سورة التكاثر مكية وآياتها 8

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)

{ ألْهَاكُمُ } صرفكم عن الاشتغال بالعبادة وهو مأخوذ من اللهو وأصل اللهو الغفلة وشاع في كل شغل وخص في عرف الناس بالشغل الذي يسر المرء وهو قريب من اللعب، وفسره بعض بالإغفال أي صيركم التكاثر غافلين عن أمر الدين الذي هو أهم ما يشتغل به.

 

{ التَّكَاثُرُ } معاطاة كل أن يكون أكثر من الآخر مالا وولداً أو أن يكون أكثر ناساً، وفي الترمذي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ هذه الآية ألهاكم التكاثر فقال " يقول ابن آدم مالي وهل لك من مالك إلاَّ ما تصدقت فأَمضيت أو أكلت فأَفنيت أو لبست فأَبليت " ، وفي مسلم عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد يتبعه ماله وأهله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله ".

 

حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)

 

بالذهاب إليها بحسابكم لا بأرجلكم وذلك تسمية للعد للموتى زيارة لا ذهاباً بالأرجل، قال أبو بريدة نزلت في بني حارثة وبني الحارث من الأنصار تفاخروا قالت إحداهما أفيكم مثل فلان وفلان وقالت الأُخرى مثل ذلك ثم انتقلوا إلى عد الموتى، وقيل انتقلوا بأرجلهم فتقول إحداهما أفيكم مثل فلان وتشير إلى قبره وتفعل الأُخرى مثل ذلك فنزلت الآية وذلك في المدينة.

 

وقيل تفاخر بنو سهم ابن عمرو وبنو عبد مناف أيهم أكثر فغلبتهم بنو عبد مناف في الكثرة فقال بنو سهم أهلكنا البغي في الجاهلية فعادُّونا بالأَحياءِ والأَموات فغلبتهم بنو سهم في العدد وذلك في الإسلام ألا ترى إلى قولهم أن البغي أهلكنا في الجاهلية فإن الباقي على شرك لا يقول ذلك وقبل الهجرة لا يوجد من يقول ذلك فذلك في المدينة أو في مكة بعد الإسلام وشهرته بنو عبد مناف وبنو سهم من قريش لا من الأنصار، وقيل نزلت في اليهود يقولون بنو وفلان أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان والمشهور أنها في غيرهم.

 

وقيل ألهاكم التكاثر بالأَموالِ والأَولاد إلى أن متم ولم تشتغلوا بما يعنيكم من أمر الدين وينفعكم في الآخرة فالزيادة في هذا الوجه عبارة عن الموت وليست الزيادة في شيءٍ من هذه الأَوجه حقيقة لأَن الحقيقة أن تذهب إلى غيرك لتنفعه ثم ترجع إلى أهلك والذاهب إلى المقبرة برجله ليعد القبور غير ذاهب لشأن نفع القبور والذاهب إليها بالحساب لا بالأرجل غير ماش إليها ولا نافع والذاهب إليها بالموت لم يذهب برجله ولا بحسابه ولا لنفع القبور فالزيادة في ذلك كله استعارة وفي الحساب بلا مشي.

 

أو مع مشي تهكم بهم بأنهم كالذاهب بالمشي إلى المقبرة بلا قصد نفع لأن الموتى لا تكلمهم ولأن زيارة الموتى للاتعاظ وتذكر الموت ليستعد له وتزال الغفلة كما قال - صلى الله عليه وسلم - " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة " ولا تقولوا هجراً " أي ككلام المدح وللنواح والعد للفخر وهم عكسوا جعلوا زيارتهم في مقام اللهو وحذف الملهي عنه وهو الآخرة وأمر الدين قيل للتعظيم المأخوذ من الإبهام بالحذف والمبالغة بالذم حيث أشار إلى أن الملهي عما ينفع هكذا مذموم فكيف عن أمر نافع لا بد منه وفيه أنه ليس في الحذف ذلك بل قيل ألهاكم فيقال عماذا فيقال عن الدين والآخرة لدلالة المقام وسائر الأدلة حذف للعلم به.

 

وسمع أعرابي الآية فقال بعث القوم للقيامة ورب الكعبة فإن الزائر منصرف أي لأنه لو كان الموت على اللبث الدائم لم يقل زرتم ولما قاله علم أنه لا بد من الانتقال ولا سبيل إلى الانتقال إلى الدنيا فهو لا بد إلا إما إلى الجنة أو إلى النار، وعن عمر بن عبد العزيز لا بد لمن زار أن يرجع إلى جنة أو نار وكلام عمر بن عبد العزيز والأعرابي مبني على أن الزيارة بالموت لا بالعد، وفي الآية تقليل اللبث في القبور لأَن الزائر مستوفز للرجوع لا مطمئن بالإقامة والقلة نسبية منظور فيها إلى الخلود في الدارين.

 

كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)

{ كَلاَّ } ارتدعوا عن اللهو بالتكاثر عن الدين والآخرة - فإن عاقبته وخيمة.

 

{ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } عاقبة التكاثر سوءا فحذف المفعولان أو تعرفون عاقبته بعينها وتميزونها.

 

{ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } كالأولين لكن هذا لعلم أفخم بدليل ثم أي تعلمون علماً أقوى من الأول وليس تأكيداً للأَول بدليل العطف فإن الأَصل في التأكيد أن لا يكون بالعطف ولو كان قد يقع واللغويون منعوه وأجازه النحويون والمفسرون كالحسن ومجاهد والضحاك والكلبي وثم لتراخى الرتبة كما رأيت وقال على للتراخي في الزمان الأول في القبور والثاني بعد البعث.

 

وقال الضحاك الأول زجر للكافرين وتقريع والثاني للمؤمنين أو تشريف لهم وذلك تحكم لا دليل عليه وفيه تعدد الخطاب وتعدد المخاطبين بلا تمييز وإنما يجوز ذلك بتمييز مثل قم وقومي في خطاب مذكر ومؤنث ومثل{ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك }[يوسف: 29] وأيضاً كيف يكون كلا سوف تعلمون تشريفاً للمؤمنين وإنما يظهر في الزجر مطلقاً.

 

{ كَلاَّ } تأكيد للأَول أو ردع عما يتضمنه ما بعد من خلودهم عن علم اليقين.

 

{ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } لو تعرفون ما بين أيديكم من الأهوال، علم اليقين مفعول مطلق مضاف لنعته أي العلم اليقين ويرجع ذلك إلى إضافة البيان أي علما هو اليقين على أن اليقين بمعنى المتيقن به لا باق على المعنى المصدري وإن أبقى صح فلا تكون الإضافة كذلك بل مجرد إضافة تقييد، ويجوز كونه وصفاً لمحذوف أي علم الأمر لموقن به كعلمكم بالأمر الذي توقنون به، وفي الآية إشارة إلى انه لا يكفي العلم ما لم يكن يقيناً فإذا كان في المشرك من أول الأمر فأَولى أن يخص به الموحد ولا يخفي أن العلم قد يطلق على عين اليقين وجواب لو محذوف أي لازدجرتم عن الإشراك والمعاصي والتكاثر أو لبالغتم في الامتثال أو نحو ذلك.

 

{ لَتَرَوُنَّ } بأبصاركم أيها المشركون، وعن على ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت ألهاكم التكاثر. { الْجَحِيمَ } وتدخلونها جواب قسم مستأنف أي والله لترون الجحيم تهديد وتأكيد للوعيد وجواب لولا يؤكد بالنون خلافاً لبعض إذ قال إنه جواب لو وأن المعنى سوف تعلمون الجزاءَ علم اليقين الآن لترون الجحيم أي لتكونن الجحيم دائماً في نظركم لا تغيب عنكم وليس كذلك إذ لا يتبادر ولا دليل عليه ولو كان ذلك أمراً صحيحاً وليس كل ما صح يفسر به القرآن ولعل داعيه إلى ذلك دعوى مناسبة ذلك لقوله تعالى:

 

{ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ } بأن تكون تلك رؤية قلبية ملازمة للقلب وهذه رؤية مشاهدة كما قيل الأُولى إذا رأتهم من مكان بعيد والثانية إذا وردوها أو إذا دخلوها أو الأُولى إذا ورودها والثانية إذا دخلوها والجمهور على أنها تأكيد للأُولى ثم رأيته نصاً وثم للأبلغية وقيل الروايتان عبارة عن تعدد الرؤية بعد دخولها بلا نهاية كما كثر استعمال التكرير ولو بالتثنية ككرتين ولبيك وهو ضعيف لأن من هو فيها لا يستحسن أن يقال يراها أو يشاهدها مرة بعد أُخرى إلاَّ أن تعتبر الزيادة الحادثة لأَنها تحدث للنار مزيد حرارة وعين اليقين رؤية المشاهدة فإنها نفس اليقين وعين بمعنى نفس وهو على حذف مضاف أي رؤية عين اليقين وهو مفعول مطلق.

 

وقيل تنازع فيه الروايتان على قول الجمهور أن الثانية تأكيد للأُولى واليقين العلم لا شك فيه وهذا في اللغة وأما في الاصطلاح فاعتقاد الشيء أنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلاَّ كذا اعتقاداً مطابقاً للواقع غير الممكن الزوال وقيل سكون النفس مع ثبات الفهم وعلم اليقين العلم بما أعطاه الدليل من إدراك الشيء على ما هو عليه وعين اليقين ما أعطاه الكشف والمشاهدة وبعد ذلك حق اليقين فعلم العاقل بالموت علم اليقين وإذا عاين ملائكة الموت فعين اليقين وإذا ذاق الموت فحق اليقين.

 

ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ } أيها الكفار أو يأكل من ألهته دنياه عن دينه مشركاً أو موحداً فاسقاً، وقيل أو موحداً موفياً.

 

{ يَوْمَئِذٍ } يوم إذ رأيتموها من بعيد قبل دخولها.

 

{ عَنِ النَّعِيمِ } صحة البدن والعقل والمأكول والمشروب والملبوس والمركوب والجماع والمسكن والمفرش والماء البارد والظل والنوم وإذهاب ما يحدث من المصائب وجاءَ في الحديث عن أبى الدرداءِ عنه - صلى الله عليه وسلم - أكل خبز البر والنوم في الظل وشرب ماء الفرات مبرداً وعن ثابت البناني كسرة تقوته وماء يرويه وثوب يواريه، وعن ابن عباس سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الخصاف والماء وفلق الخبز، وعن ابن عباس مرفوعاً الأَمن والصحة، وعن علي العافية، وعن بعضهم الصحة والمال والفراغ.

 

وفي البخاري عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " وعن ابن عباس صحة الأبدان والأبصار يسأَل العبد فيم استعمل ذلك وقيل الإسلام وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ هدى من الضلال، وعن ابن مسعود الأَمن والصحة وقيل القدر الزائد على ما لا بد منه من ملبس ومسكن ومشرب ومأكل، وقال الحسن بن الفضل تخفيف الشرائع وتيسير القرآن.

 

ومن ذلك ما أكله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر من عدق فيه رطب وبسر وتمر ولحم شاة ذبحها لهم أبو أيوب ولما أكلوا قال - صلى الله عليه وسلم - " هذا النعيم الذي تسألون عنه " كذا فعل أبو أيوب لهم ولما أكلوا وشربوا ماءَ بارداً قال هذا هو النعيم الذي تسألون عنه إلا أنه شوى لهم لحم جدي وطبخ وقال أخرجكما من بيوتكما الجوع ولم ترجعا حتى أصابكما هذا النعيم وذلك أنه لقيهما فقال " ما أخرجكما قالا الجوع فقال - صلى الله عليه وسلم - والله ما أخرجني إلاَّ الجوع فأتى بهما دار أبي أيوب فقالت زوجه ذهب يستسقي الماءَ العذب فجاءَ فقال الحمد لله لا أحد أفضل ضيفاً منا اليوم فلما هيأَ الرطب والبسر ذهب للذبح فقال - صلى الله عليه وسلم - إياك والحلوب " .

 

وفي الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يسأَل العبد عن النعيم ألم نصح جسدك ونروك من الماء البارد " ، وفي الترمذي لما نزلت الآية قال الزبير أي نعيم يا رسول الله ما هما إلاَّ الماءَ والتمر فقال - صلى الله عليه وسلم - سيكون أي سيكون ما هو أعظم قال " لا تزول قدم عبد حتى يسأَل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقته وعن علمه ماذا عمل به "

 

قلت مراد هؤلاءِ التمثيل فالمراد في الآية ذلك كله وزيادة ألا ترى أنه ذكر ماءَ الفرات وليس كل أحد له ماء الفرات وألاّ ترى التمثيل بفلق الخبز تنبيهاً على أنها من النعم ولو دقت وألا ترى ذكر العافية تنبيهاً على أن النعم لا تختص بالمأكول والمشروب وإلى ذكر الدين تنبيهاً على أن النعم لا تختص بالدنيا بل تشمل الدين أترى ما أكله النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمران أكله الناس كلهم أترى ما أكلوه عند الرجلين هو النعم فقط عليهم فالنعم عامة والمسئول عام والسؤال سؤال توبيخ للكفار والفساق وسؤال تذكير للمؤمنين وقيل الخطاب والسؤال للمشركين بعد دخول النار كما يسألون عن غير ذلك مثل:{ أَوَلَم تك تأتيكم رسلكم بالبينات }[غافر: 50].

 

وذكرت الشيعة وهم كاذبون أن النعم دين الإسلام على أيدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وذريته لا غير ذلك من النعم وأنها الإصلاح بين الناس الأنصار وغيرهم والهدى بعد الضلال وإذهاب الفتنة ولو ذكروا ذلك مع ما تقدم لم نشنع عليهم وجاءَ أنه لا يسأل العبد عن ظل الخص وكسرة يقيم بها صلبه وثوب يستره أي لا يناقش فيهن وعنه - صلى الله عليه وسلم - " من قرأ في ليلة ألف آية لقي الله تعالى وهو عنه راض فقيل من يقوى على ذلك يا رسول الله فقرأ سورة التكاثر فقال والذي نفسي بيده لتعدل ألف آية " والله أعلم اللهم وفقنا وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.