الوقف على الاستثناءات فى القرآن وخاصة في سورة العصر
السؤال:
بسم الله الرحمن الرحيم
(والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
ما حكم الوقف على الآية الثانية من هذه السورة، أي قبل أداة الاستثناء.
الجواب:
اعلم أخي -علمنا الله وإياك من علمه- أن الاستثناء نوعان: متصل ومنفصل.
فالمتصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، نحو:
جاء الرجال إلا محمد
فمحمد من جنس الرجال وليس من جنس غيرهم.
وعلى هذا فالوصل يلزم في مثل هذه الحالة حتى لا يختل المعنى، ولا يصح الوقف فينقطع المعنى.
وعلى هذا أمثلة من القرآن متعددة ، كقوله سبحانه على لسان إبليس:
(وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الحجر 39-40
وقوله (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ) الشعراء 170-171
وقوله (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) الصافات 73-74
وقوله(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) الصافات 127-128
وغيرها في القرآن كثير.
أما الاستثناء المنقطع فهو أن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، نحو:
رحل التجار إلا بضائعهم
فالبضائع ليست من جنس التجار
والمعنى أن ينقطع المستثنى عما قبله: إلا تجارتهم بمعنى أما تجارتهم فموجودة على تقدير خبر.
وعلى هذا قول الله تعالى:
(إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) النمل 10-11
فنفى الخوف عن المرسلين في تطمين موسى عندما ولى خائفاً .
( إلا من ظلم ) وليس من شأن المرسلين الظلم، فالاستثناء منقطع، والمعنى: أما من ظلم من غير الرسل ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم.
وشرح الأمثلة في القرآن الكريم على هذا النحو يطول.
وقد قدمت هذه المقدمة حتى نأتي لإجابة سؤالك:
بسم الله الرحمن الرحيم
(والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
وهو حكم الوقف على الآية الثانية من هذه السورة، أي قبل أداة الاستثناء.
العلماء لهم رأيان في هذه المسألة على حسب تفسيرهم لكلمة ( الإنسان ) هنا، فمنهم من يجعلها شاملة للمؤمن والكافر، ومنهم من يقصرها على الكافر .
وعلى المعنى الأول : فالمؤمن يوصف بالخسر لكونه فرط منه ضياع بعض عمره في غير طاعة بدلالة القسم بالعصر وهو الوقت أو العمر، ولذلك يوم القيامة يتفاضل المؤمنون في الجنة ويتغابنون، فالذي في أدنى الدرجات وإن كان في خير عندما يرى من هو أعلى منه يندم لضياع كل لحظة من عمره في غير طاعة.
وأما الكافر والعاصي فمن باب أولى هو خاسر في العذاب السرمد.
فإذا فسرنا الإنسان بمطلق الإنسان الصالح والطالح فالاستثناء متصل ( إلا الذين آمنوا ) فالمؤمنون من جنسهم، فربما سأل سائل : هل كل جنس الإنسان في خسر؟ فجاء الجواب: ( إلا الذين آمنوا .. ) الآية، وعلى هذا وجب الوصل، لتخرج طائفة المؤمنين من الخسر الذي يؤدي إلى الهلاك.
وعلى تفسيرها بأن المقصود بالإنسان الكافر فهو خاسر، والاستثناء بعده منقطع لأن المؤمنين ليسوا من جنسهم، فكأنه بيان بأن الكافر إن كان في خسر فالمؤمنون غير ذلك لأنهم جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
هذا؛ ورأي المحققين من أئمة التفسير وغيرهم ورأي كثير من أصحابنا وعليه فتيا بعضهم الآن وجوب الوصل وعدم جواز الوقف لنفي الخسر عن المؤمنين، والله أعلم.
ومثل هذه الآية قول الله تعالى في سورة التين:
( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ).
هل المقصود بالرد إلى أسفل سافلين الكفر والضلال والعصيان أم أنه الرد إلى أرذل العمر، فإن كان الأول فيخرج منه المؤمن فلا بد من وصل الآية واستثناء المؤمنين، وأما إن كان الرد إلى أرذل العمر فهذا ليس مقصورا على الكفرة والعصاة بل المؤمنون كذلك ، وعلى هذا يجوز الوقف والابتداء بما بعدها على نفس التفصيل الذي سبق في سورة العصر.
وكذلك هذا الموضع اختار كثير من أصحابنا وصله وعدم جواز الوقف عليه.
بقيت هنا مسألة أخيرة وهي أن من يقول: بأن الوقف على رؤوس الآيات سنة متبعة فلا يعتبر هذه الاستثناءات شيئا ويقف على جميع الآيات.
ولكن هذا الرأي مردود وضعيف ولم تثبت به سنة صحيحة ناصة نصاً صريحا واضحاً، والحديث الوارد عنه عليه الصلاة والسلام له معان وتخريجات وأخذ ورد يطول الحديث بها الآن.
وهذا وقد شدد بعض أصحابنا في الوقف على مثل هذين الموضعين في هاتين السورتين فحكموا بنقض صلاة من لم يصل فيهما الاستثناء.
ولو قيل بعدم نقض الصلاة فتلاوة كتاب الله ينبغي أن تكون على أكمل الوجوه وأحسنها وتمام معانيها، فالتشديد في مثل هذا أحق، فكيف مع تقطيع المعاني وتبديلها، ومن أخذ برأي فلا يحجر عليه.
وعلم الوقف والابتداء من العلوم الشريفة التي انصرف عن دراستها ومعرفة بعض الناس واشتغلوا بتجويد الحروف، مع أن علم الوقف أهم وأشد وأعظم لأن فيه معرفة تمام المعاني، فإنك إن تعجب فاعجب ممن يبتر الآيات ويقف في المواضع القبيحة أو على الأرباع والأحزاب والأجزاء إن كانت لا تتم معانيها ويقطع القراءة عليها، وقد أحسن العلامة أبو مسلم ناصر بن سالم بن عديم البهلاني رحمه الله إذ قال:
« ومما ينبغي للقارئ – وخصوصاً في الصلاة- إذا ابتدأ من أثناء سورة أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط بعضه ببعض، وإن وقف وقف على المرتبط وعند انتهاء الكلام، ولا يتقيد في الابتداء ولا في الوقف بالأجزاء والأحزاب والأعشار، فإن أغلبها وسط الكلام المرتبط بالكلام، فإن مراعاة هذه الآداب مما ينبغي التفطن له، والتحرز عن مجاوزته، فلا تغترر بكثرة المتهالكين في ترك هذه الآداب » .
ويقول سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي – طيب الله ذكره، وأعلى قدره-: « يستحب الوقف في القرآن الكريم في كل موضع يوهم وصل القراءة فيه غير المعنى المراد، بل ذهب بعض إلى لزوم الوقف، إذا كان الإيهام الحاصل من الوصل شديداً، كما في قوله تعالى ( وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) فإن وصله في التلاوة بقوله من بعد ( إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جميعاً )(2)، توهم السامع أن هذا مقولهم الذي نفاه الله عنهم، مع أن هذا قول حق وقولهم باطل، وإنما سيق هذا رداً على قولهم الباطل.
وكذلك قوله تعالى ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ) إذا وُصِل بقوله من بعد ( خافضة رافعة) يوهم أن خافضة رافعة في سياق النفي .. »اهـ .