بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} تراجعكما الكلام؛ وهو على تغليب الخطاب، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} للأقوال والأحوال. {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} على الحقيقة، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} فلا تشبه بهن في الحرمة، {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ} ]إذ الشرع[ أنكره، {وَزُورًا} محرفا عن الحق، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)} لما سلف منه مطلقا، ]أو[ إذا تيب عنه (لعله) مع إيجاب الكفارة لمن أراد إدراك زوجته.
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي: إلى قولهم بالتدارك، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي: فعليهم {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أن يستمتع كل من المظاهر والمظاهر عنها بالآخر، لعموم اللفظ، {ذَلِكُمْ} أي: ذلكم الحكم بالكفارة {تُوعَظُونَ بِهِ} لأنه يدل على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة، ويردع عنه {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: فرض ذلك لتصدقوا بالله ورسوله، في قبول شرائعه ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} لا يجوز تعديها {وَلِلْكَافِرِينَ} أي: الذين لا يقبلونه {عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ} يخالفون الله {وَرَسُولَهُ} يعادونهما، فإن كلا من المتعاديين في حد الآخر؛ أو يضعون ويختارون حدودا غير حدودهما، {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ} أخزوا وأهلكوا؛ وأصل الكبت: الكب {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: كفار الأمم الماضية؛ {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)} يذهب عزهم وتكبرهم. {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي: على رؤوس الأشهاد، تشهيرا بحالهم، وتقريرا لعدائهم، {أَحْصَاهُ اللَّهُ} أحاط به عددا، لم يغب عنه منه شيء، {وَنَسُوهُ} لكـثرته، أو تهاونهم به، وتمـاديهم عن الـتوبة عنه، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}لا يغيب عنه شيء.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} كليا وجزيئا، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} ما يقع من تناجي ثلاثة، واشتقاقه من النجوة: وهو ما ارتفع من الأرض، فإن السرائر مرفوع إلى الذهن، لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه، {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} بالعلم والجزاء لهم وعليهم؛ إن كان خيرا التوفيق لهم، وإن كان شرا فالخذلان،{وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} يعلم ما يجري بينهم، وما يجري منهم، {أَيْنَ مَا كَانُوا} فإن علمه بالأشياء ليس لقرب مكني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تفضيحا لهم، وتقريرا لما يستحقونه من الجزاء، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} لأن نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل على سواء.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} نزلت في المنافقين، وذلك أنهم يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، يوهمون المؤمنين أنهم يناجون فيما يسوءهم،{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} أي: بما هو إثم وعدوان للمؤمنين، وتواصوا بمعصية الرسول؛ {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} فيما بينهم: {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} هلا يعذبنا الله بذلك لو كان نبيا، {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} كما يفعل المنافقون، {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)} فيما تأتون وتذرون، فيجازيكم عليه.{إِنَّمَا النَّجْوَى} أي: النجوى بالإثم والعدوان {مِنَ الشَّيْطَانِ} فإنه المزين لها، والحامل عليها، والداعي لها، {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} توسعوا فيها، وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم: افسح عني، أي: تنح، فإنهم كانوا يتضامون به تنافسا على القرب منه، وحرصا على استماع كلامه، {فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} فيما تريدون الفسح فيه من المكان والرزق والصدر وغيرها. {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} ارتفعوا عن المجلس (لعله) قال أبو سـعيد: »إن النشـوز هو: فرض الإقامة«. {فَانْشُزُوا} (لعله) من غير توقف؛ وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ} عن المعاصي بالطاعة، {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} ويرفع العلماء منهم خاصة درجات، بما جمعوا من العلم والعمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي للعمل المقرون به مزيد رفعة؛ ولذلك يقتدى بالعالم في أفعاله، ولا يقتدى بغيره، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} تهديدا لمن لم يمتثل الأمر، أو استكرهه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فتصدقوا قدامها؛ وفي هذا الأمر تعظيم الرسول، وانفاع الفقراء، وانهي عن الإفراط في السؤال، والميز بين المخلص والمنافق، ومحب الدنيا ]ومحب الآخرة[؛ واختلف ]في[ أنه للندب، أو للوجوب؛ وقيل: إنه منسـوخ بقوله: {أأشفقتم.{. {ذَلِكَ} أي: ذلك التصدق {خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي: لأنفسكم من الزينة وحب المال، {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}؟ أخفتم الفقر من تقديم الصدقة؟ والمعنى: أخفتم العيلة والفاقة إن قدمـتم؟ {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بأن رخـص لكم أن لا تفعـلوه، {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} فلا تفرطوا في أدائهما، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في سائر الأوامر، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)} .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا} والوا،{قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} لا من المؤمنين ولا من المنافقين، ولكنهم من الجاحدين؛ ويحتمل: ما هم منكم ولا أنتم منهم، ولكنهم خارجون بنفاقهم وفسقهم عن اسم الإيمان الحقيقي، {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)}أن المحلوف عليه كذب، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)} فتمرنوا على سوء العمل، وأصروا عليه، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} الذي أظهروه، {جُنَّةً} وقاية دون دمائهم وأموالـهم، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ} لأنهم لم يريدوا به وجهه، وإن أرادوا به وجهه مع المخالفة بغيره فلا ينفعهم، لأنه لا تقوم طاعة من عاص، {شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} أي: لله على أنهم مسلمون، {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} في الدنيا أنهم منكم، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} وهم خالون من كل شيء، لأن النفاق قد تمكن في نفوسهم، {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)} البالغون الغاية في الكذب، حيث يكذبون مع عالم الغيب والشهادة، ويحـلفون عليه. {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} استولى عليهـم وغلب، {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} لا يذكرون الله بقلوبهم،{أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ}جنوده وأتباعه (لعله) وأنصاره على الضلال،{ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}لأنهم فوتوا أنفسهم النعيم المؤبد، وعرضوها للعذاب المخلد.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بالمخالفة لهما، {أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)} في جملة من هو أذل خلق الله، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} بالحجة والغلبة والنصر، لأن من كان عونه الله تعالى فجدير أن لا يغلب، {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}.
{لَا تَجِدُ قَوْمًا} (لعله) في الكون {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} لا ينبغي أن يوادهم، {وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} أثبته فيها، فلم يزايلها (لعله) ما لم يغيروه، كما ثبت المرض في قلوب الكافرين فلم يزايلهم ما لم يزيلوه، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي: من عند الله، وهو نور القلب، أو القرآن، أو النصر؛ وقيل: الضمير للإيمان، فإنه سبب لحياة القلب، أو للحياة الحقيقية، {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بما عملوه مما فرضه عليهم، ونهاهم عنه، وما توسلوا به إليه، {وَرَضُوا عَنْهُ} بقضائه، أو بما أوعدهم به من الثواب، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} جنده وأنصار دينه على الشيطان، (لعله) وحزبه، {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} الفائزون بخير الدارين، السالمون من عذابهما.