بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} بقبضة قدرته التصرف في الأمور كلها {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قدرهما. {لِيَبْلُوَكُمْ} ليعاملكم معاملة المختبر بالتكليف، {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قيل: أحسن عقلا، وقيل: أصوبه وأخلصه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} لمن تاب منهم.
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} قيل: بعضها فوق بعض، { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} هو الاختلاف وعدم التناسب من الفوت؛ لأن كلا من المتفاوتين فات عن بعض ما في الآخر؛ والإشعار بأنه تعالى يخلق مثل ذلك بقدرته الباهرة رحمة وتفضلا؛ وأن في إبداهما نعما جليلة لا تحصى، والخطاب فيها للرسول، أو لكل مخاطب، وظاهر الآية كأن الخطاب فيها للرسول، أو لكل مخاطب، وظاهر الآية كأن الخطاب في خلق السماوات، وفي المعنى يعم في جميع ما خلق، لقوله: { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}. وقوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) }متعلق به على معنى السبب، أي: قد نظرت إليها مرارا، فانظر إليها مرة أخرى، متأملا فيها، لتعاين ما أخبرت به من تناسبها واستقامتها واستجماعها، وعدم تفاوتها، وما ينبغي لها. والفطور: الشقوق، والمراد الخلل، ومن فطره: إذا شقـه. {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي: رجعتين أخـريين {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} بعيدا من إصابة المطلوب، كأنه طرد عنه طردا بالصغار، {وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} كليل من طول المعاودة، وكثرة المراجعة.
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} أقرب السماوات إلى الأرض، {بِمَصَابِيحَ} بالكواكب المضيئة بالليل إضاءة السرج قيها، {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} وجعلنا لها فائدة أخرى، وهي رجم أعدائكم؛ وقيل: معناها رجوما وظنونا لشياطين الإنس وهم المنجمون، {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)} في الآخرة.
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} صوتا كصوت الحمير، لأنه أقبح الأصوات، {وَهِيَ تَفُورُ (7)} تغلي غليان المرجل بما فيه. {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} تتفرق غيظا عليهم، وهو تمثيل إشعاعا بهم، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} جماعة من الكفرة متناسبون في العمل وسوء النية، { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)} يخوفكم هذا العذاب، وهو توبيخ وتبكيت. {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)} أي: فكذنا الرسل والإرسال رأسا، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال.
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} كلام الرسل فتقبله من غير بحث وتفتيش؛ اعتمادا على ما لاح من صدقهم بالمعجزات، {أَوْ نَعْقِلُ} فنتفكر في حكمه ومعانيه بفكر المستبصرين، {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) } فأسحقهم الله سقا أي: أبعدوا من رحمة الله.
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} يخافون مكره واستدراجه وعذابه غائبا عنهم، لم يعاينوا بعد؛ أو غائبين عنه؛ والإيمان بالمعاين لا جدوى له كالإيمان بالغائب؛ فإنه بمنزلة قبول الشهادة والتحقيق لها في هذا المعنى، لأنه لا يجوز خلاف ما أخبر به، كما قال:{ومَن أَصْدَقُ من الله قيلاً} ، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لذنوبهم، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} تصغر معه لذائذ الدنيا.
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} ألا يعلم من خلق وأوجد الأشياء السر والجهر، {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن؛ أولا يعلم الله من خلقه وهو بهذه المثـابة. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} لينـة يسهل لكم السـلوك ]فيها[، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} جوانبها أو جبالها؛ متفكرين ومعـتبرين، {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} مما خلقه رزقا لكم في الأرض، {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} المرجع.
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني: الملائكة الموكلين على تدبير هذا العالم؛ أو الله تعالى على تأويل »من في السماء« أمره أو قضاؤه، {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} فيغيبكم فيها كما فعل بقارون، {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)} تضطرب، والمور: التردد في المجيء والذهاب. {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أو ريحا ذات أحجار؛ أي: يمطر عليكم حصبا، {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)} كيف إنذاري إذا شاهدتموه من حيث لا ينفع العلم. {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)}إنكاري عليهم بإنزال العذاب، وهو تسلية للرسول.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، فإنهن إذا بسطنها صففن قوائمها، {وَيَقْبِضْنَ} أي: يضممنها إذا ضربن بها جنوبهن وقتا بعد وقت، للاستظهار به على التحول، {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجو خلاف الطبع، {إِلَّا الرَّحْمَنُ} الشاملة رحمته كل شيء، فإنه خلقهن على أشكال وخصائص، هيأهن للجري في الهواء، ونفى سبحانه إمساك غيره لهن، لما كان هو المقدر لهن على الإمساك، لا نفسهن، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)} يعلم كيف يخلق الغرائب، ويدبر العجائب، وذلك من آيات الله العظام لمن اعتبر بها.
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} عديل قوله: {أو لم يروا}، على معنى: أولم تنظروا في أمثال هذه الصنائع فلم تعلموا قدرتنا على تعذيبكم بنحو خسف وإرسال حاصب؛ أم لكم جند ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه، فهو كقوله: {أم لهم آلهة تمنعهم مِّن دُونِنَا} إلا أنه أخرج مخرج الاستفهام، عن تعيين من ينصرهم، إشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم، {إِنِ الْكَافِرُونَ} بأي كفر كان، {إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)} لظواهر الأمور، ليسوا على شيء من حقائق أمر الدنيا والعقبى؛ وأصل الغرور: هو الخدعة.
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ} أي: من يرزقكم، {إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} بإمساك المطر، وسائر الأسباب المحصلة له إليكم، {بَلْ لَجُّوا} تمادوا {فِي عُتُوٍّ} عناد، {وَنُفُورٍ (21)} شراد عن الحق لتنفر طباعهم عنه.
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى} أي: يعثر (لعله) في قدم بكل ساعة، ويجر على وجهه لوعورة طريقه واختلاف إرادته؟، ولذلك قابله بقوله: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} قائما، سالما من العثار، {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} مستوي الأجزاء والجهة، والمراد تمثيل عابد الشيطان وعابد الله بالسالكين؛ ولعل الاكتفاء بما في الكتب من الدلالة على المسلك للإشعار بأن ما عليه عابد الشيطان لا يستأهل أن يسمى طريقا، كمشي المتعسف في مكان متعاد غير مستو؛ وقيل: المراد بالمكب: الأعمى، فإنه متعسف فينكب، وبالسوي: البصير.
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} لتسمعوا، {وَالْأَبْصَارَ} لتنظروا عجائبه، {وَالْأَفْئِدَةَ} لتتفكروا وتعتبروا، {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)} شكرا قليلا غير خالص لا جدوى له، لأنه ما دام ناقصا لم ينتفع به، وهو كقوله: {قليلا ما تذكَّرون} والشكر الكثير: هو أن يشكر في جميع الأحوال كلها، ليس في شيء، كما قال: {واذكروا الله كثيرا} أي: في جميع الأحوال بإشغالها فيما خلقت لأجله. {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} للابتلاء، {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} للجزاء.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} يعنون النبـي والمـؤمنين. {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ} أي: علم وقته {عِنْدَ اللَّهِ} لا يطلع عليه غيره، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)} بين الإنذار. {فَلَمَّا رَأَوْهُ} أي: الوعد {زُلْفَةً} ذا زلفة وقرب منهم بوصول دلائله، {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} بأن علت الكآبة على ظاهر الوجوه، {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)} تطلبون وتستعجلون، تفتعلون من الدعاء.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ} من المؤمنين {أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ} الذي أدعوكم إليه مولي النعم كلها، {آَمَنَّا بِهِ} للعلم بذلك، {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} للوثوق عليه والعلم بأن غيره بالذات لا يضر ولا ينفع، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)} منا ومنكم. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} غائرا في الأرض حيث لا تناله جبابتكم، {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} ؟ جار أو ظاهر تناله الدلاء.