سورة طه

بسم الله الرحمن الرحيم     

{طه} قيل: معناه يا رجل ، وقيل: أمر للرسول بأن يطأ ارض مكة بقدميه . {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} قيل: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك على كفر من كفر إذ ما عليك إلا البلاغ . {إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار ، وقيل: لما رأى المشركون اجتهاد رسول الله في العبادة ، قالوا: ما أنزل عليك القرآن {إلا} لشقائك ، نزلت :{ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} أي: لتشقى وتتعب ، وأصل الشقاء في اللغة : العناء . { إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} أي: لكن أنزلناه عظة لمن يخشى.

{ تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} ما بعده إلى قوله: { لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} تفخيم لشأن المنزل ، بغرض تعظيم المنزل ، بذكر أفعاله وصفاته على الترتيب الذي هو عند العقل ، فبدأ بخلق الأرض والسماوات التي هي أصول العالم ، وقدم الأرض ، لأنها أقرب إلى الحس ، وأظهر عنده من السماوات العلى.

ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات ، وتدبير أمرها بأن قصد العرش ، فأجرى منه الأحكام والمقادير ، وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير حسب ما اقتضته حكمته ، وتعلقت به مشيئته ، فقال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *  لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } ليدل بذلك على كمال قدرته وإرادته ، ولما كانت القدرة تابعة للإرادة ، وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى ، بجليات الأمور وخفياتها على سواء، فقال:

{ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} السر: ما أكنته الصدور ، وأخفى من السر ما ستكنه بعد، ولم تكن أكنته ، وفيه تنبيه على أن شرع الذكر والدعاء ، والجهر فيما ليس لإعلام الله ، بل لتصوير النفس بالذكر ، ورسوخه فيها ، ومنعها عن اشتغال بغيره ، {و} هضمها بالتضرع والجؤار.

ثم لما ظهر بذلك أنه المستجمع لصفات الألوهية، بين أنه المنفرد بها، والمتوحد بمقتضاها ، فقال: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} تفخيم المنزل من وجهين: إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن ، ونسبته إلى المختص بصفات الجلال والإكرام ، والتنبيه على أنه واجب الإيمان به ، والانقياد له من حيث أنه كلام من هذا شأنه . والثرى: الطبقة الترابية ، وهي آخر ما تحت طبقتها . والحسنى: تأنيث لأحسن ، وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن ، لدلالتها على معان هي أشرف المعاني وأفضلها.

{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}؟ قفا تمهيد نبوته عليه الصلاة والسلام قصة موسى ليؤتم به في تحمل أعباء النبوة ، وتبليغ الرسالة ، والصبر على مقاساة الشدائد ، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل.

{ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ : امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} هاديا يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين ، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم.

{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } قيل: إنه لما نودي قال من المتكلم ؟ قال: إنى أنا الله ، فوسوس إليه إبليس ، لعلك تسمع كلام شيطان ، فقال: عرفت أنه كلام ، وهو إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام تلقى ربه كلامه تلقيا روحيا ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه ، وانتقل إلى الحس المشترك ، فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة ، وكل إلهام ألهم المخلوق أتاه من قبل الله تشهد له أنوار الحجج أنه من عند الله فاتبعه ، والشيطان يلقي إليه أنه من إبليس فلا تتبعه . { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} أمره بذلك ، لأن الحفوة تواضع وأدب ، ولذلك طاف السلف حافين ، وقيل: لنجاسة نعليه ، وقيل: معناه فرغ قلبك من الأهل والمال ، أو للاستقرار والمكث بالبقعة المباركة ، ليكون أحضر لقلبه لتلقي وحي ربه. { إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} المطهر من حضور الشياطين ، { طُوًى} بالضم ، وبكسر وتنوين ، واد بالشام على ما يوجد طوى.

{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} اصطفيتك للنبوة على علم بأحوالك ، على عالمي أهل زمانك ، وينبغي لكل إمام استولى على بلد ، أن يختار لها الأفضل من الناس يوليه أمر العباد والبلاد ، لينزل كلا من الناس منزلته . { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} لأنه واجب استماع الوحي ، ما كان من الوحي بإلهام أو غيره ، لأن قبوله على كل متعبد.

{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ، فَاعْبُدْنِي } دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم ، والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل. { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} خصها بالذكر وأفرادها بالأمر للعلة التي أناط بها إقامتها ، وهي تذكر المعبود ، وشغل القلب واللسان بذكره ، وقيل : { لِذِكْرِي} لأني ذكرتها في الكتب ، وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالثناء ، أو لذكري خاصة لا ترائي بها غيري ، ولا تشوبها بذكر غيري ، وقيل: لأوقات ذكري ، وهي مواقيت الصلاة ، أو لذكر صلاتي. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال:” من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها ” . إن الله تعالى يقول: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} .

{ إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ} كائنة لا محالة ، { أَكَادُ أُخْفِيهَا} أريد إخفاء وقتها ، أو أخفيها في قلوب الأعداء ، فلا يؤمنوا بإتيانها ، { لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} متعلق بـ:”آتية” أو ” أخفيها” على المعنى الأخير. { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} عن تصديق الساعة ، أو عن الصلاة { مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا} المراد : نهيه الانصداد عنه ، تنبيها على أن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها ، ولم يعرض عنه ، وأنه ينبغي أن يكون راسخا في دينه ، فإن صد الكفار إنما يكون بسبب ضعفه أو مرض فيه. { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} ميل نفسه إلى اللذات المحسوسة المخدجة ، فقصر نظره عن غيرها ، { فَتَرْدَى} فتهلك بالانصداد بصده ، والهلك: الهوي ما بين كل شيئين.

{ وَمَا تِلْكَ} استفهام يتضمن استيقاظا لما يريه فيها من العجائب . { بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}؟ تكرير لزيادة الاستئناس والتنبيه . { قَالَ : هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} اعتمد عليها إذا عييت ، { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} وأخبط بها الورق على رؤوس غنمي ، { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} حاجات أخر ، وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم أن المقصود من السؤال أن يتذكر حقيقتها ، وما يرى من منافعها . وفيه تنبيه على أن المؤمن لا ينبغي له أن يستعمل شيئا لا معنى له ، ولا يشتغل به ، وأنه مسؤول عما يتخذه ، كما سئل موسى عن عصاه ، فكان من جوابه ما كان.

{ قَالَ : أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } تمشي بسرعة على بطهنا ، قيل: لما ألقاها انقلبت حية صفراء بغلظ العصا ، ثم تورمت وعظمت ، فلذلك سماها جانا تارة نظرا إلى المبدإ ، وثعبانا مرة باعتبار المنتهى ، وحية أخرى بالاسم الذي يعم الحالين. قيل: كانت في ضخامة الثعبان ، وجلادة الجان ،ولذلك قال: {كَأَنَّهَا جَانٌّ } . {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} فإنه لما رآها حية تسرع خاف وهرب. وقيل: كان بين لحييها  أربعون ذراعا ، ففزع موسى منها. {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} هيأتها وحالتها المتقدمة.

{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} أي: جنبك تحت العضد ، {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير عاهة ، {آيَةً أُخْرَى} معجزة أخرى . {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} ليزداد قلبك اطمئنانية . {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} بهاتين الآيتين ، وادعه إلى توحيدي وعبادتي. {إِنَّهُ طَغَى} بشركي ، وعبادة خلقي.

{قَالَ : رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} للإسلام ، ووسعه للحق ، {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} للطاعة ، لما أمره الله بخطب عظيم ، وأمر جسيم ، سأله أن يشرح صدره ، ويفسح قلبه لتحمل أعبائه ، والصبر على مشاقه ، والتلقي لما تنزل عليه ، ويسهل الأمر عليه بإحداث الأسباب ، ورفع الموانع. {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي } فأحسن التبليغ من البليغ ، قيل: { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} تمنع الإفهام ، ولذلك نكرها ، وقيل: غير ذلك.

{ وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي } يعينني على ما كلفتني به . { اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} الأزر: القوة والضعف ، ضد ، والتقوية والظهر. { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} لإصلاح الخلق ، { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا } فإن التعاون يهيج الرغبات ، ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايده ، { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} عالما بأحوالنا ، وأن التعاون مما يصلحنا ، وأن هارون نعم المعين لي فيما أمرتني به ، وإذا ارتفعت الأهوية من الشخصين ، انضم المطلوب منهما إلى توحيد الله وعبادته ، ولذلك قلت الموافقة بين الأشخاص لما في القلوب من المرض ، وائتلاف القلوب على قدر الموافقة منها ومقاربتها في الطباع.

{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} أي: مسؤولك ، { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} يذكره إن كان ناسيا ، وينبهه إن كان غافلا ، ويعلمه إن كان جاهلا ، أنه أنعم عليه في وقت آخر بقوله:

{ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ} بإلهام ، أو في منام ، أو على لسان نبي في وقتها ، أو ملك لا على وجه النبوة ، { مَا يُوحَى} ما{لا} يعلم إلا بالوحي ، أو مما ينبغي أن يوحى ولا يترك لعظم شأنه لما فيه من الحكمة ، وأنه كائن لا محالة. { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} القذف: يقال(لعله) للإلقاء . { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} لما كان إلقاء البحر إياه على الساحل أمرا واجب الحصول – لتعلق الإرادة به – جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمره بذلك ، وأخرج الجواب مخرج الأمر ، والأولى أن يجعل الضمائر كلها لموسى مراعاة للنظم ، والمقذوف في البحر ، والملقى إلى الساحل ، وإن كان التابوت بالذات ، فموسى بالعرض . { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} قيل: إنها جعلت في التابوت قطنا ، ووضعته فيه ، ثم قيرته ، وألقته في اليم خفية من فرعون وآله ، وكان يشرع إلى بستان فرعون نهر ، فرفعه الماء إليه ، فأداه إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسا على رأسها مع امرأته آسية بنت مزاحم ، فأمر به ، فأخرج ، ففتح ، فإذا فيه صبي أصبح الناس وجها ، فأحبه حبا شديدا ، كما قال:

{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} أي: محبة كافية مني ، قد زرعتها في القلوب ، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ، فلذلك أحبك فرعون. ويجوز أن يتعلق ” مني” بـ” ألقيت” أي: احببتك ، ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وظاهر اللفظ أن اليم ألقاه بساحله وهو شاطئه ، لأن الماء يسحله ، فالتقطه منه . { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ولتربي بكلاءتي ، أي: وليكون عملك على عين مني ، لئلا تخالف به عن أمري.

{ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ} وذلك أنه لا يقبل ثدي المراضع ، فجاءت أخته متفحصة خبره ، فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها ، فقالت: هل أدلكم.. ؟ فجاءت بأمه فقبل ثديها ، { فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} وفاء بقولنا: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} ، { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بلقائك ، { وَلَا تَحْزَنَ} هي بفراقك ، أو أنت على فراقها . وفائدة هذه المنة العظيمة من قوله: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى… } إلى {…. وَلَا تَحْزَنَ} وذلك أن فرعون حاذر زوال ملكه على يد رجل من بني إسرائيل ، فكان يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، فأمر الله تعالى أم موسى لما خافت عليه القتل – كما يقتل غيره من أبناء بني إسرائيل ، لأنه منهم – أن تلقيه في التابوت ويلقيه في البحر ، وليلقه البحر بالساحل ، ويأخذه عدو الله وعدوه ، وليرجع به إلى أمه لتربيه بأمان من القتل ، لئلا يعرفوه أنه من بني إسرائيل . فانظر إلى هذه الحكمة الباهرة ، لأن الله غالب على أمره إلى أن {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }.

{ وَقَتَلْتَ نَفْسًا} نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي. { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} غم قتله خوفا من عقاب الله واقتصاص فرعون ، بالمغفرة والأمن منه بالهجرة إلى مدين . { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} وابتليناك ابتلاء ، أو أنواعا من الابتلاء ، على أنه جمع فتن ، فخلصناك مرة بعد أخرى ، وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ، ومفارقة الألاف ، والمشي راجلا على حذر وخوف ، وفقد الزاد ، وأجر نفسه إلى غير ذلك ، أو له ولما سبق ذكره . { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين ، { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ} قدرة لأن أكلمك وأرسلك ، غير متقدم وقته المعين ، ولا مستأخر ، { يَا مُوسَى} كرره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.

{ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} واصطفيتك لمحبتي وعبادتي ورسالتي ، وإلا فكل الخلق قد خلقهم لعبادته ، لكن اصطنعه لنفسه على علم منه أنه مستأهل لما جعله له ، { اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} بمعجزاتي ، { وَلَا تَنِيَا} بمعنى: التواني ، أي: ولا تقصرا تعطلا وتبطلا{كذا} . { فِي ذِكْرِي} ، ولا تنساني حيث تقلبتما ، وقيل: في تبليغ ذكري ، والدعاء لي.

{ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا } مثل:{  هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } ، فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة ، احذروا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما . { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أي: باشر الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ، ولا يخيب سعيكما ، فإن الراجي مجتهد ، والآيس متكلف .  والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد ، مع علمه بأنه لا يؤمن ، إلزاما للحجة ، وقطعا للمعذرة ، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات ، والتذكر للمتحقق ، والخشية للمتوهم.

{ قَالَا:رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا} أن يجعل علينا بالعقوبة ، أن يعجل علينا بالعقوبة ، ولا يصير إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة ، أي: نخاف أن يحمله حامل من استكبار ، أو خوف على الملك ، أو شيطان إنسي أو جني على المعاجلة بالعقاب ، {أَوْ أَن يَطْغَى} أي: يجاوز: الحد في الإساءة إلينا.

{قَالَ : لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا} بالحفظ والنصرة {أَسْمَعُ وَأَرَى} ما يجري بينكما ، وبينه من قول وفعل ، فأحدث في كل حال ما يصرف شره عنكما ، ويوجب نصرتي لكما.

{فَأْتِيَاهُ فَقُولَا : إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أطلقهم {وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} بالتكاليف الصعبة ، وقتل الولدان ، {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} لا يتأتي إتيانها بقوى البشرية ، {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} السلامة في الدارين لهم ، كما أن عذاب الدارين لمن تولى وكفر . والعذاب ضده السلام ، فلا يجتمعان في حق شخص واحد في محياه ومماته ، بدليل قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أن عذاب المنزلين على من كذب وتولى.

{قَالَ : فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ؟ قَالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ} من الأنواع {خَلْقَهُ} صورته وشكله الذي يطابق كماله الممكن له ، أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ، ويرتفقون به ، وقيل: أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة زوجا ، وقيل: أعطى كل مخلوق ما لا يستقيم إلا به ، وقيل: أعطى {كل} شيء صلاحه ، وهداه لما يصلحه . {ثُمَّ هَدَى} ثم عرفه كيف يترفق بما أعطي ، وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا ، وهو جواب في غاية البلاغة ، لاختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها ، ودلالته على أن الغني القادر بالذات ، المنعم على الإطلاق هو الله تعالى ، وأن جميع ما عداه مفتقر إليه ، منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله . ولذلك بهت الذي كفر ، وأفحم عن الدخل عليه ، فلم ير إلا صرف الكلام عنه ، فقال:

{قَالَ: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}؟ فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة؟ {قَالَ: عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} أي: أنه غيب لا يعلمه إلا الله ، وإنما أنا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به {فِي كِتَابٍ} مثبت في اللوح المحفوظ. ويجوز أن يكون تمثيلا ، لتمكنه في علمه ، بما استحفظه العالم ، وقيده بالكتبة ، ويؤيده: {لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} والضلال: أن يخطىء الشيء في مكانه ، فلم يهتد إليه ، والنسيان: أن يذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك ، وهما محالان على العالم بالذات. ويجوز أن يكون سؤاله دخلا على إحاطة قدرة الله بالأشياء كلها ، وتخصيصه أبعاضها بالصورة ، والخواص المختلفة ، لأن ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء وجزئياتها ، والقرون الخالية ، مع كثرتهم ، وتمادي مدتهم ، وتباعد أطرافهم ، كيف علمه بهم وبأجزائهم وأحوالهم؟! فيكون معنى الجواب أن علمه تعالى محيط بذلك كله ، وأنه مثبت عنده لا يضل ولا ينسى.

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} أي: كالمهد تتمهدونها ، وقرى: {مهادا} وهو اسم ما يمهد ، كالفراش ، أو جمع مهد ، {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} وجعل لكم فيها سبلا بين الجبال والأودية والبراري ، تسلكونها من الأرض إلى الأرض لتبلغوا منافعها . {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ} عدل به من لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية ، لكلام الله عزوجل تنبيها لظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة ، وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته ، {أَزْوَاجًا} أصنافا سميت بذلك لازدواجها ، واقتران بعضها ببعض ، {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} أي: متصرفات في الصور والأغراض والمنافع ، يصلح بعضها للناس ، وبعضها للبهائم ، فلذلك قال:

{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى} لذوي العقول الناهية عن اتباع الباطل ، وارتكاب القبائح ، جمع نهية ، سميت نهية لأنها تنهى صاحبها عن المعاصي.

{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب.

{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} بصرناه إياها ، وعرفناه صحتها. (لعله) من أوتي تأويل القرآن العظيم ، فقد أوتي من آيات الله تعالى. {فَكَذَّبَ وَأَبَى} الإيمان والطاعة لعتوه.

{قَالَ : أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}؟ هذا تعلل وتحير ، ودليل على أنه علم كونه محقا ، حتى خاف منه على ملكه ، فإن ساحرا لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه . {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ} مثل سحرك ، {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ} فإن الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان ، {مَكَانًا سُوًى} .

{قَالَ : مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} قيل: يوم عاشورا ، أو يوم النيروز ، أو يوم عيد كان لهم في كل عام ، وإنما عينه ليظهر الحق ، ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد ، ويشيع ذلك في الأقطار ، {وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} .

{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} ما كاد به ، يعني: السحرة وآلاتهم . {ثُمَّ أَتَى} بالموعد. {قَالَ لَهُم مُّوسَى: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأن تدعوا آياته سحرا. {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} فيهلككم ويستأصلكم به ، والسحت: هو الهلاك . {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} كما خاب فرعون ، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك عليه فلم ينفعه . وهذه الآية تعم جميع العصاة.

{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} أي: تشاورت السحرة في أمر موسى حين سمعوا كلامه ، فقال بعضهم:” ليس هذا من كلام السحر”. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى *  قَالُوا: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } تفسيرا لـ { َأَسَرُّوا النَّجْوَى}. { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم} بالاستيلاء عليها ، لأنه إذا استولى عليهم فلم يبق لهم رأي ولا تدبير ، فكأنه في المعنى أخرجكم من أرضكم ، وكل ذلك حب للرئاسة ، كما قال:{ وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ }.{ بِسِحْرِهِمَا ، وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب ، بإظهار مذهبه وإعلاء دينه ، لقوله:{ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ } ، وقيل أرادوا أهل طريقتكم ، وهم بنو إسرائيل ، فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم ، لقول موسى: {أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } ، وقيل الطريقة: اسم لوجوه القوم وأشرافهم ، من حيث أنهم قدوة لغيرهم.

{ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} أي : اجعلوا مجمعا عليه، لا يختلف عنه واحد منكم ، أي: اعزموا على الكيد من غير اختلاف بينكم فيه ، والكيد: يؤتى به على خفيه ، {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين ، قيل: كانوا سبعين ألفا ، مع كل واحد منهم حبل وعصا ، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة. {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} فاز بالمطلوب من غلب وترأس.

{قَالُوا : يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ ، وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} ؟ أي: بعدما أتوا مراعاة للأدب. {قَالَ: بَلْ أَلْقُوا} مقابلة أدب من الأول بأدب ، وعدم مبالاة بسحرهم ، وإسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في شقهم  ، وتغيير النظم في وجه أبلغ {كذا} ، ولأن يبرزوا ما معهم ، ويستنفدوا أقصى وسعهم ، ثم يظهر الله سلطانه ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه.

{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} قيل: إنهم لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت ، فخيل إليه أنها تتحرك. {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} فأضمر فيها خوفا من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية ، أو أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه.

{قُلْنَا : لَا تَخَفْ} ما توهمت {إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى} الغالب ، {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} تبتلعه بقدرة الله ، {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} وقرىء: { كَيْدُ سحر} بمعنى: ذي سحر ، أو بتسمية الساحر سحرا للمبالغة، { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} حيث كان ، وأين أقبل ، لأنه وهمي لا حقيقة له.

{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} أي: فألقي ، فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر ، وإنما هو من آيات الله ، ومعجزة من معجزاته ، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا لله ، توبة عما صنعوا وإعتابا ، وتعظيما لما رأوا ، ويجوز أن يكون الإلقاء بمعنى: الاستسلام والانقياد. { قَالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}.

{ قَالَ :آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} في الإيمان له؟ { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} لعظيمكم في وقتكم وأعلمكم به ، أو أستاذكم { الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وأنتم تواطأتم على ما فعلتم . { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}.

{ قَالُوا: لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نختارك { عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}المعجزات الواضحات ، {وَالَّذِي فَطَرَنَا} عطف على:ط ما جاءنا” . {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ} ما أنت قاضيه ، أي: صانعه . {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} إنما تصنع ما تهواه ، أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا ، والآخرة خير وأبقى.

{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} من الكفر والمعاصي ، {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} في معارضة المعجزة. روي: أنهم قالوا لفرعون: “أرنا موسى نائما” ، فوجدوه تحرسه العصا ، فقالوا:” ما هذا بسحر! فإن الساحر إذا نام بطل سحره ” ، فأبى إلا أن يعارضوه. {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} جزاء ، أو خير منك ثوابا ، وأبقى عقابا.

{إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} بأن يموت على كفره وعصيانه. {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح ، {وَلَا يَحْيى} حياة مهنأة. {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} بأن يموت على الإيمان ، {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ ، فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى } تطهر من أدناس الكفر والمعاصي.

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي: من مصر ، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا، لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} (لعله) قيل: لا تخاف فرعون ، ولا تخشى البحر . {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ} أي: علاهم من البحر {مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي: أضلهم في الدين ، وما هداهم.

ثم ذكر الله بني إسرائيل نعمه ، فقال(لعله) لإنزال الكتاب: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} (لعله) للميقات ، وهو من أجل النعم الدينية والدنيوية. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}.

{كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} فيما رزقناكم بالإسراف ، وبإخلال عن شكره ، والتعدي لما حد الله لكم فيه ، كالبطر ، والمنع عن المستحق ، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} فليزمكم عذابي في الدنيا والآخرة . ويجب عليكم من أجل الدين إذا وجب أداؤه. {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} فقد تردى وهلك ، ووقع في الهاوية من حيث لا يشعر.

{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ثم استقام على الهدى المذكور، وقيل: علم أن ذلك بتوفيق الله له ، لا بقوته وحوله ، (لعله) وقيل: لزم الإسلام حتى مات عليه ، وقيل: علم أن له ثوابا ، وقيل: تعلم العلم ليهتدي كيف يعمل.

{وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى}؟ سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها من حيث أنها مقتضية في نفسها ، انضم إليها إغفال القوم ، وإبهام التعظيم عليهم ، فلذلك أجاب موسى عن الأمرين، وقدم جواب الإنكار لأنه أهم: {قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي} ما تقدمتهم إلا بخطى بسيرة ، لا يعتد بها عادة ، وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة ، يتقدم بها الرفقة بعضهم بعضا . {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} فإن المسارعة إلى امتثال أمرك ، والوفاء بعهدك ، يوجب مرضاتك ، كأنه رأى الاستعجال أحسن ، وإن كان تركه حسنا.

{قَالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} ابتليناهم بعبادة العجل ، بعد خروجك من بينهم ، وهم الذين خلفهم مع هارون ، {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} باتخاذ العجل، والدعاء على عبادته.

{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ} عليهم {أَسِفًا} حزينا بما فعلوا . {قَالَ : يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا}؟ بأن يعطيكم التوراة فيها هدى ونور . {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ}؟ أي: الزمان ، يعني: زمان مفارقته لهم.

{أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ} يجب عليكم {غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} بعبادة ما هو مثل في في الغباوة ، ولا يضر تركه ، ولا تنفع عبادته ، وأنه شغل وعناء وكدح جزاؤه جهنم ، {فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي} وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله ، والقيام على ما أمركم به.

{قَالُوا: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} بأن ملكنا أمرنا، إذ لو خلينا وأمرنا ، ولم يسول لنا السامري ، لما أخلفناه ، {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} أحمالا من حلي القبط على ما قيل ، {فَقَذَفْنَاهَا} أي: في النار ، {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} أي: ما كان معه منها.

{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} من تلك الحلي المذابة ، له صوت ، {فَقَالُوا} يعني: السامري ومن افتتن به أول ما رآه: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} أي: فنسيه موسى، وذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري ، أي: ترك ما كان عليه من إظهار الإيمان.

{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} أنه لا يرجع إليهم كلاما ، ولا يرد عليهم جوابا ، {وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ } من قبل رجوع موسى : {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ} ابتليتم به اختبارا ، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} لا غير ، {فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} في الثبات على الدين.

{قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} على العجل وعبادته مقيمين ، {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}.{قَالَ يَا هَارُونُ} أي: قال له موسى لما رجع:{ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} بعبادة العجل {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} أن تتبعني في الغضب لله ، والمقاتلة لمن كفر به ، {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}؟ بالصلابة في الدين ، والمحاماة عليه .

{قَالَ : يَا ابْنَ أُمَّ} خص الأم استعطافا وترفيقا ، وقيل: لأنه أخوه من أمه. {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} أي: شعر رأسي ، قبض عليهما بجره إليه من شدة عيظه ، وقوة غضبه لله . وكان عليه السلام حديدا خشنا متصلبا في كل شيء ، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل. {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ : فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} لو قاتلت أو فارقت بعضهم ببعض ، {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} حين قلت: { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ } ، وإن الإصلاح كان في حفظ الدهماء ، والمدراة بهم إلى أن ترجع إليهم ، فتدارك الأمر برأيك.

{قَالَ : فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}؟ ثم أقبل عليه ، وقال له منكرا: ما خطبك؟ أي: ما طلبك له ؟ وما الذي حملك عليه؟ وهو مصدر خطب الشيء : طلبه. {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أي: علمت ما لم يعلموه ، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} من تربة موطئه ، {فَنَبَذْتُهَا} في الحلي المذابة ، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} زينته وحسنته إلي.

{قَالَ:فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ} عقوبة على ما فعلت {أَن تَقُولَ: لَا مِسَاسَ} خوفا من أن يمسك أحد ، فتأخذك الحمى ، ومن مسك فتحامي الناس وتحاموك ، فتكون طريدا وحيدا كالوحشي النافر ،بحيث لو مسه أحد ، أو مس هو أحدا حم كلاهما(لعله الدهماء: الجماعة الكثيرة). {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا} في الآخرة {لَّنْ تُخْلَفَهُ} لن يخلفك الله ، وينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك في الدنيا . ويوجد عن أبي سعيد فيما أرجو أنه قال: ” وكذلك انصبا{كذا} في السامري ، وهو معنا في ظاهر الآية لزوم الوعيد من لزوم العقوبة في الدنيا ، والوعيد في الآخرة”. {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} ظللت على عبادته مقيما ، {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} اي: بالنار ، {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ} لنذرينه رمادا {فِي الْيَمِّ نَسْفًا} فلا تصادف منه شيئا . والمقصود من ذلك : زيادة على عقوبته ، وإظهار غباوة المفتتنين به ، لمن له أدنى نظر ، وهكذا يجب إلقاء كل ما يشغل عن الله.

{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ} المستحق للعبادة {اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إذ لا أحد يماثله أو يدانية في كمال العلم والقدرة ، {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} وسع علمه كل ما يصح أن يعلم ، لا العجل الذي يصاغ ويحرق.

{كَذَلِكَ} مثل ذلك الاقتصاص ، يعني: اقتصاص قصة موسى {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ} من أخبار الأمور الماضية ، والأمم الدارجة ، تبصرة لك ، وزيادة في علمك ، وتكثيرا لمعجزاتك ، وتنبيها وتذكيرا للمستبصرين من أمتك ، {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا} كتابا مشتملا على هذه الأقاصيص والأخبار ، حقيقا بالتفكير والاعتبار.

{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} عن الذكر – الذي هو القرآن الجامع لوجوه السعادة والنجاة – فلم يؤمن به ، ولم يدبر آياته ، ولم يعمل بمقتضاه ، أو عن الله . {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} عقوبة ثقيلة فادحة على كفره وذنوبه. سماها وزرا في ثقلها على المعاقب ، وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح الحامل ، وينقض ظهره ، أو إثما عظيما {خَالِدِينَ فِيهِ} في الوزر ، وفي حمله . {وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} أي: بئس لهم ، أي: ساء حملا وزرهم.

{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} زرق العيون ، وصفوا بذلك ، لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها ، أو عميا ، فإن حدقة الأعمى تزرق ، وقيل: عطاشا ، {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} يخفضون أصواتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول . والخفت: خفض الصوت وإخفاؤه . {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} أي: في الدنيا يستقصرون مدة لبثهم فيها لزوالها ، ولاستطالتهم مدة الآخرة ، أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد ، وعلموا أنهم استحقوا على إضاعتهما في قضاء الأوطار ، واتباع الشهوات ، أو في القبر لقوله : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} وهو مدة لبثهم ، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أعدلهم رأيا وعملا: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} استرجاع لقول من يكون أشد أثقالا منهم.

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} عن مآل أمرها ، {فَقُلْ : يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} يجعلها كالرمل ، ثم يرسل عليها الرياح فتقرعها ، {فَيَذَرُهَا} فيذر مقارها ، أو الأرض {قَاعًا} خاليا {صَفْصَفًا} مستويا ، كأن أجزاءها على وصف واحد. {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} اعوجاجا ولا نتوءا ، إن تأملت فيها بالقياس الهندسي. وثلاثتها أحوال مرتبة ، فالأولان: باعتبار الإحساس ، والثالث: باعتبار القياس ، ولذلك ذكر العوج بالكسر ،وهو يخص المعاني ،والأمت ، وهو النتوء اليسير ، وقيل” لا ترى” استئناف للحالين. وعن الحسن :” العوج : ما انخفض من الأرض ، و الأمت: ما ارتفع من الروابي”.

{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} داعي الله إلى المحشر ، قيل: هو إسرافيل يدعو الناس إليه ، {لَا عِوَجَ لَهُ} لا يعوج له مدعو ، أو لا يعدل عنه . {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} خضعت  لمهابته ، وسكنت وذلت ، وصف الأصوات بالخشوع ، والمراد : أهلها ، {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} صوتا خفيفا ، ومنه الهمس: لصوت أخفاف الإبل ، وقد فسر الهمس: بخفق أقدامهم ، ونلقها إلى المحشر.

{يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} إلا شفاعة من أذن له {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} أي: ورضي لمكانه عند الله قوله في الشفاعة ، أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه ، أو قوله لأجله ، لأنه قال صدقا ، وعمل حقا.

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعلم ما تقدمهم من الأحوال ، {وَمَا خَلْفَهُمْ} وما بعدهم فيما يستقبلونه ، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ولا يحيط علمهم بمعلوماته ، وقيل: بذاته ، كما قال:{ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي: ما عرفوه حق معرفته ، وقيل: الضمير لأحد الموصلين ، أو لمجموعهما ، فإنهم لم يعلموا جميع ذلك ، ولا تفصيل ما علموا منه.

{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} ذلت وخضعت له خضوع العناة ، وهم الأسارى في يد الملك القهار. وظاهرها يقتضي العموم ، ويجوز أن يراد بها وجوه المجرمين ، ويؤيده : {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} أي: من مات مصرا ، كذا قال أبو عبدالله.

{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إذ الإيمان شرط في صحة الطاعات ، وإلا فهي حسرة لعاملها. {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا} منع ثواب مستحق بالوعد ، {وَلَا هَضْمًا} ولا كسرا منه بنقصان.

{وَكَذَلِكَ} عطف على :{كذلك نقص} ، أي: مثل ذلك الإنزال ، أو مثل إنزال هذه الآيات المتضمنة للوعيد ، {أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} كله على هذه الوتيرة ، {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} مكررين فيـ{ـه} آيات الوعيد ، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} المعاصي ، فتصير التقوى لهم ملكة ، {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} عظة وإعتبارا ، حين يسمعونها ، فيثبطهم عنها . ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم ، والإحداث إلى القرآن.

{فَتَعَالَى اللَّهُ} في ذاته وصفاته ، عن مماثلة المخلوقين . ولا يماثل كلامه كلامهم ، كما لا يماثل ذاته ذاتهم ، {الْمَلِكُ} النافذ أمره ونهيه ، الحقيق بأن يرجى وعده ، ويخشى وعيده {الْحَقُّ} في ملكوته ، يستحقه لذاته ، أو الثابت في ذاته وصفاته.

{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} نهى عن الاستعجال – في تلقي الوحي من جبريل ، ومساوقته في القراءة ، حتى يتم وحيه – بعد ذكر الإنزال على سبيل الاستطراد ، وقيل: نهى عن تبليغ ما كان مجملا قبل ان يأتي بيانه. {وَقُل : رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي: سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال ، ومعنى السؤال: يحتمل بمعنى التعلم.

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} أمرناه ، يقال: عهد إليه إذا أمره . وإنما عطف قصة آدم على قوله:{ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} للدلالة على أساس بني آدم على العصيان ، وعرقهم راسخ في النسيان . {مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} العهد ، ولم يعنى به حتى غفل ، أو ترك ما وصي به من احتراز عن الشجرة ، قال أبو الحسن والعباد:” على طبع أبيهم في النسيان”. {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ} في حال نسيانه {عَزْمًا} تصميم رأي ، وثباتا على الأمر ، إذ لو كان ذا عزيمة وتصلب ، لم يزله الشيطان . ولعل ذلك في بدء أمره ، قبل أن يجرب الأمور . وعن النبي عليه الصلاة والسلام :” لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حكمه”.

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا : يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا } فلا يكونن سببا لإخراجكما {مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} فتضل تائها حيرانا ، {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى } أي: لا تبرز للشمس فيؤذيك حرها ، فإنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية ، وقطب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والكن ، مستغنيا عن اكتسابها والسعي في تحصيل أغراضها ، عسى ينقطع ويزول منها ، بذكر نقائضها ، ليطرق سمعه بأصناف الشقوة المحذر منها . {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} فأنهى إليه وسوسته ، {قَالَ : يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} الشجرة التي من أكل منها خلد ولم يمت أصلا ، فأضاف إلى الخلد وهو الخلود ، لأنه سببه بزعمه ، {وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} لا يزول ولا يضعف.

{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا} على سوآتهما {مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} أخذا يلزقان الورق على سوآتهما للتستر ، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} فضل عن المطلوب ، حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله ، فخاب ولم ينل مراده ، لأنه طلب ما لا يدرك ما دام متعبدا . {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اصطفاه وقربه لما تقرب ، {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} إلى الثبات على التوبة ، والتسبب بأسباب العصمة .

{قَالَ : اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} لأمر المعاش ، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب . {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} قيل: حججه من حيث أتته ، {فَلَا يَضِلُّ} بالضلال ، لأنه عذاب في الدارين(لعله) عن الجادة {وَلَا يَشْقَى} قال ابن عباس:” أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا ، ويشقى في الآخرة ” ، وقرأ: الآية.

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} عن الهدى الذاكر لي ، والداعي إلى عبادتي من حيث جاءهم ، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} ضيقا ، وذلك لأن مجامع همه ، ومطامح نظره يكون إلى أغراض الدنيا ، متهالكا على ازديادها ، خائفا على انتقاصها ، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة ، مع أنه تعالى قد يضيق بشؤم الكفر ، ويوسع ببركة لأهل الإيمان ، كما قال: { وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } ،  { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ، وقيل: هو الضريع والزقوم في النار ، ويحتمل فيه ، لأنه معيشة الحياة الدنيا قليلة في جنب الآخرة ، كما قال:{ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا } وعلى كل حال فإن معيشتهم ضنك ، لأنهم ليس عليها يؤجرون {كذا} . وروي عن ابن عباس أنه قال:” كل ما أعطى العبد قل أو كثر ، فلم يتق فيه ، فلا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة”. وإن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، وكانت معيشتهم ضنكا، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس بمخلف عليهم ، فاشتدت عليهم من سوء ظنهم . {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} أعمى البصر ، أو القلب ، ويؤيد الأول {قوله}:

{قَالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى ، وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ؟ قَالَ :كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا } فتعاميت عنها ، وتركتها غير منظور إليها ، {وَكَذَلِكَ} ومثل تركك إياها {الْيَوْمَ تُنسَى} تترك في العمى والعذاب.

{وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} بالانهماك في الشهوات ، والإعراض عن الآيات ، {وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} بـ{الـ}ــعذاب الأدنى ، لأنه قال:{ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} مما جوزي به في الدنيا.

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أي: أفلم يبين لهم {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ويشاهدون آثار هلاكهم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى} لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي.

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا} لكان مثل ما نزل بعاد وثمود ، لازما لهؤلاء الكفرة. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} عطف على”كلمة” ، أي: ولولا العدة بتأخير العذاب ، وأجل مسمى لأعمارهم.

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} من الإفك ، لأنه يتأذى به ، ولا يدفع إلا بالصبر ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وصل ، وأثن حامدا لربك على هدايته وتوفيقه ، أو نزهه عن الشرك ، وسائر ما يضيفون إليه من النقائص ، حامدا له على ما ميزك بالهدى ، معترفا بأنه المولي للنعم كلها. {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} قبل صلاة الغداة ، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا . وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ} من ساعته ، {فَسَبِّحْ} قبل المغرب والعشاء . وإنما قدم الزمان فيه لاختصاصه بمزيد الفضل ، فإن القلب فيه أجمع ، والنفس أميل إلى الاستراحة ، فكانت العبادة فيه أحسن ، ولذلك قال: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } . {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} أي: تسبح في هذه الأوقات طمعا أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك.

{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} استحسانا له ، وتمنيا أن يكون لك مثله. {أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} أصنافا من الكفرة ، (لعله) لأن كل صنف متع بما لم يمتع به الصنف الآخر ، والكل لا خير فيه بل هو شر لهم ، {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} أي: زينتها وبهجتها وغرورها ، {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنعذبهم في الدنيا والآخرة بسببه. {وَرِزْقُ رَبِّكَ} وما أدخر لك في الآخرة ، أو رزقك من الهدى والنبوة ، أو ما رزقك الله من الحلال ، {خَيْرٌ} مما منحهم في الدنيا {وَأَبْقَى} فإنه لا ينقطع.

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} أمره بأن يأمر أهل بيته بالصلاة ، بعد ما أمره بها ، ليتعاونوا على الاستعانة في خصاصتهم ، ولا يهتموا بأمر المعيشة ، ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة ، {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} وداوم عليها بالتصبر . {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} لا نكلفك أن ترزق نفسك ، ولا أهلك ، إنما نكلفك عملا ، {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} وإياهم ، ففرغ بالك لأمر الآخرة . {وَالْعَاقِبَةُ} المحمودة {لِلتَّقْوَى} لذي التقوى.

{وَقَالُوا: لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ} تدل على صدقه في ادعاء النبوة ، أو بآية مقترحة ، إنكارا لما جاء من الآيات ، أو للاعتداد به تعنتا وعنادا ، فألزمهم بإتيانه بالقرآن الذي هو أم المعجزات وأعظمها وأبقاها ، لأن حقيقية المعجزة: اختصاص مدعي النبوة بنوع من العلم أو العمل عى وجه خارق للعادة ، ولا شك أن العلم أصل العمل ، وأعلى منه قدرا ، وأبقى أثرا ، فكذا ما كان من هذا القبيل. وينبههم أيضا على وجه أبين من وجوه إعجازه المختصة بهذا الباب ، فقال:{ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} من التوراة والإنجيل ، وسائر الكتب السماوية ، فإن اشتمالها على ما فيها من العقائد والأحكام الكلية – مع أن الآتي بها أمي لم يرها ، ولم يتعلم ممن علمها – إعجاز بين ، وفيه إشعار بأن كمال يدل على نبوته ، {و}برهان لما تقدمه من الكتب ، من حيث أنه معجز ، وتلك ليست كذلك ، بل هي مفتقرة إلى ما يشهد على صحتها.

{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ} من قبل القرآن ، أو محمد ، {لَقَالُوا : رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} يدعونا ، { فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} وهكذا كقوله : { أَن تَقُولُواْ : مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} ، وقوله:{ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}  . {قُلْ :كُلٌّ} منا ومنكم {مُّتَرَبِّصٌ} منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم . {فَتَرَبَّصُوا ، فَسَتَعْلَمُونَ} بعين اليقين عند الموت ، أو الجزاء . {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} المستقيم ، {وَمَنِ اهْتَدَى} من الضلالة ، نحن أم أنتم.