11- تفسير آيات صدقة التطوع وعظيم فضل ثوابها والذي يمنُّ بصدقته
تفسير صدقة التطوع مع الفريضة:
قوله في السورة التي يذكر فيها البقرة(الآية::195): { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم , لما سار مع المسلمين إلى مكة , وهم محرمون بعمرة في العام الذي أدخله الله مكة بعد عام الحديبية قبل أن تفتح مكة , قال ناس من الأعراب منازلهم حول المدينة: والله يا رسول الله ما لنا من زاد وما يطعمنا من أحد فأمر الله بالصدقة , قال { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ }.
يقول: وأنفقوا من الأموال في طاعة الله , ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة , يقول : لا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا , فإن أمسكوا عنها فهي الهلكة { وَأَحْسِنُوا } يقول: وأحسنوا الصدقة في سبيل الله { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } يعني : من أحسن في أمر النفقة في سبيل الله , فقال رجل : يا نبي الله بماذا نتصدق ؟ والله ما نجد ما نأكل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم :” ما كان ولو بشق تمرة تكفون بها وجوهكم عن النار “.
تفسير الصدقة تضاعف للمؤمنين إذا احتسبوا :
عن ابن عباس في قوله في سورة البقرة( الآية245):{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } يعني: الصدقة, يعني: محتسباً طيبة بها نفسه { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } قال ابن عباس : ألفي ألف حسنة وزيادة .
قوله في سورة التغابن(الآية:17): { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } يعني : طيبة بها نفسه , يحتسبها { يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } يعني: بواحدة عشرة إلى سبعمائة ضعف فصاعداً { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } يعني: بالصدقة { وَاللَّهُ شَكُورٌ } يعني: لصدقاتكم حين يضاعفها لمن احتسبها [ حَلِيمٌ ] . قابل .
{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ }(التغابن:18) يعني: عالم غيب ما في قلوب الناس وغيره , وشاهد لكل حال { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
وقوله في سورة البقرة (الآية:261):{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يعني: في طاعة الله , { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ } يعني: أخرجت { سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } وذلك الذي ينفق ماله في سبيل الله { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } يعني : فوق سبع مائة إلى ألفي ألف ضعف { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } لذلك الأضعاف { عَلِيمٌ } بما ينفقون .
وقوله :{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }(البقرة:262) يعني : في طاعة الله { ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً } يقول: لا يمنون بما يعطون من النفقة { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } يعني : [ يجازيهم] ربهم { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }.
نزلت هذه الآية في المؤمنين في نفقاتهم في غزوة تبوك , حين جهز عثمان المسلمين بألف بعير, وشراؤه ركية بالمدينة تسمى رومة , فتصدق بها على المسلمين ,وفي عبد الرحمن بن عوف حين تصدق بأربعة آلاف درهم , أو ما شاء الله.
{ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ }(البقرة:263) يعني : قولاً حسناً , دعاء الرجل لأخيه المسلم بالخير { وَمَغْفِرَةٌ } يعني : وتجاوزاً عنه لا يعطيه شيئاً { خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ } يعطيها إياه , ثم { يَتْبَعُهَا أَذىً } يعني: المن { وَاللَّهُ غَنِيٌّ } عما عندكم من الصدقة { حَلِيمٌ } لا يعجل بالعقوبة على من يمن بالصدقة ويؤذي فيها .
فبين الله أحكامه , وشرائعه , وحدوده في كتاب عزيز { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }(فصلت:42) .
{ مَا يُقَالُ لَكَ } يا محمد { إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ }(فصلت: من الآية43) .
وقال : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } (الشعراء:193-196)
وقد بين الله إن الدين واحد من وقت أن خاق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة , وكذلك قال في كتابه : { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }(المؤمنون:52)، وقال :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }(الأنبياء:25) يقول: فأطيعون .
تفسير من يمن بصدقته: فكيف يبطلها المن ؟
قوله في السورة التي يذكر فيها البقرة(الآية:264): { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } يقول: إذا من بها كان أذى لصاحبها وكذلك صدقة من يمن بها على المعطا فإنه يبطله المن , فضرب الله لهم مثلا كمثل { كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } يعني: ولا يصدق بتوحيد الله ,وقوله { وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } يعني: ولا يصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن , فهذا فاسق أنفق ماله في غير إيمان فأبطل الله صدقته في نفسه , وكذلك يبطل المن صدقته , الذي يزعم نفسه أنه مؤمن.
ثم ضرب الله مثلاً قال: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } يعني :صفا عليه تراب { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } يعني المطر الشديد { فَتَرَكَهُ صَلْداً } يعني :فترك المطر الصفا بقى أجرداً ليس عليه تراب , فكذلك كل من ينفق ماله في غير خالص رياء الناس , وكذلك صدقة الذي يزعم من نفسه وهو مؤمن مستكمل الإيمان [نسخته] صدقة الذي من بنفقته . يزعم أنه مؤمن مستكمل الإيمان إذا من بها على المعطا { لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا } يقول : لا يقدرون على ثواب شيء مما أنفقوا يوم القيامة , كما لم يبق على الصفا شيء من التراب حين أصابه المطر الشديد , { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } فسماهم الله في أول الآية مؤمنين قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } , ثم سماهم في آخر الآية كافرين , فأبطل أعمالهم حيث منّوا بها على المعطا .
كذلك قال الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }(محمد:33) فبين الله دينه , وأمره ,ونهيه , ورضيه الله , وأمر به , ودعا إليه , وأحل حلاله , وحرم حرامه , وبين أحكامه وشرائعه وحدوده , فتعلموا دينكم وانصروه فإنه قال: { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } (الأنفال:الآية42)، وقال: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }(النساء:الآية165).
والله لو لم ينزل الله كتاباً , ولم يبعث رسولاً لكانت له الحجة البالغة على جميع خلقه , غير أنه تبارك وتعالى عاد على جميع خلقه بمنه وفضله ولطفه , أن بعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين , وأنزل عليهم الكتاب فيه جميع ما أمر به , وجميع ما نهى عنه, وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين عنه , ويبلغ ما أمر به فقال : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }(المائدة:الآية67).
وقال: { وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً }(الإسراء:74-75) .
وقال أيضاً: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ }(الحاقة: 44-46) يعني: حبل القلب تقدماً منه إليه , وتحذيراً من المعصية، فبلغ محمد صلى الله عليه وسلم رسالته , ونصح الأمة, وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين صلوات الله عليه .
وقد أتم الله دينه , وقامت حجته , وظهرت دعوته، فدين الله واضح , ودين نبيه عليه السلام دين واضح لا دنس فيه ولا كدر وقال:{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }(المائدة:الآية27).
فإن الله لا يتقبل العمل إلا من المتقين, وكيف يكون من المتقين من أقام على الزنا , وأكل مال اليتيم ظلماً, ودان بالقتل , ونقض العهد والميثاق , والفساد , وأفسد في الأرض , والإقامة على المعاصي ومات غير تائب , ولم يتب إلى الله.
كيف يكون من المتقين هذا الذي مات على هذا الفساد , وإنما التقوى : الإيمان والعمل الصالح حقيقة الإيمان .
وقال الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }(آل عمران:102)، وقال: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا } (التغابن:16).
وقد سماهم الله مؤمنين حين استجابهم فأجابوه , وصدقوا بما جاء به نبيهم عليه السلام , وأمرهم بالتقوى والعمل .
فمن أخرج من ماله حق الله , والذي أوجب من الحقوق فقد وقى شح نفسه، قال الله : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(التغابن:16) فسماهم في أول الآية مؤمنين ، وقال في آخر الآية حين أطاعوه: مفلحون , وكذلك المؤمن, فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}(محمد:33)، وقال :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }(البقرة: 278-279) فصارت حرباً حين أقاموا على الربا من غير شرك بالله ولا شك فيما جاء به محمد عليه السلام .