من روائع أبي مسلم ناصر بن عديم – رحمه الله –
في بيان معنى ترتيل القرآن الكريم، وتأثيره على النفس
يقول- رحمه الله- في موسوعته الفقهية ( نثار الجوهر في علم الشرع الأزهر) ج2 / 308- 313 :
” … مع أن السامع مفروض عليه الإنصات لكلام الله لأخذ معانيه والحصول على فهمه، مع التزام استشعار الرجاء لرحمة الله عند آيات الرحمة ممزوجا بالخوف منه، واستشعار الخوف من الله عند آيات الغضب ممزوجا بالرجاء منه .
وكل هذه المقامات الشريفة لا يتمكن منه القارئ والسامع إذا قرأ وهو يهذرمه كسقط الكلام، ويصبه صبا لا يبالي بسقوط حرف، ولا بإخراجه من غير مخرجه وبغير صفته، ولا يكترث بعزوب فهمه للمعاني وعدم تدبره فيها، وأين حصول الهيبة والخشية وبشاشة الإيمان والخشوع من قراءة كهذه؟!
وكلها ثمرات التدبر فيه والتجول بين رياضه، من حيث إن مقصد الشرع بالقراءة العثور على كنوز كلام رب العزة، والوقوف على مكنون خزائنه، والتطلع إلى فهم أسراره، وهو غير حاصل له هذا المطلب الرفيع إلا بالتدبر، وهو مضنة الترتيل .
فالتدبر دليل تلك الخزائن، ومفتاح تلك الكنوز، لا جرم شرع الله في القراءة، إذ القراءة في الحقيقة ليست مقصودة بالذات، لكن المقصود التدبر في معاني المقروء والتلذذ بها، لتستكمل الصلاة أكمل أنواع العبادة، وأحب ضروب التزلف إلى من لم يرضَ منا بالقشور حتى ننصرف إلى وجهه الكريم بلباب الإخلاص، وهو الغنى المطلق عن كل شيء .
ولكنها آداب سنية أدبنا بها لنصلح للحضرة، فمن انسلخ من آداب الله التي اختارها لعباده كان خسيسا رديئا لا يصلح لمقابلة أبناء جنسه، فما ظنك بمقابلة ملك الملوك ومدبر الموجودات .
وهذا الأدب الصالح لمقابلته مصدره الأول القرآن العزيز، وهو غير متناول منه إلا بفهمه، والترتيل لا شك أكبر وسيلة للفهم .
ثم إن الترتيل لذاته قشر لبابه الحضور، وإنما شرع لتكمل به حقيقة الحضور، إذ الحضور مع المعاني مع هذرمة الألفاظ وتهريمها لا يتصور، فضلا عن أن يكون كاملا، فتأمل هذا المقام فإنه عظيم .
وسئلت عائشة رضي الله عنه عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ” لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها ” .
وقال رجل لابن عباس : إني رجل خفيف القراءة اُهذرِم القراءة ، فقال : ” لأن أقرأ سورة البقرة وأترسل فيها وأتدبرها أحب إلي من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة، ولأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة بتدبر أحب إلي من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا .
وقال القطب : ” وفائدة الترتيل في الصلاة وغيرها استشعار العظمة عند ذكر الله، وحصول الرجاء والخوف عند الوعد والوعيد، والاعتبار عند القصص والأمثال، فيستنير القلب عند ذلك بنور المعرفة، فالمقصود حضور القلب، ولا يتحصل إلا بالترتيل، وفي ترتيله احترام له ” .
وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم آية واحدة ليلة كاملة أو معظم ليله يتدبرها، وصعق جماعة منهم عند القراءة، ومات جماعة، وهذا مقام الخواص الذين استولى عليهم الخوف والرجاء والإخلاص، وفهموا عن الله فهما طاشت به نفوسهم، وزهقت به أرواحهم، فأين حالنا من حال هؤلاء؟! وإنا لله وإنا إليه راجعون .
قال إبراهيم الخواص : ” دواء القلب خمسة أشياء : قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين” .
فلا تغترر بكثرة المتهالكين في ترك هذه الآداب، قال الفضيل بن عياض: ” لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها، ولا تغتر بكثرة الهالكين ” .
( انتهى كلام العلامة أبي مسلم بشيء من الاختصار ) .