالى ـ ، و يحاول أن يتزود بشيء من الزاد اللغوي حتى يستطع أن يفهم القرآن الكريم .
و لكن لِمَ لا ننتقل إلى الشق التطبيقي من هذه الأمور، حتى لا يكون الكلام مجرد شكوى وهموم ومآسي ، لأنه كل واحد سيقول المشكلة وعرفناها ، فما هي خطوات الحل ؟؟
5- نماذج من قصص المتأملين في القرآن الكريم
النموذج الأول: الأدميرال البحري وتأمله في القرآن الكريم
قبل أن نحكي خطوات الحل نرطب هذه الجلسة ببعض القصص عن أناس تأملوا في القرآن الكريم ، وإلى أين أوصلتهم تأملاتهم ؟
مثلاً كان أحد من المسلمين، لعله يعمل في البحرية، فعندهم أدميرال (رتبة من الرتب العسكرية البحرية ) فهذا الأدميرال يسمع عن القرآن الكريم لكنه لا يعرف عنه شيئا ولا يعرف العربية ، وطلب من هذا المسلم أن يعطيه نسخة من القرآن فأعطاه النسخة، و ظلت عنده أيام يقرأها ثم رجع إلى صاحبه المسلم فقال له : أريد أن أسألك : محمد في أي منطقة ساحلية من العالم يسكن ؟ فأجابه : بأنه لم يسكن في مناطق ساحلية، فقد سكن بين جبال مكة ، ثم انتقل إلى المدينة و كلاهما ليست بمنطقة بحرية ، فقال الأدميرال : إذن هو كان يتعامل كثيراً مع البحر ومع البحارة. قال له : لا في حياته لم يركب البحر و لا مرة واحدة . قال الأدميرال : هذا الكلام لا يعقل، فالكلام الذي وجدته في هذا القرآن لا يمكن أن يقول به إلا إنسان متخصص في علوم البحار ليس مجرد معلومات تكون لديه فحسب ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ *فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ* يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) ( الرحمن: 19 – 22 )، حتى أنه بعد ذلك جاء يصف الحالة النفسية للإنسان لما يركب البحر (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( يونس: 22 ، 23 )، ومثل قوله تعالى (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ .. ) ( النحل: 14 ) إلى غير ذلك من الآيات ، حتى لما وصل الآية التي تصف العواصف والأعاصير ونحو ذلك يقول الأدميرال : بعض هذه الأمور إلى وقت قريب لم تكن معلومة عند الناس، لأنه مهتم بشؤون البحار.
فقرآننا فيه الكثير من الآيات و الإشارات في مختلف المواضيع لكن أين وضع نقطة تأمله ؟ وضعها فيما هو معني به .
النموذج الثاني: العالم المعماري و تأمله في القرآن الكريم :
الدكتور محمد مكية وهو أحد مشاهير المعمارين في العالم الإسلامي جمعتني به جلسة في إحدى المرات، فكان ينعى على المعماريين الإسلاميين أنهم لا يقرؤون القرآن بفكر المعماري يقول: نحن المعمارين لو رجعنا إلى القرآن لوجدنا فيه الكثير من الدلالات والإشارات التي ينبغي أن نقرأها بطريقة تختلف عما يقرأها الإنسان العادي، فمثلا قوله تعالى (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) ( الطور: 5 ) لماذا والسقف المرفوع ؟ هل هناك إشارة معينة إلى أن متانة البنيان أو نحو ذلك تكون إذا كان السقف مرفوعاً ، وأيضا قوله تعالى (عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ ) ( التوبة: 109 ).
النموذج الثالث :
أقول في نفسي : هناك إشارات أخرى تتصل بهذا، فأنا الآن مشتغل ببناء بيت وأتعبتني مسألة، كثيراً ما أتعبت الناس المشتغلين ببناء البيوت وهي الشقوق التي تحصل بعد ستة أشهر أو بعد ثمانية أشهر, وتجد أيضاً البناء لا يأتي مستقيماً، فمع التأمل في الكتاب العزيز تجد أنه لا يمكن لبناء مهما طال به العمر أن يبقى مستقيماً، وأنه لا تكون فيه شقوق لماذا ؟ لأن الله سبحانه و تعالى ذكر ذلك في الكتاب العزيز فقال : ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ) ( الملك: 3 ) يعني يا بشر مهما فعلتم فعملكم أوصناعتكم لا بد أن يكون فيها تفاوت، إذا لم يكن اليوم فغداً (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ )، هل توجد شقوق في السماء أو في خلق الله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) حتى تتأكد (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ ) ( الملك: 4 ، 5 ) لما وجدت هذه الآيات وكأنني أقرأها لأول مرة، قلت للعمال : اكملوا البناء ؛ لأن هذه الشقوق إذا لم تظهر اليوم ستظهر غداً، و يدلك على ذلك القصور التي يشتغل أصحابها بتشييدها يوجد فيها قسم للصيانة ، وما وجد هذا القسم إلا لأن هناك شقوقاً أو خللاً سيظهر في ذلك البناء يحتاج إلى أن يصان مرة أخرى .
و قد ظهر الآن علم من علوم اللغة يسمى ” علم الصوتيات”
فهل لهذا العلم دور في تأمل القرآن ؟؟
6- علم الصوتيات و أثره في تأمل آيات الكتاب العزيز
الآن ظهر علم من علوم اللغة يسمى ” علم الصوتيات ” وفحواه أن الكلام إذا كان بليغاً تجد بأن إيقاع الكلمة وجرسها الموسيقي ، والحروف التي تتركب منها الكلمة لها علاقة بالمعنى الكلي بذلك الكلام الذي يقال ، لو جاء الإنسان ليجمع ما في القرآن من هذا القبيل لوجد شيئاً عجباً يحتاج إلى مؤلفات .
على سبيل المثال في سورة يوسف لما كان يعقوب عليه السلام دائما يذكر ابنه يوسف أبناؤه غضبوا من هذا الموقف و انزعجوا، يقول الله سبحانه وتعالى ( تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ) ( يوسف: 85 ) تجد حرف التاء تكرر ثلاث مرات متتالية حتى ترسم صورة ذهنية للقارئ وكأنه يرى المشهد ماثلاً أمامه، وإخوة يوسف قد غضبوا عليه.
و في نفس السورة لما اجتمعت امرأة العزيز مع عِلية النساء (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا ) ( يوسف: 31 ) ولكن ما الذي دعاها إلى ذلك ؟ دعاها سخرية النساء منها عندما قلن: ( امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) ( يوسف: 30 )، حرف الهاء في اللغة العربية إذا جاء في آخر الكلمة يدل على التهكم و يدل على السخرية، فترى الهاء قد توالت ثلاث مرات ( فَتَاهَا، شغفها، لنراها ) حتى يمكن للواحد أي يقول: “ها ها ها ” متهكماً، فيتخيل هذه الهاء وهي تخرج ، والأمثلة على ذلك كثيرة إذا أخذا الإنسان يتأمل في القرآن الكريم .
و حتى لا أطيل عليكم فهذه بعض الخطوات أحسب ـ والعلم عند الله تعالى ـ أن المسلمين إذا أخذوا بها فإن تعاملنا مع القرآن الكريم سيتغير.
7- الخطوات العملية لعودة المسلمين إلى قرآنهم:
1- حلقات الفجر
الخطوة الأولى : حلقات الفجر
إن كل مسجد من المساجد ينبغي أن تعاد إليه حلقات الفجر ، وهذه العادة كانت موجودة في عمان لا تكاد تدخل مسجداً أو تمر على مسجد بعد صلاة الفجر إلا وتجد كل المساجد فيها حلقات للقرآن الكريم ، هذا الوضع بدأ يتغير خاصة بعد وجود مدارس القرآن والمدارس النظامية، فيقول الأب : الولد سيتعلم في المدرسة النظامية وفي مدارس القرآن، لكن هذا لا ينبغي ، فينبغي أن تقام الحلقات، والحلقات ليست للأطفال فقط وإنما للبُلَّغ قبل الأطفال ، فالقرآن لم ينزل لكي يقرأه الصغار فقط، وهذه واحدة من مآسينا فعندما يقال فلان يتعلم القرآن ، فما الذي يرسخ في ذهن السامع في البداية إنه طفل أو بالغ ؟ إنه طفل ؛ لأن تعلم القرآن أصبح حكراً على الأطفال، وكأنه عار على الكبير أن يتعلم القرآن الكريم، فهذا الوضع لا بد أن يصحح .
فالآن لو قمت بعدِّ الحاضرين وسنتوزع على كم مسجد؟ فلو كل واحد قرر أن يقيم حلقة للقرآن الكريم بعد صلاة الفجر لمدة عشر دقائق ، فمع الأيام ستجد أن أولئك الناس بدأت ألسنتهم تتحول تدريجياً و تصبح قادرة على نطق القرآن الكريم، و نطق الحروف من مخارجها الصحيحة صغاراً و كباراً على السواء ، وهذه طريقة مجربة وقد زرت أكثر من ولاية من ولايات عمان ، فوجدت بأن المساجد التي تقام فيها هذه الحلقات يختلف أطفالها و شيبها و شبابها عن المساجد التي لا تقام فيه أمثال هذه الحلقات ، فإقامة هذه الحلقات أمر لا غنى عنه .
و الرسول ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ حضنا عليها بل القرآن الكريم قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) ( الإسراء: 87 )، وإن كان بعض العلماء قال : إن قرآن الفجر هو صلاة الفجر ولكن مع ذلك فالقرآن الذي يتلى بعد صلاة الفجر لا يبعد أن يكون مندرجاً في عموم هذه الآية .
و إذا كان كثير من الناس مدبرين فيمكن أن يُجذبوا في البداية، ففي أحد المساجد قام أصحابه بعمل مسابقة أسموها مسابقة” فرسان الفجر”، وكانت للأطفال، والذي يحضر صلاة الفجر ويجلس لمدة عشر دقائق بعد صلاة الفجر في نهاية الشهر تجرى بينهما مسابقة والفائز له عشرة ريالات أو عشرون ريالا ، فما الذي يضيرإذا دفع أصحاب المسجد كاملاً عشرة ريالات أو عشرين ريالا ؟!
الخطوة الثانية :
و الأمر الثاني أن تلك الحلقة بعد مرور أيام أو أشهر أصبح بعدها الناس يتقنون التلاوة، يضاف يوم من الأسبوع لا يكون للتلاوة وإنما للتأمل و التدبر، ولنبدأ مثلا بسورة الكهف، فهذه السورة فيها الكثير من القصص؛ بل كلها قصص و بينها فواصل ، فكل واحد يقال له :أنت اقرأ و تأمل، لا نقول لك أن تفـتي ولكن على قدر استطاعتك، فإذا قرأت شيئاً من التيسير أو في الهميان والكشاف للزمخشري ، و يوم الجمعة ستناقش في هذه القصة ، وإذا كان أحد عنده كتاب قرأ فيه قصة من القصص من سورة الكهف ، يفيدنا ببعض الدروس المستفادة ونحو ذلك ، فمع الأيام ستجد أن أصحاب ذلك المسجد بدأوا يدركون كيف يتدبرون القرآن الكريم و يتأملونه.
الخطوة الثالثة : الاهتمام باللغة العربية
أن اللغة العربية لا بد أن تعاد إلى المساجد ، والاهتمام باللغة العربية يتطلب وجود شخص في المسجد يعرف مبادئ النحو ، فيدرس الناس و لكن بشرط أن يكون تدريس النحو مربوطاً مع القرآن الكريم من أول لحظة ، لما نأتي إلى التمثيل مثلاً لعلامات الفعل من ضمنها السين ، لا نقول : سيضرب زيد عمرا ، و إنما قل : ( سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ ) ( البقرة: 142 ) ، ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) ( الشعراء: 227 )، فتكون الأمثلة كلها من القرآن الكريم ، فهذه الطريقة تعين الناس على تعلم النحو وتعينهم على فهم القرآن الكريم .
أذكر في يوم من الأيام كانت هناك حلقة للنساء، فأول درس كان عن الفرق بين الاسم والفعل والحرف ، فجاء المدرس وقال : إن من علامات الفعل دخول السين عليه ، ودخول سوف ، ثم طلب من الحاضرات بأمثلة تطبيقية ، فقالت امرأة: ( كَلا سَيَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ ) ( النبأ: 4 ، 5 )، وقالت أخرى : ( كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ( التكاثر: 3 ، 4 )، فطرأت هنا مسألة: لماذا جاءت الآية في الموضع الأول بحرف السين في سورة النبأ ، وجاءت بسوف في الموضع الثاني من سورة التكاثر، ما الفرق بين السين وسوف ؟ ، فمن خلال درس واحد بدأت اللغة تستيقظ في ذهن النسوة .
إذن مع الأيام ستجد أن الناس إذا أدركوا أسرار اللغة العربية ومبادئها و معانيها سيتذوقون حلاوة القرآن ، قد يقول شخص : إن النحو صعب، لا إن النحو ليس بصعب، ولو كان النحو العربي صعباً لأنزل القرآن الكريم بلغة أخرى، الله تعالى يقول: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ( القمر: 17 )، وإذا كان القرآن ببلاغته و قراءته ميسرا ، فالنحو أيضا ميسر ولكن يحتاج إلى طريقة معينة لتدريسه، فبعض العلماء من أمثال الشيخ سعيد بن عبدالله بن غابش ـ رحمه الله ـ كان يدرس النحو في شهر واحد ، ولكن نحتاج للأخوة الذين أكرمهم الله تعالى بالمعرفة في اللغة العربية إلى اهتمام بإيجاد حلقة للنحو في المساجد مع حلقة القرآن ، و بذلك سترى أن الناس قد بدأوا يفهمون القرآن الكريم .
الخطوة الرابعة: توفر المراجع التي تعين على فهم القرآن
إن المساجد ينبغي أن تزود بكل ما له علاقة بالقرآن الكريم ، ليس المصحف فقط هو مهم بل هو الأصل ، لكن هناك كتب و أدوات تعين حتى إذا طرأت مسألة و أخذ الناس يتناقشون حولها ، فكل واحد يستطيع أن يرجع إلى تلك المراجع ، و أخص بالذكر في ظلال القرآن لسيد قطب و الكشاف للزمخشري و جواهر التفسير لسماحة الشيخ الخليلي ـ حفظه الله تعالى ـ بالإضافة إلى معجم من معاجم اللغة كمختار الصحاح ، فتكون هذه الكتب بمثابة المرجع الموجود في المسجد .
الخطوة الخامسة : تأمل الآيات الكريمة والغوص في أعماق دلالاتها
إن كل إنسان وهو يقرأ إذا كان يحس بأن التأمل مع الصمت سيجديه أكثر من التأمل مع القراءة الجهرية ، فليخصص أوقاتاً للتلاوة السرية يتأمل ويتملى، في الحقيقة لما يأتي الإنسان ليقرأ فالقرآن لا تنقضي عجائبه ، سيجد في كل يوم تساؤلات تدور في ذهنه يناقش الناس الذين يجدهم حواليه ، ثم بعد ذلك ما لم يستطع أن يجده في كتب أهل العلم ، فيمكن أن يسأل عنه العلماء الموجودين .
مرة كنت أقرأ سورة القصص فوجدت أن الله سبحانه وتعالى يقول عن موسى عليه السلام (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ( القصص: 14)، فلما جئت لأقرأ سورة يوسف وجدت عن يوسف عليه السلام (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ( يوسف:22) بدون: (وَاسْتَوَى) فلماذا موسى (واستوى) ، و يوسف بدون ذكرها ، و ما زلت أبحث عن السر في هذا قد أجده و قد لا أجده، ولكنني إن وجدته فتلك نعمة منَّ الله تعالى بها علىَّ ، و إن لم أجده فيكفي أن الإنسان حاول أن يجد .
كذلك اليوم في الحرم الطاهر كنت أقرأ في سورة هود قول الله تعالى في قصة نوح (حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (هود:40) فلماذا الله سبحانه و تعالى بدأ بذكر الحيوانات ، ولم يقل احمل فيها أهلك و من آمن، ومن ثم ذكر من كل زوجين اثنين، مع أن الآيات الأخرى تشير إلى أن الإنسان مكرم ، و أن هذا الكون خلق للإنسان كي يستغله و يستثمره ، فلا بد من علة هناك في التقديم ، ثم لماذا خصص أهل نوح عليه السلام و لم يدرجهم مع من آمن ؟ فهذه أمور تحتاج أن يتأمل فيها الإنسان .
و مرة أخرى كنت أقرأ في سورة يونس فوجدت أن الله سبحانه وتعالى حكى في قصة موسى عليه السلام عندما اشتد الأمر وأخذ فرعون يقتِّـل، وما حكاه الله تعالى عن الابتلاءات التي ابتلي بها بنو إسرائيل قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (يونس:87) ، فـ (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) مفهومة ، و لكن واحد يعاني من تلك الفتن، فيقول الله تعالى له الحل : اجعلوا سكنى قومكم بمصر واجعلوا بيوتكم متقابلة، لماذا الحل يكون هكذا ؟ لماذا لما يعاني شخص من جبار وطاغية يقال له الحل اسكنوا في هذه البلاد ، اجعلوا بيوتكم متقابلة ، مع البحث و التأمل وجدت أن علماء الاجتماع قالوا بأنه لا يمكن أن ينشأ عمران حضري إلا بشرطين الأول : تأسيس المواطنة( تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ) اجعلوهم موطنين لمصر ، والثاني : أن يكون النسيج الاجتماعي موحداً ، فلا يكون رجل جاء من هذه البلاد وآخر من تلك البلاد ، و إنما يكون نسيجاً اجتماعياً موحداً ، و هذا ما فعله الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما خط المدينة خططاً فقال : هذه لبني سالم وهذه لبني عوف وهذه لبني النجار، وهذه لبني فلان ، (واجعلوا بيوتكم قبلة ) أي كلها في منطقة واحدة ، بعد أن يتكون هذا تأتي الخطوة الثالثة (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ).
خاتمة المحاضرة:
فإذن الذي يريد البحث في علم الاجتماع أو في علم النفس ، سيجد بغيته في القرآن الكريم ، فلا بد من هذه الأمور بالإضافة إلى التأمل والتملي الذاتي، ثم بعد ذلك سنجد أن القرآن يسري في نفوسنا ويحكم حياتنا ، سواء في البنيان أو الاجتماع أو في الدعوة و في غيرها من الأمور، أما لو ظلت الأمور أن تتلو القرآن آناء الليل وأطراف النهار ولكن دون تأمل أو تدبر فذلك لن يقدم أو يأخر.
و أختم هذه الجلسة بأمر يضحك منه الإنسان ويبكي ، و بحق قيل : شر البلية ما يضحك ، لما أتى نابليون بونابرت ليغزو مصر التي كانت حاضرة العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي ينظر إليها على أنها المكان الطيب، قال المصريون : لا بد أن نواجههم ، فما هو سبيل المواجهة ؟ فاقترح العلماء والمفكرون في ذلك الوقت أن تقوم بعض المساجد بتلاوة صحيح البخاري، و تقوم مساجد أخرى بتلاوة أجزاء من القرآن الكريم، و اشترطوا أن يعطوا أجراً على تلك التلاوة ، ونابليون بونابرت قد وجّه فوهات مدافعه إليهم، والناس يستمعون و يهزون رؤوسهم لا يفهمون مما قيل كلمة واحدة ، و لا يريدون أن يفهموا ولا يراد منهم أن يفهموا ، فكيف يمكن للعالم بعد ذلك أن يستيقظ، والله سبحانه وتعالى يقول: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ، و يقول : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) .
هذا؛ ونسأل الله سبحانه و تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه وسلم .
تمت المحاضرة بحمد الله تعالى