بسم الله الرحمن الرحيم
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي: انقضاء آجالهم من الدنيا ، أو وقوع القيامة ، لأن كل ما هو آت قريب ، {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أغفلهم الشيطان ، {مَّعْرِضُونَ} أي: في غفلة من الحساب معرضون عن التفكر فيه ، والعمل بمقتضاه.
{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} ينبههم عن سنة الغفلة والجهالة ، {مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} تنزيله ، ليكرر على أسماعهم التنبيه كي يتعظوا ، {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} استماع البهائم {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} يستهزئون به ، ويستسخرون منه ، لتناهي غفلتهم ، وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور ، والتفكر في العواقب.
{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي: استمعوه جامعين بين الاستهزاء به ، والتلهي عنه بغيره ، والذهول عن التفكر فيه ، {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى} بالغوا في خفائها {الَّذِينَ ظَلَمُواْ ، هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}؟ تكذيبا له . {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}؟ كأنهم استدلوا (لعله) ببشريته على كذبه في ادعاء الرسالة ، لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكا ، واستلزموا منه أن {ما} جاء به من الخوارق كالقرآن سحر ، فأنكروا حضوره . وإنما أسروا به تشاورا في استنباط ما يهدم أمره ، ويظهر فساده للناس عامة.
{قَالَ : رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ} جهرا كان أو سرا ، فضلا عما أسروا به ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فيه وعد ووعيد.
{بَلْ قَالُواْ : أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ، بَلِ افْتَرَاهُ، بَلْ هُوَ شَاعِرٌ{ إضراب لهم عن قولهم هو سحر ، إلى أنه تخاليط الأحلام ، ثم إلى أنه كلام افتراه ، ثم إلى أنه قول شاعر ، {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} مثل اليد البيضاء والعصا.
{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} باقتراح الآيات لما جاءتهم ، {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} لو جئتهم بها وهم أعمى منهم؟. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم ، إذ لو أتى به لم يؤمنوا ، واستوجبوا عذاب الاستئصال ، كمن قبلهم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ ، فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } جواب لقولهم {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} فأمرهم أن يسألوا مؤمني أهل الكتاب عن حال الرسل المتقدمة ، لتزول عنهم الشبهة ، وقيل: أراد بالذكر : القرآن ، أي: فسألوا المؤمنين العالمين بالتنزيل ، (لعله) الراسخين في التأويل ، وفيه إيجاب للسؤال للعبد إذا حل فيما لا يسعه من أمر دينه.
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} قيل: جواب لقولهم: { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } ، {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} توكيد وتقرير لهم ، فإن التعيش بالطعام من توابع التحلل المؤدي إلى الفناء . {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء} يعني : المؤمنين بهم . {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} وهكذا سنة الله في خلقه .
{لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} صيتكم ، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } ، أو موعظتكم ، أو ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاق ، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فتومنون.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} واردة عن غضب عظيم ، لأن القصم: كسر يبين تلاؤم الأجزاء ، بخلاف العصم ، {كَانَتْ ظَالِمَةً} بسبب ظلمهم ، {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} مكانهم ، {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} فلما أيقنوا من وقوع عذابنا {إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} يهزمون مسرعين ، (لعله) هاربين {لَا تَرْكُضُوا} على إرادة القول ، أي قيل لهم استهزاء :” لا تركضوا ” إما بلسان الحال أو المقال ، وهذا الوعيد يعم كل من مات على شيء من معاصي الله مصرا ، {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} من التنعم والتلذذ ، والإتراف : إبطار النعمة ، {وَمَسَاكِنِكُمْ} التي كانت لكم ، {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} غدا عن أعمالكم ، أو يسألكم أهلكم إذا رجعتم. وقال قتادة:” لعلكم تسألون شيئا من دنياكم فتعطون من شئتم ، وتمنعون من شئتم ” ، يقولون ذلك استهزاء بهم.
{قَالُوا: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } لما رأوا العذاب ، ولم يروا وجه النجاة. {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ} فما زالوا يرددون ذلك ، إلى أن قبضت أرواحهم على ذلك العذاب ، وكانت دعواهم عذابا لهم فوق عذاب البأس ، وإنما سماه دعوى ، لأن المولول كان يدعو بالويل: تعال فهذا أوانك {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا} مثل الحصيد: وهو النبت المحصود ، {خَامِدِينَ} ميتين ، من ” خمدت النار”.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} وإنما خلقناهما مشحونة بضروب البدائع ، تبصرة للنظار ، وتذكرة لذوي الاعتبار ، وتسببا لما تنتظم به أمور العباد في المعاش والمعاد ، فينبغي أن يتوسلوا بها إلى تحصيل الكمال ، ولا يغتروا بزخارفها ، فإنها سريعة الزوال.
{لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} ما نتلهى به ونلعب ، و{لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} من جهة قدرتنا ، أو من عندنا ، فما يليق بحضرتنا من المجردات لا من الأجسام المرفوعة ، والأجرام المبسوطة ، كعادتهم في رفع السقوف وتزويقها ، وتسوية الفرش وتزيينها ، وقيل اللهو : الولد بلغة اليمن ، وقيل: الزوجة ، والمراد: الرد على النصارى ، {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} ذلك ، ويدل على حذف الجواب المتقدم.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} إضراب من اتخاذ اللهو ، وتنزيه لذاته من اللعب ، أي: بل من شأننا أن نقلب الحق الذي من جملته الحد على الباطل ، الذي من عداده ، {فَيَدْمَغُهُ} فيمحقه . وإنما استعار لذلك” القذف” وهو الرمي المستلزم لصلابة الرمي ، و”الدمغ” الذي هو كسر الدماغ ، بحيث يشق غشاءه المؤدي إلى زهوق الروح ، تصويرا لإبطاله به ومبالغة. {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} هالك ، والزهوق: ذهاب الروح ، والمعنى: أن يبطل كذبهم لما تبين من الحق ، حتى يضمحل الباطل فلا يبقى له أثر ، {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} مما لا يجوز عليه.
{وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خلقا وملكا {وَمَنْ عِندَهُ} يعني: الملائكة المنزلين منه – لكرامتهم عليه – منزلة المقربين عند الملوك ، {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} لا يتعظمون عنها ، {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} ولا يعيون منها ، وإنما جيء بالاستحسار الذي هو أبلغ من الحسور ، تنبيها على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ، ولا يستحسرون. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} وينزهونه ويعظمونه دائما ، {لَا يَفْتُرُونَ} لأن الشيطان لا يأتيهم بالوسوسة فيشغل قلوبهم بالغفلة كما يأتي بني آدم. والله تبارك تعالى مستحق للتسبيح والتقديس ، والتنزيه عما لا يليق به في كل حال ، فمن ذلك لا يفترون بغفلة ، ولا يستحسرون من عياء ، ولا يسأمون من ساءمه ليلا ونهارا {كذا} . وكذلك تسبيح الجمادات ومن لا يعقل ، وسجودها دائما في كل وقت ، وكذلك توحيد المؤمنين لله تعالى وطاعتهم له ، وتسبيحهم له دائما بلسان الحال ، وإن غفلوا عن النطق به بلسان المقال ، ولا يفتر عن طاعة الله وتسبيحه وتنزيهه – في الحقيقة – إلا من عصاه ، وخرج من جملة التوحيد.
{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً} بل اتخذوا آلهة ، يعني: الأصنام ، ويعم كل ما خالف الحق ، والهمزة لإنكار اتخاذهم ، {مِّنَ الْأَرْضِ} ، وفائدتها التحقير دون التخصيص ، {هُمْ يُنشِرُونَ} الموتى ، والمراد: تجهيلهم والتهكم بهم.
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} غير الله {لَفَسَدَتَا} لبطلتا ، لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع ، فإنها إن توافقت في المراد تطاردت عليه القدر ، وإن تخالفت فيه تعاوقت عنه ، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ} المحيط بجميع الأجسام ، الذي هو محل التدابير ، ومنشأ المقادير ، {عَمَّا يَصِفُونَ} من اتخاذ الشريك والصاحبة والولد.
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} عن حكمه في عباده ، لعظمته وقوة سلطانه ، وتفرده بالألوهية الذاتية ، {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} عما عملوا ، لأنهم له مملوكون مستعبدون مجازون.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} كرره استفظاعا لأمرهم وتبكيتا ، وإظهارا لجهلهم ، {قُلْ : هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} على ذلك ، إما من العقل أو من النقل ، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه ، كيف وقد تطابقت الحجج على بطلانه عقلا ونقلا ، {هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} من الكتب السماوية ، فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد ، والنهي عن الإشراك جليا وخفيا . و”من معي”: أمته ، و”من قبلي”: الأمم المتقدمة. وإضافة الذكر إليهم لأنه عظتهم. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} ولا يميزون بينه وبين الباطل ، بقلة تدبرهم وتعلمهم ، وإنما يأخذون ظواهر الأمور تساهلا للنفوس ، {فَهُم مُّعْرِضُونَ} عن التوحيد ، واتباع الرسول ، وعن التدبر في حقائق الأمور.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ، وَقَالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } نزلت في خزاعة حيث قالوا: “الملائكة بنات الله” . {سُبْحَانَهُ} تنزيه له عن ذلك ، {بَلْ عِبَادٌ} بل هم عباد من حيث أنهم مخلوقون ، وليسوا بأولاد {مُّكْرَمُونَ} مقربون. شهد لنفسه بالتنزيه عن قولهم وفعلهم بالباطل.
{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} لا يقولون شيئا خلاف قوله حيث يقوله كما {هو} ديدن العبيد المؤدبين ، وأصله لا يسبق قولهم قوله ، فنسب الفعل : “السبق” إليه وإليهم ، المعرض به للقائلين على الله ما لم يقله ، وأنيب اللام عن الإضافة اختصارا ، وتجافيا عن تكرير الضمير ، {وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} لا يعملون قط ما لم يأمرهم به.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} لا تخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا ، فإنهم لإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم ، ويراقبون أحوالهم ، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} أن يشفع له ، مهابة منه تعالى ، {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ} عظمته ومهابته {مُشْفِقُونَ} مرتدعون ، وأصل الخشية : خوف مع تعظيم ، ولذلك خص به العلماء.
{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ} من الملائكة ، أو من الثقلين المتعبدين: {إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ} وذلك يضم كل من دعا إلى طاعة نفسه بغير حق ، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} يريد به نفي النبوة ، وادعاء ذلك عن الملائكة ، وتهديد للمشركين بتهديد مدعي الربوبية . {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} من ظلم بالإشراك ، وأدعاء الربوبية .
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} ذات رتق ، أو مرتوقتين : وهو الضم والالتحام ، أي: كانتا شيئا واحدا ، {فَفَتَقْنَاهُمَا} بالتنويع والتمييز ، وكانت السماوات واحدة ، ففتقت بالتحريكات المختلفة ، حتى صارت أفلاكا ، وكانت الأرضون واحدة ، فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم . وقيل: كانتا بحيث لا فرجة بينهما ، ففرج ، وقيل: { كَانَتَا رَتْقًا}: لا تمطر ولا تنبت ، { فَفَتَقْنَاهُمَا} بالمطر والنبات ، فيكون المراد بالسماوات : سماء الدنيا ، جمعها باعتبار الآفاق ، أو السماوات بأسرها ، على أن مدخلا ما في الأمطار . والكفرة وإن لم يعلموا ذلك فهم متمكنون من العلم به نظرا ، فإن الفتق عارض مفتقر إل مؤثر واجب ابتداء ، أو استفسارا من العلماء ، أو مطالعة الكتب.
{ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وخلقنا من الماء كل حيوان ، كقوله: { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء } ، وذلك لأنه أعظم موادة ، ولفرط احتياجه له وانتفاعه به بعينه ، أو صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يجيء دونه ، { أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} على ظهور الآيات.
{ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} ثابتات { أَن تَمِيدَ بِهِمْ}لأن لا تميد ، فحذف إلا عن الالتباس ، {وَجَعَلْنَا فِيهَا} في الأرض أوالرواسي {فِجَاجًا سُبُلًا} مسالك واسعة ، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} إلى مصالحهم . {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا} عن الوقوع بقدرته ، أو الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته ، أو استراق السمع بالشهب ، {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا} , وأحوالها الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته ، وتناهي حكمته التي يحس ببعضها (لعله) شمسها وقمرها ونجومها وما فيها ، ويبحث عن بعضها في علمي الطبيعة والهيئة ، {مُعْرِضُونَ} غير متفكرين في آياتها ولا معتبرين.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} بيان لبعض تلك الآيات ، {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} أي: كل واحد من ذلك ، {يَسْبَحُونَ} يسرعون على سطح الفلك ، إسراع السابح على سطح الماء.
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} دوام البقاء على الدنيا ، لأنها دار تعبد ، وليس بعد التعبد إلا الجزاء ، {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} أي: فهم الخالدون إن مت. نزلت حين قالوا:{ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ }.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ذائقة مرارة مفارقتها جسدها ، لم يخلق الله الموت لعباده عبثا ، بل لحكمة أو حكم ، ومن ذلك ربما يكون لزيادة ثواب المؤمنين ، وزيادة عذاب للكافرين. {وَنَبْلُوكُم} ونعاملكم معاملة المختبر {بِالشَّرِّ} (لعله) من قليل ذلك وجليه ، فالمؤمن يخرج من الابتلاء بالسراء والضراء بزيادة ثواب عما كان عند دخوله فيه ، من قبل صبره للضراء ، ولو في قرص نملة ، أو التصدق بحبة ، أو شكره للسراء ، ولو ناله أدنى مسرة ، ولو تجشى جشوة فحمد الله على ذلك، والكافر يخرج من الابتلاء بزيادة عقاب إذا خرج غير شاكر للسراء ، ولا صابر للضراء ، فعذابه(لعله) بتضييعه للفرض ، وإن أدى الفرض في ذلك فغير مقبول منه ، وتحسره على فوات الثواب هو عين العذاب ، لأنه عاص ، وعمله مردود عليه ، كما قال:{ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } ، فصح أن الضراء صارت للمؤمن سراء ، إذ في العاقبة مأجور على فعلها ، والأمور للعواقب ، والسراء للكافر ضراء ، إذ{هو} معاقب عليها في العاقبة ، فصح أن الخير لا يكون إلا لأهل الخير ، والشر لا يكون إلا لأهل الشر ، {وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فنجازيكم حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر . وفيه تنبيه بأن المقصود من هذه الحياة: الابتلاء. والتعريض للثواب والعقاب تقرير لما سبق.
{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} ما يتخذونك إلا هزوا، مهزوءا به ، ويقولون:{ أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}؟ أي: بسوء ، وإنما أطلقه لدلالة الحال، فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء . {وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ} بالتوحيد ، إو بإرشاد الخلق يبعث الرسل ، وإنزال الكتب ، رحمة عليهم ، أو بالقرآن {هُمْ كَافِرُونَ} منكرون ، فهم أحق أن يهزأ بهم.
{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} كأنه خلق منه لفرط استعجاله ، وقلة تأنيه ، كقولك: خلق زيد من الكرم ، جعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع هو منه ، مبالغة في الدومة له ، ومن عجلته مبادرته إلى الكفر ، واستعجاله الوعد. {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} نقماتي في الدنيا والآخرة ، {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} في الإتيان بها ، والنهي عما جبلت عليه نفوسهم ليقعدوها عن مرادها. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ؟ وقت وعد العذاب ، أو يوم القيامة ، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} يعنون النبي وأصحابه.
{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ} لا يمنعون {عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} أي: لو يعلمون الوقت الذي يستعجلون منه بقولهم : { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} وهو حين تحيط بهم النار من كل جانب ، بحيث لا يقدرون على دفعها ، ولا يجدون ناصرا يمنعها لما استعجلوا ، { بَلْ تَأْتِيهِم} العدة ، أو الساعة { بَغْتَةً} فجأة { فَتَبْهَتُهُمْ} فتحيرهم ، { فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} ويحتمل في قوله:{ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} أي : النار بخروج أرواحهم بهتتهم ، أي: كذبت ظنونهم الفاسدة ، لأن الموت يأتيهم بغتة ، من فرط آمالهم ، ولأنهم يأملونه بعيدا ، كانوا في صحة أو مرض ، ومن ذلك أنهم لا يؤمنون ولا يتوبون حتى تنزل بهم ، فيتحققون وقوع العذاب حيئنذ . { وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} ولا يمهلون ، وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا .
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} تسلية له ، { فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} وعد له بأن ما يفعلونه يحيق بهم ، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا ، يعني: جزاؤه.
{ قُلْ} يا محمد: { مَن يَكْلَؤُكُم} يحفظكم { بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} من بأسه ، إن أراد بكم ، وفي لفظ الرحمن: تنبيه على أن لا كالىء غير رحمته العامة ، وإن اندفاعه بمهلته {كذا} ، { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ} لا يتوقعونه ببالهم ، فضلا أن يخالفوا بأسه ، حتى إذا أكلئوا منه عرفوا الكالىء ، وصلحوا للسؤال عنه.
{ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا} من عذابنا، {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ} استئناف بإبطال ما اعتقدوه ، فإن من لا يقدر على نصر نفسه ، ولا يصحبه نصر من الله ، كيف ينصر غيره.
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} إضراب عما توهموا ، ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم ، وهو الاستدراج والتمتيع بما قدر لهم من الأعمار والأرزاق ، أو مهلهم حتى طالت أعمارهم ، فحسبوا أن لا يزالو كذلك ، وأنهم بسبب ما هم عليه ، ولذلك عقبه بما يدل على أنه أمل كاذب ، فقال:{ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ}؟ أرض الكفرة {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بتسليط المسلمين عليها ، أي: ما ننقص من أطراف المشركين ، ونزيد في أطراف المؤمنين ، نريد بذلك فتح النبي ديار المشركين أرضا فأرضا ، {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}؟ رسول الله والمؤمنين.
{قُلْ : إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء} إنما سماهم الصم للدلالة على تصامهم ، وعدم انتفاعهم بما يسمعون ، {إِذَا مَا يُنذَرُونَ . وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ} أدنى شيء ، فإن أصل النفح : هبوب رائحة الشيء ، وقيل: قطعة ، {مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ} من الذي ينذرون به ، {لَيَقُولُنَّ: يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} لدعوا على أنفسهم بالويل ، واعترفوا عليها بالظلم.
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} قيل: وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السوي ، والجزاء على حسب الأعمال بالعدل ، {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} لجزاء يوم القيامة ، أو لأهله ، أو فيه. {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} فلا تنقص من حسناتها ، ولا تزداد على سيئاتها ، {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} أي: وإن كان العمل مقدار ثقل حبة {أَتَيْنَا بِهَا} أحضرناها ، {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} الكتاب الفارق بين الحق والباطل ، {وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ} أي: الكتاب الجامع لكونه فارقا بين الحق والباطل ، وضياء يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة ، وذكرا يتعظ به المتقون ، أو ذكر ما يتحاجون إليه من الشرائع ، {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} صلة للمتقين {بِالْغَيْبِ} أي: يخافونه ولم يروه ، {وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} خائفون . {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} كثير خيره {أَنزَلْنَاهُ ، أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}؟.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} الاهتداء لوجوه الصلاح ، والرشد: عبارة عن هدا باعثة إلى جهة (لعله) السعادة ، محركة لها ، {مِن قَبْلُ} من قبل موسى ، أو محمد ، أو من قبل استنبائه أو بلوغه ، {وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ} علمنا أنه أهل لما آتيناه ، أو جامع لمحاسن الأوصاف ، ومكارم الخصال ، وفيه إشارة إلى أن فعله تعالى باختيار وحكمة ، وأنه عالم بالجزئيات.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}؟ تحقير لشأنها ، وتوبيخ على إجلالها ، فإن التماثيل صورة لا روح فيها ، ولا تضر ولا تنفع. {قَالُوا : وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} فقلدناهم. {قَالَ: لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} منخرطون في سلك ضلال لا تخفى على عاقل ، لعدم استناد الفريقين إلى دليل ، والدليل إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على حق. {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ ، أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} كأنهم استبعادهم تضليل آبائهم ، ظنوا أنما قاله على زجه الملاعبة ، فقالوا : أتجد بقولك أم تلعب؟ {قَالَ : بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} إضراب عن كونه لاعبا ، بإقامة البرهان على ما ادعاه ، وهو السماوات والأرض ، أو للتماثيل . وهو أدخل في تضليلهم ، وإلزام الحجة عليهم . {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم} المذكور من التوحيد ، {مِّنَ الشَّاهِدِينَ} من المتحققين له ، والمبرهنين عليه , فإن الشاهد: من تحقق الشيء ، وحققه.
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} لأجتهدن في كسرها ، ولفظ الكيد ، وما في التاء من التعجب لصعوبة الأمر ، وتوقعه على أنواع من الحيل ، {بَعْدَ أَن تُوَلُّوا} عنها ، أو عن النصح {مُدْبِرِينَ} ولعله قال: ذلك سرا.
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} قطعا ، من الجذ: وهو القطع ، {إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ} للأصنام ، كسر غيره واستبقاه ، {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} لأنه غلب على ظنه لا يرجعون إلا إليه ، لتفرده واشتهاره بعداوة آلهتهم ، فيحاجهم بقوله:” بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ” ، أو يرجعون إلى كبيرهم.
{قَالُوا : مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} بجرأته على آلهة الحقيقة بالإعظام أو بإفراطه في حطمها ، أو بتوريط نفسه في الهلاك . {قَالُوا : سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} يعيبهم ، {يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا:فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ } بمرأى منهم ، بحيث تتمكن صورته في أعينهم، {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} بفعله ، أو قوله ، أو يحضر عقوبتنا له.
{قَالُوا : أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ؟ قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } عضبا منه عن أن تعبد معه الصغار ، فكسرهن ، وأراد إقامة الحجة عليهم ، {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} قيل: إنه في المعنى متعلق بقوله: { إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}. { فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} وراجعوا عقولهم { فَقَالُوا} فقال بعضهم لبعض : { إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} بهذا السؤال ، أو بعبادة ما لا ينطق ولا يضر ولا ينفع ، لا من ظلمتموه بقولكم: { إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} ، وذلك منهم كلام عقلي إن لو ثبتوا عليه.
{ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} ارتدوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة ، شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه ، { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ} فكيف تأمرنا بسؤالها؟ أقروا على أنفسهم بالضلال من حيث لا يعلمون ، حتى وبخهم على لعبهم وتعبهم حيث { قَالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} إنكارا لعبادتهم لها، بعد اعترافهم بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر ، فإنه ينافي الألوهية ، ويطابق اللعب.
{ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} تضجرا منهم على إصرارهم بالباطل البين. أف: صوت المتضجر ، ومعناه : قبحا واستقذارا ، لأن عبادتها لا تضره إن ترك عبادتها ، ولا تنفعه إن عبدها ، والعاقل يأنف ويضجر ويمل (لعله) ويسائم من عمل لا ينفعه ، { أَفَلَا تَعْقِلُونَ} قبح صنيعكم؟!.
{ قَالُوا} أخذا في المضارة لما عجزوا عن المحاجة : { حَرِّقُوهُ} فإن النار أشد ما يعاقب به ، { وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} بانتقام لها ، { إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} إن كنتم ناصرين لها.
{ قُلْنَا : يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} ذات برد وسلام ، أي: ابردي بردا غير ضار ِ، وفيه مبالغات ، جعل النار المسخرة لقدرته مأمورة مطيعة . روي أنهم بنوا حظيرة ، وجمعوا فيها نارا عظيمة ، ثم وضعوه في المنجنيق مغلولا ، فرموا به فيها ، فقال له جبريل:” هل لك من حاجة؟” كأنه يودعه وداع الخارج من الدنيا اختبارا وابتلاء فوق ابتلائه ، ليتضاعف له الأجر ، فقال:” أما إليك فلا” أي: إنك مخلوق مثلي لا تقدر على شيء من نجاتي. فقال له:” سل ربك ” ، فقال: ” حسبي من سؤالي علمه بحالي ، إنى وضعت في ذلك الحال اجتهادا في دينه ، ورضى له ، وهو إن شاء يميتني ، ,إن شاء يحييني” ، فانجاه الله منها. وانقلاب النار هواء طيبة ، ليس ببدع في قدرة الله ، غير أن ذلك على خلاف المعتاد ، فهو إذن من معجزاته. { عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.
{ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} مكرا في إضراره ، { فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} أخسر من كل خاسر ، لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل ، وإبراهيم على الحق ، وموجبا لمزيد درجته ، واستحقاقهم اشد العذاب.
{ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} قيل: من العراق إلى الشام . وبركاته العامة: أن أكثر الأنبياء بعثوا فيه ، فانتشرت في العالمين شرائعهم التي هي مبادىء الكمالات ، والخيرات الدينية والدنيوية ، وقيل: كثرة النعم والخصب.
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} عطية ، ولدا لولده ، { وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} بأن وفقناهم للصلاح ، وحلمناهم عليه ، فصاروا كاملين . { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} يقتدى بهم { يَهْدُونَ} الناس إلى الحق { بِأَمْرِنَا} لهم بذلك ، وإرسالنا إياهم ، حتى صاروا مكملين ، { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} ليحثوهم عليه ، فيتم كمالهم بانضمام العمل إلى العلم، وأصله: أن تفعل الخيرات ، ثم فعلا الخيرات عليها ، وكذلك قوله: { وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ، وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} موحدين ، مخلصين في العبادة.
{ وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا} حكمة ، أو نبوة ، أو فصلا بين الخصوم ، { وَعِلْمًا} بما ينبغي علمه للأنبياء ، { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} يأتون الذكران في أدبارهم ، وأشياء أخر من المنكرات ، { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } .
{ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ} من قبل المذكورين ، { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ، فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} من الطوفان ، أو أذى قومه ، أو من غم المعصية ، والكرب: الغم الشديد. { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} لاجتماع الأمرين : تكذيب الحق ، والانهماك في الشر ، فإنهما لم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله.
{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} رعته ليلا، والنفش : الرعي بالليل ، (لعله) والهمل بالنهار ، همالة ترعى بلا راع. { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ، وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا . وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } يقدسن الله معه ، إما بلسان الحال ، أو بصوت يتمثل له ، أو بخلق الله فيها ، { وَالطَّيْرَ} عطف على الجبال ، وقيل: سخر الله الجبال والطير يسبحن مع داوود إذا سبح. قال ابن عباس:” كان يفهم تسبيح الحجر والشجر “. قال وهب:” كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح ، وكذلك الطير” ، { وَكُنَّا فَاعِلِينَ} لأمثاله ، فليس ببدع منا ، وإن كان عجيبا عندكم.
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} عمل الدروع ، وهو في الأصل: اللباس . قال: ” البس لكل حالة لبوسها ، إما نعيمها وإما بوسها ” ، { لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ، فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ؟ . وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً } شديدة الهبوب ، { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بركة الدين والدنيا على من فيها ، { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} فنجزيه على ما تقتضيه الحكمة.
{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ} في البحار ، ويخرجون نفائسها ، { وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} ويتجاوزن ذلك إلى أعمال أخرى ، كبناء المدن والقصور ، واختراع الصنائع الغريبة ، لقوله:{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء } ، { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أن يزيغوا عن أمره ، أو يفسدوا على ما هو مقتضى جبلتهم.
{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أصابني الجهد والمشقة ، { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وصف ربه بغاية الرحمة ، بعدما ذكر نفسه بما يوجبها ، واكتفى بذلك عن غرض المطلوب لطفا في السؤال . { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} قيل: ولد له ضعف ما كان { رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} رحمة عليه ، وتذكرة للعابدين ، ليصبروا كما صبر ، فيثابوا كما أثيب ، أو لرحمتنا للعابدين ، فإنا نذكرهم بالإحسان ولا ننساهم.
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} يعين اليأس ، وقيل: يوشع ، أو غيرهما ، { كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ} على مشاق التكاليف . { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ} الكاملين في الصلاح ، بما تعبدهم الله به.
{ وَذَا النُّونِ} يونس { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} على قومه حين لم يؤمنوا به ، على ما قيل ، { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} البلاء بسبب غضبه ، من القدر ، وقرىء مثقلا ، ولعلها كانت خطرة شيطانية ، سيقت إلى وهمه ، فسمي ظنا للمبالغة ، { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} قيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل ، أو ظلمات المعاصي ، وذلك عند خروجه منها إلى النور ، وهو التوبة ، ودليله قوله:{ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لنفسي بالمبادرة إلى ما لم تأمرني به ، وكان ذلك توبة له.
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} من غم المعصية ، وما به من الكرب ، { وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} من غموم دعوا الله فيها بالإخلاص ، أي: ننجي كل من نزل بمنزلته في الاضطرار والإخلاص.
{ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} وحيدا في الدين ، بلا وراث يرثني بعدي في الدين ، {وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى، وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } قيل: للولادة بعد عقرها ، أو له بتحسين خلقها ، {إِنَّهُمْ} يعني: المتوالدين ، أو المذكورين من الأنبياء {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} بالمسابقة إليها خوف الفوات ، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} راغبين في الثواب ، راجين الإجابة ، أو في الطاعة خائفين العذاب ، أو المعصية ، والرغبة والرهبة في القلب ، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} مخبتين ، أو دائمين الوجل. قال مجاهد:” الخشوع: الخوف اللازم في القلب” ، والمعنى: أنهم نالوا من الله ما نالوا بهذه الخصال.
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} من الحلال والحرام ، {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} من الروح الذي هو بأمرنا وحده ، {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا} أي: قصتهما أو حالهما ، {آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} وهي من أعظم الآيات لمن تأملها.
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أمر بالائتلاف ، ونهيا عن الاختلاف ، أي: إن ملة التوحيد ملتكم التي يجب عليكم أن تكونوا عليها ، غير مختلفين فيما بين الأنبياء ، أو لا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع ، {وَأَنَا رَبُّكُمْ} لا إله غيري {فَاعْبُدُونِ} لا غير.
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} صرفه إلى الغيبة التفاتا ، لينعى على الذين تفرقوا في الدين ، وجعلوا أمره قطعا موزعة ، {و}يقبح فعلهم إلى غيرهم ، {كُلٌّ} من الفرق المتحزبة{إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فنجازيهم . {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} فلا تضييع لسعيه ، استعير لمنع الثواب ، كما استعير الشكر لإعطائه ، {وَإِنَّا لَهُ} لسعيه {كَاتِبُونَ} مثبتون في صحيفة عمله.
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} وممتنع على أهلها غير متصور منهم ، {أَهْلَكْنَاهَا} حكمنا بإهلاكها {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} إلى التوبة ، أو الحياة ، وهذا الوعيد يتناول كل نفس علم الله شقاءها ، فلا ترجع إلى السعادة أبدا.
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} متعلق بـ”حرام” ، أو بمحذوف دل عليه الكلام ، أو بـ”لا يرجعون” ، أي: يستمر الامتناع إلى قيام الساعة ، وظهور أمارتها ، وفتح سد يأجوج ومأجوج ، {وَهُم} يعني: يأجوج ومأجوج ، أو الناس كلهم {مِّن كُلِّ حَدَبٍ} نشز من الأرض {يَنسِلُونَ} يسرعون.
{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} هو يوم القيامة ، أو انقضاء كل نفس على حيالها ، {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ} فاتحة أعينهم لا تكاد تطرف ، وقيل: ذاهبة ، {الَّذِينَ كَفَرُوا : يَا وَيْلَنَا} أي: الويل لنا ، {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} في غطاء من قبل هوى أنفسنا ، {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} لأنفسنا بإخلال النظر ، والاعتداد بالنذر.
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} يحتمل الأوثان ، وإبليس وأعوانه ، لأنهم بطاعتهم لهم في حكم عبدتهم ، كما قال: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} . {حَصَبُ جَهَنَّمَ} ما يرمى به لها ، وتهيج به ، من حصبه يحصبه : إذا رماه بالحصباء . {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} داخلون.
{لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} لأن الورود إليها إن كان عذابا له أو لغيره لا يكون إلها {كذا} ، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} لا خلاص لهم عنها.{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} انين وتنفس شديد ، {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} من الهول ، وشدة العذاب ، وقيل: لا يسمعون ما يسرهم كما كانوا في الدنيا ، لأن العاصي لا يسمع ولا يبصر ما يسره السرور الحقيقي ، وكيف لا وهم أموات غير أحياء ، ولكن لا يشعرون.
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} الخصلة الحسنى ، وهي الحق والسعادة ، والتوفيق للطاعة ، {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} لأنهم يرفعون إلى أعلى عليين. {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} يعني:صوتها ، وحركة تلهبها ، والحسيس: الصوت الخفي ، {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} دائمون في غاية التنعم.
{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} لأنه أكبر من كل فزع ، وإذا لم يحزنهم ذلك فقد سلموا {عند} النفخة الأخيرة _ لقوله: { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ } – أو الانصراف إلى النار ، أو حين يطبق على النار ، أو يذبح الموت. {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} تستقبلهم بالتهنئة والبشرى بالسلامة: {هَذَا يَوْمُكُمُ} هذا يوم ثوابكم {الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا.
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء} الطي: ضد النشر ، أو المحو ، من قولك: اطو عني هذا الحديث ، وذلك أنها نشرت مظلة لبني آدم ، فإذا انقفلوا انقضت عنهم ، {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} طيا كطي الطومار لأجل الكتابة ، أو لما يكتب ، أو كتب فيه ، وتدل عليه قراءة حفص على الجمع ، أي: للمعاني الكثيرة المكتوبة ، وقيل: السجل: ملك يطوي كتب الأعمال إذا رفعت إليه، أو كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} أي: نعيد ما خلقناه للإعادة ، {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ذلك لا محالة.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} في كتاب داوود {مِن بَعْدِ الذِّكْرِ} أي: التوراة ، وقيل المراد بالزبور : جنس الكتب المنزلة ، وبالذكر : اللوح المحفوظ ، {أَنَّ الْأَرْضَ} أرض الجنة ، أو أرض الدنيا {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} للجزاء ، إن كانت أرض الجنة ، أو للخلافة ، إن كان يعني به أرض الدنيا ، كما قال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ } {إِنَّ فِي هَذَا} أي: فيما ذكر من الأخبار والمواعظ والمواعيد ، {لَبَلَاغًا} لكفاية ، أو لسبب بلوغ إلى البغية ، {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} همتهم العبادة دون العادة ، لأن فيه ذكر العابدين ، وقيل: القرآن زاد الجنة ، كبلاغ المسافر.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} لان ما بعثناك إلا سببا لإسعادهم ، وموجبا لصلاح معاشهم ومعادهم . {قُلْ: إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: ما يوحي إلي إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد ، وذلك لأن المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد ، وذلك يقتضي الائتلاف في الدين ، إذ كان المعبود واحدا دون الافتراق ، {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}؟ مخلصون العبادة لله على مقتضى الوحي المصدق بالحجة.
{فَإِن تَوَلَّوْا} عن التوحيد ، {فَقُلْ: آذَنتُكُمْ} أعلمتكم ما أمرت به {عَلَى سَوَاء} مستوين في الإعلام به ، ومستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به ، أو في المعاداة ، أو إيذانا على سواء ، وقيل: أعلمتكم أني على سواء ، أي: عدل واستقامة رأي بالبرهان النير المبين ، {وَإِنْ أَدْرِي} وما أدري {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} به في الدنيا أو الآخرة ، فإنه كائن لا محالة . {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} ما يجاهرون به من الطعن في الإسلام ، {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} من الإحن والأحقاد للمسلمين ، فيجازيكم عليه.
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} وما أدري لعل خلير جزائكم واستدراج لكم ، وزيادة في افتتانكم ، أو امتحان لننظر ما تعملون ، {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} وتمتيع إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته.
{قَالَ: رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ} طلبا للنصرة ، {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ} كثير الرحمة على خلقه ، {الْمُسْتَعَانُ} المطلوب منه المعونة {عَلَى مَا تَصِفُونَ} من الحال.