بسم الله الرحمن الرحيم
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} تقرب الماضي من الحال أن فلاحهم قد (لعله) حصل. {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} خائفون من الله وجلون متذللون له ، ملزمون أبصارهم مساجدهم . والخشوع : هو الخضوع ، أو قريب منه، أو هو الخشوع في الصوت والبصر والسلو{كذا} والتذلل.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ} عما لا يعنيهم من فعل وقول وحديث نفس ، {مُعْرِضُونَ} لما بهم من الجلد ، وما شغلهم عنه ، وهو أبلغ من الذين لا يلهون من وجوه … {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} وصفهم بذلك بعدما وصفهم بالخشوع في الصلاة ، ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام على الطاعات البدنية والمالية ، والتجنب عن المحرمات ، وسائر ما توجب المروءة اجتنابه. {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } المعتدون لحدوده.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ } لما يؤمنون عليه ، ويعاهدون من جهة الحق والخلق ، {رَاعُونَ} قائمون بحفظها وإصلاحها. {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يواظبون عليها ويؤدونها في أوقاتها ، وليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أولا ، فإن الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها ، وفي تصدير الأوصاف وختمها بامر الصلاة تعظيم لشأنها. {أُوْلَئِكَ} الجامعون لهذه الصفات ، {هُمُ الْوَارِثُونَ} الأحقاء أن يسموا وارثين دون غيرهم في القيامة. {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} بيان لما يرثونه ، والفردوس: خير الجنان فيما قيل ، {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ} من خلاصة سلت من بين الكدر {مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} حريز ، مكن لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها ، وهو الرحم. {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء ، {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ، فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} آخر: قيل: الروح ، أو نبات الشعر والأسنان ، أو تصريف أحواله بعد الولادة من الدلالة على ثدي أمه إلى كمال عقله ، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} فتعالى شأنه في قدرته وحكمته ، {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} المقدرين تقديرا. {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } للحساب والجزاء.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} سبع سماوات ، لأنها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل ، وكل ما فوقه مثله فهو طريقه ، أو لأنها طرق الملائكة ، أو الكواكب فيها مسيرها. {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} مهملين أمرها ، بل نحفظها عن الزوال والاختلاف ، وندبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدر لها من الكمال ، حسب ما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ} بتقدير ، يكثر نفعه ويقل ضرره ، أو بمقدار ما علمنا من صلاحهم {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} فجعلناه ثابتا مستقرا ، {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} كما كنا قادرين على إنزاله ، {فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ، لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء ، تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ، وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ } أي: مما يتأدم به . {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} تعتبرون بحالها ، {نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } .
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}؟ أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه ، فيهلككم ويعذبكم برفضكم عبادته إلى عبادة غيره ، وكفرانكم نعمه التي لا تحصونها. {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ : مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أن يطلب الفضل عليكم ويسودكم ، {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً} رسلا ، {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} يعنون نوحا ، أي: ما سمعنا به أنه نبي ، أو ما كلمهم به ، من الحث على عبادة الله ، ونفي ما تهواه أنفسنا ، أو من دعوى النبوة ، وذلك إما من فرط عبادتهم ، أو لأنهم كانوا في فترة متطاولة . {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي: جنون ، ولأجله يقول ذلك ، {فَتَرَبَّصُوا بِهِ} فاحتملوه وانتظروا {حَتَّى حِينٍ}.
{قَالَ} بعدما أيس من إيمانهم: {رَبِّ انصُرْنِي} بإهلاكهم ، أو بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، {بِمَا كَذَّبُونِ} بسبب تكذيبهم . {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} بحفظنا نحفظه أن يخطىء فيه ، {وَوَحْيِنَا} وأمرنا وتعليمنا كيف يصنع. {فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا} بنزول العذاب ، {وَفَارَ التَّنُّورُ، فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} لحكمة علمها الله ومنافع لخلقه ، كما لم يخلق ذلك في الابتداء عبثا ولا لعبا ، {وَأَهْلَكَ، إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} أي: القول من الله بإهلاكه ، {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالدعاء لهم بالإنجاء {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} بمعاصيهم.
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ، فَقُلِ :الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} بمعاصيهم أو بطشهم. {وَقُل: رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا} في المكان أو الحال {وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} ، لأنه لا منزل غيره في الحقيقة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فيما فعل بنوح وقومه ، {لَآيَاتٍ} يعتبر بها أولو الاعتبار ، {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} لمتحنين نوحا وقومه ، ومن بلغه قصصهم.
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ } عذابه. {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ} بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب ، أو بمعادهم إلى الحياة ، {وَأَتْرَفْنَاهُمْ} نعمناهم ووسعنا عليهم {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بكثرة النعم الدنيوية لا الدينية {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} في الصفة ، ولأنهم لم يتوصلوا إلى علم حاله ، لتعاميهم لأمر قبل العدم{كذا} ، {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} تقرير للمماثلة الظاهرة ، لا السر الذي منحه الله إياه كتمانا للشهادة بما قامت له معهم من أنوار الحق.
{وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ} فيما يأمركم {إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} من حيث مراده أن يصومهم عن شهوات أنفسهم الباطلة ، ولم يمؤمنوا بالإعادة ، بدليل قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } وهي كلمة “بعد” ، معناه: بعيد ما يوعد. {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} يموت بعضنا ويولد بعض ، {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} وهذا الحال الذي صد الناس عن الطاعة ، وهو قلة إيمانهم بالإعادة ، ويشهد عليهم إما لسان مقالهم أو لسان حالهم. وما مؤمن إيمانا حقيقيا بالبعث إلا وهمته إلى التزود له . {إِنْ هُوَ} ما هو {إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فيما يدعيه من الرسالة {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين.
{قَالَ:رَبِّ انصُرْنِي} عليهم ، وانتقم لي منهم {بِمَا كَذَّبُونِ} بسبب تكذيبهم إياي. {قَالَ:عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} على التكذيب ، إذا عاينوا عذاب الموت ، لأن الندامة تقع بكل كافر في ذلك الحين.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} بالوجه الثابت الذي لا تبديل عنه ، {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء} شبههم في دمارهم بغثاء السيل ، كقول العرب:” سال به الوادي” لمن هلك ، والغث: الفساد في اللغة ، {فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} “بعدا”: مصدر بعد ، إذا هلك. {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} الوقت الذي حد لها ، {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} متواترين واحدا بعد واحد ، من الوتر: وهو الفرد ، وقيل: معناه: منقطعة ، بين كل رسولين برهة من الزمان ، {كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ، فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا} في الإهلاك ، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} لم يبق منهم إلا نشر حديثهم عظة للمتعظين ، ولهوا لمن سواهم ، {فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ}.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا } عن القبول والإيمان ، {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} متكبرين. {فَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا}؟ في الخلقة ، إذ نظرهم مقصور على الظاهر ، {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} يعني: بني إسرائيل خادمون منقادون كالعبيد ، وذلك ينبؤك أن أصل العبادة هي الطاعة ، إذا أطاعه فقد عبده ، ومعلوم أن بني إسرائيل لم يعبدوا فرعون وقومه عبادة تدين ، لقوله تبارك وتعالى يخبر عن قولهم لموسى: { قَالُواْ: أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } ، {فَكَذَّبُوهُمَا، فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ } لعل بني إسرائيل ، ولا يجوز عود الضمير إلى فرعون وملئه ، لأنه قال: { آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} بعد قوله: { فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}. { يَهْتَدُونَ} إلى المعارف والأحكام.
{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ، وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ} مستقر من أرض منبسطة ، وقيل: ذات ثمار وزروع ، فإن ساكنيهما يستقرون فيها لأجلها. { وَمَعِينٍ} وماء معين ، ظاهر جار على وجه الأرض ، من معن الماء: إذا جرى ، أو من الماعون وهو المنفعة ، لأنه نفاع ، أو مفعول من عانه: إذا أدركه بعينه ، لأنه لظهوره مدرك بالعيون . وصف ماءها بذلك ، لأنه الجامع لأسباب التنزه ، وطيب المكان.
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} نداء وخطاب لكل الرسل ، لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة واحدة لتفاوت أزمنتهم ، بل على معنى أن كلا منهم خوطب به في زمانه ، فيدخل عيسى تحته دخولا أوليا ، ويكون ابتداء كلام ذكره تنبيها أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة ، وأن إباحة الطيبات شرع قديم ، واحتجاجا على الرهبانية في رفض الطيبات. والطيب: ما يستلذ من المباحات، وقيل: الحلال الصافي القوام ، فالحلال ما لا يعصى الله فيه ، والصافي ما لا ينسى الله فيه ، والقوام: ما يمسك النفس ، ويحفظ العقل. { وَاعْمَلُوا صَالِحًا} فإنه المقصود منكم ، والنافع الثابت لكم عند ربكم ، والعمل الصالح: وضع الأمور مواضعها ، وأن لا تجعلوا لله شريكا في العبادة ، ولا تستنكفوا عن عبادته ، { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فأجازيكم عليه.
{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ملتكم أيها الرسل ، ملة واحدة ، في العقائد ، وأصول الشرائع ، { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} في شق العصا ، ومخالفة الكلمة. { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} تقطعوا أمر دينهم ، وجعلوه أديانا مختلفة ، { زُبُرًا} قطعا ، جمع زبور ، الذي معناه: الفرقة ، { كُلُّ حِزْبٍ} من المتحزبين { بِمَا لَدَيْهِمْ} مما يدينون { فَرِحُونَ} معجبون ، مسرورون معتقدون أنهم على الحق . { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} في جهالتهم ، شبهها بالماء الذي يغمر القامة ، لأنهم مغمورون فيها ، أو لاعبون ، وقرىء: ” في غمراتهم” . { حَتَّى حِينٍ} إلى أن يقتلوا أو يموتوا .
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ} نعطيهم ، ونجعله مدا لهم ، { مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} بيان لـ”ما” ، وليس خبرا له ، فإنه غير معاب عليهم ، وإنما المعاب عليهم اعتقادهم أن ذلك خيرا لهم. { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} المعنى: أن الذي نمدهم به نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم ، { بَل لَّا يَشْعُرُونَ} بل هم كالبهائم ، لا فطنة لهم ولا شعور ، ليتأملوا فيعلموا أن ذلك الإمداد استدراج لا مسارعة في الخير ، فيفرق الإمداد بافتراق العاصي والمطيع ، فيكون للمطيع مسارعة له في الخير ، ويكون للعاصي استدراجا له في الشر ، فيظن العاصي أن إمداده وإمداد المطيع على وتيرة واحدة ، ويعلم المطيع أن إمداده له بمنزلة الترياق ، لأنه يبقون به على الخير ، وأن إمداد ضده فعلى العكس ، فعلى المرء أن يقبل على شأنه ، ويتفقد أحوال عمله ، ويقومها على الصراط السوي ، وإن خالف ذلك بحرف واحد ، لحقه وعيد الاستدراج والغرور ، من حيث لا يشعر.
{ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} من خوف عذابه واستدراجه لهم ، فالمؤمن قد جمع إحسانا وخشية ، والمنافق قد جمع إساءة وأمنا. { وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} البالغة لهم { يُؤْمِنُونَ} يصدقون.
{ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} شركا جليا ولا خفيا. { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا} يعطون ما أعطوه من الصدقات ، وقرىء مقصورا ، أي: يفعلون ما فعلوه من الطاعات ، { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} خائفة أن لا يقبل منهم (لعله) بشؤم ذنوبهم ، وأن لا تقع على الوجه اللائق فترد عليهم ، ويؤاخذوا بها ، أو من خوف سوء الخاتمة عند كل خطرة وحركة ، { أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} فيسألوا عن جميع ما أتوا. وفي هذا بيان الحكمة من أنه لم ينزل الكتاب بذكر ما يؤتى ويذر كل شيء بعينه مفسرا ، ليكون المؤمن خائفا راجبا.
{ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} يرغبون في الطاعات أشد الرغبة ، فيبادرونها ، أو يسارعون فيما آتاهم الله من ثواب الدنيا، المعاونة لهم على صالح الأعمال باستعمالها ، كقوله: { فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } فيكون إثباتا لهم ما نفي عن أضدادهم المتقدم ذكرهم ، { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} لأجلها ، فاعلون المسابقة ، فيسبقون الناس إلى الطاعة أو الجنة ، أو سابقونها ، أي: ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا ، كما عجل الشر لأضدادهم ، فهؤلاء لهم خير الدنيا والآخرة ، وهؤلاء لهم شر الدنيا والآخرة ، وليس لهم من الخير مثقال ذرة.
{ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} قدر طاقتها ، يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين ، وتسهيله على النفوس ، { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} اللوح المحفوظ ، أو صحيفة الأعمال ، أو علم الله المكنون { يَنطِقُ بِالْحَقِّ} بالصدق ، لا يوجد فيه ما يخالف الواقع ، { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بزيادة عقاب ، أو نقصان ثواب. { بَلْ قُلُوبُهُمْ} قلوب الكفرة { فِي غَمْرَةٍ} في غفلة غامرة لها ، { مِّنْ هَذَا} من الذي وصف به هؤلاء ، أو من القرآن ، لا يدرون تأويله بسبب تعاميهم عنه ، { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} خبيثة { مِن دُونِ ذَلِكَ} متجاوزة ما وصفوا به ، { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} معتادون فعلها.
{ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم} متنعميهم { بِالْعَذَابِ} القتل ، أو الموت ، { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة . { لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} فإنه مقدر بالقول ، أي: قيل لهم :” لا تجأروا اليوم”. { إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ} أي: لا تمنعون منا ، أو ليس لكم نصر من عندنا . { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي} حججي { تُتْلَى عَلَيْكُمْ} تبلغون إياها ، { فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} تعرضون مدبرين عن سماعها وتصديقها والعمل بها ، والنكوص : الرجوع ، { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} الضمير للقرآن فيما أرجو ، فإنه بمعنى: مكذبين به { سَامِرًا} أي: تسمرون بذكر القرآن ، والطعن فيه ، { تَهْجُرُونَ} من الهجر بالفتح ، أو بمعنى القطيعة ، أو بترك القرآن لقوله:{ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا }.
{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} أي:القرآن ليعلموا أنه الحق من ربهم بإعجاز لفظه ، ولفظ دلائله ، { أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} يريد أنا بعثنا من قبلهم (لعله) رسلا إلى قومهم، كذلك بعثنا محمد صلى الله عليه وسلم رسولا إليهم . { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} بقيام الدليل له بالأمانة والصدق وكمال العلم ، وحسن الخلق ، مما هو صفة للرسل ، وذلك على معنى التوبيح عنه على الإعراض عنه بعد ما عرفوه بالصدق والأمانة ، { فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} دعواه ، لأحد هذه الوجوه.
{ أَمْ يَقُولُونَ : بِهِ جِنَّةٌ} خفة عقل ، وصف رأي ، وكان هو أرجحهم عقلا ، وأغزرهم علما ، وأحدهم نظرا ، { بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ} أي: بالقول ، بالصدق الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل ، { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم ، فلذلك أنكروه.
{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ} بأن كان في الواقع آلهة شتى على قدر أهويتهم ، حتى يكون لكل معبوده هواه ، لتطاردت الإرادات إلى ما يعقب فساد العالم ، كما قال:{ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} كما سبق تقريره في قوله:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } ، وقيل: لو اتبع الحق أهواءهم وانقلب باطلا ، لذهب ما قام به العالم ، أو ولو اتبع الحق الذي جاء به محمد أهواءهم وانقلب شركا ، لجاء الله بالقيامة وأهلك العالم من غضب الله . { بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ} بالكتاب الذي هو ذكرهم ، أي: وعظهم ، وقيل: بما فيه فخرهم وشرفهم ، كما قال:{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } ، { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} لا يلتفتون إليه.
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} أجرا على أداء الرسالة ، { فَخَرَاجُ رَبِّكَ}رزقه في الدنيا ، وثوابه في العقبى { خَيْرٌ} لسعته ودوامه ، فإنه لا يتأتى انقطاعه كانقطاع ما في الأيدي ، { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} تقرير لخيرية خراجه. { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} تشهد العقول السليمة على استقامته لا عوج فيه ، ليوجب اتهامهم له ، لأنه لا مجال للتهمة . واعلم أنه سبحانه ألزمهم الحجة وأزاح العلة ، بأن حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام ، وبين انتفاءها ، ما عدى كراهة الحق ، وقلة الفطنة.
{ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } لعادلون عنه مائلون ، فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق ، وسلوك طريقه. { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا} اللجاج: التمادي في الشيء ، { فِي طُغْيَانِهِمْ} إفراطهم في الكفر ، والاستكبار عن الحق { يَعْمَهُونَ} عن الهدى.
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} سواء وسع لهم ، أو ضيق عليهم ، { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} فهؤلاء أشد من الذين يدعون الله مخلصين له الدين في حال الشدائد ، ويشركون به إذا نجاهم ، بل أقاموا على عتوهم واستكبارهم . و”استكان” استفعل من الكون ، لأن المفتقر انتقل من كون إلى كون. { حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قيل: هو عذاب الموت. { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} متحيرون ، آيسون من كل خير ، مبشرون بكل شر.
{ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} لتستدلوا بهما ما نصب من الآيات ، { وَالْأَفْئِدَةَ} لتتفكروا وتستدلوا بها، إلى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية ، { قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} تشكروا بها شكرا قليلا ، لأن العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لأجله ، والإذعان لمانجها من غير إشراك به شيئا من مخلوقاته.
{ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} مختص به تعاقبهما لا يقدر عليه غيره ، { أَفَلَا تَعْقِلُونَ}؟ بالنظر والتأمل أن الكل منا ، وأن قدرتنا تعم الممكنات كلها، وأن البعث من جملتها. { بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} آباؤهم ومن دان بدينهم ، { قَالُوا : أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}؟ استبعادا ، ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا فخلقوا. { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ} أي: لقد وعدنا وآباؤنا (لعله) فلم نر هذا الوعد ، { إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} إلا أكاذيبهم التي كتبوها ، جمع أسطورة ، لأنها تستعمل فيما يتلهى به ، كالأعاجيب والأضاحيك ، وقيل: جمع أسطار ، جمع سطر.
{ قُل} يا محمد: { لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}؟ إن كنتم من العالمين بذلك ، فيكون استهانة بهم ، وتقريرا لفرط جهالتهم ، حتى جهلوا مثل هذا الجلي الواضح ، وإلزاما لما لا يمكن – لمن له مسكة من العلم – إنكاره ، ولذلك أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا ، فقال: { سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ} لأن العقل الصريح قد اضطرهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنه خالقها ، { قُلْ} أي: بعد ما قالوه: { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}؟ فتعلموا أن من فطر الخلق ابتداء ، قدر على إيجادها ثانيا، فإن الابتداء ليس بأهون من الإعادة.
{ قُلْ: مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } فإنها أعظم من ذلك . { سَيَقُولُونَ : لِلَّهِ} لأن العقول السليمة تلجئهم إلى الإقرار بذلك ، { قُلْ: أَفَلَا تَتَّقُونَ} عقابه ، فلا تشركوا به بعض مخلوقاته ، ولا تنكروا قدرته على بعض مقدورات
{ قُلْ :مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ملكه ، وقيل: خزائنه ، وقيل حقائقه ، { وَهُوَ يُجِيرُ} يغيث من يشاء ويحرسه ، { وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} ولا يغاث ، ولا يمنع أحد منه { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ،قُلْ :فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } ؟ فمن أين تخدعون ، فتصرفون عن الرشد مع ظهور الأمر ، وتظاهر الأدلة . { بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ} من التوحيد والوعد بالنشور ، { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} حيث أنكروا ذلك.
{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} لتقدسه عن ذلك ، { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} يساهمه في الألوهية ، { إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} جواب محاجتهم ، وجزاء شرط ، حذف لدلالة ما قبله عليه ، أي: لو كانت معه آلهة كما يقولون ، لذهب {كل} واحد منهم بما خلقه واستبد به ، وامتاز ملكه عن ملك الآخرين ، ووقع بينهن التحارب والتغالب ، كما هو حال ملوك الدنيا، فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء ، { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} من الولد والشريك ، لما سبق من الدليل على فساده. {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} هو دليل آخر على نفي الشريك ، بناء على توافقهم في أنه المنفرد بذلك ، ولهذا رتب عليه:{ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن أن يضره شركهم.
{قُل : رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي} إن كان لا بد (لعله) من أن تريني ، لأن ما والنون للتأكيد ، {مَا يُوعَدُونَ} من العذاب في الدنيا والآخرة . {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قرينا لهم في العذاب. {وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} لكنا نؤخره لحكمة ومشيئة منا فيهم.
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} هو الصفح عنها ، والإحسان في مقابلتها ، لكن بحيث لم يؤد إلى وهن في الدين. وقيل هي: كلمة التوحيد. والسيئة : الشرك ، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} من الشرك مما ينطق به لسان مقالهم ، أو لسان حالهم ، وأقدر على جزائهم ، فكل إلينا أمرهم.
{وَقُل : رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ} أي: مستجير ، ومستليذ ، ومعتصم بك {مِنْ هَمَزَاتِ} نزغات {الشَّيَاطِينِ} وساوسهم ، وأصل الهمز: النخس ، والهمز: شدة الدفع ، والمعنى: دفعهم بالإغواء إلى المعاصي. {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} في شيء من أحوالي ، وحضورهم هنا الاستجابة لدعوتهم ، وإلا فهم حاضرون في جميع الأحوال ، ولا يطمع في أن يغيبوا عن أحد من أهل التعبد من الثقلين ، ولو لم يكن هكذا لزال التعبد ، وانحطت المجاهدة عن العبد.
{حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} متعلق بـ”يصفون” ، {قَالَ} تحسرا على ما فرط ، لما أن حق يقينه: {رَبِّ ارْجِعُونِ} ردوني إلى الدنيا. {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} في الدنيا من العمل الواجب علي ، {كَلَّا} ردع عن طلب الرجعة ، واستبعاد لهم ، {إِنَّهَا كَلِمَةٌ} يعني قوله: {رَبِّ ارْجِعُون…} إلى آخره. {هُوَ قَائِلُهَا} ولا ينالها لا محالة ، لتسلط الحسرة عليه عذابا ، وهو أهل له . روي عن الني صلى الله عليه وسلم :” إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا ؟ قال: إلى دار الهموم والأحزان ، بل قدوما إلى الله ، وأما الكافر فيقول: رب ارجعون”. قال قتادة:” ما تمنى أن يرجع إلى أهل وعشيرة ، ولا ليجمع الدنيا ، ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع ، فيعمل لطاعة الله ، فرحم الله امرء عمل فيما يتمناه”. {وَمِن وَرَائِهِم} أمامهم{بَرْزَخٌ} حائل بينهم وبين الرجعة {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يوم القيامة ، وهو قطع عن طمع الرجوع إلى الدنيا ، لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} لقيام الساعة ، {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} ينفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة ، واستيلاء الدهشة ، بحيث { يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } ، {يَوْمَئِذٍ} كما يفعلون اليوم ، {وَلَا يَتَسَاءلُونَ} ولا يسأل بعضهم بعضا سؤال نفع ، وكأن الآية مخصوصة في الكافرين ، أو في الجميع ، لقوله:
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} موزونات عقائده وأعماله ، ما سلم من الكبائر ، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالدرجات. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} ولم يكن له ما يكون له وزن ، {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} غبنوها ، حيث ضيعوا زمان استكمالها ، وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها ، {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } تحرقها ، {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} من شدة الاحتراق ، والكلوح: تقلص الشفتين عن الأسنان في عبوس. {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} تذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله.
{قَالُوا : رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} ملكتنا بحيث صارت مجامع أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة ، {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} عن الحق . {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ، فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ : اخْسَؤُوا فِيهَا } اسكتوا سكوت هوان ، من خسأت الكلب: إذا زجرته فخسأ ، {وَلَا تُكَلِّمُونِ} فعند ذلك أيس المسرفون من الفرج ، وقيل: هو آخر كلام أهل النار ، ولا يتكلمون بعدها ، إلا الشهيق والزفير ، والأنين والصراخ.
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ : رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا } هزوا ، {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم ، فلم تخافوني في أوليائي. {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} مبالغة في الاستهزاء بهم . {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} على استهزائكم {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} فوزهم لمجامع مراداتهم.
{قَالَ:كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ}؟ أحياء وأمواتا في القبور {عَدَدَ سِنِينَ ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} استقصارا لمدة لبثهم فيها، بالنسبة إلى خلودهم في النار ، أو لأنها كانت أيام سرورهم ، وأيام السرور قصار ، أو لأنها منقضية ، والمنقضي في حكم المعدوم ، {فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} الذين يتمكنون في عد أيامها (لعله) وهم الملائكة ، أو المؤمنون.
{قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} سمي قليلا ، لأن الواحد ولو طال مكثه في الدنيا فإنه يكون قليلا في جنب الآخرة ، {لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} قدر لبثكم في النار ، تصديق لهم في مقالهم . {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}؟ توبيخ على تعاقبهم ، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} للجزاء.
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} الباقي الذي يحق له الملك مطلقا ، فإن من عداه مملوك بالذات ، مالك بالعرض ، من وجه دون وجه ، ومن حال دون حال ، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فإن من عداه عبيد ، {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} الذي يحيط بالأجرام ، وينزل منه محكمات الأقضية والأحكام ، ولذلك وصفه بالكرم ، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين ، وقرىء بالرفع ، على أنه صفة الرب.
{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} يعبده إفرادا أو شركا ، وذلك يتناول جميع العصاة ، {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} تنبيها على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع ، فضلا عما دل الدليل على خلافه ، {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} فهو مجاز له مقدار ما يستحقه {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي: حسابهم عدم الفلاح.
بدأ السورة بتقرير فلاح المؤمنين ، وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين ، ثم أمر رسوله بأن يستغفره ويسترحمه ، فقال:{ وَقُل : رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ }.