بسم الله الرحمن الرحيم
{كهيعص * ذِكْرُ } هذا ذكر {رَحْمَةِ رَبِّكَ} أي: هذا المتلو ذكر رحمة ربك {عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} أي: ذكر ربك عبده زكريا برحمته ، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} دعاء سرا من قومه ، {قَالَ: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ} ضعف {الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ} ابيض {الرَّأْسُ شَيْبًا} (لعله) أي: قرب من الموت ، {وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي} قيل: خاف منهم تبديل دين الله ، وتغيير أحكامه ، وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته ، فسأل ربه ولدا صالحا يرثه النبوءة والعلم ، ويكون خليفة على أمته ، {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا، فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } المراد : وراثة الشرع والعلم فِإن الأنبياء لا يورثون المال ، {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ممن ترضى عنه ويرضى عنك.
{يَا زَكَرِيَّا ، إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ، قَالَ : رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا } أي: سنا ، {قَالَ :كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } .
{قَالَ: رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً} يطمئن بها قلبي ، ويصدقني الناس بها ، {قَالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} وأنت سوي الخلق ، ما بك من خرس ولا بكم.
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} قيل: من المصلى ، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} لقوله: {إلا رمزا} ، وقيل: كتب لهم على الأرض ، {أَن سَبِّحُوا} صلوا ، أو نزهوا ربكم {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} طرفي النهار أو جملته ، فإنهم ما داموا في طاعته فهم مسبحون له في الحقيقة بلسان الحال ، وإن لم ينطقوا بلسان المقال.
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} بجد وعزيمة ، واستظهار بالتوفيق ، فإنه لا يبلغه من لعب . وأخذه بالجد: بأن يكون متجردا له عند قراءته ، منصرف الهم ، إليه عن غيره . وفي معنى أخذ بقوة: التكرير لتلاوته ، والمراجعة بالفكر ، والتدبر في استخراج سر تأويله ، والعمل بأحسنه ، {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} يعني: الحكمة ، أحكم الله عقله في صباه ، {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} رحمة منا عليه ، {وَزَكَاةً} وتطهيرا من الذنوب ، {وَكَانَ تَقِيًّا} مطيعا ، متجنبا عن المعاصي ، {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} بتأدية حقوقهما، وترك لعقوقهما ، {وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} مستعصيا لأمر الله تعالى.
{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} سلام له منا له ، أي: مدة حياته ، {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} يعني: قصتها ، {إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} اعتزلت {مَكَانًا شَرْقِيًّا} شرقي بيت المقدس ، أوشرقي دراها ، ولذلك اتخذ النصارى المشرق قبلة فيما قيل ، {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا} سترا ، {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ، قَالَتْ : إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ } التجأت إلى خالقها لما دهمها ما يسوؤها ، لأنه لا معين في الحقيقة سواه ، وكذلك ينبغي لكل مؤمن ، {إِن كُنتَ تَقِيًّا} تتقي الله ، وقيل: اسم رجل فاجر اسمه تقيا.
{قَالَ : إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} الذي استعذت أنت به ، بعثت {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا} لأكون سببا في هبته {زَكِيًّا} طاهرا من الذنوب ، أو ناميا على الخير ، أو مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح.
{قَالَتْ : أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} بالحلال ، {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} وهو ” فعول” من البغي ، {قَالَ :كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} علامة لهم ، وبرهانا على كمال قدرتنا ، {وَرَحْمَةً مِّنَّا} على العباد ، يهتدون بإرشاده ، {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} تعلق به قضاء الله في الأزل ، أو قدر وسطر في اللوح ، أو كان أمرا حقيقيا بأن يقضى ويفعل ، لكونه آية ورحمة.
{فَحَمَلَتْهُ} أي: فحملت به في بطهنا ، {فَانتَبَذَتْ بِهِ} فاعتزلت {مَكَانًا قَصِيًّا} بعيدا من أهلها . {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ} فألجأها المخاض {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} لتستقر به وتعتمد عليه ، لتستعين به عند الولادة ، {قَالَتْ : يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}.
{فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} قيل: عيسى أو جبريل {أَلَّا تَحْزَنِي} أي: لا تحزني ، أو بأن لا تحزني ، {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قيل: جدولا ، أو سيدا من السرور وهو عيسى.
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} قيل: إنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ، ولا تمر ، وكان وقت شتاء ، فهزتها ، فجعل الله لها رأسا وخوصا ، ورطبا يسليها بذلك ، لما فيه من المعجزات الدالة على براءة ساحتها – فإن مثلها لا يتصور لمن يرتكب الفواحش – والمنبهة لمن رآها على أن من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء ، قدر أن يحبلها من غير فحل ، وأنه ليس ببدع من شأنها ، مع ما فيه من الشراب والطعام ، ولذلك رتب عليه الأمرين ، فقال:
{فَكُلِي وَاشْرَبِي} أي: من الرطب ، وماء السري ، {وَقَرِّي عَيْنًا} وطيبي نفسك ، وارفضي منها ما أحزنك ، يقال: اقر الله عينك: إذا صادف فؤادك ما يرضيك ، وقيل: أقر الله عينك ، أي: أنامها ، يقال: قر يقر إذا سكن ، وجديرة هي بقرار العين ، لأن قرار العين الحقيقي في الحياة الدنيا لا يكون إلا في امتثال أمر الله تعالى. واشتقاقه من القرار ، فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره . وقد قالت العلماء :” ولا نعمت عين في معصية الله ، ولا بالدنيا”.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} فإن تري آدميا ، فسألك عن ولدك ، {فَقُولِي : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} صمتا ، أو صياما ، وكانوا لا يتكلمون في صيامهم فيما قيل ، {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} بعد أن أخبرتكم بنذري ، وقيل: أخبرتم بنذرها بالإشارة ، وأمرها بذلك لكراهة المجادلة ، والاكتفاء بكلام عيسى.
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا} راجعة إليهم {تَحْمِلُهُ، قَالُوا :يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} بديعا منكرا ، من فري الجلد . قالو أبو عبيدة:” كل أمر فائق من عجب ، أو عمل فهو فري”. قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمر:” فلم أر عبقريا يفري فرية” ، أي: يعمل بعمله.
{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} كأنهم رجموها بالظن ، وذلك من طبع النفوس ، ولا يسلم منه إلا المخلصون.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ، قَالُوا :كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا } يروى عن ابن مسعود أنه قال:” لما لم يكن حجة اشارت إليه ، ليكون كلامه حجة لها ، وحجة عليهم”.
فلما سمع كلامهم أقبل عليهم ، {قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} أنطقه الله بالإقرار لله تعالى بالربوبية ، وعلى نفسه بالعبودية ، لأنه أول المقامات ، {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (لعله) معناه: سيؤتيني الكتاب ، ويحعلني نبيا ، وقيل: هذا (لعله) أخبر عما كتب له في اللوح ، وقيل: أوتي الإنجيل{وهو} طفل ، وكان يعقل ، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} نافعا معلما للخير {أَيْنَ مَا كُنتُ} في أي مكان، وأي حال كنت. {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} زكاة المال إن ملكته ، أو تطهير النفس عن الرذائل. {مَا دُمْتُ حَيًّا} متعبدا ، {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} قيل: الشقي الذي يذنب ولا يتوب . {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } فهذه ولاية حقيقة ، والتعريض باللعن عن أعدائه ، كقوله: { وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } ، فإنه تعريض بأن العذاب على من كذب وتولى.
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أي: الذي تقدم نعته هو عيسى بن مريم ، ما لا تصفه النصارى ، وهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني ، حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه ، ثم عكس الحكم . {قَوْلَ الْحَقِّ} أي: هو قول الحق {الَّذِي} لا ريب { فِيهِ يَمْتَرُونَ} في أمره ، يشكون أو يتنازعون.
{مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} تكذيب للنصارى ، وتنزيه لله عما بهتوه ، {إِذَا قَضَى أَمْرًا} كائنا في علمه وقضائه ، {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا} الذي ذكرته ودعوتكم إليه {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}.
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ} يعني: الذين أرسل إليهم ، {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} من شهود يوم عظيم ، هوله وحسابه ، وهو أن يشهد عليهم الملائكة والأنبياء والعلماء وألسنتهم وآرابهم بما فعلوا ، أو من وقت الشهادة أو من مكانها.
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} تعجب معناه: أن استماعهم وإبصارهم {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أي: يوم القيامة ، جدير بأن يتعجب منهما ، بعدما كانوا صما وعميا في الدنيا ، أو تهديد سيسمعون ويبصرون يومئذ ، وقيل: أمر بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم ، وما يحيق بهم فيه ، وقيل: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة حين لا ينفعهم السمع والبصر ، أخبر أنهم يسمعون ويبصرون ، ما لم يسمعوا وما لا يبصروا في الدنيا . {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} أي: في الدنيا {فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أوقع الظالمين موقع الضمير ، إشعارا بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم ، وسجل على إغفالهم بأنه ضلال مبين.
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} يوم يتحسر المسيء على إساءته ، {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} فرغ من الحساب ، وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار ، (لعله) ثم يقال: ” يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت”. قيل: (لعله) قال أبو عيسى :” فلولا أن الله تعالى قضى لأهل الجنة بالحياة الدنيا والبقاء ، لماتوا فرقا ، ولولا أن الله تعالى قضى لأهل النار بالبقاء لماتوا فرحا” ، {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} لا نبقي لأحد غيرنا عليها ، أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك ، توفي الوارث لإرثه ، لأن كل شيء راجع إلى مالكه ، والله مالك الأشياء على الحقيقة ، وأما تمليك المخلوقين ، فهو تمليك وهمي ، {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} للجزاء.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا} ملازما للصدق ، كثير التصديق ، لكثرة ما صدق به من حجج الله ، وآياته وكتبه ورسله ، {نَّبِيًّا} قد استحق التعظيم بهذا الاسم الشريف بأحواله ، لأنه مستأهل للنبوة بخصائصه ، وقد علم الله منه ذلك.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ : يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} فيعرف حالك، ويسمع ذكرك ،ويرى خضوعك ، {وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} في جلب نفع ، ودفع ضر ، دعاه إلى الهدى ، وبين ضلالة ، واحتج عليه أبلغ احتجاج ، وأرشقه برفق ، وحسن أدب ، حيث لم يصرح بضلالة ، بل طلب العلة التي تدعوه إلى عبادة ما يستخف به العقل الصحيح ، ويأبى الركون إليه، فضلا عن عبادته التي هي غاية التعظيم ، ولا يحق إلا لمن له الاستغناء التام ، والإنعام العام ، وهو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المعاقب المثيب ، ونبه على أن العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح ، والشي{و}لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا لاستنكف العقل القويم عن عبادته ، وإن كان أشرف كالملائكة والنبيين ، لما يراه{مثله}في الحاجة والانقياد للقدرة الواجبة ، فكيف إذا كان جمادا لا يسمع ولا يبصر . ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه الحق القويم ، والصراط المستقيم لما لم يكن محضوضا للعلم الإلاهي ، مستقلا بالنظر السوي. فقال:
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} ولم ينسب أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق ، ثم ثبطه عما كان بأنه مع خلوه عن النفع مستلزم للضر ، فإنه في الحقيقة الشيطان مع أنه الآمر به ، فقال:
{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} واستهجب ذلك ، وبين وجه الضر فيه بأن الشيطان مستعص على ربك المولى المنعم كلها ، بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} ومعلوم أن المطاوع للعاصي عاص ، وكل عاص حقيق بأن تسترد منه النعم ، وينتقم{منه} ، ولذلك عقبه بتخويفه سوء عاقبته ، وما نجزه {كذا} الله ، فقال:
{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن} في الدارين ، {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} قرينا {له في} اللعن ، أو من العذاب تليه ويليك ، أو ثابتا في موالاته ، فإنه أكبر من العذاب ، كما أن رضوان الله أكبر من الثواب . ومن كان للشيطان وليا فهو في{الـ}ـعذاب الأدنى لا محالة ، ومن كان في{الـ}ـعذاب الأدني ، كان في{الـ}ـعذاب الأكبر لا محالة ، إلا أن يتوب . وذكر الخوف والمس ، وتنكير العذاب إما للمجاملة ، أو لخفاء العاقبة . ولعل اقتصاره على عصيان الشيطان من جناياته لارتقاء همته في الربانية ، ولأنه ملاكها ، أو لأنه من حيث أنه نتيجة معاداته لآدم وذريته ، فتنبه عليها.
{قَالَ :أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ}؟ قابل استعطافه بالإرشاد ، بالفظاظة وعلظة العناد ، فناداه باسمه ، ولم يقابل “يا أبت” بـ”يا بني” ، وقدم الخبر على المبتدأ ، وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب ، كأنها مما لا يرغب عنها عاقل . ثم هدده فقال: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} عن مقالك {لَأَرْجُمَنَّكَ} بالحجارة حتى تموت ، {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} زمانا طويلا من الملاوة ، أو مليا بالذهاب عني ، استبدل بنوته بالهجران ، لأن قلبه تعذب بقربه ، وهكذا المضاددة بين الأشخاص المتقاربين بالأنساب ، تولد التباعد بينهم ، كما أن الإسلام يقرب بين الأباعد.
{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ} توديع ومتاركة ، ومقابلة للسيئة بالحسنة ، أي: سلمت مني لا أصيبنك بمكروه ، ولكن {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} بليغا بالبر والألطاف.
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} بالمهاجرة بديني ، {وَأَدْعُو رَبِّي} وأعبده وحده {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا} خائبا ضائع السعي مثلكم في دعاء آلهتكم . وفي تصدير الكلام بـ”عسى” للتواضع ، وهضم النفس ، والتنبيه على أن الإجابة والإنابة تفضل غير واجب ، وأن ملاك الأمر خاتمته ، وهو غيب.
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} بدل من فارقهم من الكفرة ، لأنه كل من استغنى عن شيء لله فقد أغناه بسواه أفضل منه ، {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} لأنهم أهل لها.
{وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا} قيل : ما بسط له من سعة الرزق ، وقيل: الكتاب والنبوة ، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} عليا على لسان الكذب ، وقيل: نبأ حسنا ورفيعا في كل أهل الأديان.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} موحدا ، أخلص عبادته عن الشرك والرياء ، أو أسلم وجهه لله ، وأخلص نفسه عما سواه. وقرأ الكوفيون بالفتح ، على أن الله أخلصه ، {وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} مدحه الله على الرسالة والنبوة ، وإن كان جعلهما من الله له ، لأنه لا يصطفي لهما إلا المخلصين ، وقد أرسله الله إلى الخالق فأنبأهم عنه ، ولذلك قدم رسولا ، مع أنه أخص وأعلى.
{وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} من ناحيته اليمنى من اليمين ، وهي التي تلي يمين موسى ، أو من جانبه الميمون من اليمين ، {وَقَرَّبْنَاهُ} تقريب تشريف لا مكاني ، بعدما تقرب منا بالطاعة، شبهه بمن قربه الملك لمناجاته ، {نَجِيًّا} مناجيا ، ومعنى التقريب: إسماعه كلامه.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} من أجل رحمتنا ، أو من بعض رحمتنا {أَخَاهُ} معاضدة أخيه ومؤازرته ، إجابة لدعوته ، {هَارُونَ نَبِيًّا}.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} ذكره بذلك لأنه المشهور به ، والموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره ، وناهيك أنه وعد{الصبر} على الذبح ، فقال:{ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } ، {وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} مخبرا عن الله تعالى.
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}اشتغالا بالأهم ، وهو أن يقبل الرجل على نفسه ، فمن هو أقرب الناس إليه بالتكميل . {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} لاستقامة أقواله وأفعاله ، وقيل: ارتضاه الله لرسالته.
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} قيل: اشتقاق إدريس من الدرس ، نعم ، لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك ، فلقب به لكثرة درسه ، إذ روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة . وقيل: هو أول من خط بالقلم ، ونظر في علم النجوم والحساب ، {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } يعني: شرف النبوة ، والزلفى عند الله.
{أُوْلَئِكَ} إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس . {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} بأنواع النعم الدينية والدنياوية ، لأن من لم يتوصل بالنعم الدنياوية إلى النعمة الآخروية فليست بنعمة ، لأنه لما أن كفرها كانت سببا لوقوعه في العذاب ، ومحال أن يكون مغضوبا عليه منعما عليه ، ولا منعما عليه ، مغضوبا عليه ، هذا من تنافي المعاني ، ولكن النعم تصير في حق الكافر نقما ، والضراء في حق المؤمن سراء ، فكان الإنسان لا محالـ{ـة} إما منعم عليه وهو المؤمن ، وإما مغضوب عليه معذب ، وهو من نقض جملته بمعصية ، أو معاصي ، وكلما كثرت النعم في حق المؤمن كان زيادة في ثوابه بشكره لها ، وكلما كثرت النعم في حق الكافر كان أشد وبالا عليه بسبب كفرانه لها. {مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ، وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} إلى الإسلام {وَاجْتَبَيْنَا} على الأنام ، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا} منقادين لله ، {وَبُكِيًّا} خائفين من عذابه لبيان خشيتهم من الله وإخباتهم له ، مع مالهم من علو الطبقة في كمال النفس ، والزلفى من الله.
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} فعقبهم ، وجاء بعدهم عقب سوء ، يقال: خلف صدق بالفتح ، وخلف سوء بالسكون ، {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} شرا ، قيل: واد في جهنم تستعيذ أودية جهنم من خره . {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ، فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} لا ينقصون من أجورهم شيئا.
{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} أي: وعدها إياهم وهي غائبة عنهم لم يروها ، أو وعدهم بإيمان الغيب. {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} فضول كلام ، {إِلَّا سَلَامًا} ولكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة ، أو لتسليم الملائكة عليهم والسلام . {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} وقيل: المراد: دوام الرزق ودروره.
{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا } نورثهم إياها بسبب تقواهم، {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} حكاية قول جبريل حين استبطأه رسول الله لما سئل عن قصة أهل الكهف ، وذي القرنين ، والروح ، ولم يدر ما يجيب ، ورجى أن يوحى إليه فيه ، فأبطأ حتى قال المشركون: “ودعه ربه وقلاه” ، ثم نزل بيان ذلك. والتنزل : النزول على مهل ، والمعنى: وما نتنزل إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته.
{لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين ، لا ننتقل من مكان إلى مكان ، ولا ننزل في زمان إلا بأمره ، ومشيئته. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} تاركا لك ، أي: ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ، ولم يكن ذلك عن ترك لله لك ، وتوديعه إياك ، كما زعمت الكفرة ، وإنما كان لحكمة أخرها . وقيل: أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة ، والمعنى: وما تتنزل الجنة إلا بأمر الله.
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} بيان لامتناع النسيان عليه. {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ، لأنها لا تبلغ إلا بحبس النفس عن الشهوات ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}؟ مثلا يستحق أن يسمى إلها، أو أحدا يسمى الله ، وإذا لم يصح أن أحدا مثله فلا يستحق العبادة غيره ، لم يكن بد من التسليم لأمره ، والاشتغال بعبادته ، والاصطبار على مشاقها.
{وَيَقُولُ الْإِنسَانُ} المراد به الجنس بأسره {أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} وذلك ثمرة عدم الإيمان بالموعود والشك فيه ، {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} لأن تذكره لذلك ينتج منه الإيمان.
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} قيل: إن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم مع كل شيطانه في سلسلة ، {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} على ركبهم لما يدهمهم من هول المطلع. {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} من كل أمة شاعت دينا {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} من كان أعصى ، أو القادة في الضلالة . {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} أحق بها إحراقا.
{وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} عن أبي سعيد فيما أرجو ، ” وعن قول الله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، فقد قيل: إنه يوم القيامة ، وقيل: الورود هاهنا المنظر” ، والله أعلم بتأويل كتابه . {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} كان ورودهم واجبا أوجبه الله على نفسه ، فلا محال في وقوعه . {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا} فيساقون إلى الجنة ، {وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} منهارة بهم.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} مرتلات الألفاظ ، مبينات المعاني بنفسها ، أو بيان الرسول ، أو واضحات الإعجاز ، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا :أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا} موضع قيام ، أو مكانا ، {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} إمدادا بما خولوا ، والمعنى: أنهم لما سمعوا الآيات الواضحات ، وعجزوا عن معارضتها والدخول عليها ، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا ، والاستدلال بزيادة حظهم فيها ، يدل على فضلهم ، وحسن حالهم عند الله ، لقصور نظرهم على الحال ، وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا ، وقولهم هذا لهم إما لفظا بلسان المقال ، وإما معنى بلسان الحال ، وذلك دأب الخليقة ، لا يزال التفاخر بينهم بالمال والأولاد والأزواج ، وبقوة الأجسام ، وثقابة الرأي ، وغزارة العلوم ، وكأنه يخيل إليهم أنهم أوتوا ما أوتوا من قبل الله بسبب استحقاقهم ، أو بحيلتهم وقوتهم . ولذلك قال من قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } وكل ذلك جهل ، وتخيل من الشيطان ، ولم ينظروا إلى قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} سمى أهل كل عصر قرنا ، لأنه يتقدم من بعدهم . والآثاث : متاع البيت . والرئي : المنظر ، فعل من الرؤية لما يرى ، أو على أنه من الري الذي هو من النعمة ، ثم بين أن تمتعهم استدراج ليس بإكرام بقوله:
{قُلْ : مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} فيمده ، ويمهله بطول العمر والتمتع ، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ} يحتمل عذاب الموت بضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، كما أخبر الله عنهم. ولأنهم يتعذبون بفوات العاجلة ، ويقدمون على الآخرة مفاليس بضد المؤمنين ، لأنهم يخرجون من سجنهم وخوفهم إلى فضائهم وأمنهم {وَإِمَّا السَّاعَةَ} بقيامها عليهم ،{فَسَيَعْلَمُونَ} عند ذلك ، {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا} منزلة أو منزلا من الفريقين ، بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدروه ، وعاد ما متعوا به خذلانا وبالا عليهم {وَأَضْعَفُ جُندًا} أي: فئة وأنصارا ، قابل به {أَحْسَنُ نَدِيًّا} ، من حيث أن حسن النادي باجتماع وجوه القوم وأعيانهم ، وظهور شوكتهم واستظهارهم.
{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا} اهتداء ، بمعنى:”افتعل” من الهداية {هُدًى} عطف على الشرطية المحكية بعد القول ، كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله ، أراد أن يبين أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه ، بل لأن الله أراد به ما هو خير ، وعوضه منه. {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} الطاعات التي تبقى عائدتها أبد الآباد {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} عائدة مما متع الله به الكفرة من النعم المخدجة الفانية ، التي يفتخرون بها ، سيما ومآلها النعيم المقيم ، ومآل هذه: الحسرة والعذاب الدائم ، كما أشار إليه بقوله: {وَخَيْرٌ مَّرَدًّا}.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ : لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا } ردع وتنبيه على أنه مخطىء فيما صوره لنفسه ، {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} سنظهر له أنا كتبنا قوله ، {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} يحتمل أنه يؤتى مالا وولدا يعذب بهما ما دام عاصيا إلى أن يموت إذا لم يتب ، كما قال : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }، ويدل على ذلك قوله:
{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} يعني: المال والولد ، لأنه لم يرد به الله ، ويحتمل { َنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} أي: نزيده عذابا فوقه عذاب ، { وَيَأْتِينَا فَرْدًا} لا يصحبه مال ولا ولد ، بإهلاكنا إياه ، وإبطال ملكه . وقوله: {ما نقول} لأنه زعم أن له مالا وولدا ، أي: لا يعطيه إياه ، ويعطيه غيره ، فيكون الإرث (لعله) راحل إلى ما يجب القول ، لا إلى نفس القول ، وقيل: معنى قوله: { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي: نحفظ ما يقول ، حتى نجازيه به.
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} ليتعززوا بهم. { كَلَّا} ردع وإنكار لتعززهم بها ، { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} ستجحد الآلهة عبادتهم ، { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} لأن أعمالهم الدنيوية لما كانت لغير الله تكون عليهم حسرة.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} بأن سلطانهم {كذا} عليهم باتباعهم لهم ، { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } . { تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} تهزهم ، وتغريهم على المعاصي بالتسويلات ، وتحبيب الشهوات . والمراد : تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقاويل الكفرة ، وتماديهم في الغي ، وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق ، على ما نطقت به الآيات المتقدمة.
{ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ} أيام آجالهم { عَدًّا} والمعنى: لا تعجل بهلاكهم ، فإنه لم يبق لهم إلا أيام محصورة ، وأنفاس معدودة ، ليتوصلوا بها إلى دركتهم التي خلقت لهم وخلقوا لها ، وهو يسعى إليها طائرا.
{ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} أي: جماعات وافدين عليه ، كما تفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم. { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} كما تساق البهائم { إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} عطاشا ، فإن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش . { لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} الضمير فيها للعباد المدلول عليها بذكر القسمين ، { إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} إلا من تحلى بما يستعد به ، وهو كلمة التوحيد بكمال شروطها.
{ وَقَالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا } على الالتفات للمبالغة في الذم ، والتسجيل عليهم بالجرأة على الله ، والإد: العظيم المنكر ، { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} يتشققن مرة بعد أخرى ، { وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} تهد هدا ، وهو تقدير لكونه إدا ، والمعنى: أن هو هذه الكلمة وعظمها بحيث لو يتصور بصورة محسوسة ، لم تتحملها هذه الإجرام العظام ، وتفتتت من شدتها ، أو إن فضاعتها محلة لغضب الله ، بحيث لولا حلمه لخرب العالم ، وبدد قوائمه غضبا على من تفوه بها. { أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} قال ابن عباس:” فزعت السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين ، فكادت أن تزول ، وغضبت الملائكة ، واستعرت جهنم حين قالوا: ” لله ولد” .
ثم نفى عن نفسه الولد فقال:{ وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} ولا يليق به اتخاذ الولد. ولعل ترتيب الحكم بصفة الرحمانية للإشعار بأن كل ما عداه نعمه ، ومنعم عليه ، فلا يتجانس من هو مبدأ النعم كلها ، ومولى أصولها وفروعها ، فكيف يمكن أن يتخذ ولدا ، ثم صرح به في قوله:
{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: وما منهم {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} إلا وهو مملوك له ، يأوي إليه بالعبودية والانقياد. {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ} حصرهم ، أو أحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوزة علمه ، وقبضة قدرته ، {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} عد أشخاص وأنفاسهم وأفعالهم ، فإن كل شيء عنده بمقدار. {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} منفردا عن الأتباع والأنصار ، وعن الدنيا وما فيها.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } سيحدث لهم في القلوب مودة ، من غير تعريض منهم لأسبابها ، وقيل: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودتهم.
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} بأن أنزلناه بلغتك {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ، وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} أشداء الخصومة.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ} تخويف للكفرة ، وتجسير للرسول على إنذارهم ، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ}؟ هل تشعر بأحد منهم أو تراه ؟ {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} الركز: الصوت الخفي ، هل ترى منهم من أحد ، أو تسمع لهم صوتا.