سورة النحل

                    سورة النحل مكية وعدد آياتها 128     

بسم الله الرحمن الرحيم

كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة ، أو نزول العذاب بهم ، استهزاء وتكذيبا بالوعد ، فقيل لهم: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ} ، هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظرا ، لقرب وقوعه ، {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فلا تستعجلوا وقوع أمر الله ، والاستعجال : طلب الشيء قبل حينه. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} تعاظم بالأوصاف الحميدة عن أن يكون له شريك ، أو عن إشراكهم ، واتصال هذا باستعجالهم من حيث أن استعجالهم استهزاء وتكذيب ، وذلك من الشرك.

{يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ} بالوحي ، سماه روحا ، لأنه تحيى به القلوب من موت الجهل ، {مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} (لعله) من رسول ، أو رسول الرسول ، {أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} ، المعنى: أعلموا الناس قول:” لا إله إلا أنا فاتقون” ، أي: إنه في الحقيقة لا شيطان ولا نفس ولا هوى ولا دنيا ولا صنم ، ولا إله غيري ، {فَاتَّقُونِ} : فخافوني واعبدوني ، ولا تشركوا بي شيئا من هؤلاء ، ثم دل على وحدانيته ، وأنه لا إله إلا هو بما ذكر فيما لا يقدر عليه غيره ، من خلق السموات والأرض ، وأنهما أصل نعمة أهل الدنيا.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي: فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه ، مكافح لخصومه ، مبين لحجته ، بعد ما كان نطفة لا حس به ولا حركة ، أو فإذا هو خصيم لربه ، منكر على خالقه ، قائل: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } ، وهو وصف للإنسان بالوقاحة والتمادي في كفران النعمة.

وخلق له ما بد له من خلق البهائم لأكله وركوبه ، وجر أثقاله ، وسائر حاجاته ، وهو قوله:{ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا} أي: خلق الإنسان والأنعام ، ثم قال: {خَلَقَهَا لَكُمْ} أي: ما خلقها إلا لكم ، ثم بين بعض منافعها بقوله:{ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} عن البرد ، {وَمَنَافِعُ} ، وهي نسلها ودرها وظهورها وغير ذلك ، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يعني: لحومها ، {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} تردوها من مراعيها إلى مراحها بالعشي ، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} ترسلونها بالغداة إلى مسارحها.

من الله تعالى بالتجمل بها ، كما من بالانتفاع بها ، (لعله) لأنه من أغراض أصحاب المواشي ، لأن الرعيان إذا روحوها بالعشي ، وسرحوها بالغداة ، زينت بإراحتها وتسريحها الأفنية ، وفرحت أربابها وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس ، وإنما قدمت الإراحة على التسريح ، لأن الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون ، حافلة الضروع.

{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} ويفتح الشين أبو جعفر ، وهما لغتان في معنى المشقة ، وقيل: المفتوح مصدر : شق الأمر عليه شقا ، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع ، وأما الشق فالنصف ، كأنه تذهب نصف قوته لما يناله من الجهد . والمعنى: وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه لو لم تخلق الإبل ، إلا بجهد ومشقة ، فضلا أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم ، أو معناه: لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، وقيل: أثقالكم : أبدانكم ، ومنه الثقلان للجن والإنس ، { وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا } ، أي: بني آدم ، {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل ، وتيسير هذه المصالح.

{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ، وَزِينَةً} ، عطف على الأنعام ، أي: وخلق هؤلاء للركوب والزينة ، والآية سيقت لبيان النعمة . وخلق ما تعلمون من أصناف خلائقه ، وهو قوله:{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ومن هذا وصفه يتعالى عن أن يشرك به.

{وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} معناه: أن هداية الطريق الموصل إلى الحق عليه ، {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} ومن السبيل مائل عن الاستقامة ، وهي البدع والضلالات ، {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أراد هداية اللطيف بالتوفيق والإنعام بعد الهدى العام.

{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم} ، أي: منافع لكم ، لتبلغوا بها رضاه ، {مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} يعني: الشجر ، {فِيهِ تُسِيمُونَ} ، من سامت الماشية ، إذا رعت ، فهي سائمة ، وأسامها صاحبها ، وهو من السومة ، وهي العلامة ، لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض.

{يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ ، وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ولم يقل:”وكل الثمرات” ، لأن كلها لا يكون إلا في الجنة ، لأن النعمة لا تتم إلى في الجنة ، كما أن العذاب لا يجتمع على العصاة إلى في النار ، وإنما أنزل في الأرض بعض من هذا وهذا بشير ونذير للعالمين . {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيستدلون بها عليه وعلى قدرته ، وعلى فواكه الجنة ، والآية: الدالة الواضحة.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} جمع الآية وذكر العقل ، لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة ، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة.

{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ} معطوف على الليل والنهار ، أي: ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك ، {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ،  إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون.

{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} لأنه أرطب اللحوم ، ولأن الفساد يسرع إليه ، فيؤكل سريعا طريا خيفة الفساد ، ولإظهار قدرته في خلقه عذبا طريا في ماء زعاق ، {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً} هي اللؤلؤ والمرجان ، وهو مما تتحلى به النساء ، {تَلْبَسُونَهَا} المراد يلبسهم : لبس نسائهم ، ولكنهن إنما يتزين بها من أجلهم ، فكأنها زينتهم ولباسهم ، {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ} قيل: المخر :شق الماء {فِيهِ} في البحر ، {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} ، فضله يعم إرادة الدارين{كذا} ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على ما أنعم به عليكم.

{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ، وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً} طرقا ، {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى مقاصدكم ، أو إلى توحيد ربكم ، {وَعَلامَاتٍ} هي معالم طرق الدين والدنيا ، {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} .

{أَفَمَن يَخْلُقُ} أي: الله تعالى ، {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} ؟ أي: ما يعبدون من دون الله ، وسموها آلهة تشبيها بالله ، لأنهم جعلوا غير الله مثل الله في تسميته بإسمه والعبادة له ، فقد جعلوا الله(لعله) من جنس المخلوقات ، وشبيها بها ، فأنكر عليهم في ذلك بقوله : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}؟ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟ فتعروا فساد ما أنتم عليه.

{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم ، فضلا أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر ، وإنما أتبع ذلك ما عدد من نعمة تنبيها على أن وراءها ما لا ينحصر ولا ينعد ، {إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} حيث رضي منكم بالإيمان بها جملة ، (لعله) وبالشكر فيما أحصيتم من النعمة ، {وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} من أقواكم وأفعالكم ، وهو وعيد.

{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} والآلهة التي يعبدونها ، {مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: هم {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء ، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين ، وأحياء لا يموتون ، وعالمين بوقت البعث ، وأثبت لهم صفات الخلق ، بأنهم مخلوقون أموات ، جاهلون بالغيب. ومعنى”أموات غير أحياء”: أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة ، لكانوا أحياء غير أموات ، أي: غير جار عليها الموت ، وأمرهم بالعكس من ذلك ، والضمير في “يبعثون” للداعين ، أي: لا يشعرون متى تبعث عبدتهم ، وفيه تهكم للمشركين ، وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ، فكيف يكون وقت جزائهم على عبادتهم ؟ ، وفيه دلالة على أنه لا بد من البعث.

{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: ثبت بما مر أن الإلهية لا تكون لغير الله ، وأن معبودكم واحد.

{فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} للوحداينة ، {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عنه وعن الإقرار بها ، والعمل بموجباتها ، {لاَ جَرَمَ} حقا {أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فيجازيهم ، وهو وعيد ، {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} عن عبادته وتوحيده . {وَإِذَا قِيلَ لَهُم} لمن استكبر عن عبادته: {مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ؟قَالُواْ: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} بلسان الحال أو لسان المقال ، وماذا ينفع المقال مع المخالفة بالأعمال ، أي: ليس (لعله) لذلك وقع في قلوبهم ، وهو بمنزلة أباطيل الأولين ، كذبوا على الله ، وسيحيق بهم كذبهم.

{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ذنوبهم وذنوب أنفسهم ، وإنما ذكر الكمال ، لأن البلايا التي تلحقهم في الدنيا ، وما فعلوا من الحسنات لا تكفر عنهم شيئا من صغائرهم ، ولا من كبائرهم ، {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم} أي: قالوا ذلك إضلالا للناس ، فحملوا أوزار ضلالهم كاملة ، وبعض أوزار من ضل بضلالهم ، وهو وزر الإضلال ، لأن المضل والضال شريكان . وإن دعا أحدا إلى الضلالة ولم يستجب له ، كان الداعي ضالا والمدعى من تلك الدعوة سالما. وإن{كان} أثر ضلالته كتبا وقراطيس ، يدعو عامة الناس إليها ، وأحب أن يستجاب له في ضلالته ، كان في المعنى كأن دعا الناس جميعا إلى تلك الضلالة ، قبل من قبل ضلالته وردها من ردها.

وانظر في إبليس اللعين من حيث إنه دعا جميع الثقلين أن يعبدوه ويشركوا بالله ، فاستجاب له من استجاب منهم ، وهم الذين حق عليهم القول أن تملأ بهم جهنم ، وهم الأكثر من خلق الله ، إلا من رحم ، ومنهم من استجاب له وتاب ، فسلم المستجيب التائب ، وثبت على الداعي وزر دعوته إلى الضلالة ، ومنهم من عصمه الله من إضلاله في أشياء ، واستجاب له في أشياء ، فانظر ما يتعاظم عليه من الوزر والعذاب إلى يوم القيامة.

وانظر إلى أنبياء الله ورسله ، والعلماء بدينه ، والأئمة في الدين ، والأئمة المنصوبين ، حيث دعوا الناس كافة أن يوحدوا الله ويعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وأن يكفروا بالشيطان ، فكان لهم أجرهم وأجر من استجاب لهم ، وأجرهم بدعوة من لم يستجب لهم إلى يوم القيامة ، فانظر ما يتضاعف لهم من الأجر ، وكذلك من أثر الحق يدعوا الناس إليه ، وقد قال الله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } ، {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضلال {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} .

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ، فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} فقمع رؤسهم تعذيبا لهم ، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (لعله) أنهم معذبوب ، وذلك أن الكافرين لا يحسون بعذابهم في الدنيا ، لأنهم يعدون العذاب نعمة ، والنعمة عذابا ، وهذا مثل قوله: { أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } وهذا لكل من أسس بنيان دينه على شيء من الباطل.

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} يذلهم بعذاب الخزي ، سوى ما عذبوا به في الدنيا ، {وَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكَآئِيَ؟} على الإضافة إلى نفسه ، حكاية لإضافتهم ، ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء ، {الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ، لأن مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله ، {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} أي: الأنبياء والعلماء من أممهم ، الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ، ويعظونهم (لعله) فلا يلتفتون إليهم ويشاقونهم ، يقولون ذلك شماتة ، أو هم الملائكة . {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ، فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ} أي: الصلح والاستسلام ، لأنهم في حال الحرب لله ولرسوله ودين المسلمين ، كانوا مخالفين دينه بحرف واحد ، وقالوا:{ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} ، وهذا كقوله:{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } ، وهذا في المتدينين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وأما المنتهكون فهم الذين وصفهم الله حيث قال: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *  لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } ، فردت عليهم الملائكة قالوا:{ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ، فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} عن توحيد الله وعبادته.

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ} الكفر: {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ؟قَالُواْ: خَيْرًا، لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} أي: وحدوا الله وعبدوه ولم يشركوا به شيئا ، {حَسَنَةٌ} ، لأنهم يتوصلون بحسنة الدنيا{إلى} حسنة الآخرة ، فلذلك سميت حسنة ، (لعله) وإن نالتهم منها مشقة، {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} أي: ولهم في الآخرة ما هو خير منها كقوله:{ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } ، {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} دار الآخرة لا الدنيا.

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ} من أنواع المشتهيات ، {كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ} مثل هذا الجزاء.

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ} طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر زاكية أفعالهم وأقوالهم ونياتهم ، لأنه في مقابلة”ظالمي أنفهسم” ، {يَقُولُونَ : سَلامٌ عَلَيْكُمُ} قيل: إذا أشرف العبد المؤمن على الهلاك بالموت جاءه ملك فيقول:” السلام عليك يا ولي الله ، الله يقرأ عليك السلام” ، وبشره بالجنة ، وبقوله: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بعملكم.

{هَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون هؤلاء الكفار ، {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ؟} لقبض أرواحهم ، {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي: العذاب المستأصل ، {كَذَلِكَ} مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب {فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ} بتدميرهم ، {وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث فعلوا ما استحقوا به التدمير.

{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} جزاء سيئات أعمالهم ، {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} وأحاط بهم جزاء أستهزائهم ، والحيق: لا يستعمل إلا في الشر.

{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} الشرك الخفي والجلي : {لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا ، وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} ، هذه (لعله) الآية حجة على الجبرية ، فإن الله ذم الكفار حيث لعل… (في التفسير ذهاب من قبل ضياع القرطاسة) ، {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: كذبوا الرسل وحرموا الحلال ، {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}؟ إلا أن يبلغوا الحق ، ويبطلوا الشرك وقبائحه ، ثم بين أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببا لهدى من أراد اهتداءه ، وزيادة لضلال من أراد ضلاله ، كالغذاء الصالح ، فإنه ينفع المزاج السوي ، ويقويه ، ويضر المنحرف ويفنيه.

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً : أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ} بأن وحدوه ولا تشركوا به شيئا ، {وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} : الشيطان وطاعته ، أي: كونوا من حزب الله ، ولا تكونوا من حزب الشيطان ، {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ} باختياره الهدى ، {وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} أي: لزمت لاختياره إياها ، {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} حيث أهلكهم الله وأخلى ديارهم.

وحرص رسول الله على إيمانهم ، وأعلمه أنه من قسم من حقت عليه الضلالة {كذا} ، فقال: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} يمنعونهم من جريان حكم الله عليهم ، ويدفعون عنهم عذابه الذي أعد لهم ، (لعله) والآية كقوله: {  وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }{وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ ، بَلَى} هو إثبات لما بعد النفي ، أي: بل يبعثهم ، {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أن وعده حق ، أو لأنهم يبعثون.

{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} متعلق بما دل عليه “بلى” ، أن يبعثهم ليبين لهم ، والضمير لمن يموت ، وهو يشتمل المؤمنين والكافرين ، {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} هو الحق ، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} في قولهم:” لا يبعث الله من يموت”.

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ: كُن فَيَكُونُ} ، أي: فهو يكون ، أي: إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له : احدث ، فهو يحدث بلا توقف ، وهذه عبارة عن سرعة الإيجاد ، {أي:} أن ليس مرادا يمتنع عليه ، وأن وجوده عند إرادته غير متوقف كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل ، ولا قول ثمة . والمعنى: أن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة ، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من بعض المقدورات، وكذلك لا يمتنع عليه كفر المطيع ، ولا طاعة من كفر ، وهذه تخوف المؤمنين من تقلب الأحوال بهم ، كما قال: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }.

{وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ} وفي حقه ولوجهه ، {مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي: أطاعوا الله فيمن عصى فيهم ، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} بكمال عقولهم ووضع الأمور مواضعها ، {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} من حسنة الدنيا، {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} لازدادوا في اجتهادهم وصبرهم ، وقيل: الضمير للكفار ، أي: لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم . و{الَّذِينَ صَبَرُواْ} على مشاق التكليف ، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: يفوضون الأمر إلى ربهم، ويرضون بما أصابهم في دين الله.

ولما قيل: الله أعظم(لعله) من أن يكون رسوله بشرا نزل:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ ، فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} أهل العلم ، والعلم هو الذكر ، لأنه موعظة وتنبيه وحياة للجاهلين ، {إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (لعله) ، لأنهم متعبدون بالسؤال عما يلزمهم من جميع ما أوجب الله عليهم إذا جهلوه.

{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} أي: بالبينات والكتب ، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} أي: القرآن ، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في الذكر ، مما أمروا به ونهوا عنه ، ووعدوا به ، وأوعدوا ، (لعله) وبيان الكتاب يطلب من السنة ، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} في تنبيهاته فينتبهوا.

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ} أي: أخفوا المعاصي ، وكأن الآية نزلت في المنافقين ، (لعله) ومن أين لهم الأمان من الله وهم قد بارزوه بالمعاصي؟!. {أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ} كما فعل بمن تقدمهم ، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} ، أي: بغتة ، {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أو يهلكهم متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم ، {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} سابقين لله.

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} متخوفين قد ظرهت لهم علامات الأخذ ، {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (لعله) إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة.  {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ} من {}ـم  قائم له ظل ، {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} أي: يرجع {عَنِ} موضع إلى موضع ، {الْيَمِينِ} أي: الإيمان ، {وَالْشَّمَآئِلِ} جمع شمال ، {سُجَّدًا لِلّهِ} ، والمراد: من السجود الاستسلام ، سواء كان بالطبع أو الاختيار ، (لعله) بميلانها ، {و} دورانها سجودها لله ، ويقال للظل بالعشي: فاء ، أي: رجع من المغرب إلى المشرق ، واليمين : أول النهار ، والشمال : آخر الليل ، {وَهُمْ دَاخِرُونَ} صاغرون. والمعنى: أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن إيمانها وشمائلها ، أي: ترجع الظلال من جانب إلى جانب ، منقادة لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيىء ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضا ، صاغرة منقادة لأفعال الله فيها غير ممتنعة عليه.

{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ} بيان لما في السماوات وما في الأرض جميعا ، على أن في السماوات خلقا يدبون فيها كما تدب الأناسي في الأرض ، أو بيان لما في الأرض وحده ، والمراد بما في السماوات: ملائكتهن ، ويقال: السجود ، الطاعة ، والأشياء كلها مطيعة لله عزوجل من حيوان وجماد ، قال الله : {قَالَتَا : أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ، وقيل: سجود الأشياء : تذللها وتسخيرها لما أريدت له ، وقيل: سجود الجمادات وما لا عقل له: ظهور أثر الصنع فيه على معنى أنه يدعو العاقلين إلى السجود لله عند التأمل والتدبر فيه ، قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } . {وَالْمَلآئِكَةُ} خص الملائكة بالذكر _ مع كونهم من جملة ما في السماوات والأرض – تشريفا لهم ورفعا لشأنهم ، وقيل: لخروجهم من الموصوفين بالدبيب ، إذ لهم أجنحة يطيرون بها ، وقيل: المراد بسجود المكلفين : طاعتهم وعبادتهم ، وبسجود غيرهم : انقياده لإرادة الله ، {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (لعله) يعني الملائكة ، {يَخَافُونَ رَبَّهُم} أي: لا يستكبرون ، خائفين {مِّن فَوْقِهِمْ} إن علقته بـ”يخافون” فمعناه: يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم ، وإن علقته بربهم حال منهم ، فمعناه : يخافون ربهم عاليا لهم ، قاهرا ، كقوله: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } ، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، وكأن هذا دليل على أن الملائكة مكلفون ، مدارون على الأمر والنهي ، وأنهم بين الخوف والرجاء ، (لعله) وإذا كان الملائكة بين الخوف والرجاء مع أنهم لا يعصونه طرفة عين ولا يسأمون . (لعله) صبائغ في القرطاسة عن تمام الكلام والإنس{كذا} ، ولكن الخوف منه على قدر المعرفة به تبارك وتعالى.

{وَقَالَ اللّهُ : لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: لا يتفق أن يكون لكم أن تعبدوا الله والهوى في حال من الحال ، {إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} معبود واحد ، ولا يستقيم إلا لمخالفة الهوى كما قال: { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } ، {فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} من أن تتخذوا إلها غيري.

{وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} واجبا ثابتا ، لأن كل نعمة منه ، فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه ، أو وله الجزاء دائما ، يعني الثواب والعقاب ، وقيل معناه : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك عنه بزوال وهلاك غير الله عزوجل ، وأن الطاعة تدوم له ولا تنقطع ، {أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ} أي: تخافون ، استفهام على معنى الإنكار.

{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ} وأي: شيء اتصل  بكم من نعمة إيجاد وإمداد وعافية دينية ودنياوية ، {فَمِنَ اللّهِ} ، فلأي شيء تعبدون غير الله ، {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} المرض والفقر وغيرهما ، {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} تصيحون وتضجون بالدعاء ، {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} يرجعون إلى طاعة إبليس ، وينسون ما مر بهم.

{لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ} من نعمة الكشف عنهم ، كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ، ثم أوعدهم فقال: {فَتَمَتَّعُواْ} أي: عيشوا في اللذة ، في المدة التي صيرناها لكم ، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة أمركم .

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} له حقا ، أي: الأصنام {نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الأموال ، وهو ما جعلوا للأوثان من حروثهم وأنعامهم ، { فَقَالُواْ:هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا} ، أو”هذا” لما ينفقونه ، {تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ} وعيد ، {عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} أنها آلهة ، وأنها أهل للبذل.

{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ} ، قيل: كانت خزاعة وكنانة تقول:” الملائكة بنات الله” ، {سُبْحَانَهُ}تنزيه لذاته ، {وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} أي: جعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور.

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} متغيرا من الغم والكراهية ، {وَهُوَ كَظِيمٌ} ممتلىء غيظا وحزنا ، فهو يكظمه ، أي: يمسكه ولا يظهره ، {يَتَوَارَى} يختفي {مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} من أجل سوء المبشر به ، ومن أجل تعييرهم ، ويحدث نفسه وينظر { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} أيمسك ما يبشر به على هوان وذل ، {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أم يئده ، {أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} بئس ما يحكمون لله البنات ، ولأنفسهم البنين ، نظيره { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}.

{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} جهنم ، (لعله) وما جر إليها ، {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} وهو أنه لا إله إلا الله ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} ، على الدنيا ، {مِن دَآبَّةٍ} قط ، ولأهلكها ، ولقامت الساعة ، {وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: أجل كل أحد ، أو وقت تقتضيه الحكمة ، أو القيامة ، {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.

{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ} ما يكرهونه لأنفسهم ، {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} مع ذلك ، أي: يقولون الكذب ، {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} (لعله) في الدارين ، إن كان البعث حقا ، {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} من الحسنى ، مقدمون إلى النار معجلون إليها.

{تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} أي: أرسلنا رسلا إلى من تقدمك من الأمم ، {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} ناصرهم اليوم ، وهو على التوبيخ ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ} إلا للتبيين ، لا عبثا ولا لعبا {الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ} من الدين والأحكام ، {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

{وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر وتفهم ، لأن من لم يسمع بقلبه ، فكأنه لا يسمع ، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا} (لعله) شيئين مختلفين كل واحد{كذا}. سئل شقيق عن الإخلاص فقال:” تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين الفرث والدم ” . {سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} سهل المرور في الحلق.

{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} هو الخل والرب والتمر والزبيب ، وغير ذلك ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

{وَأَوْحَى رَبُّكَ} ألهم ، كما يلهم سائر الحيوان لمصالحها ، {إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} يرفعون من سقوف البيت ، أو بما يبنون للنحل ، {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} ، جمع ذلول ، وهي حال من السبل ، لأن الله ذللها وسهلها ، أو أتت ذللا منقادة لما أمرت به غير ممتنعة ، {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} منه أبيض وأصفر وأحمر ، من اختلاف قبائله أو أغذيته ، {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في عجيب أمرها ، فيعلم أن الله أودعها علما بذلك وفطنها ، كما أولى أولي العقول عقولهم ، وإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة ، والأفعال العجيبة حق التدبر علم قطعا أنه لا بد لها من قادر حكيم يلهمها ذلك، ويحملها عليه.

{وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ، وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} إلى أخسه وأحقره ، وهو الهرم الذي يشابه الطفولية في نقصان الجسم والقوة والعقل ، {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} كيلا يعلم ، زيادة علم على علمه ، أو لكي لا يعلم شيئا بعد علم ، أي: يذهب ما علم. {إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} على تبديل ما يشاء كما يشاء.

{وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} أي : جعلكم متفاوتين في الرزق ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم ، {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ} في الرزق يعين الملاك ، {بِرَآدِّي} بمعطي {رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم ، {فَهُمْ فِيهِ سَوَاء} تقديره :” فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فيستووا مع عبيدهم في الرزق” ، وهو مثل ضربه للذين جعلوا له شركاء ، فقال لهم : أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ، ولا تجعلونهم فيه شركاء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم ، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركائي. قال قتادة :” هذا مثل ضربه الله  عزوجل ، فهل منك أحد يشركه مملوكه في زوجته وفراشه وماله؟ أفتعدلون بالله خلقه وعباده؟! تعالى عن ذلك علوا كبيرا “. {أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} بالإشراك به.

{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} من جنسكم ، {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} جمع: حافد ، وهو الذي يحفد ، أي: يسرع في الطاعة والخدمة ، واختلف فيه ، فقيل: هم الأختان على البنات ، وقيل: أولاد الأولاد ،وقيل: الخدم ، وقيل: الأصهار ، وقيل: الأعوان ، وقيل: كبار الأولاد المعينين على الأعمال ، وقيل: الربائب . {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أي: بعضها ، لأن كلها في الجنة ، وطيبات الدنيا أنموذج ، {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} هو ما يعتقدون من (لعله) منفعة الأصنام ، أو متابعتهم للوساوس الشيطانية ، {وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} أو الباطل، الشيطان وما يزينه ، والنعمة : رحمة الله.

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} المعنى: لا يملكون شيئا من الرزق ولا من النفع ولا من الضر ، ولا يتأتى ذلك فيهم ، (لعله) ويدخل في ذلك المال والأهل الشاغلان عن ذكر الله.

{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} فلا تجعلوا لله مثلا ، فإنه لا مثل له ، أي: فلا تجعلوا له شركاء ، {إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ} أنه لا مثل له من الخلق ، {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} خطأ ما تضربون من الأمثال.

{ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ، وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ، فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} أي: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان {كـ}مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف ، وبين حر مالك قد رزقه الله مالا ، فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف يشاء ، وقيد بالمملوك ليميز من الحر ، لأن اسم العبد يقع عليهما جميعا ، إذ هما من عباد الله ، وقيل : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، {هَلْ يَسْتَوُونَ ؟ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} إن الحمد والعبادة لله.

ثم زاد في البيان فقال: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ} الأبكم: الذي ولد أخرس ، فلا يفهم ولا يفهم ، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} أي: ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله ، {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} حيث ما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة ، أو كفاية فهم ، لم ينفع ولم يأت بنجح ، وهو يفسد ولا يصلح ، {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} ؟ أي: ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة ، فهو يأمر الناس بالعدل والخير {وَهُوَ} في نفسه {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} على سيرة صالحة ودين قيم قويم ، وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من آثار رحمته ونعمه ، وغناه عن خلقه ، وللأصنام التي هي موات لا تضر ولا تنفع ، وقيل: للمؤمن والكافر ، وهو كقوله: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ويدخل فيه تدبير معاشه ، وإصلاح معاملته لخالقه ، وللخلق فيما بينه وبينهم ، وإصلاح نفسه ، ومركز جميع اصطلاحات سلامة القلب من الأهوية والأمراض.

{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} اي: يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد ، وخفي عليهم علمه ، أو أراد بغيب السماوات والأرض يوم القيامة ، على أن علمه غائب من أهل السماوات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم ، { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ} في قرب كونها ، وسرعة قيامها ، {إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ} كرجع طرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ، وإنما ضرب به المثل ، لأنه لا يعرف زمان أقل منه ، {أَوْ هُوَ} أي: الأمر {أَقْرَبُ} وليس هذا للشك ولكن المعنى كونوا في كونها على هذا الاعتبار ، وقيل: بل هو أقرب ، ويقتضي ذلك انقضاء أجل كل نفس ، لأنها إذا انقضى أجلها كأن قيامتها قد قامت ، { إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو يقدر على أن يقيم الساعة ، ويبعث الخلق ، لأنه بعض المقدورات ، ثم دل على قدرته بما بعد ، فقال: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} مستصحبين جهل الجمادية{كذا} ، لا تعلمون شيئا من حق المنعم الذي خلقكم في البطون ، ولا تعلمون قدر أنفسكم ، {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: وما ركب فيكم هذه الأشياء والاالآت . {أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ} مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك ، {فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ} في قبضهن وبسطهن ووقوفهن {إِلاَّ اللّهُ} بقدرته ، وفيه نفي لما يصوره الوهم من خاصية القوى الطبيعية{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بأن الخلق لا غنى به عن الخالق.

{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم ، كالبيوت المتخذة من الحجر والمدر ، {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا} هي قباب الأدم ، {تَسْتَخِفُّونَهَا} لأنها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل ، {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} قراركم من منازلكم ، والمعنى أنها خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر ، على أن “اليوم” بمعنى الوقت .{ وَمِنْ أَصْوَافِهَا} أصواف الضأن،{وَأَوْبَارِهَا} أوبار الإبل ، {وَأَشْعَارِهَا} أشعار المعز ، {أَثَاثًا} أثاث البيت ، {وَمَتَاعًا} وشيئا ينتفع به {إِلَى حِينٍ} مدة من الزمان.

{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً} كالأشجار والسقوف ، تستظلون (لعله) تحتها ، {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} جمع كن ، وهو ما سترك من كهف وغار ، {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} هي القمصان والثياب ، من الصوف والكتان والقطن {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وهي تقي البرد أيضا ، إلا أنه اكتفي بأحد الضدين ، {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} ودروعا من الحديد ترد عنكم سلاح عدوكم في قتالكم ، والبأس : شدة الحر ، والسربال: عام يقع على ما كان من حديد أو غيره ، {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي: تنظرون في نعمته الفائضة ، فتؤمنون به وتنقادون له ، وانظر ما عدد هنا ، وهي قليلة حقيرة مما أفاض على خلقه من نعمه الدينية الدنيوية ، وكلها تسمى نعمة إذا أعانت وأوصلت إلى النعمة الأبدية.

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإسلام {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} أي: عليك تبليغ الحجة ، ولا عليك تبعة إن تولوا.

{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ} التي عددناها بأقوالهم ، فإنهم يقولون: إنها من الله تعالى ، {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بأفعالهم ، حيث عبدوا غير المنعم ، وإنكارهم لها كفرهم بها ، والاستهانة بها ، والاستخفاف بثوابها ، والاستنقاص (لعله) بفاعلها ، ولا يجوز أن ينتفع بشيء ينكره ، فمن ذلك (لعله) استحالت النعمة في حق. {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} إما بالقول أو بالنية أو بالفعل ، أو بأحدها ، وحق من عرف النعمة أن يعترف ولا ينكر.

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} محقا من نبي أو الإمام أو عالم يشهد للمحق بالحق ، وعلى المبطل بالباطل ، {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} في الاعتذار ، {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يسترضون ، أن لا يقال لهم: ارضوا بربكم ، لأن الآخرة ليست بدار عمل.

{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر {الْعَذَابَ ، فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} ولا هم يمهلون.

{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ} أوثانهم التي عبدوها ، وما أحصى عليهم في الكتاب من أعمالم القبيحة ، لأنها في الحقيقة أوثان وشركاء لله ، {قَالُواْ: رَبَّنَا هَـؤُلاء شُرَكَآؤُنَا} أي: آلهتنا التي جعلناها شركاء ، وفي المعنى أنها تعم جميع معاصي الله تعالى ، {الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ} أي: نعبدها ونعملها ، {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: أجابوهم بالتكذيب في تسميتهم شركاء وآلهة، تنزيها لله من الشريك.

{وَأَلْقَوْاْ} يعني: الذين أشركوا {إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} إلقاء الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإيياء والاستكبار في الدنيا ، {وَضَلَّ عَنْهُم} وبطل عنهم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن لله شركاء بقولهم وفعلهم.

{الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ} أي: حملوا غيرهم على الكفر {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} عذابا بالكفر ، وعذابا بالصد {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} ما أصلحه الله وأنبياؤه وأهل دينه.

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ} هو كل إمام محق في أمة {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء} على أمتك {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا} بيانا بليغا {لِّكُلِّ شَيْءٍ} من أمور الدين والدنيا {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ودلالة إلى الخلق ، ورحمة للمؤمنين ، وبشارة بالجنة لهم.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وهو أن تسووا في الحقوق فيما بينكم ، وترك الظلم ، وإيصال كل ذي حق إلى حقه ، {وَالإِحْسَانِ} بأن تحسنوا إلى أنفسكم بفعل الواجبات والمندوبات ، (لعله) وترك جميع المحرمات والمحجورات ، واجتناب جميع السيئات ، {وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} ما يستحق ويحسن ، {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء} عن الذنوب المفرطة في القبح ، {وَالْمُنكَرِ} ما تنكره العقول ، {وَالْبَغْيِ} طلب التطاول بالظلم والكبر ، {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون بمواعظ الله ، وهذه عظة جامعة لكل مأمور ومنهي.

{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ، وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} بعد توثيقها باسم الله ، {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} شاهدا ورقيبا، لأن الكفيل مراع لحال المكفول به ، مهيمن عليه ، {إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} .

{وَلاَ تَكُونُواْ} في نقض الأيمان {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} كالمرأة الغازلة بعد أن أحكمته وأبرمته {أَنكَاثًا} جمع نكث ، وهو ما ينكث فتله . قيل: هي امرأة كانت حمقاء خرقاء ، تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهيرة ، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن ، والمعنى: أنها لم تكف عن الغزل ، ولا حين عملت كفت عن النقض (لعله) فتستريح ، وهي كحمار الطاحونة الذي يسير منه {و}يجيء إليه ، وذلك كل عمل يعمله الإنسان من الطاعات ، ثم يعقبها بالمعاصي فتحبط بها ، {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} أي: دخلا وخيانة وخديعة ، والدخل: ما يدخل في الشيء الفساد. وقيل:{ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى} أزيد عددا ، أو أوفر مالا {مِنْ أُمَّةٍ} من جماعة المؤمنين ، {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ} أي: إنما يختبركم بكونكم أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله ، وما وكدتم من أيمان البيعة لرسول الله والمؤمنين ، أم تغترون بكثرة أهل الفسق وثروتهم ، وقلة المؤمنين وفقرهم ، {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا ، وفيه تحذير عن مخالفة ملة الإسلام.

{وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} حنيفية مسلمة ، {وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء} من علم منه اختيار الضلال ، {وَيَهْدِي مَن يَشَاء} من علم منه اختيار الهداية ، {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا ، فتجازون عليه.

{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} (لعله) خديعة وفسادا ، فتضرون بها الناس فيشكون ، فسيكنون إلى أيمانكم ويأمنونها ثم تنقضونها ، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} فتزل أقدام عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها ، {وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ} ما يسوؤكم في الدنيا ولم توتحروا عليه ، فيكون وبالا ومغرما وخسرانا عليكم ، خلاف المؤمنين ، لأنهم وإن نالهم مكروه فذلك رفع لدرجاتهم ، فيصير نعمة لهم خلاف الأولين . {بِمَا صَدَدتُّمْ} بصدودكم {عَن سَبِيلِ اللّهِ} وخروجكم عن الدين ، {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو العذاب الأكبر في الآخرة.

{وَلاَ تَشْتَرُواْ} ولا تستبدلوا {بِعَهْدِ اللّهِ} بميثاقه {ثَمَنًا قَلِيلاً} عرضا من الدنيا يسيرا ، {إِنَّمَا عِندَ اللّهِ} من رزقه في الدنيا ، وثوابه في العقبى {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أن وعد الله آت.

{مَا عِندَكُمْ} من زخرف الدنيا{يَنفَدُ} ولا تؤجرون عليه إن توجه ذلك للمخالفين ، وإن توجه للمؤمنين نقول: ما في أيديكم يجيء ويذهب ، {وَمَا عِندَ اللّهِ} من خزائن رحمته {بَاقٍ} لا ينفد ، {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ} على ما أوجبه الله عليهم من مشاق التكليف ، {أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} شرط الإيمان لأن أعمال الفاسقين غير معتد بها ، {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} بمده بعقل متبوع يميز به بين الحسن والقبيح من أمر الدنيا والآخرة. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وعده الله ثواب الدنيا والآخرة ، كقوله: {فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا يعيش عيشا طيبا ، إن كان موسرا فظاهر ، وإن كان معسرا فييسر له ما يطيب عيشه ، وهو القناعة والرضى بقسمة الله فيه. {  وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } أي: ضيقة ، كان موسرا أو معسرا ، وقيل: الحياة الطيبة : القناعة وحلاوة الطاعة ، أو المعرفة بالله وصدق المقام مع الله ، وصدق الوقوف على أمر الله ، والإعراض عما سوى الله ، وكل ذلك من نتائج القلوب السليمة ، وجميع الشرور من نتائج القلوب المريضة ، فصح مع أهل العقول أن خير الدنيا والآخرة : القلب السليم لصاحبه ، وشر الدنيا والآخرة : القلب المريض.

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (لعله) قيل: هذا في الصلاة ، أي: إذا قرأت القرآن وأنت في الصلاة فأنصت واستعذ بالله من الشيطان ومن وساوسه ، لأنه موضع المناجاة لله تعالى.(لعله) أمر الله بالاستعاذة منه باللسان ، وصيانة القلب(لعله) عن وساوسه ، (لعله) وحفظ الجوارح عن العيب ، (لعله) ويخرج معنى آخر: أي أنك إذا قرأت القرآن ، المعنى: إذا عملت بما فيه فاستعذ بالله ، لأنه في ذلك الحين تنفع الاستعاذة منه ، لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } استعاذوا من الشيطان بلسانهم أم لا ، فإن ذلك هذيان ، ودعاؤهم غير مستجاب ، لقوله: {  وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } والاستعاذة دعاء ، وفي الحقيقة من قرأه ولم يعمل بما فيه فكأنه لم يقرأه . {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} تسلط وولاية {عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ} على المقبلين على صلاتهم ، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فالمؤمن المتوكل لا يقبل منه وساوسه بالمتابعة ، وأما زوالها من قلبه فلا يقدر عليه ، ولا تضره ، وتنفعه ، إذ يصير مجاهدا بذلك.

{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} يتخذونه وليا ، ويتبعون وساوسه ، {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} الضمير يعود إلى ربهم ، وإلى الشيطان أي: بسببه ، والذين هم بأجله مشركون بالله.

{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} تبديل الآية مكان الآية هو النسخ ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لحكمة(لعله) علمها ، وهو معنى قوله: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ، قَالُواْ : إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} فتختلق ، وذلك أن المشركين قالوا: إن محمدا سحرنا بأصحابه ، ويأمرهم بأمر ، ثم ينهاهم عنه غدا ، إن هو إلا مفتر من تلقاء نفسه. قال الله:{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.

{قُلْ : نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} أي: جبريل عليه السلام ، أضيف إلى القدس وهو الطهر من المآثم ، {مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} ملتبسا بالحكمة ، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} ليبلوهم بالنسخ ، حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا ، حكم لهم بثبات القدم ، وصحة اليقين ، واطمئنانية القلوب ، {وَهُدًى وَبُشْرَى} تقديره تثبيتا لهم ، وإرشادا وبشارة {لِلْمُسْلِمِينَ} وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم.

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} قيل: ارداوا به غلاما كان لحويطب قد أسلم وحسن إسلامه اسمه”عائش” ، وكان صاحب كتب ، أو هو “جبر” غلام رومي ، أو عبدان: جبر ويسار كانا يقرآن التوراة والإنجيل ، وكان رسول الله يسمع ما يقرآن ، قال الله تكذيبا لهم:{ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} (لعله) بالدعوى ، {أَعْجَمِيٌّ}: الذي لا يفصح ، وإن كان ينزل البادية ، والعجمي: منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا، والأعرابي: البدوي ، العربي: منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحا . {وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} أي: لسان الرجل الذي يميلون قولهم على الاستقامة إليه لسان (لعله) عجمي غير بين ، وهذا القرآن لسان عربي مبين ، ذو فصاحة وبيان ، (لعله) معناه: يفهمونه ولا يذهب عنهم منه شيء ، ردا لقولهم ، وإبطالا لطعنهم.

{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ} ما داموا مختارين الكفر ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا والآخرة.

{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ} أي: إنما يليق افتراء الكذب لمن لا يؤمن ، لأنه لا يترقب عقابا عليه ، وهو رد لقولهم: { إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} . { وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} على الحقيقة.

{ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} ساكن به ، { وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي: فتح صدره بالكفر ، أي: بالقبول والاعتقاد واختاره ، { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الدارين.

{ ذَلِكَ} إشارة إلى الوعيد ، وهو لحوق الغضب والعذاب العظيم. { بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ} آثروا { الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} أي: بسبب إيثارهم الدنيا على الآخرة ، ولو في حرف واحد من الباطل. { وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ما داموا مختارين الكفر.

{ أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} فلا يتدبرون ويصغون إلى المواعظ ، ولا يبصرون طريق الرشاد . { وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الكاملون في الغفلة عن تدبر العواقب ،{و}هي غاية الغفلة ومنتهيها.

{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} بالعذاب ، { ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ، إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} وإنما أضيفت النفس إلى النفس ، لأنه يقال لعين الشيء وذاته: نفسه ، وفي نقيضه: غيره ، و”النفس” الجملة كما هي ، فالنفس الأولى: هي الجملة ، والثانية : عينها وذاتها ، فكأنه قيل:” يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ، لا يهمه شأن غيره ، كل يقول: نفسي نفسي” . ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار عنها ، كقوله:{ هَـؤُلاء أَضَلُّونَا } ، { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا } ، { وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ، { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ  } . { وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} يعطى جزاء عملها وافيا ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.

{ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً} أي: جعل الله القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم ، فأبطرتهم النعمة ، فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته ، فيجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، أو أن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلا(لعله) لكل نفس على حدة ، إنذارا له من مثل عاقبتها. { كَانَتْ آمِنَةً} مما يخاف منه ، { مُّطْمَئِنَّةً} لا يزعجها خوف ، لأن الاطمئنانية مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف . { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} واسعا { مِّن كُلِّ مَكَانٍ} من كل حال من أسباب الرزق. { فَكَفَرَتْ} أهلها { بِأَنْعُمِ اللّهِ} (لعله) فلم تستعمل بما أنعم الله عليها في الحق. { فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف.

{ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ} (لعله) { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي: في حال التباسهم بالظلم.

 { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (لعله) تحذير عن ما أصاب أهل القرية.

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} أي: وما ذكر بالمذبوح لغير الله ، { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} أي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم وغيرها بالحل والحرمة ، { هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ} بغير حجة ، { لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ ،  إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ *  مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: منفعتهم فيما هم عليه من الجاهلية منفعة قليلة لأنها زائلة ، وعذابها عظيم ، أو متاع قليل ممزوج بعذاب أليم.

{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ،  ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} أي: عملوا السوء جاهلين غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم ، ومرادهم لذه الهوى ، { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ} ما أفسدوه ، { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد التوبة { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} إنه كان وحده أمة من الأمم ، لكماله في صفات الخير ، وليس من الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد ، وعن مجاهد: ” كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار” ، أو كان أمة يعنى: مأموم ، أي: يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير ، وكان إماما للناس كافة لمن ائتم به ، {قَانِتًا لِلّهِ} هو القائم بما أمره الله ، {حَنِيفًا} مائلا عن الأديان كلها إلى ملة الإسلام ، {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نفى عنه جميع الشرك.

{شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ} مطيعا ما خول من النعم ، {اجْتَبَاهُ} اختصه واصطفاه للنبوة ، {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} إلى ملة الإسلام.

{وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً} توفيفا لصالح الأعمال . {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} لمن أهل الجنة.

{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . في”ثم” تعظيم منزلة نبينا عليه السلام ، وإجلال محله ، والإئذان بأن ما أوتي خليل الله من الكرامة: اتباع رسولنا ملته.

{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ} أي: فرض عليهم تعظيمه ، وترك الاصطياد فيه. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.

{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ} إلى الإسلام{بِالْحِكْمَةِ} بالمقالة الصحيحة المحكمة ، وهي الدليل الواضح للحق المزيل للشبهة. {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها ، وتقصدهم ما ينفعهم بها ، أو بالقرآن ، أي: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة ، أو الحكمة : المعرفة بمراتب الأفعال ، والموعظة الحسنة : أن يخلط الرغبة بالرهبة ، والإنذار بالبشارة . {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالطريقة التي هي أحسن طريق المجادلة ، من الرفق واللين من غير فظاظة ، أو بما يوقظ القلوب ، ويعظ النفوس ، ويجلو القلوب. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي: هو أعلم بهم ، فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل ، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل.

{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} سمي الفعل الأول عقوبة ، والعقوبة هي الثانية لازدواج الكلام ، كقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } وإن كانت الثانية ليست بسئية ، {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} عن المجازاة ، فالصبر أفضل ، والمجازاة بالحق جائزة.

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} أي: بتوفيقه وتثبيته ، {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} إن لم يمنوا ، {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (لعله) في ضيق صدرك مما يعصون ، {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ} المعاصي ، {وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} للعمل.