ســورة المــائـــدة
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } يقال : وفّى بالعهد ، ووافى به ، والعقد : العهد الموُثق شُبِّه بعقد الحبل ونحوه ، وهي عقود الله التي عقدها على عباده ، وألزمها إياهم ، من واجب التكليف والعقود ، التي تتعاقدها الناس من المبايعة والمناكحة وغيرها { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام ، في حال امتناعكم من الصيد ، وأنتم محرمون لئلاَّ يضيق عليكم ، { إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } لا ينازع في حكمه ، بل يجبُ الإذعان لحكمه ، لأنه هو العالم بمصالح عباده .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ } (لعله) بالقول ، أو العمل ، أو النية ؛ جمع شعيرة : وهو اسم ما أشعر ، أي : جُعل شعارا وعلما للنسك من ومواقف الحج ، ومرامي الجمار ، والمطاف والمسعى ، والأفعال التي هي علامات الحاجَّ يعرف بها من الإحرام ، والطواف والسعي والحق والنحر ، وقيل : دين الله لقوله : {ومن يعظم شعائر الله} أي : دينه ، وقيل : فرائضه التي حدَّها لعباده إحلالُ ما حرمه الله ، ولا حجر ما أباحه الله ، وليس [ لهم ] إلاَّ التسليم لأحكامه جلَّ وعلا { وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } أي : ولا شهر الحجَّ ، { وَلاَ الْهَدْيَ } هو ما هُدي إلى البيت ؛ فتُقُرِّب به إلى الله من النسائك ، { وَلاَ الْقَلآئِدَ } جمع قلادة : وهو ما قلِّد به الهدي من نعل أو عروة ، مراده أو لحاء شجر أو غيره { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام ، وهم الحجاج والعَّمار ، ويدخل في ذلك جميع القاصدين لبيوت الله للطاعة ، وإجلاء [ كذا ] هذه الأشياء أن يُتهاون بحرمة الشعائر ، أو أن يُحال بينها وبين المتنسكين بها ، أو أن تُحدثوا في أشهر الحج ما تصدون به الناس عن الحج ، وأن يتعرض للهدى بالغضب ، أو بالمنع من بلوغه محله ، وأما القلائد فجاز أن يراد ذوات القلائد { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ } أي : ثوابا ، { وَرِضْوَاناً } وأن يرضى عنهم ، أي لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم ، تعظيما لهم ، ومن تعرض لأذاهم أو صدهم عن ذلك ، فقد تعدَّى أمر الله فيهم .
{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ } إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم ، بقوله {غير محلي الصيد وأنتم حرم} . { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ولا يحملنكم ، أولا يكسبنَّكم { شَنَآنُ قَوْمٍ } أي : شدة بغضهم وعداوتهم ، {أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ } وأجرم أي : كسب ، ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدُّوكم الاعتداء لتعتدوا عليهم بغير ما أمر الله ، ولا يحملنكم عليه ، { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } قيل : البر : متابعة الأمر ، والتقوى : (لعله) مجانبة النهي { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } الإثم : ترك المأمور ، والعدوان : فعل المحظور ، وقيل : الإثم : الكفر ، والعدوان : الظلم { وَاتَّقُواْ اللّهَ } عباد الله ، { إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } في الدارين لمن عاون على الإثم والعدوان ، ولم يعاون على البر والتقوى .
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } أي : رفع الصوت به لغير الله ، وهو قولهم : باسم اللات والعزَّى ، أو نحو ذلك عند ذبحه ، { وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قيل : كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت ، يذبحون عليها ، يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها ، تسمى الأنصاب واحدها نصبٌ ، أو هو جمع ، والواحد نصاب قال أبو سعيد : ({فأجمع أهل التأويل أنه ما ذبح من الأنعام الحلال أصلها ، ولم يذكر اسم الله عليها بشيء من الآلهة غير الله ، أنها حرام ، وأنها لاحقة بقوله : {وما ذبح على النصب} ، {وما أهل به لغير الله}}) . { وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ } هو طلب القسم ، والحكم ، من الأزلام هي القداح المعلّمة ؛ قيل : كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو غير ذلك ، تعمد إلى قداح ثلاثة على واحد منهما مكتوب : ({أمرني ربي}) ، وعلى الآخر : ({نهاني ربي}) ، والثالث غفل ؛ فإن خرج الأمر مضى لحاجته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاده ؛ فمعنى الاستقسام بالأزلام ، طلب معرفة قسمٍ له مما لم يقسم له . قال الزجاج : ({لا فرق بين هذا ، وبين قول المنجمين : لا تخرج من أجل نجم كذا ، واخرج لطلوع نجم كذا}) ، وقيل هو الميسر . { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } أي : الاستقسام بالأزلام خروج عن الطاعة ، ويحتمل أن يعود إلى كلِّ محرَّم في الآية .
{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } يئسوا منه أن يبطلوه أو يغلبوه ، لأن الله وفّى بعهده من إظهاره على الدين كله ، أو لا يطمعوا في الارتقاء به مع وقوف أنفسهم في بحبوحة هواهم ، { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار ، وانقلابهم مغلوبين بعد ما كانوا غالبين ، { وَاخْشَوْنِ } أي : أخلصوا إلي الخشية .
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } بالنصر والإظهار على الأديان كلِّها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد ، والتوفيق على أصول الشرائع ، وقوانين الاجتهاد ، وأكملت لكم ما تحتاجون له في تكليفكم ، من تعليم الحلال والحرام ، والتوفيق على شرائع الإسلام وقوانين القياس . { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } بالهداية والتوفيق ، أو بكمال الدين وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } أي : اخترته لكم من بين الأديان ، { فَمَنِ اضْطُرَّ } متصلٌ بذكر المحرّمات ؛ وقوله : {ذلكم فسق) اعتراض أكد به معنى التحريم ، وكذا ما بعده لأنه تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل ، والنعمة التامة ، والإسلام المرضي دون غيره من االملل { فِي مَخْمَصَةٍ } أي : جهد في مجاعة ، والمخمصة : خلو البطن من الغذاء ؛ نقول : رجل خميص البطن : إذا كان طاويا خاويا { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ } غير مائل له ومنحرف إلى إثم ، وعلامته أن يأكل متلذّذا مجاوزاً أخذ الرخصة ، فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ } لا يؤخذه لما هو مضطرٌّ إليه ، { رَّحِيمٌ } بإباحة المحظور للمعذور .
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } من المطاعم ، كأنهم حين تُلي عليهم ما حُرم عليهم من خبيثات المطاعم سألوه عمَّا أُحل لهم منها ، فقال : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ما لم تستخبثه الطباع السليمة ، وهو ما أُحل في الشرع ؛ فقد بين الله لأولي الألباب في هذا أن ما حرمه الله تعالى لخلقه في ضدُّ الطيبات ، وهي الخبائث التي هي عمل تصيب الشيطان وأعوانه من الغاوين { وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ } أي : الكواسب للصيد من سباع البهائم والطير ، { مُكَلِّبِينَ } المكلب : هو مؤدب الجوارح ومعلِّمها ، مشتق من الكلب ، لأن التأديب في الكلاب أكثر { تُعَلِّمُونَهُنَّ } وفيه دليل على أن كلَّ آخذ علما لا يأخذه إلاَّ من أفقههم علما ، فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيع أيامه ، وعض عند انكشاف الحقائق أنامله { مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ } أي : من العلم الذي علمَّكم الله من علم التكليب ، { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } الإمساك على صاحبه أن لا يأكل منه [ كذا ] فإن أكل منه لم يؤكل ، إذا كان صيد كلب { وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ } واحذروا مخالفة أمره فيما أمركم به ، { إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } إنه محاسبكم عن أفعالكم ، فيجازيكم في الدنيا بالخذلان ، وفي العقبى بالنار .
{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } كرَّرة تأكيدا للمنِة ، { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } فلا عليكم أن تطعموهم ، لأنه لو كان حراما عليهم طعام المؤمنين لما متاع لهم اطعامهم قال أبو سعيد : ({فاجتمعت الأمة بأسرها ، لا نعلم بينهم في ذلك اختلافا ، أن الطعام ها هنا هو اللحوم من أيدي أهل الكتاب ، من ذبائحهم ، وأنهم مأمونون على ذلك ، وجائز من عندهم شراء اللحوم}) انتهى . فإن قيل : كيف شرع لهم حِلُّ طعامنا وهم كفار ليسوا من أهل الشرع ؟ يروى عن الزجاج أنه قال : ({معناه حلال لكم أن تطعموهم ، حرام عليكم أن تزوجوهم}) . { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ } هي الحرائر والعفائف ، والمحصن : هو مأخوذ اسمه ممن يحصن عن عدوه لئلا يأخذه ، كأنه أحصن دينه عن الوقوع في الإثم من أسباب الجماع . { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } متزوجين غير زانين ، { وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } صدائق ، والخدن : يقع على الذكر والأنثى ، { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ } شرائع الإسلام ، وما أحل الله وما حرم ، أو بشيء من ذلك ، { فَقَدْ حَبِطَ } بطل { عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } خسر دنياه وآخرته .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } أي : إذا أرتم القيام إلى الصلاة كقوله : {فإذا قرأت القرآن} قيل : كان الوضوء لكلِ صلاة واجبا ، ولو من غير نقض للوضوء أول ما فرض ثم نسخ ؛ وقيل : تقديره : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون . { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } فيه إيجاب فرض التطهر من النجاسات بالماء لأجل أداء الصلاة ، بذكره للغائط ، فثبت التطهر بالماء لوجوده لجميع النجاسات ، فإن عدم كان التييم بدله ، يقوم مقامه . { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي : ضيق ، { وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } وليتم بُرخصه إنعامه عليكم بعزائمه [ كذا ] ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } توفُّون حق النعم .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } بالإسلام لتذكركم المنعم ، وترغبكم في شكره ، وأنه ما بكم من نعمة فمنه ، لتستعينوا بها على عبادته ، { وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ } في نقضه ، { إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } بسرائرها من الخير والشر .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } بين الأنام ، { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ } أي : لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم لعداوتهم ؛ { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } أي : العدل أقرب إلى التقوى ؛ نهاهم أمولاً أن تحملهم البغضاء على ترك العدل ، ثم استأنف فصرَّح لهم الأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر ، وهو قوله : {اعدلوا هو أقرب للتقوى} . { وَاتَّقُواْ اللّهَ } فيما أمر ونهى ، { إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وعد ووعيد ، ولذا ذكر بعدها آية الوعد ، وهو قوله :
{ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } ما وصفه الله بالعظم فهو جدير أن تعظمه القلوب . { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } لا يفارقونها .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } بالقتل ، يقال : بسط إليه لسانه إذا شتمه ، وبسط إليه يده إذا بطش به ، {ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} ؛ { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } وذلك يذكرهم الله نعمته ليطيعوه ويتقوه ، كما قال : { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } واجب ذكر نعم الله في كل شيء ، وهذه النعمة من أخص ما أنعم الله بها على عباده ، إذ لو خلىَّ الله الخلق واختيارهم في بعضهم بعض ، من البغي والضر في دينهم وأنفسهم وأموالهم وأمر معاشهم لما انتظم أمر العالم ، وما بقي على ظهر الأرض من دابَّة ، ولبطلت الحكمة في إيجاد خلقه لغير معنى ، ولكن الله رحيم بخلقه ، قد تفضَّل عليهم برأفته ورحمته ؛ ولو سلَّط الله على ابن آدم بعوضه ، أو أصغر منها جرما ، لأهلكته في أسرع حال .
{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } النقيب : هو الذي (لعله) المختار من القوم ، وهو [ الذي ] ينقِّب عن أحوال القوم ويفتش عنها ، { وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ } أي : ناصركم ومُعينكم . { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي : نصرتموهم وقويتموهم ، وأصله الذُّب ، { وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً } قيل : هو كل فعل خير ، ومخالفة النفس عن كل قبيح ، { لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } صغائر أعمالكم ، { وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } أي : من فعل ذلك جوزي بهذا ؛ { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ } أي : بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم ؛ { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } أخطأ طريق الحق . تعمُّ من كفر قبل ذلك فقد ظل سواء السبيل أيضا ؛ ولكن الضلال بعده أقبح وأعظم ، وسواء كل شيء : وسطه .
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } طردناهم ، وأخرجناهم من رحمتنا ، { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } يابسة لا رحمة فيها ولا لين ، والقسوة : خلاف اللين والرقة ؛ وقرئ : قسية أي : ردية ، (لعله) مغشوشة . { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } يفسرونها على غير ما أنزلت عقوبة لهم . وهو بيان لقسوة قلوبهم ، لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله ، وتغيير وحيه .
{ وَنَسُواْ حَظّاً } والمعنى : أنهم حرفوا التوراة ، وتركوا حظهم مما أنزل عليهم فيها ، فلم يتأولوه على تأويله ، فتركوه ولم ينالوه ، يعني : أن إعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم . { مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } أو تركوا نصيب أنفسهم ، مما أمروا به من الإيمان بمحمد r وبعثته . { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } أي : عادة الخلق الخيانة وقلة الوفاء بما تعبدهم الله به ، ومعاملتهم لبعضهم بعض ، فلا ينبغي أن يستنكر ذلك منهم ، لأنه من طبعهم ، والوفاء منهم نادر قليل . { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } وهم الذين آمنوا منهم ، { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } ولا تخن مثل ما خانوا ، وأحسن إليهم بفعل ما أمرك به فيهم { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } هو الإيمان بالله والرسل وما جابوا به ؛ { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي : تركوا حظهم الوافر الباقي ، باشتغالهم بالفاني الناقص ، { فَأَغْرَيْنَا } فالصقنا وألزمنا ، من غري بالشيء ، إذا لزمه ولصق به ، ومنه الغراء الذي يلصق به ، { بَيْنَهُمُ} فرق النصارى المختلفين { الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } بالأهواء المختلفة ، والجدل في الدين ؛ فكل فرقة تكفر الأخرى ، { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } عند الموت ، أو في القيامة بالجزاء والعقاب .
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا } محمدr ، { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } من نحو صفة رسول الله ، { وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }مما تفعلون ، لا يؤاخذكم به ، أو يعرض عن كثير مما أخفيتم فلا يبينه { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } يريد القرآن ، لكشفه ظلمات الشرك والشك ، ولإبانته ما كان خافيا على الناس من الهدى .
{ يَهْدِي بِهِ اللّهُ } بالقرآن ، { مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } من طلب به رضى الله ، { سُبُلَ السَّلاَمِ } طرق السلامة والنجاة من عذاب الله في الدارين ، { وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام ، { بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } طريق هو أقرب الطرق إلى الله وأرفقها ، وتوصل إليه لا محالة .
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } معناه : قطع القول على أن الله هو المسيح لا غير . قيل ك كان في النصارى قوم يقولون بذلك ، أو لأن مذهبهم يؤدي إليه ، حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ، أو يستحق العبادة من دون الله { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً } فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئا ، { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } أي : أراد أن يهلك من ادعوه إلها من المسيح وأمه ، يعني : أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد ، وعطف ({من الأرض}) على ({المسيح وأمه}) إبانة أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما وبينهم ، والمعنى : أن من اشتمل عليه رحم الأمومية متى يفارقه نقص البشرية ؟! ولو قطع البقاء عن جميع ما أوجد ، لم يعد نقص إلى الصمدية .
{ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : يخلق من ذكر وأثنى ، ويخلق من أثنى بلا ذكر ، كما خلق عيسى ، ويخلق من غير ذكر ولا أثنى ، كما خلق آدم ؛ أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له ؛ فلا اعتراض عليه ، لأنه الفعال لما يريد ، { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء من الأشياء .
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أي : أعزه عليه كالابن على الأدب ، أو أشياع ابني الله عُزير والمسيح ، { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } أي : فإن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه ، فلم تُعذبون بذنوبكم بالمسخ والنار أياما معدودة على زعمكم ، وأنتم مقرُّون بذلك ، وهل يمسخ الأب ولده ، وهل يعذب الوالد ولده بالنار ؟ ؛ ثم قال ردا عليهم : { بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } ممن تعبده بالأمر والنهي ، { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ } لمن تاب عن الكفر ويثيبه { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } من كفر ولم يتب منه { وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فيه تنبيه على عبودية المسيح ، لأن الملك والنبوءة متنافيان .
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ } الشرائع ، { عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ } أي ك جاءكم على حين فُتور من إرسال الرسل ، وانقطاع من الوحي ، لأن سنن الشرائع تموت وتندرس ، إذا تباعدت المدد من أيام الرسل على قلة العالمين بها ، ويظهر حزب الشيطان على حزب الله { أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } لأنه تطاولت الأيام ، وقدم أمر الرسول ، نسوا البشير والنذير المنزولين عليه ، بعث الله عليهم الرسول بشيرا ونذيرا ، ليجدد الأمر عليهم اندارسه . { فَقَدْ جَاءكُم } أي : لا تعتذروا فقد جاءكم ، { بَشِيرٌ } للمؤمنين ، { وَنَذِيرٌ } للكافرين ، والمعنى : الامتنان عليهم بأن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي ، أحوج ما يكونون إليه ليهشوا إليه ويعدوا أعظم نعمة من الله ، ويلزمهم الحجة فلا يعتلوا غدا بأنه لم يرسل إليهم من يحييهم من بعد موتهم ، ويوقظهم من رقدهم ، وينبههم عن غفلتهم . { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وذلك من أدل الأشياء على إثبات قدرة الله على جميع الأشياء الموجودات ، أو المعدومات أو المتوهمَّات .
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء } لأنه لما جعل فيهم أنبياء كان أتم للنعمة وألزم للحجة ، لإزاحة الشبهة . { وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً } ومن تمام النعمة أن جعلكم مالكين غير مملوكين ، وقيل : الملك : هو من له مسكن واسع فيه ماء جار ن وقيل : من له بيت وخدم ، أو لأنهم كانوا مملوكين في أيدي القبط ؛ فأنقذكم الله ، فسمي إنقاذهم ملكا ، وقيل عن ابن عباس أنه قال : ({أصحاب خدم وحشم}) ؛ وعندي أن ذلك يعم من كان مخلى بينه وبين أشغاله الدينية والدنيوية ، وهو اسم يستغرق اسم الحرية عن استخدام العبودية . { وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ } من فلق البحر وإغراق العدو ن وإنزال المن والسلوى ، وتظليل الغمام ، أو بما خصهم الله من فضله على سائرهم ، أو أراد عالمي زمانهم .
{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } أي : المطهرة والمباركة ، وهي أرض بيت المقدس ، سُميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين . { الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } قسمها لكم وسمَّاها ، أو كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم ، أو جعل عاقبة ثوابها لكم إن أمتلثم الأمر { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } ولا ترجعوا على أعقابكم ، مدبرين منهزمين من خوف الجبابرة جبنا ، أو لا ترتدوا على أدباركم في دينكم ؛ { فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ } الدارين .
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } الجبَّار ، ” فعَّال ” من جبره على الأمر ، بمعنى أجبره عليه ، وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد ولو شخص واحد ، ولو فعل في هزتَّه أو تهمته ما لا يجوز دخل عليه اسم الجبَّار . { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا } بالقتال ، { حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا } بغير قتال ، { فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } .
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ } الله ويخشونه ، { أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا } بالخوف منه : { ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } لأنهم أجسام لا قلوب فيها ، لأن قلوبهم لمَّا رانت عليها معاصيهم ، لم يكن لها حكم ، والمؤمنون : المتقون لم يجعلوا حكما لأجسامهم ، لأنها خادمة لقلوبهم ؛ فالأجسام تحيي وتقوى بالقلوب إذا أطاعتها ، والقلوب تموت بطاعة الأجسام . { وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إذ الإيمان به يقتضي التوكل عليه ، وهو قطع العلائق ، وترك الخضوع للخلائق ، إلا ما كان لله .
{ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } مخالفة لأمره .
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي } قيل معناه : وأخي لا يملك إلاَّ نفسه ، وقيل : لا تطيعني إلاَّ نفسي وأخي . { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } فافصل بيننا وبينهم ، بأن تحكم لنا بما وعدتنا ، وتحكم عليهم بما هم أهله ، وهو في معنى الدعاء عليهم ، والبراءة منهم .
{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } لا يدخلونها ، قيل : معناه تلك البلدة محرمة أبدا ، لم يُرد بها تحريم تعبُّد ، وإنما أراد تحريم منع ، { أَرْبَعِينَ سَنَةً } فإذا مضى الأربعون كان ما كتب ، { يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ } عاقبهم الله بحرمان التوفيق لمَّا خالفوا أمره ، لا يهتدون طريقا إلاَّ طريق جهنم ما داموا مصممين على كفرهم ؛ وكأنهم في الظاهر يسيرون ، وفي الحقيقة ناكصون على أعقابهم ، مُرتدون عن مقصدهم ، مكبُّون على وجوههم ، ولا يرون أنهم ناكصون مكبُّون على وجوههم ، لأن ظلمات معاصيهم أعمت نور بصائرهم ، وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم ، وهو معنى الاستدراج . { فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } فلا تحزن عليهم فإنهم فاسقون .
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ } أي : بالصدق ، { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً } ما يتقرب إلى الله من نسك أو صدقة ، يقال : قَّرب وتقرَّب . { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ } لأنه سخط حكم الله ، ولم يخلص النية في قربانه ، أو كان عاصيا غير متقٍ فلا يقبل منه ، وإن أراد بذلك القربان وجه الله ، لأنه عاصٍ ، ولا تُقبل طاعة من عاص ، وانظر في عملهما في الصورة الظاهرة كأنه متوازن ، وإنما بتقوى القلوب تباين ، فصار هذا مقبولا منه ، وهذا مردودا عليه مضروبا [ به ] وجهه ؛ فهذا في حقيقة حسنة ، وهذا في حقيقة سيئة . { قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ } توعَّد بالقتل لفرط الحسد ، ولعلَّ في أمانيه لينال بقتله ما لا ينال في حياته . { قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } فإنما أولى من قتل نفسه لانسلاخها من لباس التقوى .
{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } ولم يجرمنه شنآن أخيه على أن يجور عليه خوفا من الله تعالى .
{ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ } تحمل أو ترجع { بِإِثْمِي } بإثم قتلي إذا قتلتني ، { وَإِثْمِكَ } الذي لأجله لم يُتقبل قربانك ؛ { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ } .
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فوسعته وسرته وطاوعته وشانعته وعاونته من ({طاوع له المرتع}) إذا تسَّع . { فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } دنيا ودنيا .
{ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ } عورة أخيه ؛ { قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي } لأهتدي لما اهتدى إليه . { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قد بعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه ، لمَّا عجزت دلائله عن الدليل ، وقد أقام عليه الحجة بفعله ، ليتأسى به (لعله) لأمر دينه ودنياه .
{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ } يريد بغير نفس وبغير فساد في الأرض ، من كفر أو زنا أو قطع طريق أو نحو ذلك ؛ { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } ومن قتل نفسين ، فكأنما قتل الناس مرتين ، وكذلك ما زاد . { وَمَنْ أَحْيَاهَا } حماها عن القتل ، أو أخرجها من ضلال إلى هدى ؛ { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } قيل للحسن : ({يا أبا سعيد هل لنا كما كان لنبي إسرائيل ؟}) قال : ({أي والذي لا إله غيره ، ما كان دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا}) . { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } متجاوزون .
{ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ } أي : القربة فعلية [ كذا ] ، من توَّسل إلى فلان بكذا أي : تقرَّب إليه . { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } حتى أعمالهم الطاعة التي عملوها لله داخلة في هذا ، { لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } هذا الوعيد متوجه على كل كافر كُفر نعيم ، أو كفر شرك لأنه قال : {إن الذين كفروا} أبهم القول وأعمه في الفريقين ، ومن خصَّ به كافر الشرك دون كافر النعيم فعليه إقامة الدليل ، وقال الله فيهم : (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} فقد شهد الله عليهم بالإقامة فيها ، وأن لا خروج منها بعد الدخول فيها للعذاب ؛ أعاذنا الله من ذلك .
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 0 فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } برد المسروق ، { فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يعذب من يشاء من مات على كفره ، ويغفر لمن يشاء من تاب من كفره .
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } إيمان تصديق حقيقي ، وهم المنافقون ؛ لأن إيمان قلوبهم (لعله) يقتضي ترك مسارعتهم للكفر ، والمبادرة إلى (لعله) المسارعة للخير ؛ وانظر كيف سمَّاهم الله كفرة . { وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي : قائلون للكذب ، كقول المصلي : ({سمع الله لمن حمده}) أي : قبل ، وقيل : معناه لأجل الكذب ، أي : يسمعون منك ليكذبوك ؛ إنهم كانوا يسمعون من الرسول r ثم يخرجون ويقولون : سمعنا منه كذا ، فلم يسمعوا ذلك منه . { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي : سمَّاعون منك لأجل قوم آخرين من اليهود ، وجهوهم عُيونا ليبلِّغوهم ما سمعوا منك .
{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : يُزيلون ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها ؛ فيهملونه بغير مواضع [ كذا ] بعد أن كان ذا مواضع عالية ؛ { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا } المحرَّف المزال عن مواضعه ؛ { فَخُذُوهُ } واعلموا أنه الحق ، واعملوا به ، { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ } وأفتاكم بخلافه ، { فَاحْذَرُواْ} وإياكم وإياه ، فهو الباطل . { وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ } ضلاله ، { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً } من أمر دين ولا دنيا . { أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } عن الكفر ، لعلمه منهم اختيار الكفر . { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } لا ينفك الخزي عن كل من كان في قلبه خزيٌ . { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } هو كلُّ ما لا يحل كسبه ، وهو من سحته : إذا استأصله ، لأنه مسحوت البركة ، كما قال : {يمحق الله الربا} ، وقال : {فيسحتكم بعذاب} أي : يهلككم به . { فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } قيل : كان مخيَّرا إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم ؛ وقيل : نسخ التخيير بقوله : {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} . { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } العادلين .
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ } تنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكم معرفة الحق وإقامة الشرع ، وإنما طلبوا به ما يكون أهون عليهم ، وإن لم يكن حكم الله في زعمهم . { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } (لعله) أي : بمصدقين بك ، ولا بكتابهم كما يدعون .
{ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } يُبين ما استُبهم من الأحكام ، { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ } أي : أسلموا ، أو انقادوا لحكم الله وما أنزل في التوراة ، { لِلَّذِينَ هَادُواْ } تابوا من الكفر ، { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ } أي : العلماء والزهاد السالكون طريقة أنبيائهم ، فسُمي العالم حبرا لما عليه من حال العلم ، وبهائه وأماراته ودلائله . { بِمَا اسْتُحْفِظُواْ } استودُعوا { مِن كِتَابِ اللّهِ } الضمير في ({استحفظوا}) للأنبياء ، والربانيين والأحبار جميعا ؛ والاستحفاظ من الله ، أي : كلَّفهم الله حفظه ، أو بسبب أمر الله إياهم بأن يحافظوا كتابه من التضييع والتحريف ، أو للربانيين والأحبار ، والاستحفاظ من الأنبياء . { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } أنه كذلك ، وقيل : أنه رقباء عن التبديل فيه .
{ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ } نهيٌ للحكَّام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم ، وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل ، والخشية سلطان ظالم ، أو خفية أذيِّة أحدٍ ، { وَاخْشَوْنِ } في مخالفة أمري ، { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي } ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه { ثَمَناً قَلِيلاً } وهو الرشوة ، وابتغاء الجاه ، والخوف من الخلق ورضاهم . { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } مستهينا به ، أو منكرا له ، أو مستبدلا به . { فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فكلُّ من لم يحكم بما أنزل الله ، ولم يرض بحكم الله فهو كافر ظالم فاسق .
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } وفرضنا عليهم في التوراة ، { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص ، [ بدليل ] قوله تعالى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } فهذا تعميم بعد تخصص فيما يمكن الاقتصاص منه ، { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ } من أصحاب الحق بالقصاص وعُفي عنه ، { فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } فالتصدق به كفارة للمتصدق بإحسانه إذا كان مؤمنا . { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم } على آثار النبيين ، ومعنى قفيت الشيء بالشيء : جعلته في أثره ، كأنه جُعل في قفاه ، { بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لما تقدَّمه { مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } لأنهم هم المنتفعون به .
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } الخارجون عن الطاعة ، والفاسق هو الذي فسق بفعله ، وخرج من دخوله فيما أقَّر به بفسقه ، كما يقال : فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرتها ، { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ } يا محمد ، { الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لما تقدَّمه نزولا ، وإنما قيل : لما قيل الشيء هو بين يديه ، لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه ، فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه { مِنَ الْكِتَابِ } المراد به جنس الكتب المنَّزلة ، لأن القرآن مصدق لجميع كتب الله ، فكان حرف التعريف فيه للجنس ؛ ومعنى تصديقه للكتب : موافقتها في التوحيد والعبادة ، {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاَّ نوحي إليه أنه لا إله إلاَّ أنا فاعبدون} ، { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } وشاهدا ، لأنه يهد له بالصحة والثبات ، { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ } بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه ، أي : لا تعرض عما جاءك من الحق ، ولا تتبع أهواءهم .
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً } شريعة ، وهي الطريقة إلى الماء ؛ شبَّه بها الدين ، لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبدية ، وقرئ بفتح السين ، { وَمِنْهَاجاً } طريقا واضحا في الدين ، يجرون عليه ، { وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } جماعة متفقه على شريعة واحدة في جميع الأعصار ، من غير نسخ وتحويل ، { وَلَـكِن } أراد { لِّيَبْلُوَكُمْ } ليعاملكم معاملة المختبر ، { فِي مَا آتَاكُم } من الشرائع المختلفة المناسبة لكُل قرن وعصر ، هل تعملون بها مذعنين لها ، معتقدين أن اختلافها يقتضي الحكمة الإلهية ؛ أم تزيغون عن الحق ، وتفرطون في العمل كما زاغ من زغ من أهل الكتاب . { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } فابتدروها وتساكفوا نحوها قبل فوات بالوفاة بجميع ما آتاكم من الأمور الدينية والدنيوية ؛ والمراد بالخيرات : كلُّ ما يُعبد الله به ، ويتوسَّل به إليه ، { إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيجازيكم على حسب ما عملتم .
{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ } أي : يصرفوك ، فإن تخييلاتهم مزلَّة للافتتان ، { عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ } من دقائقه وغوامضه ، فإنهم لا يطعمون منك في جميعه ، بل لا يطعمون منك في الظواهر ، { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الحكم بما أنزل الله إليك ، ومالوا إلى سواه ، { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } أي : يعاقبهم بالتولِّي عن الحق ، والتعامي منه ببعض ذنوبهم ، أي : فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجَّل لهم العقوبات في الدنيا ببعض ذنوبهم ، { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } لخارجون عن بِّر الله .
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } ؟ الذي هو متابعة الهوى بغير الحق ، والجاهلية : ضُّد الإسلام ، { وَمَنْ أَحْسَنُ } أ ي : لا أحد أحسن { مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فإنهم الذين يتدبرون الأمور ، ويتحققون حقائق الأشياء بتفكرهم ، فيعلمون أن لا أحسن حكما من الله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء } أي : لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم ، وتستنصرون بهم ، وتؤاخذونهم ، وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين ؛ ثم علَّل النهي بقوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } في العون والنصرة بالباطل ، ويدهم واحدة على المسلمين ودينهم ، وكلهم أعداء للمؤمنين وفيه دليل على أن الكفر كله ملة واحدة ، { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ } فيوافقهم ويعينهم ، { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } من جملتهم ، وحكمه في الوعيد حكمهم ، { إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } قد حكم على المتولي لهم أنه منهم بولايته إياهم ، وخروج من جملة المؤمنين ، ودخل في جملة الكافرين بكفره وفسقه ، وهذا تشديد من الله في وجوب مجانبة المخالف في الدين ، كما جاء في الحديث : ({لا ترااي ناراصما}) [ كذا ] . { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هوى ، وهو المؤثر معهم على ما سواه [ كذا ] ، { يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } في معاونتهم على المسلمين وموالاتهم ، { يَقُولُونَ } أي : في أنفسهم لقوله : {على ما أسروا} . { نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } أي : حادثة تدور بالحال التي يكونون عليها المسلمون ، معناه نخشى أن يدور (لعله) الدهر علينا بمكروه ، فنحتاج إلى نصرتهم ؛ ثم (لعله) وعد الله ، فقال : { فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } لرسول الله على أعدائه ، وإظهار المسلمين ، { أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } لا يعلم كنهه إلاَّ هو ، { فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ } من النفاق { نَادِمِينَ } .
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ } في وقت ما ينزل على المنافقين من الدائرة والتدمير . { أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } أي : أقسموا بأغلاظ الأيمان إنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار ، و ({جهد أيمانهم}) مصدر في تقدير الحال ، أي : مجتهدين في توكيدها ، يريد أن المؤمنين حينئذ يتعجبون من كذبهم وحلفهم بالباطل . قال الله تعالى : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة ، إلاَّ إيمانا وعقيدة ، { فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } في الدنيا والآخرة لفوات المعونة ، ودوام العقوبة .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } من يرجع منكم عن دين الإسلام إلى دين الكفر ، { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } تقديره : فسوف يأتي الله بقوم مكانهم ؛ ومحبة الله لعبده أصل محبة له ، وكأن الله تعالى وعد أن يخلف مكان من يرتدُّ عن دينه بقوم يطيعونه في أرضه ، مكان طاعة من أريد قبل الارتداد ؛ وهكذا شبه الله في خلقه لمن يدبِّر الكتاب ، لأن حجة الله لا تموت في أرضه إلى يوم القيامة ؛ وقيل : لا تعدم الأرض من الأبدال إذا مات منهم أحد أو أرتد أبدل الله مكانه . { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } عاطفين عليهم متذللين لهم ، { أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } أشداء على الكافرين ، والعزار : الأرض الصلبة ، فهم مع المؤمنين كالولد لوالده ، والعبد لسيده ، ومع الكافرين كالسبع على فريسته . { يُجَاهِدُونَ } مجاهدة الظاهر والباطن ، { فِي سَبِيلِ اللّهِ } في طاعته ، { وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } ولا يتركون المجاهدة لخوف الإثم ، ولا لمذمة ذامٍّ . { ذَلِكَ } الوصف المذكور ، { ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ } ({إنما}) تفيد اختصاصهم بالمولاة ، والمعنى : إنما وليكم الذي يتولى تدبيركم ، ويلي أموركم { اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } الذين هذه صفاتهم : وهو راكعون { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } .
{ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } أصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم ، ومن يتولهم فقد تولى حزب الله واعتضد بمن لا يُغالب .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً } يعني : أن اتِّخاذهم دينكم هزوا ولعبا لا يصح أن يقابل باتخاذهم أولياء بل يقابل ذلك بالبغضاء والمنابذة ، { مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ } في موالاة الكافرين ، { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } حقا ، لأن الإيمان حقا يأبى موالاة أعداء الدين .
{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً } أي : الصلاة أو المناداة ، وفيه دليل على أن الأذان مشروع للصلاة ، { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } لأن لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة ، فكأنه لا عقل لهم ، ومن سمع الأذان للصلاة ، ولم يجب من غير عذر ، واستخف به أو تنقص بفاعله ، فقد اتخذ ى آيات هزؤا .
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ } يعني : هل تعيبون منا وتنكرون إلاَّ الإيمان بالله وبالكتب المنزَّلة كَّلها ، { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } والمعنى : عاديتمونا لأنا اعتقدنا توحيد الله وصدق أنبيائه ، وفسقكم لمخالفتكم في ذلك .
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ } أي : ثوابا ، والمثوبة وإن كانت مختصة بالإحسان ولكنها وضعت موضع العقوبة ، كقوله : {فبشرهم بعذاب أليم} ؛ وكان اليهود يزعمون أن المسلمين مستوجبون للعقوبة ، فقيل لهم : { مَن لَّعَنَهُ اللّهُ } شر عقوبة في الحقيقة من أهل الإسلام في زعمهم ، { وَغَضِبَ عَلَيْهِ } وعذبه ، { وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } أي : الشيطان ، أي : عاقبهم بسبب مخالفتهم إياه ، بأن جعلهم عباد الشيطان . { أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً } جعلت الشرارة للمكان ، وهي لأهله للمبالغة ، { وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } عن قصد الطريق الموصل إلى الجنة .
{ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } أي : دخلوا كافرين وخرجوا كافرين ، وتقديره ملتبسين بالكفر لا منفكين عنه ، وكذلك قد دخلوا وهم خرجوا منه من الأمور كافرين ، ومعناه : لا يزايلهم الكفر ، كانوا ملازمين للأمور أم تاركبها . { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } من النفاق .
{ وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ، قيل : الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم ؛ والمسارعة في الشيء : الشروع فيه ، بسرعة عن فواته عنهم ، لأن الهوى قادهم إليه ، { وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لبيس شيئا عملوه .
{ لَوْلاَ } هلاَّ { يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } هذا ذم للعلماء ، والأول للعامة ؛ وعن ابن عباس : ({هي أشد آية في القرآن ، حيث أنزل تارك النهي عن المنكر منزلة مرتكب المنكر}) .
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } روي أن اليهود لما كذبوا رسول الله كف الله ما بسط عليهم من السعة ، وكانوا من أكثر مالا ؛ فعند ذلك قال فنحاص : يد الله مغلولة ، ورضي بقوله الآخرون ، فأشركوا فيه ، وغلُّ اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، ومنه قوله : {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} ، و[ من ] لم ينظر في علم البيان تحير في تأويل أمثال هذه الآية ؛ وقوله : {غلت أيديهم} دعاء عليهم بالبخل ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله ؛ وقال بعض أهل المعاني قولهم : ({يد الله مغلولة}) قلَّة الثقة بوعد الله ، واطمئنانهم بمكاسبهم وما في أيديهم ، وقوله : {بل يداه مبسوطتان} قيل : نعتيه نعمة الدين ونعمة الدنيا ، قالوا : النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة . { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } تأكيد للوصف بالكرم ، ودلالة على أنه لا ينفق إلاَّ على مقتضى الحكمة . { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } أي : يزدادون عند قيام الحجة طغيانا وكفرا بردهم لها . { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } عقوبة وعذابا معجلاً لهم ؛ وأما من عادى أعداء الله ، أو عادوه على دينه ، فذلك ابتلاء يبتلي به من يشاء ، وله زيادة ثواب إن صبر ، وزيادة دركات عذاب لمن كفر . { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ } كلما أرادوا حرب الرسول وإثارة شرٍ عليه ، ردهم الله بأن أوقع بينهم منازعة كفَّ بها عنه شرهم ، لأنهم تجمعهم كلمة الحق . { وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً } ويجتهدون في دفع الإسلام ، { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } .
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ } وقرنوا إيمانهم بالتقوى . { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } أقاموا أحكامها وحدودها وما فيها ، وإلاَّ فهما مستقيمان في الحقيقة بإقامة الله إياهما من غير إقامتهم إياهما ، وإقامته (لعله) القيام به ، والذب عنه . { وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ } من سائر كتب الله ، لأنهم مكلَّفون الإيمان بجميعها فكأنما أنزلت إليهم ، وقيل : هو القرآن ، وقيل : هو كل حجة من حجج الله قامت عليهم ، من حجة عقل أو غيره . { لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } حلالا طيبا ، يعني : من الثمار ، أو من ما أنزل من السماء من رزق . { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } يعني : الزرع ، أو هذا عبارة عن التوسعة ؛ ودليل الآية على أن العمل بطاعة الله سبب لسعة الرزق ؛ وهو كقوله : {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} ، {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} ، {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ……) الآية ، {وأن لو استقاموا على الطريقة …) الآية ، ومعنى هذه الآيات مخصوصة لأهل الطاعة ، ضاق عليهم الرزق أو اتسع ، (لعله) ولا يكون رزق المؤمن إلا واسعا وإن ضاق ، لأن ثوابه الجنة ، ولا يكون رزق الكافر إلاَّ ضيِّقا ، لأن الدنيا متاعها قليل ، كما قال : {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} . { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } قيل : هي الأمة المؤمنة ، عادلة غير غالية ولا مقصَّرة ، { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } وكثير منهم ما أسوء عملهم .
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } جميع ما أنزل إليك ، غير مراقب في تبليغه أحدا ، ولا خائف أن ينالك مكروه . { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } وإن لم تُبلع جميعه كما أمرتك ، { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } فلم تبلغَّ إذا ما كلفتك من أداء الرسالة ، ولم تؤد منه شيئا في الحقيقة ، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض ؛ فإذا لم تؤد بعضها ، فكأنما أغفلت أداءها جميعا ، كما أن من لم يؤمن ببعضها ، كان كمن لا يؤمن بكلِّها ، لكونها في حكم شيء واحد ، لدخولها تحت خطاب واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلَّغ ، ولا مؤمنا به غير مؤمن به ، هذا ما لا يجوز ، { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } من إغوائهم وإضلالهم إياك ، { إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } لا يمكنهم ما يريدون من دين ولا دنيا .
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ } في الحقيقة على دين ولا دنيا يعتدُّ ، حتى يمسى شيئا لبطلانه ، لأنهم خسروا الحالين ، وإنما هم فيما هم عليه من أمر دنياهم وهمية لا حقيقة لها ، بمنزلة اللهو واللعب الذي لا يثمر فائدة ، بل يثمر التعب والتعذيب . { حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم } أي : القرآن أي : تقيموا أحكامها وما يجب عليكم فيهل ، { مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } بكفرانهم بما فيه ، { فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } فلا تتأسف عليهم فإن ضرر ذلك يعود عليهم .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } بألسنتهم ، { وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى } قيل : ارتفع ({الصابئون}) بالابتداء . { مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } بقلوبهم ، { وعَمِلَ صَالِحاً } بالتوحيد ، وصدق إيمانه بالعمل الصالح ، { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } (لعل) بالتوحيد ، { وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً } ليقفونهم على ما يأتون (لعله) ويذرون في دينهم ، { كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ } بما يخالف هواهم ، وبضادُّ شهواتهم من مشاقِّ التكليف ، والعمل بالشرائع . { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ففريق شأنهم التكذيب ، وفريق شأنهم القتل .
{ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } حسبوا أن لا يصيبهم من أمر الله عذاب بسبب التكذيب والقتل لأنبياء الله ؛ أو حسبوا أن لا يكون التكذيب والقتل معصية ، بما خيَّل لهم الشيطان ، { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } فعموا عن الحق باتبِّاع أهوائهم ، { ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ } لمَّا تابوا ؛ { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } من حيث أنهم ارتدوا على أدبارهم ، { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } فيجازيهم بحسب أعمالهم .
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } لم يفرِّق عيسى بينه وبينهم ، في أنه عبدٌ مربوب . { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ } في عبادته غير الله ، شرك الجحود أو شرك الطاعة ، { فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ } التي هي دار الموحدِّين المطيعين ، { وَمَأْوَاهُ } ومرجعه { النَّارُ } التي أعدت للكافرين ، { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ينصرهم ويحميهم من عذاب الله ويدخلهم الجنة .
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } أي : ثالث ثلاثة آلهة ، { وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ } أي : وما إله قطُّ في الوجود ، إلاَّ إله موصوف بالوحدانية ، لا ثاني له ، وهو الله وحده لا شريك له ؛ { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ } بلسان المقال أو بلسان الحال ، { لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدارين .
{ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } أفلا يتوبون بعده هذه الشهادة – المكررة عليهم بالوحدانية لله وبإشراكهم به – وهذا الوعد الشديد مما هم عليه ، وفيه تعجب من إصرارهم . { وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر لمن تاب .
{ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ } فيه نفي الألوهية ، { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } أي : ما هو إلاَّ رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله ، لم يكن منه – لأنه إله لله – إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى على يده ، { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي : وما أمه أيضا إلاَّ كبعض النساء المصدِّقات للأنبياء ، المؤمنات بهم ، { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ } لأن من احتاج إلى الاغتذاء وما يتبعه من الهضم ، والنقص ، لم يكن إلاَّ يكن جسما مركبا من الجسم وعظم يدلُّ علمه على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام . { انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ } أي : الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان ما هم عليه من الكفر ، { ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمُّله بعد هذا البيان .
{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } كل ما يعبد من دون الله من هوى الأنفس وغيرها ، وهذا شاهد ثانٍ لا يملك لعامله ضرا ولا نفعا . { وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } القادر على الضر والنفع .
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } الغلوُّ : محاولة الحدِّ ، فغلُوُّ النصارى رفعه فوق قدره باستحقاق الألوهية ؛ ؛ وغلوُّ اليهود وضعه عن اسنحقاق النبوَّة . { غَيْرَ الْحَقِّ } أي : علوَّا باطلا ، وقوله {غير الحق} أي : في دينكم {لعله) المخالف للحق بأنهم خالفوا الحقَّ (لعله) في دينهم ، لأن الغلو في الدين غلوان : حقٌّ ، وهو أن يفحص عن حقائقه . وينقش عن أباحر [ كذا ] معانيه ، ويجتهد في تحصيل حججه ، كما يفعل المتكلِّمون من أهل العدل والتوحيد ، وغلوٌّ باطلٌ وهو أن يتجاوز الحقَّ ، ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة وإتباع الشبهة ، كما يفعل أهل الأهواء والبدع . { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } عن قصد السبيل .
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } أي : أنزل لعنهم على ألسنتهما بما أوحي إليهما ، { ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } ذلك اللعن بعصيانهم واعتدائهم ؛ ثم فسَّر المعصية والاعتداء بقوله : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ } لا ينهى بعضهم بعضا { عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } وفيه دليل على أن ترك المنكر من العظائم .
{ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } بئس ما قدموا من العمل لأنفسهم في معادهم ، { أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ } لبئس شيئا قدموه لأنفسهم ، {أن سخط الله عليهم} أي : موجب سخط الله أبد الآباد ، وهذا مُذ قارفوا المعصية أعظم شيء عليهم ، كما أن رضاه عن المؤمنين أبد الآباد أكبر شيء . { وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } (لعله) لا محيد لهم عنه في الدنيا ولا في الآخرة ، إلاَّ بالتوبة إذا تابوا في الحياة .
{ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله } إيمانا خالصا بلا نفاق ، { والنَّبِيِّ } محمد r ، { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ } يعني : القرآن ، { مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء } ما استقام لهم أن يتخذوا المشركين أولياء ، يعني : أن موالاة المشركين تدلُّ على نفاقهم ، { وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } متمرِّدون في كفرهم ونفاقهم ، ومعناه : ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله وبموسى وبما أنزل إليه ، يعني : التوراة ، ما اتخذوا المشركين أولياء ، كما لم يوالهم المسلمون ؛ {ولكن كثيرا منهم فاسقون} خارجون عن دينهم ، فلا دين لهم يُعتدُّ به أصلا .
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ } إذا اعتبرت أحوالهم ، { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى } لم يُرد به جميع النصارى ، لأنهم في عداوتهم للمسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم ، وتخريب بلادهم ، وهدم مساجدهم ، لا ولا كرامة لهم ، بل الآية فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه ؛ وقيل : نزلت في جميع اليهود وجميع النصارى ، لأن اليهود أقسى قلبا ، والنصارى ألين قلبا منهم (لعله) وأقل مظاهرة . { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } أي : سبب مودة النصارى للذين آمنوا ، لأن منهم علماء وعبَّادا يعطفون قومهم لموادة المؤمنين ، { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } لا يتعظَّمون عن الإيمان ولإذعان للحق ، وفيه دليل على أن العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير .
{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } وصفهم برقَّة القلوب ، وأنهم يبكون عند استماع القرآن ؛ { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا } بمحمد r وبما جاء به ، { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } مع المحقين المصدِّقين الصادقين .
{ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ } إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان ، مع قيام موجبه ، وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين ، { وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } في سعيهم وجزائهم .
{ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } لأنه من سلك طريق الجنة صار كأنه فيها ، كقوله لصدِّهم : {فما أًصبرهم على النار} ، أو لأن مصيرهم في الآخرة إليها . { وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ } الذين أحسنوا النظر والعمل ، واعتادوا الإحسان في الأمور.
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } هؤلاء ضد الأولين .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 0 وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } لأن الإيمان به يوجب تقواه وامتثال أمره .
{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } اللغو في اليمين : الساقط الذي لا يتعلَّق به حكم ، وهو أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك ، وليس كما ظن ، وقيل : ما يجزي على اللسان بلا قصد ، وقيل : هو أن يحلف الرجل ببعض اليمين ، ثم يمسك عن تمامها خوف الإثم ، فهذا هو اللغو الذي لا يؤاخذ به ، وأما من أتم اليمين فقد عقدها ، وقد وجبت الكفارة عليه إن كان كاذبا ؛ وليس هو كما قيل : إن اللغو في الإيمان مثل قول الرجل : ({لا والله}) ، ({وبلى والله}) ، ولا يريد بهذا يمينا ، وأن هذا اللغو لا يؤاخذ به ، ولكن كلُّ ما حلف به الإنسان فهو لها أو عليه . { وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } أي : بتعقيدكم الإيمان ، وهو توثيقها ؛ والعقد : العزم على الوفاء ، والمعنى : {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم} إذا حنثتم ، وإذا كان لا يؤاخذ بالإيمان من غير عقد ، فكذلك لا يثاب على أيمانه بغير عقد ؛ { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } وهو أن يغدِّيهم ويعشيِّهم ؛ وقيل : يجوز أن يعطيهم بطريق التمليك ، وهو ما حُدَّ في الشرع ، { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قيل : الأوسط (لعله) الخبز والخلَّ ، وإلاَّ على الخبز (لعله) النجب ، والكلُّ مجزي . { أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } فبُّروا فيها ولا تحنثوا ، إذا لم يكن الحنث خيرا ، قيل : أراد به ترك الحلف ، أي : (لعله) لا تحلفوا ، وقيل : أراد به إذا (لعله) حلفتم فلا تحنثوا ، والمراد به حفظ اليمين عن الحنث ؛ وقيل : احفظوا كيف حلفتم بها ، ولا تنسوها تهاونا بها ، وقيل : إذا حلف وحنث ليحفظها حتى يكفِّرها ، { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أعلام شريعته وأحكامه ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته فيما علَّمكم ، فتعملوا به .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } القمار ، { وَالأَنصَابُ } الأصنام لأنها تُنصب فتعبد ، { وَالأَزْلاَمُ } وهي القداح التي مرَّ ذكرها ، { رِجْسٌ } نجس أو خبيث مستقذر { مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } لأنه يُحمل عليه ، فصار كأنه عمله ؛ { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } ذكر ما يتولد منهما من الوبال ، وهو وقوع التعدي والتباغض ، من أصحاب الخمر والقمر ، وما يؤديان إليه من الصدَّ عن ذكر الله ، وعن مراعاة أوقات الصلاة وخُص من بين الذكر لزيادة درجتها ، كأنه قال : وعن الصلاة خصوصا . وانظر إلى أحوال الشيطان كيف يزين فعل معصية لتكون سببا لركوب معاصي ، وتركا لما فرض الله ، وعقوبة في الدنيا ، وهي العداوة والتباغض ، وإضاعة المال في المعاصي ، وعذاب النار في الآخرة لمن لم يتب ؛ { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } ؟ من أبلغ ما يُنهى به ، كأنه قيل : قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والزواجر ، فهل أنتم مع هذه الصوارف منهون ؟ وأنتم على ما كنتم عليه ، كأن لم توعظوا أو لم تنزجروا .
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ } الشيطان ، وكونوا حذرين منه ، لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى عمل الحسنات واتِّقاء السيئات ؛ { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن الطاعة والحذر { فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } أي : ليس على رسولنا إلاَّ إبلاغكم بالآيات البينات .
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } من الخمر قبل التحريم ، { إِذَا مَا اتَّقَواْ } الشرك { وَّآمَنُواْ } بالله { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } بعد الإيمان ؛ { ثُمَّ اتَّقَواْ } الخمر والميسر بعد التحريم ، { وَّآمَنُواْ } بتحريمها ؛ { ثُمَّ اتَّقَواْ } سائر المحرمات ؛ أو الأول : عن الشرك ، والثاني : عن المحرمات ، والثالث : عن الشبهات ، أو لأنهم أرادوا بأكل الطعام الحلال وجه الله ، فلم تبق عليهم تباعه ؛ ليس كمثل الذين طعموا وتقووا به على المعاصي كقوله : {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} ، { وَّأَحْسَنُواْ } ولم يسيئوا { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } معنى يبلوا : يختبر ، وهو من الله تعالى لإظهار ما علم من العبد على ما علم ، لا ليعلم ما لم يعلم ، { لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فالوعيد لا حق به ، فإن من لا يملك حاشيه الصبر في مثل ذلك ، ولا يراعي حكم الله فيه ، فكيف به قيما تكون النفس أميل إليه وأحرص عليه
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } أي : مُحرمون ، { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً } أي : ذاكرا لإحرامه ، أو عالما أن ما يقتله مما يُحرم قتله عليه ؛ { فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } معناه : أنه عليه مثل ذلك الصيد من النعم ، وأراد ما يقرُب من الصيد المقتول ، شبها من حيث الخلقة لا من حيث القيمة ، { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } حكمان عادلان ، { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } ليذوق سوء عاقبته هتكه لحرمة الإحرام ، لعل ذلك يكون ردعا ؛ والوبال : المكروه والضرر الذي يُنال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه ، { عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف } قبل التحريم ؛ { وَمَنْ عَادَ } إلى قتله بعد ما بان له التحريم ؛ { فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ } بالجزاء ، وهذا من أشد الوعيد ، { وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } لمن جاوز الحدود .
{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } وللمسافرين ، { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
{ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } سُمي البيت الحرام : لأن الله حرَّمه وعظم حرمته ، قال النبي r : ({إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض}) على ما يُرى عنه ؛ { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } أي : انتعاشا لهم في أمر دينهم ، { وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ } والشهر الذي يؤدي فيه الحج ، { وَالْهَدْيَ } ما يُهدى إلى مكة ، { وَالْقَلاَئِدَ } والمقلد منه خصوصا ، وهو البدن فالثواب فيه أكثر ، وبها الحج معه أظهر ؛ { ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : جعل ذلك لتعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السماوات وما في الأرض ، وكيف لا ؛ وهو بكل شيء عليم . { اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } لمن عصاه حيا وميتا { وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب وآمن وعمل صالحا ، ثم اهتدى .
{ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ } تشديد في إيجاب القيام بما أمر به ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه التبليغ ، وقامت عليكم الحجة ، ولزمتكم الطاعة ، وما بقي إلا اختياركم فلا عذر لكم في التفريط ، { وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } فلا يخفى عليه نفاقكم ووفاقكم .
{ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ } وهو كلُّ ما زجر عنه الشرع ، { وَالطَّيِّبُ } كلُّ ما أباحه ؛ فلا تسُّووا في الحكم بينهما ، { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } ومالت نفسك إليه ، { فَاتَّقُواْ اللّهَ } وآثروا الطِّيب وإن قلَّ على الخبيث وإن كثر ؛ وقيل : هو علم في حلال المال وحرامه ، وصالح العمل وطالحه ، وجيِّد الناس ورديئهم ، { يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } أي : العقول والخالصة ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
كانوا يسألون النبي r عن أشياء امتحانا ؛ فنزل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } معانيها وتأويلها ، { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي ، وهو ما دام الرسول بين أظهركم ، تبد لكم تلك التكاليف التي تسؤكم ، أي : تغمُكم وتشقُّ عليكم ، وتؤمروا بتحمُّلها ؛ فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها ، { عَفَا اللّهُ عَنْهَا } عفا الله عما سلف من مسألتكم ، { وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاقب إلا بعد الإنذار .
{ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } صاروا بسببها كافرين ، قيل : ({إن الله فرض فرائض فلا تسبقوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وترك أشياء ، فلم ينزل بها حكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها}) .
{ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ } أي : ما أنزل الله ، ولا أمر به ، { وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } قيل : كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن ، آخرها ذكر ، شقوا أذنها ، وامتنعوا من الانتفاع بها ، وسمَّوها ({بحيرة}) ؛ وكان الرجل يقول : إذا قدمت من سفري ، أو برئت من مرضي فناقتي سائبة ، فلا عقل بينه وبينه . وكانت الشاه إذا ولدت سبعة أبطن ، فإن كان السابع ذكرا ، أكله الرجال ، وإن كان أنثى أرسلت في الغنم ؛ وكذا إن كان ذكرا وأنثى ، وقالوا : وصلت أخاها ، وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن ، قالوا : قد حمى ظهره ، فلا يُركب ، ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من جاء ، ولا يرعى ، ومعنى ({ما جعل}) : ما شرع ذلك ولا أمر به ، { وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } بتحريمهم ما حرموا ، { يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ } في نسبتهم هذا التحريم إليه ، { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } أن الله لم يحرم ذلك وهم عوامُّهم ، أو أن صاحب العقل السليم لا يحرم ما أحله الله .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } أي : هلُّموا إلى حكم الله ورسوله ، بأن هذه الأشياء غير محرمة ، { قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا } أي : كافينا ذلك ؛ { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } أي : لا يعلمون شيئا من الأشياء في الحقيقة من أمر دين ولا دنيا ، والاقتداء إنما يصحُّ بالعالم المهتدي ، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } أي : عليكم إصلاح أنفسكم ، وتزكيتها وتقويمها على الحجة ، { لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } قيل : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة ، يتمنون دخولهم في الإسلام ، فقيل لهم : {عليكم أنفسكم} وما كلفتم من إصلاحها ، لا يضركم ضلالهم في دينكم ، إذا كُنتم مهتدين ، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، { إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فيه وعد امن اهتدى ووعيد لمن ضل
{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : مرض الموت ، { حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } من أهل دينكم ، { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } من غير أهل دينكم ، قيل : هو منسوخ { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ } .
{ فَإِنْ عُثِرَ } اطُّلعَ { عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا } استوجبا { إِثْماً } بخيانتهما بأيمانهما الكاذبة إثما ، { فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ } من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه : من الذين جُني عليهم ، وهم أهل الميت وعشيرته ، { الأَوْلَيَانِ } الأحقان بالشهادة ، لقرابتهما ومعرفتهما ، { فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا } في أيماننا وقولنا : إن شهادتنا أحقُّ من شهادتهما ، { إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } .
{ ذَلِكَ أَدْنَى } أقرب { أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } كما حملوها بلا خيانة فيها ، أي : ذلك الذي حكمتما به من رد اليمين أجدر وأحرى أن يأتي الشاهدان بالشهادة على وجهها ، { أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } قيل : أن تردَّ اليمين على المدَّعين بعد أيمانهم ، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة ، وقيل : أي : تكرُّرُّ أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم ، فيفتضحوا بظهور كذبهم ؛ { وَاتَّقُوا اللّهَ } في الخيانة واليمين الكاذبة ، { وَاسْمَعُواْ } سمع قبول وإجابة ، { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } هو سؤال توبيخ لمن أنكرهم ، { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا } بإخلاص قومنا ، { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } أو بما أحدثوا بعدنا ، [و] دليله : {كنت أنت الرقيب عليهم} ، أو قالوا ذلك تأدبا ، أي : علمنا ساقط مع علمك ، أو مغمورٌ ؛ فكأنه لا علم لنا ، والمعنى : أي أنت الذي تعلم ما غاب ونحن لا نعلم إلاَّ ما نشاهد .
{ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } وذكر النعمة شكرها ، وشكرها إظهارها ، { وَعَلَى وَالِدَتِكَ } حيث أوجدتها ، وكانت سببا لإيجادك ، فكانت نعمتي عليها نعمة عليك ؛ أو بما عمهما به جميعا من النعمة ؛ ثم ذكر النعم فقال : { إِذْ أَيَّدتُّكَ } أي : قويتك ، قال الغزالي : ({التأييد : هو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل ، وبقوة البطش ومساعدة الأسباب من خارج}) ؛ و (لعله) نعمة التأييد { بِرُوحِ الْقُدُسِ } لكل مؤمن ، إلاَّ من يأباها ولم يقبلها ، {بروح القدس} بجبريل u ، وأضافه إلى القدس ، لأنه سبب الطهر من أدناس الآثام ، دليله : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ } أي : تكلِّهم طفلاً ، إعجازاً ، { وَكَهْلاً } وتبليغا . { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ } أي الخطَّ { وَالْحِكْمَةَ } أي : العلم والفهم ، { وَالتَّوْرَاةَ } يحتمل أنه علمه تنزيلها ، ويحتمل عِلُمه بها إيمانه بها ، { وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ } تقدر وتصور { مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ } كصورة { الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً } حيا يطير { بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى } من القبور أحياء { بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ } منعت { بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ } حين همُّوا بقتلك بسبب { إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا } ما هذا { إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } يعني : ما جاءوا بحق .
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ } أي : ألهمتهم ، وقذفت في قلوبهم { إِلَى الْحَوَارِيِّينَ } الخواص أو الأصفياء ، { أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } مخلصون ، من ({أسلم وجهه}) .
{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هل يفعل { أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إذ الإيمان يوجب التقوى .
{ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } أي : نعلم صدقك عيانا ، كما علمناه يقينا ، { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } بما عاينا ؛ ولما كان السؤال لزيادة العلم لا للتَّعنت ، كما سأل إبراهيم إذ قال : {رب أرني كيف تحيي الموتى} ، { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ } أصله يا الله ، فحُذف ({الياء}) وعوض منه ({الميم}) { رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً } العيد : السرور العائد ، { لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } خير من يرزق ، لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض .
{ قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ } من لم يُعط مثل ما أُعطُوا ، { عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ } في الدارين .
{ وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } ؟ أي : أطيعوني وأمي في غير طاعة الله ، لأن من أطاع أحداً فيما أمره به ، على غير طاعة الله ؛ فكأنه في المعنى قد أتخذه إلها ، وعبده من دون الله ؛ { قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } ولم يقل : ({لم أقل}) رعاية لأدب الحضرة ؛ ومن أمر أحدا بمعصية ، فكأنه قال له أن يتخذه إلها من دون الله ، هكذا في المعنى . { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } ذاتك ، ونفس الشيء : ذاته ؛ وقيل (لعله) تعلم ما أعلم ، ولا أعلم ما تعلم ؛ وقيل : لا أعلم ما في علمك ؛ وقيل : تعلم ما عندي ، ولا أعلم ما عندك ؛ { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } .
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ } قد نزه نفسه عن أن يقول لهم خلاف أمره : { أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } على أعمالهم { مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } الحفيظ { وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ o إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
{ قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ } بأداء ما أوجبه عليهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } بما جازاهم به ، أو بما قضى به لهم وعليهم . { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
{ لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .