سورة الدخان

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} قيل: في ليلة القدر؛ وبركتها لذلك، فإن نزول القرآن سبب المنافع الدينية والدنيوية، أو لما فيها من نزول الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة، وقسم النعمة، وفصل الأقضية، ولتضاعف فضلها على  سائر الليالي، لقوله: {خير من ألف شهرٍ} {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} فإن كونها مفرق الأمور المحكمة، أو الملبسة بالحكمة، تستدعي أن ينزل فيها القرآن الذي هو من عظائمها. {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} أي: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا، وهو مزيد تفخيم الأمر، {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)}  .

{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: أنزلنا القرآن – لأن إنزالـه من حكمتنا- رحمة للعباد، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)} يسمع أقوال العباد ويعلم أحوالهم. {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)} أي: إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إذ لا خالق سواه، ولا يستحق العبادة سواه، {يُحْيِي وَيُمِيتُ} كما تشاهدون {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)}  .

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}  لأن الشك في الألوهية يقتضي اللعب، ومع التصديق فليس له مجال. {فَارْتَقِبْ} فانتظر لهم {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} فيه كرب عظيم، فإن المكروب يرى على بصره كالدخان من ضعف بصره. {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا} يحيط بهم، ويغطيهم {عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)} يحتمل في أحوال الموت، يحيط به هذا العذاب.

{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} من أين لهم التذكرة، وكيف يتذكرون وهم بهذه الحال، كقوله: {حَتَّى إذَا جاءهم الموتُ قَلَ رَبِّ ارجعون} {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)} .

{إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا}أي: زمانا قليلا،{إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)} وذلك بالتقدير أن لو كشف عنهم العذاب قليلا لعادوا لمـا نهوا عنه. {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يوم القيامة، {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} من كل ظالم.

{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام. أو متعناهم في الفتنة، بإمهال وتوسيع الرزق، {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)} لفضله، وفضل ما أتاهم به. {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} بأن أدوهم إلي وأرسلوهم معي، أو بأن أدوا إلي حق الله من الإيمان وقبول الدعوة، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)} غير متهم، لدلالة المعجزات على صدقه، أو لائتمان الله إياه على وحيه. {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} ولا تتكبروا عليه بالاستهانة بوحيه ورسوله، {إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} التجأت إليه وتوكلت عليه، {أَنْ تَرْجُمُونِ (20)}  تؤذوني ضربا أو شتما، أو أن تقتلوني. {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)} فكونوا بمعزل مني، لا علي ولا لي، ولا تتعرضوا علي بشر، فإنه ليس جزاء من دعاكم لما فيه فلاحكم.

{فَدَعَا رَبَّهُ} بعدما كذبوه، {أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)}وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به. {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)} يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم. {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} مفتوحا، ذا فجوة، أو ساكنا، {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)}.

{كَمْ تَرَكُوا} كثــيرا تركـوا{مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)} محافل حسنة، ومنازل مزينة {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28)}  ليسوا منهم في شئ.

{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم، والاعتداد بوجودهم؛ كقولهم: بكت عليهم السماء، وكسفت بمهلكه الشمس في نقيض ذلك؛ ومنه ما روي في الأخبار: » إن المؤمن ليبكي عليه مصلاة، موضع عبادته، ومصعد عمله، ومهبط رزقه« ؛ وقيل تقديره: فما بكت عليهم أهل السماء والأرض، {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)} ممهلين إلى وقت آخر لتوبة ولا غيرها.

{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30)}من استعباد قومه، وقتله أبناءهم. {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)} في العتو والشرارة. {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} أي: بني إسرائيل {عَلَى عِلْمٍ} عالمين بأنهم أحقاء بذلك، {عَلَى الْعَالَمِينَ (32)} على عالمي زمانهم. {وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ} كفلق البحر ونحوه، {مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)}  نعمة جليلة، أو اختبار ظاهر.

{إِنَّ هَؤُلَاءِ} كفار قوم محمد صلى الله عليه وسلم لأن الكلام فيهم، وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة، والإنذار عن مثل ما حل بهم، {لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى، المزيلة للحياة الدنيوية، {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآَبَائِنَا} خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ} في القـوة والمنعـة {أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} ؟ أي: ليسـوا خيرا منهم، {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)} .

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} إلا بسبب الحق الذي اقتضاه الدليل من الإيمان، والطـاعة والبعـث والجزاء، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)} لقلة نظرهم.

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} فصل الحق من الباطل، {مِيقَاتُهُمْ} وقت موعدهم {أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى} (لعله) أي: قريب عن قريب، من قرابة ولا غيرها، {عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} من الإغناء، {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)} الضمير لـ»مولى« الأول باعتبار المعنى. {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} بالعفو عنه، وقبول الشفاعة فيه، {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)}.

{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} كثير الآثام. (لعله) يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »يا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم على الأرض لأمرت (لعله) عد معيشتهم« ]كذا[ . {كَالْمُهْلِ} وهو ما يمهل في النار حتى يذوب؛ وقيل: دردي الزيت؛ (لعله) وذلك زيادة عذاب فوق عذابه، {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)}.

{خُذُوهُ} على إرادة القول للزبانية، {فَاعْتِلُوهُ} فجروه؛ العتل: أخذ بمجامع الشئ، وجره بقهر، {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)} وسطه.{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)} كان في وسط الجحيم، ثم يقال له زيادة عذاب عن الجوانب. {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} أي: قولوا له ذلك تقريعا على ما كان يزعمه، (لعله) وفيه بيان أنه من الرؤساء، {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)} تشكون وتمتازون فيه.

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ} في موضع إقامة {أَمِينٍ (51)} يأمن صاحبه من الانتقال والآفة. فِي {جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} قيل: السندس ما رق من الحرير؛ والإستبرق: ما غلـظ منه؛ أو مشتق من الـبراقة؛ {مُتَقَابِلِينَ (53)} في مجالسهم. {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)} الحوراء: البيضاء، والعيناء: عظيمة العينين. {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه، ولا يتخصص شئ منهما بمكان ولا زمان، {آَمِنِينَ (55)}  من الضرر. {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} لأن الموت ينقلهم عن حالهم، {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)}.

{فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)} لأنه فوز بالمطالب، وخلاص عن المكاره. {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} حيث أنزلناه بلغتك، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)}  لعلهم يعلمونه فيتذكرون به. {فَارْتَقِبْ} ما يحل بهم {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)} منتظرون.