سورة فصلت

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ} لعل افتتاح هذه السور السبع بـ»حم« وتسميتها به؛ لكونها مصدرة ببيان الكتاب؛ متشاكلة في النظم والمعنى؛ وإضافة؛التنزيل، إلى ,الرحمن، للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية والدنيوية، {فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ} ميزت باعتبار اللفظ والمعنى، أو فصلت بين الحق والباطل،{قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} فيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)} لأهل العلم والنظر. {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} للعالمين به؛ والمخالفين له؛ {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عن تدبره وقبوله، {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)} سماع تأمل وطاعة.

{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أغطية؛ جمع كنان، {وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ} صمم ، وأصله الثقل، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} خلاف الدين ، وحاجز في النحلة يمنعنا عن التواصل، وهذا تمثيل لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقادهم ومج أسماعهم له ، وامتناع مواصلتهم، وموافقتهم للرسول، {فَاعْمَلْ} على دينك ، أو في إبطال أمرنا , {إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)} على ديننا أو في إبطال أمرك.

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقي منه ، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول والأسماع، وإنما أدعو كم إلى التوحيد والاستقامة في العمل؛  وقد دل عليهما دلائل العقل ،  وشواهد النقل، {فَاسْتَقِيمُوا} في أفعالكم ، متوجهين {إِلَيْهِ} أو فاستووا إليه بالتوحيد والإخلاص في العمل ، {وَاسْتَغْفِرُوهُ} مما أنتم عليه ، من سوء العقيدة والعمل، ثم هددهم على ذلك فقال:

{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)} من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله .{ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} لفرط حبهم للمال، وقلة إيقانهم بثوابها، وعدم خوفهم  من تركها، وقيا: معناه: لا يفعلون ما يزكي أنفسهم، وهو: الإيمان والطاعة، {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} إشعار حالهم بامتناعهم عن الزكاة، لاستغراقهم في حب الدنيا، وإنكارهم للآخرة .{ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}  لا يمن به عليهم.

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)}خالق جميع ما وجد من الممكنات. {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} مرتفعة عليها، ليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار، وتكون منافعها معرضة للطلاب، {وَبَارَكَ فِيهَا} وأكثر خيرها، بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوان، {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أقوات أهلها، بأن عين لكل نوع ما يصلحه ويعيش به، لجميع ما يحتاج إلى الغذاء؛ قيل: قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم، {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} أي: استوت سواء، بمعنى: استواء {لِلسَّائِلِينَ (10)} (لعله) من سأل عنه، عن مدة خلق الأرض وما فيها، أو قدر فيها الأقوات للطالبين.

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا} بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر، وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة، والكائنات المتنوعة؛ أو ائتيا في الوجود؛ على أن الخلق السابق بمعنى: التقدير؛ وقيل: » ائتيا« يعني: أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد، {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} شئتما ذلك أو أبيتما؛ والمراد: إظهار كمال قدرته، ووجوب وقوع مراده، لا إثبات الطوع والكره لهما؛ {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} منقادين بالذات؛ والأظهر أن المراد: تصوير تأثير قدرته فيهما، وتأثرهما بالذات عنها، تمثيلهما بأمر المطاع، وإجابة الطائع المطيع، كقوله: {كن فيكون}، وما قيل: إنه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب، إنما يتصور على الوجه الأول والأخير؛ وإنما قال: » طائعين« على المعنى باعتبار كونهما مخاطبين، كقوله: {ساجدين}.

{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} شأنها، وما يتأتى منها، بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا؛ وقيل: أوحى إليها بأوامره؛ {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} فإن الكواكب ترى كأنها تتلألأ، {وَحِفْظًا} أي: حفظناها من الآفات، أو من المسترقة؛ {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} البالغ في القدرة والعلم.

{فَإِنْ أَعْرَضُوا} عن الإيمان بعد هذا البيان، {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} وهو أخذ كل نفس واستئصالها على حدة بما كسبت. {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من جميع جوانبهم، واجتهدوا بهم من كل جهة، أو من جهة الزمن الماضي بإنذار عما جرى فيه على الكفار؛ ومن جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} وترفضوا عبادة الشيطان والهوى والنفس. {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} برسالته، {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} على زعمكم، {كَافِرُونَ (14)} إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا.

{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فتعظموا فيها على أهلها بغير استحقاق، {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}؟ اعتزاز بقوتهم وشوكتهم؛ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} قدرة؛ فانه قادر بالذات، مقتدر على ما لا يتناهى، قوي على ما ] لا[ يقدر عليه غيره؛ {وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} يعرفون أنها حق وينكرونها.

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} باردة تهلك بشدة بردها، من الصر: وهو البرد الذي يصر، أي: يجمع؛ أو شديدة الصوت في هبربها، من الصرير، {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} مشؤومات ليس فيها من ….؛ {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أضعاف العذاب إلى الخزي، وهو الدال (لعله) على قصد وصفه به لقوله: {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)}  .

َ{وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي: يسرنا لهم أسباب الهدى، وهي: الكتب والرسل، وبصائر العقول، وهي مبذولة، ولا يمنع عنها الإ الأسباب التي تعمي (لعله) القلوب، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فاختاروا الضلالة على الهدى، {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} صاعقة من السماء، فأهلكتهم؛ وإضافتها إلى العذاب، ووصفه بالهون للمبالغة، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)}  من اختيار الضلالة، {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)}  .

{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)} يحبس أولهم على آخرهم، لئلا يتفرقوا، وهي عبارة عن كثرة أهل النار؛ والوازع: من يدبر أمور الجيش، ويرد من شذ منهم.

{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} إذا حضروها،{شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)} بأن أنطقها الله، أو يظهر عليها آثار تدل على ما اقترفت بها، فتنطق بلسان الحال. {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا}؟ سؤال توبيخ، أو تعجب؛ {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أي: ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ، {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)}.

{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ أي: كنتم تسترون ]عن[ الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم، فما استترتم عنها؛ وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أنه لا يمر عليه حال إلا وعليه رقيب، إذ كانت أعضاؤه رقباء عليه؛ {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)} فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.

{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} ظنوا بربهم بالإشراك والشك، أو ظنوا به المغفرة مع الإصرار؛ {أَرْدَاكُمْ} أهلككم، كالذي أردى غيره من علا جبل، {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} إذ صاروا ما منحوا للاستعداد الدارين سببا لشقاء المنزلين.

{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} لا خلاص لهم منها، {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} يسألوا العتبى، وهي: الرجوع إلى ما يحبون، {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)}المحابين إليها؛ وقرئ: » وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين«، أي: إن سئلوا أن يرضوا ربهم، فما هم فاعلون لفوات المكنة.

{وَقَيَّضْنَا} وقدرنا {لَهُمْ قُرَنَاءَ} أخذنا من الشياطين، {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الدنيا، واتباع الشهوات (لعله) حتى آثروه على الآخرة، {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الآخرة (لعله) للأماني الكاذبة، والغرور بالله تعالى.

{وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي: كلمة العذاب، {فِي أُمَمٍ} في جملة أمم، {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} وقد عملوا مثل أعمالهم؛ وفيه دليل على أن عمل الجن كعمل الإنس في أحوال، وإن باينوهم في أحوال، وإنهم ليسوا بمعمرين {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} .

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ} وعارضوه بالخرافات {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} أي : تغلبون في المجادلة؛ قال الغزالي: » فكل من تناظر للغلبة والإقحام، لا ليغتنم الحق إذا ظفر به، فقد شاركهم في هذا الخلق« .

{فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)

ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)} .

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} يعني: شيطاني النوعين الحاملين على الضلال، {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} ندوسهما انتقاما منهما؛ وقيل: نجعلهما في الدرك الأسفل، {لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)}  مكانا أو ذلا.

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} اعترافا بربوبيته، وإقرارا بوحدانيته، {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} فيما يعن لهم بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن؛ أو عند الموت؛ أو القيامة؛ أو في تللك المواطن كلها؛ {أَلَّا تَخَافُوا} ما تقدمون عليه، {وَلَا تَحْزَنُوا} مما يحزن منه ….؛ {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} في الدنيا.

{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} أنصاركم وأولياؤكم {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} نلهمكم الحق، ونحملكم على الخير، بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة، {وَفِي الْآَخِرَةِ} بالشفاعة والكرامة حيثما يتعادى الكفرة وقرناؤهم، {وَلَكُمْ فِيهَا} في الآخرة {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} من اللذائذ،{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)}ما تتمنون، من الدعاء بمعنى: الطلب، {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}   .

(لعله) وعن أبي سعيد: »في تأويل قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} قيل: هو المؤذن بالدعاء إلى الفرائض، {وَعَمِلَ صَالِحًا} قيل: صلى ركعتين قبل الصلاة، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} فذلك واجب على كل أحد ان يدين لله بالإسلام، وأن يقر به، ويعتقده دينا له، ويبرأ من كل دين مما سواه؛ ومثل ذلك ونظيره قوله: {ومن أحسن دينا مِمَّن أَسلَمَ وجهَه لله وَهُوَ محسِنٌ} ؛ والوجه هاهنا قالوا: الدين، {وهو محسن} : في عمله اللزم له في الدين؛ {واتَّبَع مِلَّة إبراهيم حنيفا} وهو الإسلام، ونظائر هذا كثير في كتاب الله، منه ما قاله الله تبارك وتعالى: {ومن يبتغِ غيرَ الإسلامِ ديناً فلن يُقبلَ مِنْهُ وَهُوَ فيِ الآخِرَة مِنَ الخاسرين}. والإجماع في معنى “الإسلام” أنه: الإقرار بالله والإيمان به، والتصديق برسوله المرسل إلى أهل زمانه، وبما جاء به رسوله عنه إلى كل أمة من الأمم، فهذا هو الدين والإسلام المفروض الذي لم يختلف فيه الشرائع، وكان أصلا للشرائع كلها؛ وكذلك هو الدين الإسلام ] المفروض[ على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ]وهو[ الإيمان بالله تعالى ربا إلها واحدا، وبمحمد نبيا ورسولا، وبما جاء به أنه حق وصدق وعدل؛ وقيل: {ومن أحسن قولا مِمَّن دعا إلِىَ الله} فهو الدعاء إلى الله دينه، وعمل بما يدعو من طاعة الله التي دعا إليها، وعمل بها من رسول أو نبي أو صالح، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}  أي: كان مسلما؛ وليس قوله: إنه مسلم، إذا خالف شيئاً من الإسلام بنافع له، ولا يجوز له أن يكون عند نفسه في قوله وعمله ونيته الإ مسلماً لله تعالى، ويتوب إلى الله في اعتقاده من جميع ما خالف الإسلام الذي دان لله به، واعتقده من قول وعمل ونية، في جملة قوله وعمله ونيته، وينبغي أن يجدد ذلك كلما خطر بباله هذا، أنه قد عصى الله بما جهله بقول وعمل ونية، ولا يعذر بجهله، وبموت بمعصيته، فيكون هالكا، وإذا جدد التوبة، ولم يقف على الذنب، وتذكره أجزأه ذلك في الجملة ما لم يكن متمسكا بالذنب، إن لو ذكره لم يكن تائبا منه، وكان على اعتقاده دينونة فيه؛ ومن ها هنا أعجبني أن لا يعتقد من الأمور دينا على كل حال الإ ما لا يشك فيه، وما لم يأت فيه اختلاف يكون فيه ريب، لأنه إذا اعتقد في الجملة لله الدينونة بدينه، كان قد دان بدينه كله، واعتقاده دينا مما ليس بدين هلكة لا يرجى له منها توبة، وكلما تقرب إلى الله بها ازداد بعدا منه، وكلما خاف لقاءه بالموت كان أشد تمسكا بها، حتى يلقاه على التقرب إلى الله بمعصيته، ولا يعذره الله في ذلك بجهالته، لأنه قد كان يمكنه ويسعه أن لا يعتقده دينا بعينه، إذا اعتقد الدين في الجملة؛ وعليه كلما خطر بباله، أن يعتقد أنه ليس من المشركين في الدين، وأنه بريء من المشركين، ومن دينهم، وكل شرك في الدين بجحود أو نفاق« انتهى كلامه.

{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} في الجزاء، وحسن العاقبة؛ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها، وهي الحسنة. أمر بالصبر عند الغضب، وبالحلم عند الجهل، وبالعفو عند الإساءة؛ {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} أي : إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق، مثل الولي الشقيق. {وَمَا يُلَقَّاهَا} وما يلقى هذه السجية، وهي: مقابلة الإساءة بالإحسان، {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} فإنها تحبس النفس عن الانتقام؛ {وَمَا يُلَقَّاهَا} أي : وما يلقى هذه الخصلة الجميلة، {إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} من الخير، وكمال النفس.

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} نخس تشبه وسوسته، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من شره ولا تتبعه، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لاستعاذتك، {الْعَلِيمُ (36)} بنيتك، أو بصلاحك.

{وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)}  فإن السجود أخص العبادات؛ {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} عن الامتثال، {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} من الملائكة {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} أي: لا يملون.

{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} يابسة متطامنه؛ مستعار من الخشوع؛ {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} تزخرفت، وانتفخت بالنبات؛ {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا} بعد موتها {لَمُحْيِي الْمَوْتَى} فإنه لا فرق بين إحيائها بعد موتها، وبين إحياء الموتى، {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}.

{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} يميلون عن الاستقامة {فِي آَيَاتِنَا} بالطعن، والتحريف، والتأويل الباطل، والإلغاء فيها، {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فنجازيهم على إلحادهم؛ {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؟ من جميع ما يخاف من أمر القيامة، لأن خوفهم قد انقضى في الدنيا، {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} تهديد شديد، {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)} وعيد بالمجازاة.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} قيل: بدل من قوله: {إنَّ الذِينَ يُلحِدون فيِ آياتنا}؛ والذكر: التنزيل وتأويله، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)} على الله، كثير النفع عديم النظير، لا يتأتى إبطاله وتحريفه، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات، أو مما فيه من الأخبار والأمور الآتية، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}  يحمده كل خلق بما أظهر عليه من نعم.

{مَا يُقَالُ لَكَ} أي: ما يقول لك كفار قومك، {إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} مثل ما قال لهم كفار قومهم، أو يقول الله لك الإ مثل ما قال لهم، {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} لأنبيائه، {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)} لأعدائهم.

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا} قيل: جواب لقولهم: هلا نزل القرآن بلغة العجم، والضمير للذكر،{لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ} بينت بلسان نفقهه؛ {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}؟ أ كلاك أعجمي ومخاطب عربي، إنكار مقرر للتخصيص؛ والأعجمي يقال للذي لا يفهم كلامه؛ وقيل: يجوز أن يكون المراد: هلا فصلت آياته، فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم، وبعضها عربيا لإفهام العرب، والمقصود إبطال مقترحهم باستلزامه المحذور، أو الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت في الآيات كيف جاءت، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى} إلى الحق، {وَشِفَاءٌ} من الشك والشبهة؛ {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} عموا عن القرآن، وصموا عنه، فلا ينتفعون به، وذلك لتصاممهم عن سماعه يريهم من الآيات، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)}أي: منهم، هو ثمثيل لهم في عدم قبولهم واستماعهم له، بمن يصيح به من مسافة بعيدة.

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} بالتصديق والتكذيب، كما اختلف في القرآن، {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} تقرير الآجال، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} باستئصال المكذبين، {وَإِنَّهُمْ} وإن اليهود والذين لا يؤمنون {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ}   من التوراة، أو القرآن {مُرِيبٍ (45)} موجب للاضطراب.

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} نفعه، {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا }ضره، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} لأنه لا يعلمه غيره؛ {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} من أوعيتها، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} .

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي}؟ الذين تزعمون في الدنيا أنها آلهة؛ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} أعلمناك {قَالُوا آَذَنَّاكَ} من أحد يشهد لهم بالشركة، أو تبرأنا منهم لما تحققت الحقيقة. فيكون السؤال عنهم للتوبيخ. {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)} يعبدون {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ}   يعبدون {مِنْ قَبْلُ} لا ينفعهم، أو لا يرونه، {وَظَنُّوا} وأيقنوا {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)} مهرب.

{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ} لا يمل {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} من طلب السعة والنعمة، {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} الضيق،{فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)} من فضل الله ورحمته؛ وهذا صفة الكافر، لقوله: {إنَّهُ لاَ يَيْأَس من رَّوْحِ الله إلاَّ القومُ الْكَافِرُونَ} . {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} بتفريجها عنه، {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} حتى أستحقه لما لي من الفضل والعمل، {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} تفسير آخر بقول هذا الكافر: لست على يقين من البعث، فإن كان الامر على ذلك، إلى ربي إن لي عنده للحسنى، أي: الجنة، كما أعطاني في الدنيا يعطيني في الآخرة؛ أي: ولئن قامت على التوهم، كان لي عند الله الحالة الحسنى من الكرامة؛ وذلك لاعتقاده أنه ما أصابه من نعم الدنيا، فلاستحقاق لا ينفك عنه؛ {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} فلنخبرنهم {بِمَا عَمِلُوا} بحقيقة أعمالهم، ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها؛ {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)} لا يمكنهم الفرار منه.

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ} عن الشكر، {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} وانحرف عنه، أو ذهب بنفسه، وتباعد عنه بكليته تكبرا؛ والجانب: مجاز عن النفس؛ {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)}كبير، مستعار مما له عرض متسع، للإشعار بكثرته واستمراره، وهو أبلغ من الطول.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أخبروني {إِنْ كَانَ} القرآن {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} من غير نظر واتباع دليل، {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)}؟ أي: من أضل منكم.

{سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ} (لعله) يعني ما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم به من الحوادث الآتية، وآثار النوازل الماضية، وما يسر الله له، ولخلفائه من الفتوح، والظهور على ممالك الشرق والغرب، على وجه خارق للعادة؛ {وَفِي أَنْفُسِهِمْ}  ما ظهر فيما بين أهل مكة، وما حل بهم، أو ما في الأبدان من عجائب الصنع، الدالة على كمال القدرة، {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} الضمير للقرآن، أو الرسول أو التوحيد أو الله؛ {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} أي : أو لم يكف ربك؟ كأنه قيل: أو لم يحصل الكفاية من غير زيادة؟{أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) }المعنى: أو لم يكفك أنه تعالى على كل شئ شهيد محقق له؟ فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة، كما حقق سائر الأشياء؛ أو مطلع فيعلم حالك وحالهم؛ أو أولم يكف الإنسان رادعا عن المعاصي أنه تعالى مطلع على كل شئ، لا تخفى عليه خافية.

{أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} شك {مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} بالبعث والجزاء، {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}  عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها، مقتدر عليها، لا يفوته شئ منها.