بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا} أي: لا تقدموا أمرا؛ والمقصود نفي التقديم رأسا، {بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في التقديم، أو مخالفة الحكم، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوالكم، {عَلِيمٌ (1)} بأفعالكم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إذا كلمتموه فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته، {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته؛ وقيل معناه: ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم، وخاطبوه بالنبي والرسول، {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} أنها محبطة.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} يخضعونها {عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} مراعاة للأدب أو مخافة عن مخالفة النهي؛ وقيل: كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه، حتى يستفهمهما، {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} والأصل: ضرب الله قلوبهم بأنواع المحت، والتكاليف الشاقة لأجل التقوى، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها؛ أو: أخلصها للتقوى، من “امتحن الذهب” : إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه؛ وقيل: امتحانه لها: نزع الله منها حب الشهوات، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لذنوبهم، {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}.
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)}إذ العقل يقتضي حسن الأدب، مراعاة الخشية، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فتعرفوا وتفحصوا، {أَنْ تُصِيبُوا} كراهة إصابتكم، {قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} جاهلين حالهم، {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} فاتقوا الله أن تقولوا باطلا وتكذبوه فتفتضحوا، {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} والمعنى: إن فيكم رسول الله على حال يجب تغييرها، وهي أنكم تريدون أن يتبع رأيكم في الحوادث، ولو فعل ذلك لعنتم، أي: لوقعتم في الجهد، من العنت، {وَلَكِنَّ اللَّهَ} بكرمه وفضله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}(لعله) عن أن تعنتوا، لا بقوتكم وحيلتكم واختياركم؛ المعنى: واو خليتم (لعله) واختياركم لأثمتم، {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} أي: هم الذين أصابوا الطريق السوي، والكفر: تغطية النعم بالمعاصي؛ والفسوق: الخروج عن القصد؛ والعصيان: الامتناع عن الانقياد؛ {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} والراشد: فضل الله وإنعامه، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال المؤمنين، وما بينهم من التفاضل، {حَكِيمٌ (8)} حين نفضل عليهم بالتوفيق.
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} منها أو من أحدهما ما وقع من الفساد بالنصح والدعاء إلى حكم الله، {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} تعدت {عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ترجع إلى ما حكم عليها، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين؛ {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} بفضل ما بينهما على ما حكم الله؛ وتقييد الإصلاح بالعدل هاهنا، لأنه مظنة الحيف، من حيث أنه بعد التقاتل، {وَأَقْسِطُوا} واعدلوا في كل الأمور، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} يحمد فعلهم بحن الجزاء.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} حقا {إِخْوَةٌ} من حيث أنهم منتسبون إلى أصل واحد، وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} لتكونوا على حقيقة الإيمان، غير فارقين عنه، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفة حكمه، والإهمال فيه، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} على تقواكم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} أي: لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض، إذ قد يكون المسخور منه خيرا عند الله من الله الساخر، أي: لا يستهزئ، فينبغي أن لا يستهزئ أحد بما يراه رث الحال أو ذا عاهة، أو بما يراه يعمل من طاعة الله فيسخر منه، فلعله أنقى عند الله وأخلص ضميرا ممن هو على صفته، فيكون قد حقر من وقره الله، {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يعب بعضكم بعضا، فإن المؤمنين كنفس واحدة، أي: حصنوا أنفسهم بالانتهاء عن غيها؛ وقيل: اللمز : الطعن والعيب في المشهد، والهمز: في المغيب؛ وقيل: إن اللمز ما يكون باللسان والعين والإشارة، والهمز: لا يكون إلا باللسان، {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء؛ {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} أي: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروهم بالفسق، بعد دخولهم الإيمان واستهزائهم به؛ {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} عما نهى عنه {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} بوضع العصيان موضع الطاعة، وتعريض النفس للعذاب وتنقيلها من الرحمة إليه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} كونوا منه على جانب، وإبهام “الكثير” ليحاط في كل ظن ويتأمل، حتى أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يجب اتباعه: كالظن حيث لا قاطع فيه من العيان، وحسن الظن بالله؛ وما يحرم: كالظن في الإلهيات والنبوات؛ وحيث يخالفه قاطع، وظن السوء بالمؤمنين. وفي ذلك قيل عن النبي عليه السلام: »إن الظن أكذب الحديث«؛ وما يباح كالظن في الامور المعاشية، {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} الإثم: الذنب يستحق العقوبة عليه، ويكسر الأعمال.
{وَلَا تَجَسَّسُوا} ولا تبحثوا عن عورات المسلمين؛ وفي الحديث:»لا تتبعوا عن عورات المسلمين، فإن من يبع عوراتهم يتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته«، {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ولا يذكر بعضكم بعضا بسوء، وإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته، {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} ؟ تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه. وعن قتادة: »كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي« . ولما قررهم سبحانه بأن أحد منهم لا يجب أكل جيفة أخيه، عقب ذلك بقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ} أي: فتحققت بوجوب الإقرار عليكم كراهتكم له ونفور طباعكم منه، فاكرهوا ما هو نظيره من الغيبة، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} لمن ألقى ما نهى الله عنه، وتاب مما فرط منه، والمبالغة في “التواب” لأنه يبلغ في قبول التوبة، إذ يجعل صاحبها كمن لا ذنب له، أو لكثرة المتوب عليهم؛ أو لكثرة ذنوبهم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} من آدم وحواء، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، فالكل سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر في النسب؛ ويجوز أن يكون تقريرا للأخوة المانعة عن الاغتياب. قال الغزالي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} : »أي: تفاوت في أنسابكم، لاجتماعكم على أصل واحد، ثم ذكر فائدة النسب فقال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} ، ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ من أكيس الناس؟ لم يقل: من ينتمي إلى نسبي، ولكن قال: ” أكثرهم للموت ذكرا، أو أشدهم له استعدادا” «.
{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} الشعب: الجمع العظيم، المنسوبون إلى أصل واحد، وهو يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، وعباس فضيلة؛ وقيل: الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب، {لِتَعَارَفُوا} ليعرف بعضكم بعضا، لا للتفاخر بالآباء والقبائل، وتدعوا التفاوت والتفاضل؛ ثم بين سبحانه الخصلة التي بها يكتسب الإنسان الكرم والشرف عند الله فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فإن التقوى بها تكمل النفوس وتتفاضل الأشخاص، فمن أراد شرفا فليتمس منها كما قال عليه السلام فيما يروى عنه: »من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله«. »يا أيها الناس، إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله« ؛ قيل في هذه الآية: »أكرم الكرم التقوى« ؛ »وقيل: قال رسول الله : الحسب: المال، والكرم: التقوى«. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} بكم {خَبِيرٌ (13)} .
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} إذ الإيمان: تصديق مع ثقة واطمئنانية قلب، ولم يحصل لكم؛ وقيل عن الزهري أنه قال:»إن الإسلام كلمة، والإيمان عمل«، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فإن الإسلام الدخول في السلم، والخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وضع قوله: {لم تُؤمنوا} موضع كذبتهم، بدلالة قوله في صفة المخلصين: {أولئك هُمُ الصادقون} تعريضا بأن هؤلاء هم الكاذبون؛ {ولكن قولوا أسلمنا} ولم يقل: أسلمتم ليكون خارجا مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم: »آمنا« تفسيرا ؛ {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} لا ينقصـكم من أجورها {شَيْئًا} من لات ليتا: إذ نقص، كقوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّن عَمَلِهم من شيءٍ} ومعناهما واحد، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن فرط منه ما نهى عنه وتـاب، {رَحِيمٌ (14)} بالتفضل عليهم. ثم بين حقيقة الإيمان، فقال:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} لم يشكوا في وحدانية الله والإرسال، ولا فيما جاءوا بعد ثلج صدورهم بالإيمان، بأن يعترضهم الشيطان، أو بعض المضلين فيشككهم، ويقذف في قلوبهم ما يثلم اليقين، {وَجَاهَدُوا} العدو المحارب، الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والمجاهدة: بهما تصلح للعبادات المالية والبدنية بأسرها، {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} الذين صدقوا في ادعاء الإيمان.
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} ؟ أتخبرونه به، بقولكم : »آمنا« {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)} لا تخفى عليه خافية، وهو تجهيل لهم وتوبيخ؛ والمعنى: أنه عالم بذلك ومحيط بضمائركم، فلا يحتاج إلى إخباركم به، لأنه يعلم جميع المعلومات لذاته، فلا يحتاج إلى علم يعلم به ولا إلى من يعلمه.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} يعدون إسلامهم عليك منة، وهي: النعمة، {قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} أي: بإسلامكم، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} على ما زعمتم أن الهداية لا تستلزم الاهتداء، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} في ادعاء الإيمان، أي: فلله المنة عليكم؛ وفي سياق الآية لطف،وهو أنهم لما سموا ما صدر عنهم إيمانا ومثوبة، فنفى أنه إيمان وسماه إسلاما؛ قال: {يمُّنون عليك} بما هو في الحقيقة إسلام، وليس بجدير أن يمنوا ]به[ عليك، بل لو صح ادعاؤهم للإيمان، فلله المنة عليهم بالهداية له لا لهم.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ما غاب فيهما،{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} في سركم وعلانيتكم، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم!.