بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
{تنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } ملتبسا بالحق، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)} ممحضا له الدين من الشرك والرياء. {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي: ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة، فإنه المنفرد بصفات ألالوهية، والاطلاع على السرائر والضمــائر،
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (لعله) في الدين، بإدخال المحق الجنة ، والمبطل النار، والضمير للكفرة و مقابليهم ؛ و قيل : لهم ولمعبودهم، فإنهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونهم، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي} لا يوفق الاهتداء إلىالحـق
{مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} والاسمان متلزمان لا ينفكان عن بعضهما بعض .
{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} كما زعموا ، {لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} اذ لا وجود سواه إلا وهو مخلوق، {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)} فإن الألوهية الحقيقية تتبع الوجوب المستلزم للواحد الذاتي، وهي تنافي المماثلة فضلا عن التوالد، لأن كل واحد من المثلين مركب من الحقيقة المشتركة .
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } يغشي كل واحد منهما الاخر، وكأنه يلف عليه لف اللباس باللابس، أو يغيبه به ، كما يغيب الملفوف باللفافة؛ {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى } هو منتهى دورة أو منقطع حركته ، {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ} القادر على كل ممكن ، الغالب على كل شئ ، {الْغَفَّارُ (5) }حيث لم يعاجل بالعقوبة ، وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة.
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلى ، مبتدؤه من خلق الانسان، لأنه أقرب وأكبر دلاله، وأعجب،{ وَأَنْزَلَ لَكُمْ} وقضى، أو قسم لكم، فإنه قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح ؛ أو أحدث لكم بأسباب نازلة ،كأشعة الكواكب والامطار، {مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ذكـرا وأنثي، من الإبل والبقر والضـأن والمعـز، {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} بيان لكيفية خلق أدم ، [و] ما ذكر من الأناسي والأنعام ، إظهارا لما فيها من عجائب القدرة ، غير أنه غلب اولي العقل وخصهم بالخطاب،لأنهم المقصودون{ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} حيوانا سويا، {ذَلِكُمُ} الذي هذه أفعاله، {اللَّهُ رَبُّكُمْ} هو المستحق لعبادتكم والمالك {لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إذ لا يشاركه في الخلق غيره، {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) } فكيف تعدلون عن عبادته بالإشراك بعد هذا البيان !.
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} عن عبادتكم {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} لاستضرارهم به ، رحمة عليهم {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وهو سبب فلاحكم، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالمحاسبة والمجازاة{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) } .
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} لزوال ما ينازع العقل من الأهوية في القلوب وأمراضها في الدلالة على أن مبدأ الكل منه ، {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} أعطاه، من الخول وهو التعهد، {نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ} أي : الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو ربه الذي كان يتضرع إليه ، {مِنْ قَبْلُ} من قبل النعمة؛ {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ} الذي تهـواه {قَلِيلًا} لأنه سريع الزوال، وفيه تهديد وإشعار بأن الكفر نوع تشبيه وإقناط للكافر من المتمتع في الآخرة، ولذلك علله بقوله: {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}
{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ} قائم بوظائف الطاعات؛ والقانت: المقيم على الطاعة في كل الأوقات ، راجيا خائفا عالما أن وعد الله حق، {آَنَاءَ اللَّيْلِ} ساعاته؛ والمعنى: أمن هو قانت لله كمن جعل له أنداد، {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}؟ نفي لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيها باعتبار القوة العلمية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} يتعظ بوعظ الله {أُولُو الْأَلْبَابِ (9) } بأمثال هذه البينات .
{الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} بلزوم طـاعته ، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} أي: للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا، مثوبة حسنة في الاخرة ؛وقيل: للذين أحسنوا حسنة في الدنيا، هي الصحة والعافية، لأنها توصل المحسن الى الحسنة الحقيقة،وهي الجنة،وفي هذه بيان لمكان حسنه، {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} فمن تعسر عليه التوفر على الاحسـان في وطنه، فليهاجر من حيث يتمكـن منه،
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} على مشاق الطاعة ، من احتمال البلاء ومهاجرة الاوطان لها، { أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) } أجر لا يهتدى إليه حساب الحساب.
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)} موحدا له {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والاخرة.
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} بترك الإخلاص ،والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)} لعظمة ما فيه، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)} أمر بالإخبار عن إخلاصه، وأن يكون مخلصا له دينه ، بعد الإمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص، خائفا على المخالفة من العقاب، قطعا لأطماعهم، ولذلك رتب عليه قوله : {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}تهديدا وخذلانا لهم.
{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ} الكاملين في الخسران{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بالظـلال، {وَأَهْلِيهِمْ} لانهم أراد بهم التمتيع دون العبادة والطاعة،وهوكقوله: {واتًّبَعوا مَن لم يَزِده مالُه وولدُه إلاَّ خَسارا} {يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) } مبالغة في خسرانهم، {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} أطباق وسرادقات{مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أطباق من النـار هي ظلل لمن تحتـهم، {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ }ذلك العذاب هو الذي يخوفهم به ليجتنبوا ما يوقعهم فيه، وفي موضوع الفرش والمهاد من النار سمى الأسفل ظللا،لأنها ظلل لمن تحتهم، {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) } ولا تتعؤضوا لما يوجب سخطي .
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} البالغ غايةالطغيان،{أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} وأقبلوا إليه بصفاء لبهم، { لَهُمُ الْبُشْرَى } وبالثواب على السنة الرسل والملائكة عند حضور الموت معاينة ومشاهدة؛ وقيل: الموت بشارة باليقين، {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} لأنهم نقاد في الدين، يميزون بين الحق والباطل، ويؤثرون الأفضل فالأفضل، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} لخالص دينه، {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) } العقول السليمة، عند منازعة الوهم والعادة، وفي ذلك دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله وقبول النفس بها.
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} في علم الله أنه من أهل }لعله) النار، {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)}؟ دلالة على أن من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلف، وأن اجتهاد الرسول في دعائهم إلى الإيمان سعى في إنقاذهم من النار . {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} لكن ذكر من تنفعه الذكرى ، وهم المتقون لا غير،وتذكير من سواهم إلزاما للحجة،{لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} أي: لهم منازل في الجنة رفيعة فوقها منازل أرفع منها، {مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} لأن الخلف نقص، وهو على الله محال.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ} فأدخله {يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} هي عيون ومجاري كائنة فيها، {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ} يتم جفافه، {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} فتاتا{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} ، تذكر بأنه لا بد له من صانع حكيم دبره وسواه وبأنه مثل الحيـاة الدنيـا فلا يغتر بها،
{لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) }إذ لا به غيرهم.
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} وسعة لقبول الحق، حتى يمكن فيه بيسر، عبر عنه عمن خلق نفسه شديدة الإستعداد لقبوله غير متأبية عنه، من حيث إن الصدر محل القلب المتبع للروح ، المتعلق بالنفس، القابل للإسلام ،{فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } يعني: المعرفة والإهتداء إلى الحق؛ وعنه عليه الصلاة والسلام »إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح« ، فقيل: وما علامة ذلك ؟ قال:»لإنابة إلى دار الخلود، [والتجافي عن دار الغرور]، والتأهب للموت قبل نزوله« . {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} من أجل ذكرهم، وهوأبلغ من أن تكون»عن« مكان »من«، لأن القاسية من أجل الشئ، أشد تأبيا من قبوله من القاسي عليه لسبب أخر، للمبالغة في وصف أولئك بالقبول، وهؤلاء بالامتناع. ذكر شرح الصدر وأسنده إلى الله، وقابله بقساوة القلب وأسندها إليه، {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} يظهر للناظر بأدنى نظر ؛ قيل: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من (لعله) : القسوة.
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} تشابهه تشابه أبعاضه في الإعجاز، وتجاوب النظم، وصحة المعنى والدلالة على المنافع العامة، {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ} تضطرب من الحزن؛ واقشعر جلده: أخذته رعدة، {مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (لعله) عند ذكر العقاب تشمئز خوفا مما فيه من الوعيد، وهو مثل في شدة الخوف، {ثُمَّ تَلِينُ} ثم تذعن وتنقاد،{جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }إلى طاعته، ليس فيها صلابة فتعتو ، {ذَلِكَ }الوصف الحسن ، وهو الخشية من العذاب ، والانقياد الى طاعة الرحمن، {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}.
{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قيل: لأنه تكون مغلولة يداه الى عنقه ، فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه ؛ ويحتمل أنه يدفعه بلسانه بكذبه، كمـا قـال: {يوم يبعثهم اللّّّه جميعا، فيحلفون لَهُ كمَا يحلفون لكم}، {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)} أي: وباله.
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)} من الحال الذي لايخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منه، وهو عذاب الموت أو النار، أو عذاب الأدنى ، أو عذاب الإبعاد والغضب، فإن ذلك لا يحسون به في دار الدنيا إلاعند الموت؛ ودليله قوله: {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ} المعد لهم {كْبَر} لشدته دوامه، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)} لو كانوا من أهل العلم والنظر لعلموا ذلك ، واعتبروا به.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}يحتاج إليه الناظر في أمر دينه ودنياه ، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) } يتعظون به، {قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي: لا اختلاف فيه بوجه ما؛ وهو أبلغ من المستقيم، وأخص بالمعاني،{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) }.
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا} (لعله) للمشترك والموحد، {فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ}(لعله) مختلفون ، أي : أهوية مختلفة متضادة، {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} مثل المشرك على ما يقتضيه مذهبه، من أن يدعي كل من معبوديه عبوديته، ويتنازعون فيه، مثل عبد يتشارك في جماعة يتجاذبونه، ويتعاوزونه في مهامهم المختلفة، وهو متحير بينهم، لا يدري أن يقبل على من منهم، ويدبر عمن،لأن نفسه واحدة وأنفسهم كثيرة، ويكون قلبه متوزعا بينهم؛ والموحد كمن أخلص لواحد ليس لغيره عليه سبيل. وأصل التشاكش والتشاخص: الإختلاف {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ} كل الحمد لله لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} أن فيهم شركاء .
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} فإن الكل بصدده الموت، وفي عداد الموتى،
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} فتحتج عليهم بأنك كنت على الحق في التوحيد، وكانوا على الباطل في الشرك، واجتهدت في الإرشاد والتبليغ ولجوا في التكذيب والعناد، ويعتذرون بالأباطيل مثل: {أطعنا سادتنا} ؛
{وجدنا آباءنا} وقيل : المراد به: الإختصام العام، يخاصم الناس بعضهم بعضا في ما دار بينهم في االدنيا. { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } حين قامت عليه حجته، من أي علم كان؛ { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى } منزلا ومقاما { لِلْكَافِرِينَ (32)}؟ وذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم.
{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} لكل منهم ما يشاء من الجنة ، ولا يشاء أكبر من جزاء عمله، لارتفاع عذاب التغابن عن الادنى منزلة من الأعلى منه درجة لتمادم النعمة للجميـــع،
{ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} (لعله) يسترها عليهم بالمغفرة، {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) } قيل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ، ويجزيهم بالمساوئ، وضدهم يجزيهم بالمساوى ولا يجزيهم بالمحاسن.
{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ } حتى غفل عن كفاية الله، وخوفه مما لا ينفع ولا يضر، { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) } يهديهم إلى الرشاد. { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } ؟ أي : أرأيتم – بعدما تحققتم أن خالق العالم هو الله – أن آلهتكم إن أراد الله أن يصيبني بضر هل تكشفه ؟ { أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ } تنفع { هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } فيمسكها على ؛ {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} كافينا في إصابة الخير ودفع الضر، إذ تقرر بهذا التقرير أنه القادر الذي لا مانع لما يريده منخير أو شر، {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)} لعلمهم بأن الكل منه.
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على حالكم، {إِنِّي عَامِلٌ} أي: على مكانتي، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ } لأجلهم، فإنه عماد مصالحهم في معاشهم ومعادهم، {بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} أي: نفع به نفسه، {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} فإن وباله لا يتخطاها، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)} لتجبرهم على الهدى،وإنما أمرت بالبلاغ.
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي: يقبضها عن الأبدان، بأن يقطع تعلقها عنها، وتصرفها فيها، إما ظاهرا وباطنا، وذلك عند الموت، أو ظاهرا لا باطنا وهو في النوم، {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} ولا يردها إلى البدن؛ وقيل: لكل إنسان نفسان أحدهما نفس الحياة، وهي التى تتفارقه عند الموت، فتزول بزوالها النفس، والأخرى نفس التمييز، وهي التى تفارقه إذا نام، {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} أي:النائمة إلى بدنها عند اليقظة، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهوالوقت المضروب لموته؛ (لعله) ولعل هذه تقوي حجة من قال:إن موت المؤمن لا ألم فيه، إنما الألم في مقدماته، وهو غاية جنس الإرسال؛ وما روي عن ابن عباس : » إن في بني أدم نفسا وروحا، بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس التى بها العقل والتمييز، والروح التى بها النفس والحياة، فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند الموت « {إِنَّ فِي ذَلِكَ} من التوفي والإمساك والإرسال، {لَآَيَاتٍ} على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته،{لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) }في تعلقها بالأبدان، وتوفيها عنها بالكليةعند الموت، وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها، وما يعتريها من السعادة والشقاوة،(لعله) والحكمة في توفيها عن ظواهرها، وإرسالها حينا بعد حين ؛ أي : توفي آجالها.
{أَمِ اتَّخَذُوا } بل اتخذوا {مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} تشفع لهم ، بجلب المنافع ، ودفع المضار الدنياوية ،{قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} ؟ أو يشفعون ولو كانوا على هذه الصفة، كما يشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم؟، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} المعنى:أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ولا يستقل بها، ثم قرر ذلك فقال: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإنه مالك الملك كله، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)} للجزاء .
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} دون آلهتـهم، {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ} وانقبضت ونفرت عن التوحيد؛وأصل الاشمئزاز:النفـور والإستكبار،{وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني الإوثان، وحقيقة ماتهواه أنفسهم دون الأول، {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله؛ ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما، فإن الاستبشار: بأن يمتلئ قلبه سرورا، حتى تنبسط له بشرة وجهه، والاشمئزاز: أن يمتلئ غما حتى ينقبض اديم وجهه.
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}التجئ إلى الله بالدعاء لما اشمأزت قلوبهم من ذكر الله، واستبشرت بالخوض والباطل أن يحكم بينه وبينهم؛وهو العدل الذي لا يجوز، {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)}.
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وعيد شديد، وإقناط كلي لهم من الخلاص فيه، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) }في الدنيا أنه نازل بهم في الأخرة زيادة،(لعله) مبالغة فيه،{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} سيئات أعمالهم حين تعرض صحائفهم، {وَحَاقَ بِهِمْ} أي:أحاط بهم وألزمهم الأمر، وبهم نزل،{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)} وأحاط بهم جزاؤه.
{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} مني بحيلة كسبه؛وفي المعنى: كأنه أنكر أن يكون ذلك من عنــد الله،{بَلْ هِيَ
فِتْنَةٌ} إن جعلها من قبل تدبيره، فعليه وزرها، وإن جعلها من الله كان له أجرها، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)} أنها من الله وأنها فتنة. {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)} أي: بفاتنين.
{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أن القبض والبسط بتقديره لا من فعالهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} لأن إيمانهم يقتضي التدبر في الأيات.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (لعله) بارتكاب الكبائر، قالوا: كيف نتوب فلا يغفر لنا ؟ فأرشدهم الله ، وهو كقوله {وَلاَ تُلقوا بأيديكم إِلىَ التَّهلُكَة… }الآية، { لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } لا تيأسوا من مغفرته أن تبتم من إسرافكم؛ أو لا تصـروا على الإسراف بل توبوا {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إذا أتيتم شروطها ، لأن لكل ذنب حكما، {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)}
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} (لعلـه) ارجعوا {وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} هو الموت، {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (لعله) أي: أقبلوا، وارجعوا إلى حكـمه{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} المـوت، {بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)} بمجيئه، (لعله) أمر الله المسرفين أولا بترك القنوط من رحمة الله؛ثم أمرهم بالإنابة إليه قبل إتيانهم العذاب ، وهو الموت ، ثم أمرهم ثالثا باتباع أحسن ما أنزل إليهم ؛ ثم حذرهم التحسر عند الفوات، حيث لا ينفع زائغا إن لم يمتثلوا أمره ، وذلك قوله:
{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } أي: في حقه، { وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)} المستهزئين بحقوقه وأوليائه. {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)} .
{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ }بما ينالهم من الشدة أو يتخيل عليها من ظلمة الجهل، {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} بفلاحهم”مفعلة” من الفوز، وتفسيرها بالنجاة، {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)} .
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} يتـولى التصرف فيه. {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا يملك أمرها، ولا يتمكن من التصرف غيره؛ وهو كناية عن قدرته وحفظه، وفيه مزيد دلالة على الإختصاص، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها؛وهوجمع مقليد أو مقلاد، من “قلدته” : إذا ألزمتـه، وقيل: جمـع إقليـد . {كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)}.
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} وذلك يقتضي فعل جميع الباطل. {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ} بأي شرك كان، {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) } من الذين خسروا الدنيا والأخرة . {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} .
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما قدروا عظمته في أنفسهم حق تعظيمه،(لعله) حين عصوه وخالفوا أمره ؛ ثم أخبر عن عظمته ، فقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي : أنها في قدرته وملكه وسلطانه؛ ويقال: الأشياء في قبضة الله ،أي :ملكه، {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} تنبيه على عظمته وحقارة الفعال العظام التى تتحير فيها الأوهام بالإضافة إلى قدرته، ودلالة أن تخريب العالم أهون شئ عليه ، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) }.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} يعنى : المرة الأولى، {فَصَعِقَ} أي : مات{مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} خر ميتا، {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (لعله) فانظر إلى
قدرته الباهرة ، وأنه لا يشغله شأن عن شأن، قد يوفي الله من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله بنفخة واحدة أخرى، كما قال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} ما يفعل بهم .
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} بما أقام فيها من العدل، سماه نورا،لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق، كما سمى الظلم ظلمة؛ أو بنور خلق فيها بلا توسط أجسام مضيئة، ولذلك أضافها إلى نفسه، { وَوُضِعَ الْكِتَابُ }الحساب والجزاء،{وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } للأمم وعليهم، من الملائكة والمؤمين، {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بين الشاهد والمشهود عليه {بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)} بنقص ثواب، أو زيادة عقاب، على ما جرى به الوعد. {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ }جزاءه، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)} فلا يفوته شئ من أفعالهم.
ثم فصل التوفية فقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} سوقا عنيفا، يسحبون على وجوههم {إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}أفواجا متفرقا بعضها في إثر بعض، على تفاوت أقدامهم في الضلالة والشرارة، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} توبيخا وإلزاما للحجج : {يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} فيه دليل لأنه لا تكليف قبل الشرع، من حيث إنهم عللو توبيخهم بإتيان الرسل، وتبليغ الكتب {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)}كلمة الله بالعذاب علينا، وهوالحكم علينا بالشقاوة، وأنهم من أهل النـار، {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} (لعله) بعدما أقروا على أنفسهم، {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) }.
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا }ركبانا فيما قيل، على تفاوت مراتبهم في الشرف{تَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ }.
لا يعتريكم بعد مكروه، {طِبْتُمْ} (لعله) وذلك مما يقوي حجة من قال : إن أهل الأعراف هم أصحاب اليمين، {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
(74) } .
{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ }تعبدهم الله بذلك كما تعبد بني آدم يحفون بالبيت ، {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (لعله) بين أهل الجنة والنار{ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}.