سورة الروم

بسم الله الرحمن الرحيم     

{الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ، وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ } بإظهار دينه على سائر الأديان ، {يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي: من وعده ، بنصر أوليائه ، ويخذل أعدائه ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وعده ، لجهلهم ،وعدم تفكيرهم . {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني: أمر معايشهم ، كيف يتجرون ويكتسبون ، ومتى يعرشون ويحصدون ، وكيف يبنون ، وكيف سبقوا علماء الآخرة بهذه الأحوال ، ولم يفهموا ما يخلصهم من عذاب الله ، لأنه لم يهمهم ، وكذلك لا يعلمون حقائق الدنيا ، ولا لما خلقت له ، {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ} التي هي غايتها ، والمقصود منها ، {هُمْ غَافِلُونَ} تقريرا لجهالتهم ، وتشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها ، فإن من العلم بظاهرها معرفة حقائقها ، وصفاتها ، وخصائصها ، وأفعالها ، وأسبابها ، وكيفية صدورها منها ، وكيفية التصرف فيها ، ولذلك نكر”ظاهرا” ، وأما باطنها ، فإنها مجاز إلى الآخرة ، ووصلة إلى نيلها ، وأنموذج لأحوالها ، وإشعارا بأنه لا فرق بين العدم والعلم الذي يختص بظاهر الدنيا ، وكان في المعنى: بقدر إقبالهم على علم ظاهر الحياة الدنيا ، إدبار منهم على علم الآخرة.

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} أو لم يحدثوا التفكر فيها ، أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم ، فإنها أقرب إليهم من غيرها ، ومرآة يتجلى فيها للمستبصر ، ما يتجلى له من الممكنات بأسرها ، ليتحقق لهم قدرة مبدعها على إعادتها ، لقدرته على إبدائها ، {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}.

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} تقرير لسيرهم بأجسادهم ، أو بالتفكير بقلوبهم في أقطار الأرض ، ونظرهم إلى آثار المدمرين ، أو إلى أخبارهم قبلهم ، {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ، وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} (لعله) حرثوها ، وقلبوا وجهها لاستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وزرع البذور وغيرها ، {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} وفيه تهكم بهم ، من حيث إنهم مغترون بالدنيا ، مفتخرون بها ، وهم أضعف حالا ، وأقل مالا وحيلة من الذين سبقوا ، ومدار أمرهم على التبسط في البلاد والتسلط على العباد ، والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة ، وهؤلاء ضعفاء ملجؤون إلى واد لا نفع لها ، {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}ليعاملهم معاملة من يريد ظلمهم ، {وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث عملوا ما أدى إلى تدميرهم.

{كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون} معناه: ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة أن طبع الله على قلوبهم ، حتى كذبوا الآيات واستهزؤوا بها.

{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } يسكتون متحيرين آيسين ، يقال: ناظرته ، فأبلس : إذا سكت ، وأيس من أن يحتج ، وقيل: ييأس المجرم من كل خير . {وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ} ممن أشركوه بالله ، {شُفَعَاء} يجيرونهم من عذاب الله ، {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} يكفرون بآلهتهم .

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ } أرض ذات أزهار وأنهار ، {يُحْبَرُونَ} يسرون سرورا تهللت له وجوههم. {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} بحججنا {وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}.

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ} (لعله) فصلوا لله {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } لميلوا إليها ، وتألفوا بها ، فإن الجنسية علة للضم ، {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} بواسطة الزواج ، حال الشبق وغيرها ، بخلاف سائر الحيوانات ، نظما لأمر المعاش {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيعلمون ما في ذلك من الحكم.

{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ،  وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وأنتم بنو رجل واحد ، وامرأة واحدة ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} لا تكاد تخفى على عاقل.

{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ} منامكم في الزمانين ، لاستراحة القوى النفسانية ، وقوة القوى الطبيعية ، وطلب معاشكم فيهما ، أو منامكم بالليل وابتغاءكم بالنهار ، وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين ، إشعارا بأن كلا من الزمانين وإن اختص بأحدهما ، فهو صالح للآخر عند الحاجة ، وتؤيده سائر الآيات الورادة فيه ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع تفهم واستبصار.

{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها ، وكيفية تكوينها ، ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته.

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} قيامهما بإقامته لهما ، وإرادته لقيامهما ، {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} والمراد: تشبيه سرعة ترتب حصول ذلك على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل ، بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه.

{وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} منقادون لأمره ومشيئته ، فهم لا يمتنعون عليه. {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} بمعنى: هين عليه ، وما من شيء عليه بعزيز ، {وَلَهُ الْمَثَلُ} الوصف العجيب الشأن ، كالقدرة العامة ، والحكومة التامة ، ومن فسره بقول: لا إله إلا الله” أراد به الوصف بالوحدانية ، دلالة ونطقا ، {الْأَعْلَى} الذي ليس لغيره أن يساويه أو يدانيه {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يصفه به ما فيهما ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} القادر الذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته ، {الْحَكِيمُ} الذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.

{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ} متسخرجا من أحوالها التي{هي} أقرب الأمور إليكم ، معناه: بين لكم شبها بحالكم ذلك المثل من أنفسكم ، ثم بين المثل فقال:{ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} من مماليككم ، {مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}؟ من الأموال وغيرها ، {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} فتكونون أنتم وهم فيه شرع سواء ، تتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم ، وأنها معارة لكم ، {تَخَافُونَهُمْ} أن يستبدلوا بتصرف فيه ، {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} كما يخاف (لعله) الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد بأمر دونه ، وإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم ، فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم شركائي في عبادتكم ، وهم عبيدي؟!. {كَذَلِكَ} مثل ذلك التفضيل {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} نبينها ، فإن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها ، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال.

{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالإشراك {أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} جاهلين لا يكفهم شيء ، فإن العالم إذا طمحت نفسه إلى هواها ، ربما ردعه علمه ، {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}؟ فمن يقدر على هدايته؟ ، {وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} يخلصونهم من الضلالة ، ويحفظونهم من آفاتها.

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} فقومه له غير ملتفت ، أو متلفت يمينا وشمالا ، وهو تمثيل الإقبال والاستقامة والاهتمام به ، {فِطْرَةَ اللَّهِ} خلقته {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} خلقهم عليها ، وهي قبولهم للحق ، وتمكنهم من إدراكه ، أو ملة الإسلام ، كأنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها ، وقيل: العهد المأخوذ من آدم وذريته ، وقيل: فطرهم على معرفته ، {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لا ينبغي أن يبدل. {ذَلِكَ} إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له ، {الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستوي الذي لا عوج فيه ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} استقامته لعدم تدبرهم . {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين إليه ، من أناب: إذا رجع مرة بعد أخرى ، وقيل: منقطعين إليه من النار ، {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ } بدل من المشركين ، وتفريقهم: اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم ، وقرىء:” فارقوا” ، بمعنى: تركوا دينهم الذي أمروا به ، {وَكَانُوا شِيَعًا} فرقا يشايع كل إمامه ، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} مسرورين ، ظنا بأنه الحق.

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً} خلاصا من تلك الشدة ، {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} فاجأ فريق منهم بالإشراك بربهم الذي عافاهم. {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة تمتعكم. {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} حجة {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} دلالة ، كقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ } ، {بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} بإشراكهم ، وهذا قطع لعذر كل من دخل فيما لا يعلم.

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} نعمة {فَرِحُوا بِهَا} بطروا بسببها ، واغتروا بها ، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} شدة ، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}  ، {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} والقنوط من أمهات المعاصي ، وهو ضد الرجاء.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} فما لهم لم يشكروا ، ولم يحسنوا في السراء والضراء كالمؤمنين ؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة ، أو يتفكرون في حال من سبق وصفه.

{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ، ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} أي: يقصدون بمعرفتهم إياه خالصا ، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حيث حصلوا بما بسط إليهم النعيم المقيم.

{وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا} زيادة محرمة في المعاملة ، أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة ، {لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} ليزيد ويزكو في أموال لهم ، {فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} فلا يزكوا عنده ، ولا يبارك فيه ، {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} تبتغون به وجهه خالصا ، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} ذوو الأضعاف من الثواب ، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ، والالتفات فيه للتعظيم ، كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق ، تعريفا لحالهم.

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} تماما لحكمة خلقهم ، {هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ}؟ أثبت له لوازم الألوهية ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها ، مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ، ووقع عليه الوفاق ، ثم استنتج من ذلك تقدسه أن يكونوا له شركاء ، فقال:{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} كالجذب والنقص في الأموال ، وكثرة الغرق ، ومحق البركات ، وكثرة المضار ، أو الضلالة والظلم ، {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} بشؤم معاصيهم ، {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}بعض أجزائه ، كما قال: {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} . {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عما هم عليه.

{قُلْ : سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} ليشاهدوا مصداق ذلك ، ويتحققوا صدقه ، {كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} أي شرك كان. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} البليغ الاستقامة الذي ليس به عوج ، {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي: يتفرقون ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، كما قال:

{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} جزاء كفره ، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} يبنون منزلا في الجنة ، يمهد أي فراش أراد لنفسه قبل الوصول إلى التنعم به . {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ} الاقتصار على جزاء المؤمنين ، للإشعار بأنه المقصود بالذات ، والاكتفاء ، على فحوى قوله:{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فإن فيه آيات البغض لهم ، والمحبة للمؤمنين.

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} بالمطر ، {وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} بمعنى :المنافع التابعة للمطر وغيره ، {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولتشكروا نعمة الله فيها.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} بالهلاك ، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} إشعارا بأن الانتقام لهم ، وإظهارا لكرامتهم ، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم ، وعنه صلى الله عليه وسلم :” ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه ، إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهتم ” ثم تلا ذلك.

{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء} سائرا وواقفا ، {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} قطعا تارة أخرى ، {فَتَرَى الْوَدْقَ} المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ، فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} يعني : بلادهم وأراضيهم ، {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} بمجيء الخصب . {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم} المطر ، {مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} لآيسين.

{فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} أثر الغيث من النبات والأشجار ، وأنواع الثمار والمنافع ، ولذلك جمع ، {كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ} يعني: الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها ، {لَمُحْيِي الْمَوْتَى} لقادر على إحياء أحيائهم ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأن نسبة قدرته إلى الممكنات على سواء.

{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} فرأوا الأثر والزرع ، فإنه مدلول عليه بما تقدم ، وقيل: السحاب ، لأنه إذا كان مصفرا لم يمطر ، {لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} جواب سد مسد الجزاء ، ولذلك فسر بالاستقبال . وهذه الآيات ناعية على الكفار بقلة تثبتهم وعدم تدبرهم ، وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم ، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله ويلتجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس القطر عنهم ، ولا ييأسوا من رحمته ، ولا يفرطوا في الاستبشار ، وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زروعهم بالاصفرار ، ولا يكفروا نعمه.

{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وهم مثلهم لما سدوا عن الحق مشاعرهم ، {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} قبد الحكم به ليكون أشد استحالة ، فإن الأصم المقبل ، وإن لم يسمع الكلام ، يتفطن منه بواسطة الحركات شيئا . {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} سماهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الإبصار ، أو لعمى قلوبهم ، {إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} فإن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ ، وتدبر المعنى ، {فَهُم مُّسْلِمُونَ} منقادون لما تأمرهم به.

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} أي: ابتدأكم ضعفاء ، وجعل الضعف سائر أمركم ، لقوله: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا } . {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} وذلك إذا بلغتم الحلم ، {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ، يَخْلُقُ مَا يَشَاء} من ضعف وقوة وشيبة ، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} فإن الترديد في الأحوال المختلفة مع إمكان غيره دليل العلم.

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} القيامة ، سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا ، ولأنها تقع بغتة ، وصارت علما لها بالغلبة ، كالكواكب للزهرة ، {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا} في الدنيا ، أو في القبور ، {غَيْرَ سَاعَةٍ} استقلوا مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة ، أو كما قال : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ } ، لأن الماضي لا شيء ، {كَذَلِكَ} مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق ، {كَانُوا يُؤْفَكُونَ} يصرفون في الدنيا والآخرة .

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ}من الملائكة والإنس: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} في علمه واقتضائه ، أو ما كتبه لكم ، أي: أوجبه ، أو في اللوح أو القرآن ، وهو قوله:{ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ } {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} ردوا بذلك ما قالوه وحلفوا عليه ، {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} الذي أنكرتموه {وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أنه حق لتفريطكم في النظر.

{فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} لا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم ، أي: إزالة عتبهم من التوبة والطاعة ، كما دعوا إليه في الدنيا ، من قولهم: استعتبني فلان فأعتبته ، أي: استرضاني فأرضيته ، وما دام يمكن الإيمان بالغيب ، يمكن الاستعتاب ويقبل ، لأنه بمعنى التوبة ، والتوبة لا تنفع إذا أتى اليقين.

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} ولقد وصفناهم فيه بأنواع الصفات التي هي في الغرابة كالأمثال ، مثل: صفة المنعوتين فيما يقولون وما يقال لهم ، وما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة والاستعتاب ، فمن آمن به آمن بالغيب ، أو بينا لهم من كل مثل ينبئهم على التوحيد والبعث وصدق الرسول ، {وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ} من آيات القرآن {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} من فرط عنادهم ، وقساوة قلوبهم:{ إِنْ أَنتُمْ} يعني: الرسول والمؤمنين ، {إِلَّا مُبْطِلُونَ} مزورون.

{كَذَلِكَ} مثل ذلك الطبع ، {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} لا يطلبون العلم ، ويصرون على خرافات اعتقدوها ، فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ، ويوجب تكذيب المحق . {فَاصْبِرْ} على أذاهم ، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}بنصرتهم ، وإظهار دينك على الدين كله {حَقٌّ} لا بد من إنجازه {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ} ولا يحملنك على الخفة والقلق ، فإنه لا يستخف إلا الخفيف الذي ليس له في الدين إثبات.{ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} بتكذيبهم وإيذائهم ، شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك.