بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مبدعها، من الفطرة بمعنى: الشق، كأنه شق العدم بإخراجها منه، {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده، يبلغون إليه رسالاته بالوحي والإلهام، {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ذوي أجنحة متعددة، متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب، وينزلون بها ويعرجون، أو يسرعون نحو ما وكلهم الله عليه، فيتصرفون فيه على ما امرهم به.
{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}استئناف للدلالة على ان تفاوتهم في ذلك مقتضي مشيئة ومؤدى حكمته، لا أمر تستدعيه ذواتهم؛ قيل سأل النبي عليه السلام جبريل أن يتراءى له صورته، فلما رآه غشي عليه، فلما أفاق قال: » سبحان ] الله[، ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا« !، فقال جبريل: كيف لو رأيت إسرافيل؟ إن له اثنا عشر جناحا، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب« ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} وتخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض إنما من جهة الإرادة.
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ} ما يطلق لهم ويرسل {مِنْ رَحْمَةٍ} كنعمة وأمن وصحة وعلم ونبوة، {فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} يحبسها، {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} يطلقه من بعد إمساكه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب على ما يشاء، ليس لأحد أن ينازعه فيه، {الْحَكِيمُ (2)} لا يفعل إلا بعلم وإتقان، ثم لما بين أنه الموجد للملك والملكوت، والمتصرف فيهما على الإطلاق، أمر الناس بشكر إنعامه، فقال:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} احفظوها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وطاعة مولاها؛ ثم أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل قيستحوا أن بشرك به بقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} فيكون شئ قد خولكم شيئاً مما مر، ومن أجل النعم عليهم إيجادهم وخلقه إياهم، ثم رزقه إياهم، كما قال: {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)} فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الإشراك.
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} فتأس بهم في الصبر على تكذيبهم إياهم، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)}فيجازيك على الصبر ويجازيهم على التكذيب.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} لا خلف فيه، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فيذهلكم التمتع بها عن الجواز إلى الآخرة، كما قيل: إنها قنطرة فاعبروها ولا تعمروها، {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} الشيطان، بأن يمنيكم المغفرة مع الإصـرار على المعصـية. {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} عـداوة عـامة قديمـة، {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} في عقائدكم وأعمالكم وأقوالكم، وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} تقرير لعدوته وبيان ولغرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى، والركون إلى الدنيا، (لعله) فيكبهم معه في نار السعير.
{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الدارين،{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)} وعد لمن أجاب دعاءه ووعيد لمن خالفه.{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} بأن غلب همه وهواه على عقله حتى انتكس رأيه فصار يقعش على أم رأسه، فظن الباطل حقا والقبيح حسناً، والعذاب الشديد في الدنيا عذابا حسنا، كمن لم يزين له، بل توقف، وتابى حتى عرف الحق، واستحسن الحسن، واستقبح القبيح؟ {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} معناه لا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على المخالفة، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} وعيد وتهديد.
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} على حكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة، {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) }أي مثل: إحياء الأموات في صحة المقدور به.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} الشرف والمنعة، {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} فيطلبها من عنده بطاعته وترك معصيته، فان فيه الجاه الحقيقي والمنعة التي لا ترام، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} بيان لما يطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح، وصعودها غليه مجاز عن قبوله إياهما؛ والكـلام الطيب يتناول الذكر، {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} أي: يخفونها وهو الرياء، {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (لعله) وهو مكرهم السيئات في الدنيا، والجزاء عليه في العقبى، {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)} يفسد ولا ينفذ، ولا يصعد كالعمل الصالح.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} من عمر المعمر {إِلَّا فِي كِتَابٍ} هو علم الله أو اللوح، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}.
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ضرب مثل للمؤن والكافر؛ والفرات: الذي يكسر العطش، والسائغ: الذي يسهل انحداره، والأجاج الذي يحرق بملوحته، {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} استطراد في صفة البحرين، وما فيهما من النعم، أو تمام التمثيل؛ والمعنى: كما أنهما وإن اشتراكا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء، فإنه إن خالطه أحدهما ماء أفسده وغيره عن كمال فطرته، فكذا لا يساوي المؤمن والكافر – وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة – لاختلافهما فيما هو الخاصة العظمى، وبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر؛ {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} تشقق الماء بجريها، {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)} على ذلك.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} هي مدة دورة، أو منتهاه، أو إلى يوم القيامة، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} الإشارة إلى ]أن[ الفاعل لهذه الأشياء مستحق للإلهية دون غيره، بدليل قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)} للدلالة على تفرده بالألوهية والربوبية، والقطمير: لفافة النواة. {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} لعدم قدرتهم على الانفاع،{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} لهم ويقرون ببطلانه، أو يقولون: » ما كنتم إيانا تعبدون« ، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} ولا يخبرك بأمر مخبر مثل خبير به أخبرك، وهو الله تعالى، فإنه الخبير به على الحقيقة دون سائر المخبرين، والمراد تحقيق ما أخبره من حال آلهتهم، ونفي ما يدعون لهم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} في أنفسكم وما يعن لكم؛ وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم، فإنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء، أو أن افتقار سائر الخلائق بالإضافة إلى فقرهم غير معتد به، ولذلك قال: {وخُلق الإنسان ضعيفا}، {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} الغني على الإطلاق، المنعم على سائر الموجودات حتى استحق عليهم الحمد.
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)} بقوم آخرين أطوع منكم، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه. {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)} بمتعذر ولا متعسر.
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ولا تحمـل نفس آثمة إثم نفس أخرى؛ وأما قوله: {وليحملُنَّ أثقالَهم وأثقالاً مَعَ أثقالهم} ففي الضالين المضلين، فإنهم يحملون أثقال إضلالهم، وكل ذلك أوزارهم ليس فيها من أوزار غيـرهم، {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} نفس أثقلها ما حملته من الأوزار {إِلَى حِمْلِهَا} إلى حمل بعض أوزارها، {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} لم تجب لحمل شئ منه، نفى أن يحمل عنها ذنبها، كما نفى أن يحمل عليها ذنب غيرها، وثقل هذا الحمل لا تحس به النفوس الغافلة في الحياة الدنيا، بل يتميز بمعرفته ذوو الألباب في الدنيا، وفي الآخرة تنكشف حقيقته للجميع، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ولو كان المدعو ذا قرابتها.
{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} لا يرون حقائق الغيب بعين اليقين، وحين ما يرى بعين اليقين الإيمان في ذلك الحين، لأن التعبد قد ارتفع ووجب جزاؤه. {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} فإنهم المنتفعون بالإنذار لا غير، {وَمَنْ تَزَكَّى} تطهر من طباع نفسه الأمارة بالسوء، {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} إذ نفعه لها، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} فيجازي الجميع.
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)} الكافر والمؤمن، وقيل الشيطان والله أعلم. {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)} ولا الباطل و] لا[ الحق {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)} ولا الثواب ولا العقاب. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} لا يستوي العلماء ولا الجهلاء، {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} هدايته، فنوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات. {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)} فما عليك إلا الإنذار، وأمل القبول فليس إليك ولا حلية لك إليه في المطبوع على قلوبهم.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} محقين، أو محقا،أو إرسالا مصحوبا بالحق، أو نذيرا بالوعيد الحق، {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ} أهل عصر، {إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} من نبي أو عالم ينذر عنه. {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات الشاهدة على نبوتهم، {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)}؟ أي:إنكاري بالعقوبة.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} أجناسها وأصنافها، {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} أي:ذو جدد،أي: خطط وطرائق، {وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} بالشـدة والضـعف، {وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)} عطـف على »بيـض«، أو على »جدد«. {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} كاختلاف الثمار، والجبال، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} إذ شرط الخشية: معرفة المخشي، والعلم بصفاته وأفعاله، فمن كان أعلم به كان أخشى منه؛ وكذلك قيل: »كفى بالمرء عالما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله«، ولذلك قال عليه السلام: »إني أخشاكم الله وأتقاكم له« ، ولذلك أتبعه ذكر أفعاله الدال على كمال قدرته فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} تعليل لجواب الخشية الدالة على أنه معاقب للمصر على طغيانه، غفور للتائب عن عصيانه.
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} يداومون قراءته بمتابعة ما فيه، حتى صارت سمة لهم وغفرانا، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} كيفمـا اتفق، {يَرْجُونَ تِجَارَةً} تحصيل أبواب الطاعة، {لَنْ تَبُورَ (29)} لن تكسد، ولن تهلك بالخسران، صفة للتجارة، وقوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} أي: ينتفي عنها الكساد، وتنفق عند الله ليوفيهم أجور أعمالهم، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} على ما يقابل أعمالهم، {إِنَّهُ غَفُورٌ} لصغائرهم، {شَكُورٌ (30)} لطاعتهم.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} يعني القرآن، {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أحقه مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية، حال مؤكدة، لأن حقيقته تستلزم موافقته إياها في العقائد وأصول الأحكام، {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)} عالم بالبواطن والظواهر، فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المجز الذي هو عيار على سائر الكتب؛ وتقديم الخبرة للدلالة على أن العمدة في ذلك الامور الروحانية.
وروى لنا أبو سعيد أنه يوجد في تفسير قول الله عزوجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} قال أبو سعيد: » فما كان ميراثهم له بملك ولا باستزادته دون غيرهم، ولكن ورثهم الله تبارك وتعالى من الكتاب أو من أحكام الكتب أن جعلهم حجة له، وأعيانا في الأرض، شهودا وقواما، وأدلة، وحجة لمن تبعهم، وعلى من اتبعهم، ولمن طاعهم وعلى من أطاعهم، كما جعل النبيين والرسل حجة وشهودا وأدلة، والإ فما ورثوا منه وما جعلوا ورثة في شئ منه ملـكا؛ ومن شـواهد ذلك قولـه: {وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسوله} ، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فأحسب أن في بعض ما قيل في التأويل أن الظالم لنفسه منهم: الذي يرتكب الذنوب والمعاصي ويتوب، ويطلب المعاش من أمور الدنيا من وجوه الحلال، والمتقصد الذي لا يأتي شيئاً من المعاصي الإ أنه يتعرض بالشيء في الدنيا للمعاش، والسابقون بالخيرات: الزهاد والعباد المنقطعون إلى الله، الذين لا يتعرضون لشئ من المعاش من أمور الدنيا، والأحبار معهم انهم العلماء؛ وأما الربانيون فعندي أنهم فوق الأحبار معي في العلم، وهو اسم العلماء« انتهى. {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} الإشارة إلى التوريث أو الاصطفاء أو السبق.
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}همهم من خوف العاقبة، أو من أجل المعاش وآفاته، أو من وسوسة إبليس، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} كلال إذ لا تكليف فيها ولا كد.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ} لا يحكـم عليــهم بمــوت {فَيَمُوتُوا} فيستريحوا، {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} ولا يأتي عليهم حال فيخفف عنهم، بل خالدين فيها أبدا، {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} يستغيثون، يفتعلون، من الصراخ: وهو الصياح، استعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته. {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} بإضمار القول؛ وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور ، للتحسر على ما عملوه من غير الصالح ، والاعتراف به ، والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه، ولعلهم كانوا يحسبون أنه صالح، والان حقق لهم خلافة؛ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} جواب من الله وتوبيخ لهم ،{ وَمَا يتذكَّر فِيهِ من تذكَّر} متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر والتذكر، كأنه قيل: عمرناكم وجاءكم النذير، وهو النبي، أو الكتاب، أو العقل، الشيب أو موت الأقارب؛ وقيل: عشر سنين؛ وقيل اثنتي عشرة سنة؛ وقيل ثماني عشرة؛ وقيل عشرين سنة ، والمعنى هنا: قيام الحجة على المرء بكمال عقله وبلوغ سنه ، فإذا بلغ سناً، وكمل عقلا فذلك العمر الذي تقوم عليه فيه الحجة، ولو عصى الله بعد ذلك طرفة عين ولم يعمر غيرها ثم مات على ذلك كان مقطوع العذر، هالكاً بمعصيته بعد بلوغ سنه، وكمال عقله، شاب أو يشب؛ فصح معنا هذا القول هو أصح الأقوال من التأويل، {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)} يدفع العذاب عنهم.
{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لا تخفى عليه أحوالهم. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)} تعليل له، لأنه إذا علم مضمرات الصدور – وهي أخفى ما يكون – كان علما لغيره. {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} ملقي إليكم مقاليد التصرف فيها، فينظر كيف تعلمون، وذلك يتناول كل متعبد فيما هو مستخلف فيه، كما قال عليه السلام: » ألا وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته« ، {فَمَنْ كَفَرَ} فيما هو مستخلف فيه {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} جزاء كفره؛ {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} بغضا، {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)} بيان له، والتكرير للدلالة على أن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني آلهتهم؛ والإضافة إليهم إنهم جعلوهم شركاء لله، أو لأنفسـهم فيما يملكونه، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}؟ أي: أخبروني عن هؤلاء الشركاء، أروني أي جزء من الأرض استبدوا بخلقه؛ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} ؟ أم لهم شركة مع الله في خلق السماوات فاستحقوا بذلك شركة في الألوهية ذاتية؟. {أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} ينطق على أنا اتخذناهم شركاء، {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية، {بَلْ إِنْ يَعِدُ} أي ما بعد {الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)} لما نفى أنواع الحجج في ذلك أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تقرير الأسلاف للأخلاف، والرؤساء للأتباع بأنهم شفعاء عند الله يشفعون بالتقرب إليهم.
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا}ما أمسكهما {مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ} أي النذير {إِلَّا نُفُورًا (42)} تباعدا عن الحق. {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ} أو لا يحيط {الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ} ينتظرون {إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ} سنة الله فيهم هلاكهم، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؟ استشهاد عليه بما يشاهدونه في مسائرهم في الأرض من آثار الماضين، {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} ليفوته ويسبقه، {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا} بالأشياء كلها، {قَدِيرًا (44)} عليها.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} من المعاصي، {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} من نسمة تدب عليها بشؤم معاصيهم؛ وفيه دليل أن جميع ما خلق في الأرض منافع لهم؛ وقيل المراد بالدابة: الإنس وحده، ولقوله: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} هو انقضاء آجالهم، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} فيجازيهم على أعمالهم.