سورة الزخرف

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} أقسم بالقرآن على أنه جعل قرآنا عربيا، وهو من البدائع لتناسب القسم والمقسم عليه؛ ولعل الإقسام بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة على المقسم عليه، والقرآن من حيث إنه معجز، مبين طرق الهدى وما يحتاج إليه في الديانة، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} لكي تفهموا معانيه.

{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} قيل: هو اللوح المحفوظ، فإنه أصل الكتب السماوية، {لَدَيْنَا} محفوظا عندنا، {لَعَلِيٌّ} رفيع الشأن في الكتب، لكونه معجزا، {حَكِيمٌ (4)} ذو حكمة بالغة، يخبر عن منزلته وشرفه؛ إن كذبتم به أيها الناس فإنه عندنا لعلي رفيع شريف. {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا}؟ أفنذوده ونبعده عنكم؟ مجاز من قولهم ضرب الغرائب عن الخوض، أي: نهملكم فنضرب عنكم الذكر؛ وصفحا: مصدر، فإن نتيجة الذكر عنهم إعراض؛ والمراد: إنكار أن يكون على خلاف مـا ذكر من إنـزال الكتب على لغتهم ليفـهموه، {أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)} أي: لأن كنتم، وهي في الحقيقة علة مقتضية لترك الإغراض؛ وقد كانوا مسرفين على القطع، متجاوزين حدود الله، أن لو أهملوا ولم ينزل عليهم الذكر؛ ويحتمل ذلك في المسرفين، أي: من أسرف فنضرب عنه الذكر، أي: عن فهمه، كما قال: {وجعلنا عَلَى قلوبهم أكِنَّة أن يفقهوه وفي آذانهم وَقْراً}.

{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه، لأنه ما من رسول ولا نبي يسلم من استهزاء قومه. {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} أي: أقوى من قومك، يعني: الأولين الذين أهلكوا، {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)} وسلف في القرآن قصتهم العجيبة؛ وفيه وعد للرسول، ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)}  إقرار منهم بذلك. {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} فتستقرون فيها، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} تسلكونها، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)} أي: لكي تهتدوا إلى مقاصدكم، أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك. {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} بمقدار، على ما تقتضيه حكمته،{فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ} مثل ذلك الإنشار تُخْرَجُونَ (11)}  تنشرون من قبوركم.

{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أصناف المخلوقات،{وَجَعَلَ لَكُمْ}(لعله) من أصنافها، {مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} تذكونها بقلوبكم، معترفين بها، حامدين عليها،{وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} وينبغي أن يذكر نعمة الله في كل شيء أنعم به عليه، ويقول هكذا، {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)} مطيقين؛ من أقرن الشيء: إذا أطاقه، وحقيقة “أقرنه”: وجده قرينه وما يقرن به، لأن القوي لا يقرن بالضعيف، {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} أي: راجعون؛ واتصاله بذلك، لأن الركوب للنقل، والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى، أو لأنه مخطر، فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه، ويستعد للقاء الله.

{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ}أي: من خلقه {جُزْءًا}أي: شركاء، أي: جعلوا له بعد الاعتراف؛ {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)} ظاهر الكفران، ومن ذلك نسبة الولد إلى الله، لانها من فرط الجهل به، والتحقير لشأنه. {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ} أخلصكم {بِالْبَنِينَ (16)} معنى الهمزة: للإنكار والتعجب من شأنهم.

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} بالجنس الذي جعله مثلا، إذ الوالد لا ] بد[ أن يماثل الولد، {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} لما يعتريه من الكآبة، {وَهُوَ كَظِيمٌ (17)}  مملوء قلبه من الكدر؛ وفي ذلك دلالات على فساد ما قالوه. {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} أي: أو جعلوه له، أي: اتخذوا من يتربى في الحلية، أي: الزينة، يعني: النبات، {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ}في المجادلة {غَيْرُ مُبِينٍ (18)} أي: إذا احتاج إلى مخاصمة الرجال كان غير مبين، ليس عنده بيان، ولا يأتي ببرهان يحج به من خاصمه، وذلك لضعف عقول النساء؛ قيل: قل ما تتكلم المرأة بالحجة لها إلا تكلمت بالحجة عليها.

{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} كفر آخر تضمنته مقالتهم، وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله، أنقصهم رأيا، وأخسهم صنفا،{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أحضروا خلق إناثهم فشاهدوهم إناثا، فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة، وهو تجهيل وتهكم بهم، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} التي شهدوا بها على الملائكة، {وَيُسْأَلُونَ (19)}  عنها يوم القيامة، وهو وعيد.

{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} زعموا أن عبادتهم بمشيئة الله كما قالوا إخوانهم المجبرة؛ ثم كذبهم الله تعالى بقوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)}  يكذبون. {أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} من قبل القرآن، أو ادعائهم ينطق على صحة ما قالوا، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا} بل لا حجة لهم إلا قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)}أي: لا حجة لهم عقلية ولا نقلية، وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة؛ والأمة: الطائفة التي تؤم، ذلك لحبهم الإلف والعادة، وحب استصحابهما وكراهية فراقهما.

{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} الذين أترفتهم النعمة، أي: بطرتهم فآثروا الترفة على طلب الحجة، وعافوا مشاق التكليف، وكل فريق يقلد أسلافه فيما تهوى نفسه، الإ الذين آمنوا. {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم.

{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ}؟ أي: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} أي: وإن كان أهدى، إقناطا للتدبر ومن أن ينظروا ويتفكروا فيه. {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بالاستئصال، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} واذكر وقت قوله هذا، ليروا كيف تبرأ عن التقليد، وتمسك بالدليل؛ أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد، لأنه مشروع تقليده وأمثاله، {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ} أي: بريء {مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)} بريء من عبادتكم ومعبودكم. {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} أي: إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)} سيثبتني على الهداية، أو سيهديني إلى ما وراء ما هداني. {وَجَعَلَهَا} وجعل إبراهيم أو الله كلمة التوحيد {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} في ذريته، فيكـون فيهم أبدا من يوحـد الله، ويدعو إلى توحـيده، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)}  يرجع من أشرك بدعاء من وحد.

{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ} بالمد في العمر والنعمة، فاغتروا بذلك وانهمكوا في الشهوات {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} دعوة التوحيد أو القرآن، {وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)}  ظاهر الرسالة بما له من المعجزات، أو مبين للتوحيد بالحجج والآيات. {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} كذب مختلق، {وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)} مكذبون.

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} من إحـدى القــريتين {عَظِيمٍ (31)} بالجاه والمال أو الجسم، فان الرسالة منصب عظيم لا يليق الإ لعظيم، ولم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، لا بالزخارف الدنيوية؟، وذلك من عظم ما بهم من الكبر والحسد.

{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}؟ إنكار فيه تجهيل وتعجب من حكمهم ومقالهم، والمراد بالرحمة: النبوة، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وهم عاجزون عن تدبيرها وهو أمر دنيا، فمن أين لهم أن يدبروا أمر النبوة التي هي أعلى المراتب؟ {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} ورفعنا بينهم التفاوت في الرزق وغيره، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}يستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم، فيحصل بينهم تآلف وتضام، ينتظم بذلك نظام العالم لا لكمال في الموسع عليه، ولا لنقص في المقتر عليه، ثم لا اعتراض لهم علينا، فكيف يكون فيما هو أعلى منه؟! {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ} يعني: النبوة والعلم وجزاءهما {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}  من حطام الدنيا.

{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} لولا أن يرغبوا في الكفر إذا رأو الكفار في سعة وتنعم لحبهم الدنيا، فيجتمعوا عليه، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ} (لعله) مراقي ومصاعد {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا} وزينة، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ} ويقتضي ذلك ما يعمل ويؤجر بالفضة أو الذهب وغيرهما، من جميع الزيون، ما خرج عن حد الحاجة، {لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} من الكفر والمعاصي، وفيه دلالة عل أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا.

{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} يتعامى ويعرض عنه، لفرط اشتغاله بالمحسوسات، وانهماكه في الشهوات، {نُقَيِّضْ لَهُ} نضم إليه {شَيْطَانًا} يوسوسه ويغويه دائما، {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)}لا يفارقه، ومن تفسير آخر: {ومن يَعشُ}: يتعام (لعله) بالهوى {عَن ذكر الرحمن} عما أمر به ونهى عنه، ولو في حرف واحد، {نُقيِّضْ} نجعل (لعله) له شيطانا يزين له ما تعامى عنه، لأن الحب للشئ (لعله) يعمي ويصم؛ {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} عن الطريق الذي من حقه أن يسبل {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}.

{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} هو قرينه، {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} بعد المشرق من المغرب فيما قيل، {فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ}أي: ما أنتم عليه من التمني، {إِذْ ظَلَمْتُمْ} أنفسكم في الدنيا،{أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} لأن حقكم أن تشركوا وشياطينكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه.

{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} إنكار تعجب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد انهماكهم في الكفر، واستغراقهم في الضلال، صار عشاهم عمى ومقرونا بالصمم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعب نفسه في دعاء قومه، وهو لا يزدادون إلا بعدا، {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)}.

{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} أي: فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم، {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)} لهم عذاب في الدنيا والآخرة. {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} أو إن أردنا أن نريك ما وعدناهم من العذاب،{فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)}لا يفوتونا.

{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} من الآيات والشرائع، {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)} وطوبى لمن شهد له ربه بذلك، ومن أراد أن يشهد له كما شهد له فيسـلك طـريقته ويمتثل أمره. {وَإِنَّهُ}أي: القـرآن{لَذِكْرٌ لَكَ}لشــرف لك {وَلِقَوْمِكَ} أي: هو ذكر لأمر دينكم ودنياكم، فلا تميلوا إلى غيره، وأثبتوا عليه، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} في القيامة عن القيام بحقه، وأداء شكره.

{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا}أي: تفحـص عن نبئـهم من الكتاب، {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}؟ هل حكمنا بعبادة الأوثان؟ وهل جاءت في ملة من مللهم، أو في خبر من أخبارهم الصحيحة الصادقة؟؛ والمراد به: الاستشهاد بإجماع الأنبياء وتابيعهم على التوحيد، دون عبادة الأوثان والأهوية والأنفس والشياطين.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)}يريد باقتصاصه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، ومناقضة قولهم: {لولا نُزِّل هَذَا القرآن عَلَى رجلٍ مِنَ القريتين عظيمٍ} الاستشهاد بدعوة موسى إلى التوحيد؛ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)} استهزاء من حيث إنهم أعرضوا ولم يتأملوا فيها. {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي: وهي بالغة أقصى درجات الإعجاز، يحسب الناظر فيها أنها أكبر مما يقاس إليها من الآيات، وقيل: إلا وهي مختصة بنوع من الإعجاز، مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار، {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)} .

{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} نادوه بذلك في تلك الحال، لشدة شكيمتهم وفرط حماقتهم؛ وقيل: الساحر معهم: العالم الكامل الحاذق،{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} بعهده عندك النبوة، أو من أن يستجيب دعواتك، {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)} ينقضون عهدهم.

{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} في مجمعهم {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} من تحت قصري، أو أمري، أو بين يدي في جنـاتي، {أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)} ذلك؟ {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} مع هذه المملكة والسلطنة، {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ضعيف حقير لا يستعد للرئاسة؛ من المهانة: وهي القلة، {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)} الكلام لما به من اللكنة، فكيف يصلح للرسالة؟ {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} أي: فهلا ألقي عليه مقاليد الملك إن كان صادقا؛ إذ كانوا إذ كانوا إذا قدموا رجلا سوروه وطوقوه بطوق من ذهب، {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)}مقرونين متتابعين، يتابع بعضهم بعضا يشهدون له بصدقه، ويعينونه على أمــره. {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} فطلب منهم الخـفة في مطـاوعته، {فَأَطَاعُوهُ} فيما أمرهم به، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)} فلذلك أطاعوه.

{فَلَمَّا آَسَفُونَا} أغضبونا بالإفراط في العناد والعصيان، منقول من أسف: إذا اشتد غضبه، {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا}قدوة لمن بعدهم من الكفار، يقتدون بهم في الاستحقاق مثل أعقابهم؛ وقيل: فجعلناهم متقدمين يتعظ بهم الآخرون، {وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56)}عبرة وعظة، {وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56)} أي: عظة لهم، أو قصة عجيبة تسير مسير الأمثال لهم، فيقال: مثلكم مثل قوم فرعون.

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} ما ضربوا هذا المثل إلا لأجل الجدل، أو الخصومة بالباطل، لا لتمييز الحق من الباطل،{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}شداد الخصومة، حراص على اللجاج والمحاجة. {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ} آية وعبرة لبني إسرائيل، أمرا عجيبا (لعله) يعرفون به قدره كالمثل السائر {مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}  وهو الجواب المزيج لتلك الشبهة.

{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ} لولدنا منكم يا رجال، كما ولدنا عيسى من غير أب، أو لجعلنا بدلكم{مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)} يخلفونكم في الأرض؛ والمعنى: أن حال عيسى – وإن كانت عجيبة- فإنه تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك.

{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قيل: الضمير للقرآن فإن فيه الإعلام بإتيان الساعة، والدلالة عليها، {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} فلا تشكوا فيها، {وَاتَّبِعُونِ} واتبعوا هادي وشرعي؛ وقيل:]هو[ قول الرسول أمر أن يقوله، {هَذَا} الذي أدعوا إليه، {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} لا يضل سالكه، لاستقامته على المقصود، {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ} لا يصرفنكم {الشَّيْطَانُ} عن سلوك دين الله، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)} بين العداوة لكم.

{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات الدالة الواضحة، {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} بالشرائع، {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وهو ما يكون من أمر الدين، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} بيان لما أمرهم بالطاعة فيه، وهو اعتقاد التوحيد، والتعبد بالشرائع، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)}  .

{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ} الفرق المتحزبة {مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} الموت، أو القيامة؛ والمعنى: هل ينظرون إلا قيام الساعة الصغرى، أو الكبرى {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} فجأة، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)}لا يعلمون بإتيانها حينما تأتيهم، ولو حل بهم مرض فإنهم يحسبونه كالمرض السابق لهم، وذلك لطول أملهم، وفرط غفلتهم وحبهم للدنيا.

{الْأَخِلَّاءُ} الأصدقاء {يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي: يتعادون يومئذ لانقطاع العلائق بينهم، {إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} فإن خلتهم لما كانت في الله تبقى نافعة أبد الآباد.

{يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله. {الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا} بحججنا من حيث جاءتهم، {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ}نساؤكم المؤمنات،{تُحْبَرُونَ (70)} تسرون سرورا يظهر حباره – أي: أثره – على وجوهكم. {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} بمشاهدته، {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)}فإن النعم وإن حلت موجبة للتحسر إذا زالت، ولا تتم نعمة إلا بدوامها. {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} شبه جزاء العمل بالميراث، لانه يخلفه عليه المعمول له، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} من حيث لا تحصى، {مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)}.

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} الكاملين في الإجرام {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74){ }لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} لا يخفف عنهم؛ من فترات الحمى عنه: إذا سكنت قليلا، {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)}  آيسون من النجاة. {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} وما عملناهم معاملة ظلم، {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)}.

{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}! والمعنى: سل ربك أن يقضي علينا؛ من قضى عليه: إذا أماته، وهو لا ينافي إبلاسهم، فإنه تمن للموت من فرط الشدة، {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)}لا خلاص لكم بموت ولا غيره، {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} بالإرسال والإنذار، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)} لما في اتباعه من إتعاب النفس، وآداب الجوارح.

{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا} في الخلق ورده ولم يقتصر على كراهته، {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)}  أمرا في مجازاتهم، إن كادوا شرا كدناهم شرا. {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}.

{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)}  معناه: إن كان له ولد في زعمكم، فأنا أول العابدين لله، الموحدين له. {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)} عن كونه ذا ولد.

{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} في باطلهم، {وَيَلْعَبُوا} في دنياهم، {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)}وهو يوم تقيض فيه أرواحهم. {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} مستحق بأن يعبد فيهما؛ والدليل على أن كونه في السماء بمعنى الألوهية دون الاستقرار… وفيه نفي الآلهة السماوية والأرضية، واختصاصه باستحقاق الإلهية، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)}  .

{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)} للجزاء. {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله، {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} ما شهدوا به يقينا، كما شهدوا أنه لا يعتريهم شك فيما شهدوا به، وهؤلاء خلاف المقلدين.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ}؟ سألت العابدين أو المعبودين، {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لتعذر المكابرة من بيان ظهوره، {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؛ وهذه غلطة عظيمة من حيث إنهم عبدوا غير خالقهم، وهم مقرون به أنه خالقهم.

{وَقِيلِهِ} وقول الرسول شاكيا لربه: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)}. فأجابه الله وقال له: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} ولا تمارهم، ولا تجادلهم، وصاحبهم في الدنيا معروفا، بدليل قوله: {وَقُلْ سَلَامٌ} تسلم منهم، مع سلامة دينك، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)} تسلية للرسول، وتهديدا لهم.