سورة الحج

بسم الله الرحمن الرحيم     

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} تحريكها للأشياء ، أو تحريك الأشياء فيها ، وقيل: هي زلزلة تكون قبل طلوع الشمس من مغربها ، وأضافها إلى الساعة ، لأنها من أشراطها ، {شَيْءٌ عَظِيمٌ} هائل. علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ، ليتصوروها (لعله) بعقولهم ، ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى ، فيتقوا على أنفسهم ، ويتقوها بملازمة التقوى ، والزلزلة : شدة الحركة على الحال الهائلة ، واختلفوا فيها ، فقيل: إنها من أشراط الساعة قبل قيامها.

{يَوْمَ تَرَوْنَهَا} يعني: الزلزلة ، (لعله) الززله {كذا} ، {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} تصوير لهولها ، والذهول : الذهاب عن الأمر بدهشة ، والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه ، وذهلت عنه . {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} تسقط ولدها من هول ذلك اليوم. قال الحسن:” تذهل المرضعة عن ولدها من غير فطام” . {وَتَرَى النَّاسَ} كأنهم {سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} على الحقيقة ، {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم.

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} في توحيده وعبادته ، {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ} في المجادلة ، أو في علامة أحواله ، {كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} متجرد للفساد ، عار من الخير ، لأن أصل المرد العري. {كُتِبَ عَلَيْهِ} على الشيطان ، أي: صحت عليه الأحوال {أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ} تبعه ، {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} المعنى: كتب عليه إضلال من تولاه ، لأنه جبل عليه. {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} بما يزين له من الباطل.

ثم ألزم الحجة على منكري البعث ، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ} من إمكانه ، وكونه مقدرا ، {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم} أي: فانظروا في بدء خلقكم ، فإنه يزيح ريبكم إذ خلق {مِّن تُرَابٍ ، ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} قطعة من الدم جامدة ، {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} قطعة من لحم ، وهي في الأصل قدر ما يمضغ. {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} مسواة لا نقص فيها ولا عيب ، وغير مسواة ، أو مصورة وغير مصورة. {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا ، وأن من قدر على تصويره ، وتغييره ، أولا قدر على ذلك ثانيا ، إيماء على أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر.

{وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} عطف على ” نبين” ، كأنهم خلقهم تدرجا لغرضين : تبيين القدرة ، وتقريرهم في الأرحام ، حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف ، {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} كمالكم في القوة والعقل ، جمع شدة ، {وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى} عند بلوغ الأشد ، أو قبله. {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} الهرم والخرف ، حتى لا يعقل ، {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} ليعود كهيئته الأولى ، أوان الطفولية ، من سخافة العقل ، وقلة الفهم ، فينسى ما علمه ، وينكر من عرفه ، والاستدلال بأن – على إمكان البعث يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة ، والأحوال المتضادة – من قدر على ذلك قدر على نظائره ، فقال:{ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} ميتة يابسة ، من “همدت النار” : إذا صارت رمادا ، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ} تحركت بالنبات ، {وَرَبَتْ} وانتفخت ، وقيل: ارتفعت. {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ} من كل صنف {بَهِيجٍ} حسن رائق ، وهذه دلالة ثالثة كررها الله في كتابه لظهورها ، وكونها مشاهدة.

{ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفه ، وتحويله على أحوال متضادة ، وإحياء الأرض بعد موتها {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} ، أي: بسبب أنه الثابت في نفسه ، الذي به تتحقق الأشياء ، {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} وأنه يقدر على إحيائها ، لما أحيا النطفة ، والأرض الميتة ، {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأن قدرته لذاته الذي نسبته إلى الكل على سواء . لما دلت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات ، لزم اقتدراه على إحياء كلها ، وعلى كل شيء . {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا} فإن التغيير من مقدمات الانصرام وطلائعه ، {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف.

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} تكرير للتأكيد ، ولما ينط به من الدلالة بقوله:{ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} على أنه لا سند له من استدلال ، أو وحي ، أو الأول في المقلدين ، وهذا من المقلدين. والمراد بالعلم: العلم الفطري لا الفكري ، ليصح عطف” الهدى ” و ” الكتاب” عليه . {ثَانِيَ عِطْفِهِ} متكبرا ، أو ثني العطف كناية عن التكبر كلي الجيد ، أو معرضا عن الحق ، استخفافا به ، والعطف: الجانب. {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} علة للجدال ، وقرىء بفتح الياء، على أن إعراضه عن الهدى المتمكن منه بالإقبال على الجدال الباطل ، وخروج من الهدى إلى الضلال. {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} كل من كان وصفه على هذا فله في الدنيا خزي يعذب به. {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} المحرق ، وهو النار.

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} على الالتفات ، أو إرادة القول ، أي: يقال له يوم القيامة : ذلك الخزي والتعذيب بسبب كفرك ، {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم.

وعن أبي سعيد فيما أرجو:” وعن قول الله تبارك وتعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} {أي: طرق وجانب واحد من الدين ، لا يدخل فيه على الثبات والتمكين . والحرف:- قيل – منتهى الجسم. وقال مجاهد:” على شك” . وقيل: الحرف من كل شيء: طرفه ، وشفيره ، وحده ، ومن الجبل : أعلاه المحدد) . {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي: طرف وجانب واحد من الدين ، لا يدخل فيه على الثبات والتمكين . والحرف: – قيل – منتهى الجسم. وقال مجاهد:” على شك” . وقيل: الحرف من كل شيء: طرفه ، وشفيره ، وحده ، ومن الجبل : أعلاه المحدد. {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ما معنى ذلك؟ قال: يوجد في التفسير أن أولئك قوم دخلوا في الإسلام لطلب الغنائم ، فإذا كانت الدائرة على أعداء الله اطمأنوا وفرحوا ، وإذا كانت الدائرة على المسلمين سخطوا ، وقالوا: يا ليتنا لم نكن عندهم ، أو نحو هذا من القول ، وهو حسن من التفسير “. انتهى كلام الشيخ.

وخسرانه للدنيا : لأنه نسي نصيبه مما يتزود منه للاخرة ، وخسرانه للآخرة، لأنه خسر نعيم الجنة الذي أعد للمطيعين ، ولا أعظم من هذا خسرانا ، لأنه لم يثمر له إلا {الـ}ـعذاب الأدنى ، والعذاب الأكبر. {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ} أي: يعبد ما يضره إن ترك عبادته ، {وَمَا لَا يَنفَعُهُ} إن عبده ، بل يتضرر بتعبه وعبادته له ، ويتعذب ، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} عن المقصد ، مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضلالا .

{يَدْعُو} اي: يعبد {لَمَن ضَرُّهُ} بكونه معبودا ، لأنه يوجب الخزي في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، {أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} الذي يتوقعه بعبادته . {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} المعبود ، {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} العابد . وهذا يتناول كل ما يشغل عن فرائض الله من المعاصي.

ثم عقب ذكر صدهم ، فقال:{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} .

{مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} كلام فيه اختصار ، والمعنى: أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة ، فمن كان يظن خلاف ذلك ، ويتوقعه من غيظه ، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ} فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه بأن يفعل كل ما يفعله الممتلىء غيظا ، أو المبالغ جزعا. قيل: أراد بالسماء: سقف البيت ، أي: ليشدد حبلا في سقف بيته ، فليتختنق به حتى يموت ، ثم ليقطع الحبل بعد الاختناق . وقيل: المراد بالسماء: السماء المعروفة ، ومعنا: فليقطعه من أصله ، فإن أصله من السماء ، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ} عن النبي الوحي ، فلينظر هل يقدر على ذهاب غيظه بهذا الفعل . {فَلْيَنظُرْ} فليصور في نفسه {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} فعله ذلك ، وسماه على الأول كيدا ، لأنه منتهى ما يقدر عليه . {مَا يَغِيظُ} غيظه ، أو الذي يغيظه من نصر الله.

{وَكَذَلِكَ} ومثل ذلك الإنزال {أَنزَلْنَاهُ} أنزلنا القرآن كله ، {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} للمتدبرين لا غير ، {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ} هدايته.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ} قيل: إن المجوس هم البانيان{كذا} . {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بالحكومة بينهم ، وإظهار المحق منهم على المبطل ، أو الجزاء فيجازي كلا ما يليق به ، ويدخله المحل المعد له ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} عالم به مراقب لأحواله.

{أَلَمْ تَرَ} بعقلك وقلبك {أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} يتسخر بقدرته ، ولا يتأبي عن تدبيره ، أو بذله على عظمة مدبره. و”من” يجوز أن يتم أولي العقل وغيرهم على التغليب ، فيكون قوله:{ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} إفرادا لها بالذكر لشهرتها ، واستبعاد ذلك منها ، {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} بكفره وإيبائه عن الطاعة ، {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ} بالشقاوة ، {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} يكرمه ، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} من الإكرام والإهانة ، يهين من يشاء بالكفر ، ويكرم من يشاء بالإيمان ، ولا يشاء من ذلك إلا ما يقتضيه عمل العاملين ، واعتقاد المعتقدين.

{هَذَانِ خَصْمَانِ} يحتمل أنه يصف الناس الذين سجدوا مع الساجين من خلق الله ، والخصم الثاني: الذين أبوا عن السجود ، الذين حق عليهم العذاب . {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا} فصل لخصومتهم ، وهو المعني بقوله:{ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. {قُطِّعَتْ لَهُمْ} قدرت على مقادير جثتهم {ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} نيران تحيط بهم إحاطة الثياب . {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} ماء حار ، – لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها . {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} من الأمعاء ، {وَالْجُلُودُ} أي: يؤثر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم ، فتذاب به احشاؤهم كما تذاب به جلودهم. {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } سياط يجلدون بها. وقيل: المقمعة: شبه الجزر من الحديد ، من قولهم : قمعت رأسه ، إذا ضربته ضربا عنيفا . {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} أي: كلما حاولوا الخروج من النار بما يلحقهم من الغم والكرب الذي أخذ بأنفاسهم ، {أُعِيدُوا فِيهَا} ردوا إليها بالمقامع ، وقيل لهم:{ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} النار البالغة في الإحراق.

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ، وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي : أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم ، وهو الذي حرم لبسه في الدنيا على الرجال ، وأنهم يطيبون بالحلي وإن كانوا طيبين من غير تطيب. {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} كلمة التوحيد ، {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} المحمود نفسه ، أو عاقبته ، وهو الجنة ، أو الحق ، أو المستحق لذاته . والحميد: وهو الله تعالى . وصراطه: الإسلام.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} عن دينه ، أو شيء منه ، وهم الشيطان وحزبه ، من جن وإنس ، {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطف على “الله” ، لأن الصاد عنه كالصاد عن سبيل الله ، والصاد عن عمارة بقية المساجد كالصاد عن المسجد الحرام ، {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ} أي: المقيم {فِيهِ ، وَالْبَادِ} والطارىء ، {وَمَن يُرِدْ فِيهِ} مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول ، وقرىء بالفتح ، من الورود ، {بِإِلْحَادٍ} عدول عن القصد ، {بِظُلْمٍ} بغير حق ، أي: ملحدا بسبب الظلم كالإشراك ، واقتراف الآثام ، وكذلك من عدل عن مساجد الله ، كما أمر الله من ذكره فيها ، فقد صد عن سبيل الله ، فقد أحاط به الوعيد ، لقوله: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي: واذكر إذ عيناه ، وجعلنا {ه} له مباءة ، وقيل: واد أنزلناه فيه ، {أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} أي: أن لا تعصني بشيء ، وخاصة في مكان البيت ، فإن المعصية وإن كانت عظيمة في كل مكان ، فإن المعصية فيه أعظم ، {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي: من كل ما يؤذي البيت ، من القاذورات التي يستقذرها الشرع والعقل ، وتمنع الطائفين به والقائمين فيه للذكر ، والعابدين الله بالركوع والسجود ، كما قال:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } . قال أبو سعيد في قوله: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} : ” إنما أمره أن يطهره من الأصنام والمشركين ، { لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}“.

{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ} ناد فيهم { بِالْحَجِّ} بدعوة الحج ، والأمر به ، { يَأْتُوكَ رِجَالًا} مشاة ، { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وركبانا على كل بغير مهزول أتعبه بعد السفر ، { يَأْتِينَ} صفة لضامر ، { مِن كُلِّ فَجٍّ} طريق { عَمِيقٍ} بعيد. { لِيَشْهَدُوا} ليحضروا { مَنَافِعَ لَهُمْ} دينية ودنيوية ، وتنكيرها لأن المراد بها : نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة ، { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} الذي أصابه بؤس أو شدة ، { الْفَقِيرَ} المحتاج.

{ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} ثم ليزيلوا وسخهم ، بقص الشارب والأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ما ينذرون من البر في حجهم ، وقيل: مواجب الحج ، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} القديم ، لأنه أو بيت وضع للناس ، أو المعتق من تسلط الجبابرة، فكم من جبار سار إليه ليهدمه ، فمنعه الله ، وأما الحجاج ، فإنما قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلط عليه على ما قيل.

{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أحكامه ، وسائر ما لا يحل هتكه ، وتعظيمها: ترك ملابستها ، وقيل: الحرمة: ما وجب القيام به ، وحرم التفريط فيه ، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} فالتعظيم خير له {عِندَ رَبِّهِ} ثوابا ، {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} قيل: أريد ببهيمة الأنعام: جنين الأنعام ، {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ،فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، كما تجتنب الأنجاس ، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها ، والتنفير عن عبادتها ، وذلك يتناول جميع معاصي الله من أعمال القلوب والجوارح ، لأنها تعبد من دون الله ، {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} تعميم بعد تخصيص ، فإن عبادة الأوثان رأس الزور ، والزور: هي الانحراف ، كما أن الإفك: هو الصرف ، وكل ذلك عبادة غير الله ، والمشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة.

{حُنَفَاء لِلَّهِ} مخلصين له {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} شيئا من معاصيه ، {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ} بشيء من الشرك ، جلية وخفيه ، {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء} لأنه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر ، وخرج من جملته التي دان بها لخالقه إلى حضرة شياطين الجن والإنس ، { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } ، ومعناه: ان بعد من أشرك من الحق ، كبعد من سقط من السماء ، فذهبت به الطير ، أو هوت به الريح ، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} فإن الأهواء المردية توزع أفكاره ، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد.

{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أعلام دين الله ، {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} فإن تعظيمها لله من أفعال ذوي تقوى القلوب ، وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور ، والآمرة بهما ، {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي: لكم فيها منافع: درها ونسلها وصوفها وظهورها إلى أن تنحر ، وقت نحرها منتهية إلى البيت ، أي : لكم فيها منافع دنيوية إلى وقت النحر ، وبعده منافع دينية أعظم منها.

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} أهل شريعة ، {جَعَلْنَا مَنسَكًا} متعبدا ، وقربانا يتقربون به إلى الله ، وقرىء بالكسر ، أي: موضع نسك ، {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} دون غيره ، ويجعلوا نسكهم لوجهه ، علل الجعل به تنبيها على أن المقصود من المناسك تذكر المعبود. {عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} سماها بهيمة الأنعام ، لأنها لا تتكلم ، {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، فَلَهُ أَسْلِمُوا} أخلصوا للقرب ، أو الذكر ولا تشوبوه بالإشراك ، {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} المتواضعين ، أو المخلصين ، فإن الإخبات صفتهم ، وهو الخشوع.

{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} هيبة منه ، لإشراق أشعة جلاله ، وهيبته عليها ، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} من المصايب والتكاليف ، {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} بشروطها في أوقاتها ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من قوة أبدانهم ، ونقابة أرائهم ، وغزارة عقولهم ، وأنوار علومهم ، وفضل أموالهم {يُنفِقُونَ} في وظائف الدين.

{وَالْبُدْنَ} جمع بدنة ، الإبل ، لعظم بدنها ، مأخوذة من بدن ، و{جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} من أعلام دينه التي شرعها الله ، {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} ديني ودنيوي ، إن رعي بها أمر الله ، وإلا فعلى العكس ، وكذلك الدنيا وما فيها ، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} سقطت على الأرض ، وهو كناية عن الموت ، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} الراضي بما عنده ، وبما يعطى من غير مسألة ، {وَالْمُعْتَرَّ} المعترض بالسؤال وغيره ، {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} مع عظمها وقوتها ، حتى تأخذوها منقادة ، فتعقلوها وتحبسوها صافة قوائمها ، ثم تطعنون في لباتها. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إنعامنا عليكم بالقرب والإخلاص ، ومن لم يشكر فقد كفر.

{لَن يَنَالَ اللَّهَ} لن يصيب رضاه ، ولم يقع منه موقع القبول ، {لُحُومُهَا} المتصدق بها ، {وَلَا دِمَاؤُهَا} المهراقة بالنحر ، من حيث أنها لحوم دماء ، (لعله) وكذلك غني عن بقية الأغراض والأعمال ، لأنه غني بذاته ، {وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}ولكن يناله ما يصحبه من تقوى قلوبكم ، الذي يدعوكم إل تعظيم أمر الله ، والتقرب إليه ، والإخلاص له ، وهو صفة للقلب . فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب- على الجملة – أفضل من حركات الجوارح ، {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} كرره تذكيرا للنعمة ، وتعليلا له بقوله:{ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} أي: لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره ،فتوحدوه بالكبرياء {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أرشدكم إلى طريق تسخيرها ، وكيفية التقرب بها ، أو لتكبروا الله ، أي: لتعظموه على ما هداكم لأمر دينه ، {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} المخلصين فيما يأتونه ويذرونه بالجنة.

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} يدافع وساوس الشيطان بالإلهام ، ويدافع المضار الدينية والدنياوية ، بما يضادها من الأدوية المريحة لمن استعملها ، وهذه نعمة عظيمة لمن شكرها ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} في أمانة الله ، {كَفُورٍ} لنعمته.

{أُذِنَ} رخص ، وقرىء على بناء الفاعل وهو الله ، {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} يقاتلون المشركين {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} بسبب أنهم ظلموا ، {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وعد لهم بالنصر . {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} بغير موجب استحقوا به ، {إِلَّا أَن يَقُولُوا : رَبُّنَا اللَّهُ} ويستكن {كذا} في قولهم عملهم وإخلاصهم لله ، أي: ما نقموا منهم إلا {لـ}ـتوحيدهم وعبادتهم لله ، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين ، {لَّهُدِّمَتْ} لخربت باستيلاء المشركين على ملة الإسلام . {صَوَامِعُ} الرهبانية ، {وَبِيَعٌ} النصارى ، {وَصَلَوَاتٌ} وكنائس اليهود ، سميت بها ، لأنه يصلى فيها ، {وَمَسَاجِدُ} المسلمين {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} صفة للأربع ، أو المساجد ، خصت بها تفضيلا . ويدخل في معنى هدمها : تعطيلها من العمارة بالصلاة والذكر ، ولما أذن الله فيها ، واستعمالها باللهو ، والخوض في الباطل ، لأنها إذا عطلت من الصلاة والذكر ، واستعملت بالخوض ، فكأنها هدمت من حيث المعنى ، بل صارت هي وبيت الماء بمثابة واحدة ، بل هو أنفع منها لقضاء الحاجة ، ولأنه هو لم يستعمل لغير ما جعل له ، وبقيت هي متعبدا للشيطان وحزبه ، والدليل على ذلك ، قوله:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } فكان الهدم والخراب بمعنى واحد.

{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} من ينصر دينه ، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} على نصرهم ، {عَزِيزٌ} لا يمانعه شيء . {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} بدل من ” من ينصره ” . {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} فإن مرجعها إلى حكمه ، وفيه تأكيد لما وعده.

{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ } تسليه له ، بأن قومه إن كذبوه ، فهو ليس بأوحدي في التكذيب ، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه ، {وَكُذِّبَ مُوسَى} غير فيه النظم ، وبني الفعل للمفعول ، لأن قومه بنو إسرائيل ولم يكذبوه ، وإنما كذبه القبط ، {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} فأمهلتهم حتى انصرمت آجالهم المقدرة ، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري عليهم بتغييرالنعمة محنة ، والحياة هلاكا ، والعمارة خرابا. والأخذ من الله لا يكون إلا على من غضب عليه ، ويعم كل من مات على الكفر ، وأما المؤمنون – وإن قتلوا أو ماتوا حتف أنوفهم ، أو وقع عليهم حرق أو غرق أو نحوه – فلا يسمى أخذا ، لأنه قال: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا}.

{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} بإهلاك أهلها ، {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: أهلها ، {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ساقطة حيطانها على سقوفها ، بأن تعطل بنيانها ، فخربت سقوفها ، ثم تهدمت حيطانها ، فسقطت فوق السقوف ، أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها ، {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} أي: وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها ، {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} مرفوع ، أخليناه عن ساكنيه.

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا ، وهم وإن كانوا قد سافروا لم يسافروا لذلك، ويحتمل هاهنا السير بتفكر القلوب في قصص الماضين ، ليعتبروا بما وقع منهم ، وبهم وفيهم ، ليحذروا مشاربهم ، {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ما يجب أن يعقل من التوحيد ، بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال ، {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ما يجب أن يسمع من الوحي ، والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم ، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} أبصار العيون ، فإنه لا يضر عماها عند الاستبصار ، {وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} عن الاعتبار ، أي: ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما عميت بصائرهم باتباع الهوى ، والانهماك في التقليد ، وفصل التنبيه على أن العمى الحقيقي ، أو السمع الحقيقي ، ليس المتعارف الذي يخص البصر ، والسمع الظاهر.

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} المتوعد به ، {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} لامتناع الخلف عنه في خيره ، فيصيبهم بما أوعدهم ، ولو بعد حين. {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} من أيامكم ، أي: من شدة ما يلقى فيه أعداؤه من الشدائد ، لأن أيام الشدائد مستطالة ، وأن يكون للمؤمنين كما بين الصلاتين ، لأنهم لا يحزنهم الفزع الأكبر.

{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} كما أمهلتكم ، {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} مثلكم ، {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب ، {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} وإلى حكمي مرجع الجميع.

{قُلْ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أوضح لكم ما أنذركم به ، والاقتصار على ألإنذار – مع عموم الخطاب ، وذكر الفريقين – لأن مصدر الكلام مساقة للمشركين ، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم ، زيادة في غيظهم . {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هي الجنة ، والكريم من كل نوع: ما تجمع فضائله.

{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} أي: عملوا في إبطال آياتنا وإطفائها بالرد والإبطال ، والخوض والفساد ، ويعم هذا جميع العاصين ، {مُعَاجِزِينَ} مسابقين مشتاقين للسارعين فيها بالقبول والتحقيق . عاجزة ، فأعجزه ، وعجزه: إذا سابقه فسبقه ، لأن كلا من المتسابقين يطلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، ومن ذلك يكونون حربا لله ولرسوله ، ولدينه وللمسلمين ، وفي موضع: أي ظنوا أنهم يعجزون فلا يقدر عليهم ، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} النار الموقدة.

ومن كتاب الاستقامة في تأويل الآية الآتية ، فقال:” ولا يجوز التقليد ، ولا يحل في الدين إلا لأنبياء الله ورسله صلى الله عليه وسلم {كذا} فيما يجوز التقليد لهم من المحكم غير المتشابه ، والناسخ غير المنسوخ ، مما لا يجري على وجه الغلط منهم ، ولا مما يلقيه الشيطان على ألسنتهم ، فإنه قد قال الله تبارك وتعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ، إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } إلى آخر القصة فصدق الله ، ونحن على تصديق قول الله من الشاهدين ، ولو كره الكافرون والمنافقون ، وتأول في ذلك المتأولون ، فنحن نؤمن بهذا من قول الله تبارك وتعالى : إنه كذلك ، وإن لا يجوز أن يقتدى به من الأنبياء والرسل ، وإن ذلك فتنة لمن اقتدى به وقبله ، وإن الله ناسخ لذلك ، كما وعد تبارك وتعالى.

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} أن ذلك الحق على ما قد ابتلى الله به خلقه وعباده ، {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} بذلك ، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي: تخشع ، (لعله) وتتواضع ، ولا ينكرونه ، ولا يتأولونه على غير تأويل الحق ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} في جميع ما اختلف فيه المختلفون ، وفي جميع ما فتن به المفتون ” انتهى كلام الشيخ.

{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ} في شك {مِّنْهُ ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} القيامة ، أو أشراطها ، أو الموت {بَغْتَةً} فجأة ، {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} لا خير لهم فيه. {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} . ثم بين حكمه ، فقال:{ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } في الدارين.

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه ، {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} الجنة ونعيمها ، وإنما سوى بين من قتل في الجهاد ، ومن مات حتف أنفه في الوعد ، لاستوائهما في القصد وأصل العمل ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ *  لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} هو الجنة فيها ما يحبونه ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} بأحوالهم ، وأحوال معادهم ، {حَلِيمٌ} لا يعاجل بالعقوبة.

{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ } بالمعاودة إلى العقوبة ، {لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *  ذَلِكَ } الوصف بكمال القدرة والعلم ، {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} الثابت في نفسه ، الواجب لذاته وحده ، فإن وجوب وجوده ووحدته ، يقتضيان أنه مبتدأ لكل ما يوجد سواه ، عالم بذاته ، ولما عداه ، والثابت الإلهية ، ولا يصلح لها إلا من كان قادرا عالما بذاته . وقد يجوز أن يعني بقوله:{ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أن الله هو الباقي المحيي المميت ، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أراد به يبطل ويذهب ، وأنه لا يملك لأحد ثوابا ولا عقابا ، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} : المعدوم في حد ذاته ، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} على الأشياء ، {الْكَبِيرُ} عن أن يكون له شريك ، لا شيء أعلى منه شأنا ، وأكبر سلطانا.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق ، {خَبِيرٌ} بالتدابير الظاهرة والباطنة ، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} بذاته عن كل شيء ، {الْحَمِيدُ} المستوجب للحمد بصفاته وكبريائه.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ} جعلها مذللة لكم ، معدة لمنافعكم ، {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ } إلا بمشيئته ، وفيه رد لاستمساكها بذاتها ، فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية ، فتكون قابلة للميل الهابط قبول غيرها ، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال ، وفتح عليهم أبواب المنافع ، ودفع عنهم أنواع المضار.

{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} أوجدكم من العدم لعبادته ، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للجزاء ، {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} جحود للنعم مع ظهورها .

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} شريعة يعبدون الله بها ، {هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ} سائر أرباب الملل الجاحدة {فِي الْأَمْرِ} في أمر الدين ، لأنهم بين جهال وأهل عناد ، أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع ، {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} إلى توحيده وعبادته ، {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} طريق إلى الحق سوي.

{وَإِن جَادَلُوكَ} بعد ظهور الحق ، ولزوم الحجة ، وإبلاغ الدعوة ، {فَقُلِ : اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيجازيكم على عملكم ، وهو وعيد فيه رفق ، {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يفصل بين المؤمنين والكافرين بالثواب والعقاب {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فحينئذ يبين المحق من المبطل.

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} قيل: اللوح المحفوظ ، كتب فيه قبل حدوثه ، فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له ، {إِنَّ ذَلِكَ} الإحاطة به ، وإثباته في اللوح المحفوظ ، أو الحكم بينكم ، {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} لأنه علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل العلامات على سواء . {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حجة تدل على جواز عبادته ، {وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ} عقلي ، يعني: أنهم فعلوا ما فعلوا عن جهل لا عن علم ، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} وما للذين ارتكبوا هذا الظلم {مِن نَّصِيرٍ} يقرر مذهبهم ، أو يدفع العذاب عنهم .

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} حجج الحق من حيث ما كانت ، {بَيِّنَاتٍ} واضحات تعرفونها ، وتعرفون المراد بها ، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ} الإنكار ، لفرط نكرهم للحق {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} يبطشون {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} يقيمون حجج الله عليهم ، {قُلْ : أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ} من غيظكم على التالين ، وسطوكم عليهم ، {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} بين لكم حال مستغربة ، أو قصة رائقة ، ولذلك سماها مثلا ، {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} للمثل ، أو لشأنه استماع تدبر وتفكر ، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} يعني: الأصنام ، ومع أهل المعاني:” يتناول كل معصية لله تبارك وتعالى “. {لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا} لا يقدرون على خلقه مع صغره {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} مع اجتماعهم ، فكيف إذا تفرقوا؟ . {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} لا يستردونه منه لعجزهم ، فصاروا في ذلك أعجز منه . جهلهم غاية التجهيل ، بأن أشركوا إلها – قدر على المقدورات كلها ، وتفرد بإيجاد الموجودات بأسرها – تماثيل هي أعجز الأشياء ، وبين ذلك بأنها لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ، ولو اجتمعوا له ، بل لا يقوون على مقاومة هذا الأقل الأذل ، ويعجزون عن دبه في نفسها ، واستنفاذ ما تختطفه من عندها ، {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} عابد الصنم ومعبوده ، أو من السالب والمسلوب.

{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عرفوه حق معرفته ، ولا عظموه حق تعظيمه ، حيث أشركوا به ، وسموا باسمه ما هو أبد الأشياء مناسبة ، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} على خلق الممكنات بأسرها ، {عَزِيزٌ} لا يغلبه شيء ، وآلهتهم التي يدعونها عاجزة عن أقلها ، مقهورة من أذلها.

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} كما يصطفي من البشر ، لعلمه بأحوال لهم دون غيرهم ، {وَمِنَ النَّاسِ} يدعون سائرهم إلى الحق ، ويبلغون إليهم ما أنزل عليهم ، كأنه لما قرر وحدانيته في الألوهية ، ونفى أن يشاركه غيره في صفاتها ، بين أن له عبادا مصطفين في الرسالة ، يرسلهم ليقتدى بهم في عبادة الله ، وهي أعلى المراتب ، ومنتهى الدرجات لمن عداه من الموجودات. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } عالم بما كان وما يكون مما هم عملوا ، وما هم عاملون مما لم يعملوا ، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} ، لأنه منشئها وخالقها ، فمرجعها إليه.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} في صلاتكم ، {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} بسائر ما تعبدكم به ، {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وتقربوا إليه بنوافل الطاعات ، {لَعَلَّكُمْ} لكي {تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ } لله ولدينه أعداء دينه الظاهرة: كأهل الزيغ ، والباطنة: كالهوى والنفس . وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة من المغازي فقال:” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ” ، فسئل عن الجهاد الأكبر فقال:” جهاد النفس” ، أو نحو هذا من الكلام. {حَقَّ جِهَادِهِ} أي: جهادا فيه حقا خالصا لوجهه ، ببذل الوسع ، والأنفس ، والأموال ، والمهج ، وأخذ الحذر عن المخالفة والفتور ، وهو استفراغ الطاقة ، {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} اختاركم لدينه ولنصرته ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أي: ضيق ، بتكليف ما لا يستطاع . {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أي: وسع دينكم توسع ملة أبيكم ، وإنما جعله أباهم ، لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو كالأب لأمته ، من حيث أنه سبب لحياتهم الأبدية ، ووجودهم لعى الوجه المعتد به في الآخرة. {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} من قبل القرآن في الكتب المتقدمة ، {وَفِي هَذَا} وفي القرآن ، {لِيَكُونَ الرَّسُولُ} متعلق بـ”سماكم” ، {شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} بطاعة من أطاع ، وعصيان من عصى ، {وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} من حيث تنزلون منهم كلا منزلته ، وتوفونه حقه وقسمه ، {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} على الوجه المأمور به ، لما خصكم بهذا الفضل والشرف ، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} واتقوا به في مجامع أموركم ، {هُوَ مَوْلَاكُمْ} ناصركم ومتولي أموركم ، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} هو ، إذ لا مثل له في الولاية والنصرة ، بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة.